-الحج أشهرٌ معلومات-
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي ثمَّ المدني، أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، إلى العرب والعجم، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبيَّ بعده، وأشهد أنه بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى آتاه من ربِّه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد ...
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأثني عليه بالخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه أن يُصلح قلوبنا وأعمالنا، ونيَّاتنا وذرياتنا، كما أسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في العمل، والصدق في القول، كما أسأله سبحانه أن يجعل جمعنا هذا جمعًا مباركًا، وأن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير، وعلمٍ ورحمة تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
أيُّها الإخوان،
الحج وسائر العبادات، وسائر أركان الإسلام كلها شرعها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعبدًا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإخلاصًا لوجهه الكريم، فالله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل الكتب وأرسل الرسل ليُعبد وحده، وليكون الدين وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليُتَّبع أوامره وأوامر رسله، وتجتنب نواهيه ونواهي رسله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق لذلك، خلقهم ليعبدوه وليوحدوه، وليفردوه بالعبادة كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].
وأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب للدعوة إلى توحيده سبحانه وإخلاص الدين له وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36]، وكلُّ نبيٍّ بعثه الله إلى قومه يأمرهم بادئ ذي بدء بإخلاص العبادة لله وحده ويقول لهم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[المؤمنون:23]، وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف:65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف:73]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[الأعراف:85]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء:25].
فالعباد، والجن، والإنس، والثقلان خُلِقوا لعبادة الله وتوحيده، وإفراده بالعبادة، والقيام بأمره، وامتثال أمره سبحانه، واجتناب نهيه، وطاعة رسله، هذا هو الأمر الذي خلق الله العباد من أجله، وأرسل الله الرسل وشرع الشرائع لعبادته، فالله تعالى شرع الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج لنعبده وحده لنخلص له هذه العبادة، لنفرده بها، لنقوم بحقِّه وأمره، لنعظِّمه سبحانه، لنمتثل أمره ونجتنب نهيه.
والحج أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام ولا يستقيم إلا بها، الإسلام هو: الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، سُمي إسلام لما فيه من الاستسلام والانقياد، والاذعان، والامتثال لأمر الله وأمر رسوله، أصل الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له، وأن تتَّبع رسل الله في كل زمان وفي كل مكان.
فالإسلام دين الإسلام معناه العام: هو توحيد الله، وطاعة كل نبيٍّ في زمانه، والإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا غير دين الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران:85].
-فالإسلام في زمن آدم: هو توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة.
-والإسلام في زمن نوح: توحيد الله، وطاعة نوحٍ فيما جاء به من الشريعة.
-والإسلام في زمن هود: توحيد الله، وطاعة هودٍ فيما جاء به من عند الله.
-والإسلام في زمن صالح: توحيد الله، وطاعة صالح فيما جاء به من عند الله.
-والإسلام في زمن إبراهيم: توحيد الله، وطاعة إبراهيم فيما جاء به من عند الله.
-والإسلام في زمن موسى: توحيد الله، وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة.
-والإسلام في زمن عيسى: هو توحيد الله، وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة.
ولمَّا بعث الله نبيَّنا محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان الإسلام بمعناه الخاص هو: توحيد الله، واتِّباع محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، وشريعة نبيِّنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخت جميع الشرائع.
والله تعالى بنى دين الإسلام على خمسة أركان ودعائم وأسس لا يقوم ولا يستقيم إلا بها، أعظمها وأصلها وأسها: توحيد الله وإخلاص الدين له: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، هذا هو أصل الدين وأصلٌ لله.
وهذا هو الأساس الأول، هو القاعدة الأولى لدين الإسلام: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن تشهد أن محمدًا رسول الله).
ثمَّ الأساس الثاني والقاعدة الثانية: إقام الصلاة.
ثمَّ الأساس الثالث: إيتاء الزكاة.
ثمَّ القاعدة الرابعة: صوم رمضان.
ثمَّ الأساس الخامس: حج بيت الله الحرام.
كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضيَ الله عنهما: أن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام».
والحج هو خامس أركان الإسلام، وهذه أسس وعود من أقامها واستقام عليها وحفظها فإنه لا بد أن يؤدي شرائع الإسلام الأخرى، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، من أقام هذه الأركان واستقام عليها وحافظ عليها، وحفظها وأداها على الإخلاص ورغبةٌ ورهبة يدفعه ذلك إلى أن يؤدي بقية شرائع الإسلام الأخرى.
وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يجب عليه إلا هذه الأركان الخمسة، هناك واجبات أخرى: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، وحسن المعاملة، وأداء الحقوق، وكذلك المحرمات يجتنب المحرمات، ويجتنب الشرك بالله، والعدوان على النفوس، والعدوان على الدماء، والعدوان على الأموال، وعلى الأعراض، هذه أسس وعُمُد وقواعد من أقامها واستقام عليها وحفظها دفعه ذلك إلى أن يؤدي بقية شرائع الإسلام الأخرى.
والحج فرضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في العمر مرة، الحج هو: قصد بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، قصدٌ مخصوص من شخصٍ مخصوص في وقتٍ مخصوص لأداء مناسك الحج، أوجبه الله تعالى في العمر مرة على المستطيع، وهذا أوجبه الله تَعَالَى في العمر مرة على من توفرت فيه الشروط:
على المسلم، يكون مسلم.
البالغ.
العاقل.
الحر.
المستطيع بماله وبدنه.
فإذا توفَّرت هذه الشروط فإنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى الحج، فإن تأخر مع قدرته واستطاعته فقد توعَّده الله بقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، فيجب على المسلم أن يبادر إلى أداء فريضة الحج إذا توافَّرت هذه الشروط.
وعليه قبل أنه يسافر للحج أن يتفقَّه في دينه، ويتبصَّر في مناسك الحج حتى يؤدي مناسك الحج على بصيرة، وعليه أن ينتخب من ماله نفقةً خالصة من الحرام والشبهة للحج، وعليه أن يختار رفقةً طيبة تعينه على أداء نسكه، وعليه أن يؤدي المظالم والحقوق والودائع، والديون التي عليه، وعليه أن يستحل ممَّن بينه معاملة ومشاحنة، وعليه أن يسترضي والديه أو من يوجد منهما.
ثمَّ إذا وصل المسلم إلى أحد المواقيت الخمسة التي وقَّتها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي:
ذي الحليفة لأهل المدينة.
والجُحفة لأهل الشام، ومصر والمغرب.
ويلملم لأهل اليمن، وتسمى السعدية.
وقرن المنازل لأهل نجد، يسمى السيل.
وذات عرقٍ لأهل العراق والمشرق وتسمى الضريبة.
إذا وصل إلى واحدة من هذه المواقيت يجب عليه أن يُحرم وهو يريد الحج أو العمرة، لا يجوز له أن يتجاوزها إلا بإحرام، وسواءٌ كان مروره عليها برًا أو بحرًا أو جوًا، وهو مخير بين واحدٍ من الأنساك الثلاثة المعروفة: بالتمتع، والقِران، والإفراد.
والتمتع هو: أن يُحرم بعمرة أولًا، بأن ينوي بقلبه الدخول في العمرة، فإذا نوى بقلبه الدخول في العمرة فإنه أحرم، الإحرام هو النية، ثمَّ يذكر نسكه في تلبيته فيقول: (لبيك اللهم عمرة)، (لبيك عمرة) أو (اللهم لبيك عمرة)، وسواءً كان متمتع بالحج أو لم يكن (لبيك عمرة) أو (اللهم لبيك عمرة).
ولا يتلفَّظ بالنية فيقول: اللهم إني أريد العمرة؛ لأن هذا لم يرد عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يذكر نسكه في تلبيته، أمَّا ما يذكره الفقهاء المتأخرون بأنه يقول: اللهم إني نويت العمرة، أو اللهم إني نويت الحج فهذا بدعة لم يرد عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يقولون إنما حتى يتواطئ القلب واللسان، حتى قالوا: إنه يتلفَّظ بالنية في الصلاة حتى يتواطئ القلب واللسان، فهذا بدعة لم يرد عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يلفظ بالنية، والنية محلها القلب.
ثمَّ يلبي بتلبية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لا يزال يلبي وتتأكَّد التلبية عند تغير الأحوال، عند الارتفاع، وعند الهبوط، وعند ملاقاة الركبان، وإذا فعل محظورًا ناسيًا، وعند إقبال الليل أو إدبار النهار.
فإذا وصل إلى مكة ووصل إلى البيت الحرام حينئذٍ يقطع التلبية، فيطوف بالبيت سبعة أشواط من الحجر إلى الحجر، من الحجر إلى الحجر هذا يعتبر شوط، سبعة أشواط بنية طواف العمرة، يطوف سبعة أشواط بالنية، والنية في القلب، ولا يحتاج أن يقول: نويت أن أطوف بالبيت سبعة أشواط، ما يتلفظ، يكفي النية في القلب والله تعالى يعلم ما في القلوب.
يطوف بالبيت سبعة أشواط بنية طواف العمرة، وطواف القدوم يدخل تبعًا، ثمَّ يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسَّر وإلا في أي مكان، ثمَّ يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة الكافرون، وفي الثانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد.
ثمَّ يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط سعي العمرة، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، ذهابه سعيه ورجوعه سعيه، فإذا أتم سبعة أشواط فإنه يُقصِّر من شعر رأسه أو يحلق شعر رأسه، وإذا كان وقت الحج قريبًا فلا يقصِّر حتى يحلق في الحج، ويتحلَّل، حينئذٍ انتهى من العمرة وحلَّ له كل شيء حرُمَ عليه بالإحرام، ولا يزال حلالًا حتى يأتي اليوم الثامن من ذي الحجة.
فإذا أتى اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم من مكانه الذي ينزل فيه، يغتسل، يُسن له الاغتسال والتنظف والتطيب كما فعل عند العمرة، ثمَّ ينوي بقلبه الدخول في الحج فيقول: (لبيك حجًا) ويكون أحرم للحج ثمَّ الذهاب إلى منى في اليوم الثامن، هذا المتمتع، وأنا لن أُفصِّل الآن إنما أذكر باختصار حتى نبيِّن أثر التوحيد في الحاج.
أمَّا القارن: فإنه إذا وصل إلى أحد المواقيت الخمسة ينوي بقلبه الدخول في العمرة والحج معًا، فإذا نوى بقلبه الدخول في الحج والعمرة أحرم بهذه النية، ثمَّ يذكر نسكه في تلبيته فيقول: (لبيك عمرةً وحجًا) أو (اللهم لبيك عمرةً وحجًا) ثمَّ يلبي بتلبية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
فإذا وصل إلى مكة إذا وصل إلى البيت الحرام فإنه يطوف بالبيت سبعة أشواط طواف القدوم سنة بخلاف المتمتع، المتمتع طاف بالبيت طواف العمرة فرض، والقارن هنا طاف طواف القدوم سبعة أشواط سنة، ثمَّ يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط سعي الحج والعمرة.
القارن ليس عليه إلا سعيٌّ واحد وطوافٌ واحد، هذا الطواف للقدوم والسعي هو بالخيار إن أحبَّ أن يسعى بعد طواف القدوم وإن أحبَّ أن يؤخره بعد طواف الإفاضة يوم العيد فله ذلك، فإذا طاف بالبيت سبعة أشواط أدى طواف القدوم، ثمَّ يسعى سعي العمرة والحج معًا، وإن أحبَّ أن يؤخر السعي فله ذلك، ولا يتحلل ولا يقصِّر بعد السعي يبقى على إحرامه حتى يأتي اليوم الثامن، فإذا جاء اليوم الثامن خرج إلى منى مع الناس.
وأمَّا المفرد الذي أفرد بالحج: فإنه إذا وصل إلى أحد المواقيت الخمسة بعد التنظف والتطيب والتجرد من المخيط ينوي بقلبه الدخول بالحج، فيقول: (لبيك حجًا) أو (اللهم لبيك حجًا)، فهذا سيكون هنا دخل بالحج أحرم بالحج مفردًا، فإذا وصل إلى مكة إذا وصل إلى البيت الحرام طاف بالبيت سبعة أشواط طواف القدوم مثل القارن سواءً بسواء سنة.
ثمَّ يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط سعي الحج إن أحب، وإن أحب أن يؤخره مع طواف الإفاضة فله ذلك، ولا يقصِّر ولا يتحلَّل، بل يبقى على إحرامه حتى يتحلَّل يوم العيد، فإذا جاء اليوم الثامن من ذي الحجة ذهب إلى مِنى مع الناس.
إذا جاء اليوم الثامن يتوجه الحجاج جميعًا إلى منى: المفرد بقي على إحرامه، والقارن بقي على إحرامه، والمتمتع يُحرم من جديد، يُحرم من جديد بالحج، يتوجهون إلى منى ويصلون بها الصلوات الخمس: (الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر) كل صلاةٍ في وقتها تُقصر الرباعية ركعتان: (يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء ركعتان، والفجر ركعتان).
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع وهو يوم عرفة توجه الحجاج جميعًا إلى عرفة: المفردون، والقارنون، والمتمتعون جميعًا يلبون، وإن كبَّر فلا حرج، قال أنس رضيَ الله عنه: (كنَّا في مسيرنا إلى عرفة يلبي الملبي ويُكبِّر المكبر، فلا يعيب أحدٌ على أحد)، ولكن شعار المحرم التلبية إننا نُكثر منها، ثمَّ يجتمعون جميعًا في عرفة، ويبدأ الوقوف بعد الصلاة، يصلي الحاج الظهر والعصر جمعًا وقصرًا بأذانٍ واحدٍ وإقامتين كما فعل النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحكمة في الجمع هنا: في منى ما فيه جمع، الحكمة في الجمع: حتى يتسع الوقت ويطول الوقت للدعاء والتضرع، والابتهال إلى الله؛ لأن هذه العشية عشية عرفة عشيةٌ عظيمة ينزل فيها الربُّ سبحانه إلى السماء الدنيا ويباهي بأهل الموقف ملائكته، ويقول الربُّ سبحانه: «يا ملائكتي انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍ عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم».
فإذا صلى الحاج الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في وقت الأولى فإنه يستقبل القبلة ويرفع يديه ويدعو، ويتضرع ويحضر قلبه، ويسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، ويسأل الله صلاح قلبه وأولاده، ويسأل الله صلاح أحوال المسلمين، يسأل الله أن يُعزَّ الإسلام وأهله، وأن يهلك الشرك وأهله، ويسأل الله أن ينصر المجاهدين والدعاة، وأهل الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، يسأل الله لولاة الأمور أن يُصلح ولاة الأمور إلى غير ذلك.
ويبقى الحاج في عرفة لا يزال متضرعًا داعيًّا تاليًا لكتاب الله حتى تغيب الشمس، ويغيب القرص تمامًا ثمَّ يدفع إلى مزدلفة اقتداءً بالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان المشركون يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس فخالفهم النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يدفع من عرفة إلا بعد غروب الشمس، وغيبوبة القرص تمامًا، فيصلوا الحجاج إلى مزدلفة، ويكثرون التلبية في طريقهم إليها، فإذا وصلوا إلى مزدلفة صلوا بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذانٍ وإقامتين؛ لفعل النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ يبيت الحاج بمزدلفة السنة أن يبيت، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بات، ونام من أول الليل ليتقوى على وظائف يوم العيد.
وبعد غيبوبة القمر، بعد منتصف الليل أو بعد غيبوبة القمر رخَّص النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للضعفاء والنساء والصبيان أن يتقدَّموا إلى منى قبل خطوة الناس، قال ابن عباس رضيَ الله عنهما: (كنت فيمن دفعه النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أهله إلى منى حتى يرموا جمرة العقبة قبل خطوة الناس) أو قبل زحمة الناس بعد غيبوبة القمر.
وأمَّا الأقوياء فيتأكد في حقهم البقاء في مزدلفة إلى طلوع الفجر، يصلي الفجر في مزدلفة، ويذكروا الله عند المشعر الحرام، المزدلفة كلها مشعر، وأصل المشعر اسمٌ للجبل والقُزح الذي بني عليه مسجد صغير، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وقفت ههنا وجمعٌ كلها موقف» جمعٌ يعني مزدلفة لها أسماء، تسمى جمع، وتسمى مزدلفة، وتسمى المشعر.
يستقبل القبلة الحاج بعد صلاة الفجر، يُسنُّ له أن يصلي الفجر في أول وقتها، النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بادر في الصلاة في مزدلفة، فقال ابن مسعود: (ما رأيت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاةً لغير ميقاتها إلا صلاة الفجر يوم العيد في مزدلفة)، يعني صلى لغير لميقاتها المعتاد، كان في العادة يتأخر قليلًا حتى يتحقق من انشقاق الفجر، ويجيء بلال ويؤذن بلال ويأتي ثمَّ يصلي ركعتين ثمَّ يصلي، لكن في مزدلفة بادر بها مبادرةً شديدة حتى يقول قائل: طلع الفجر ويقول قائلٌ: لم يطلع الفجر، حتى يتَّسع وقت الوقوف، وبعد صلاة الفجر يستقبل القبلة الحاج في أي مكان من أرض مزدلفة، ويدعو الله ويذكره، ويهلله حتى يسفر جِدًا، وبهد الإسفار جِدًا ووقت طلوع الشمس يدفع الحاج إلى منى، هذا السنة.
وكان المشركون في حجهم لا يدفعون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، وإذا صارت الشمس فوق رؤوس الجبال كعمائم الرجال انصرفوا، ويقول قائلهم في الجاهلية: أشرق سبيل كي ما نغير من هناك، إذا أشرقت الشمس عليهم دفعوا، فالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالفهم فدفع قبل طلوع الشمس، خالفهم في الدفع من عرفة، في عرفة يدفعون قبل غروب الشمس فخالفهم ودفع قبل غروب الشمس، وخالفهم في الدفع بمزدلفة فلا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس فدفع قبل طلوع الشمس، قالت عائشة: (هدينا خالف هدي المشركين).
فإذا وصل الحاج إلى منى أول نبدأ به رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، وهي آخر الجمرات وهي الجمرة الكبرى، آخر الجمرات من جهة منى، وآخر الجمرات من جهة منى وأول الجمرات من جهة مكة يرميها بسبع حصيات متعاقبات، ثمَّ بعد ذلك يذبح هديه إن كان متمتعًا أو قارنًا، ثمَّ يحلق رأسه أو يُقصِّر، ثمَّ يطوف بالبيت طواف الإفاضة، وظائف يوم العيد أربع، السنة ترتيبها هكذا، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رتَّبها هكذا: رمى أولًا جمرة العقبة، ثمَّ ذهب إلى المنحر فنحر بيده الشريفة وكان قد ساق الهدي معه مائة من الإبل، نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين على قدر سني عمره، كل واحدةٍ يطعنها في الوهدة التي بين أصل العنق والصد قائمة معقودة بيده اليسرى حتى تسقط، وعاور عليًّ فنحر ما غدر ما بقي وهي سبعٌ وثلاثون.
ثمَّ أمر عليه الصَّلاة والسَّلام أن يؤخذ له من كل بدنةٍ ببضعة -بقطعة- فطُبخت في قدرٍ فشرب من مرقها وأكل شيئًا من لحمها عليه الصَّلاة والسَّلام، وأمر أن توزع جلودها وجلالها ولحومها على المساكين، ثمَّ حلق رأسه عليه الصَّلاة والسَّلام ووزع شعره على الناس للتبرك به، هذا خاصٌ به؛ لما جعل الله فيه البركة فيما مسَّ جسده عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا خاصٌ به لا يُقاس عليه غيره عليه الصَّلاة والسَّلام؛ ولهذا الصحابة أعطاه أبا طلحة قسَّمه على الناس الشعرة والشعرتين.
وكذلك الوضوء يأخذونه ويتبرَّكون به، ما يتساقط من الماء، وإذا تنخم عليه الصَّلاة والسَّلام تنخم في كف واحد فدلك بها وجهه وجلده، ولما نام عند أم سليم وكان بينه وبينها محرمة وعرق في الظهر جاءت بقارورة وجعلت عرقه فيها وجعلته طيبٌ لها وقالت: (إنه لأطيب من الطيب) عليه الصَّلاة والسَّلام.
ثمَّ طاف عليه الصَّلاة والسَّلام بالبيت طواف الإفاضة، وهو يقال له: طواف الحج، هذه وظائف يوم العيد السنة ترتيبها هكذا:
رمي جمرة العقبة.
ثمَّ ذبح الهدي.
ثمَّ حلق الرأس أو التقصير.
ثمَّ طواف الإفاضة.
ثمَّ يرجع الحاج إلى منى.
وطواف الإفاضة وقته موسَّع إن تيسَّر في وقت العيد فهو أفضل، ولكن في السنوات الأخيرة فيه زحامٌ شديد قد لا يتيسَّر والأمر في هذا واسع، لو طاف في أيام التشريق أو بعدها فلا حرج لكن السنة ألا يؤخِّر عن الأفضل ألا يؤخَّر عن أيام التشريق الثلاثة؛ لأن بعض العلماء يرى أنه إذا أخَّر عن الأيام الثلاثة أيام التشريق وعليه دم كما هو مذهب الأحناف.
والصواب: أنه ليس عليه شيء، الأفضل أن يكون في أيام التشريق.
ثمَّ يرجع الحاج إلى منى ويبيت بها ليلتين إن تعجَّل وثلاث ليالٍ إن تأخَّر، وفي كل يوم من أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمرات الثلاث بعد الظهر -بعد الزوال- يرمي الجمرة الأولى التي هي رمي الجمرات من منى بسبع حصيات، ثمَّ يرمي الجمرة الثانية بسبع حصيات، ثمَّ يرمي جمرة العقبة التي رماها يوم العيد الأخيرة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، في كل يوم يرمي (إحدى وعشرين حصاة)، ويمتد الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني على ما أفتى به هيئة كبار العلماء، وبعض العلماء يرون أنه من الحنابلة وغيرهم يرى أن الرمي إلى غروب الشمس.
لكن الصواب: أنه يمتد إلى طلوع الفجر؛ لأن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أول الرمي ولم يبين آخره، وهذا الوقت لا يتَّسع للناس ولا يكفي ولا سيما في هذه الأزمنة الأخيرة لكثرة الحجاج.
وفي اليوم الثاني عشر كذلك يرمي الجمرات الثلاث، ثمَّ إذا أحبَّ أن يتعجَّل إذا رمى الجمرات الثلاثة في اليوم الثاني عشر يخرج من منى قبل غروب الشمس ويطوف طواف الوداع وينصرف إلى أهله، وإن أحبَّ أن يبيت اليوم الثالث عشر ويرمي الجمار الثلاثة بعد الزوال فهو أفضل قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[البقرة:203].
هذا الحج عبادة مشتمل على مناسك، مناسك ومتعبدات عظيمة لها أثرٌ في قلب المؤمن، وفي اتصاله بربه عزَّ وجلَّ، وفي توحيده وإخلاصه، وفي ذكره لربه عزَّ وجلَّ، فالحاج من حين يهُمُّ بالحج وينوي الحج فهو يذكر ربَّه، ويذكر حقَّه، ويعترف بعبوديته لله عزَّ وجلَّ وهو يُعظِّم ربَّه عزَّ وجلَّ وهو ممتثلٌ لأمره يشعر بأنه عبدٌ لله، وأنه خاضعٌ لربه ممتثلٌ لأمره؛ فلهذا حجَّ بيته الحرام، يؤدي ما أوجب الله عليه معظِّمًا ربَّه عزَّ وجلَّ.
وأول شيءٍ يبدأ به سنن الإحرام: الاغتسال، هذا فيه ذكر لله عزَّ وجلَّ، والذكر يكون بالقول ويكون بالفعل، وكل عملٍ له فهو ذكر لله عزَّ وجلَّ، الصائم عابدٌ لله بصيامه، والمصلي عابدٌ لله، والحاج عابدٌ لله، والمزكي عابدٌ لله، والآمر بالمعروف عابدٌ لله، والمتصدق عابدٌ لله، والبار بوالديه عابدٌ لله، والمجاهد في سبيل الله عابدٌ لله، ذاكرٌ لله، كل هؤلاء ذاكرون لله، الذكر يكون بالقول وبالفعل، وبهما معًا؛ ولهذا قال النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: إنما جُعِلَ الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
فهو حينما يغتسل يذكر ربَّه، بدأ بمناسك الحج بالسنن: الاغتسال سنة، النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتسل وقال: خذوا عني مناسككم، وأمر أسماء بت عميس لمَّا ولدت في ذي الحليفة وحملها أبي بكر أن تستتر بثوبها وأن تغتسل، وأمر عائشة لمَّا حاضت أن تغتسل، فهذا سنة.
الحاج يذكر ربَّه ثمَّ التطيب كذلك سنة يذكر ربَّه عزَّ وجلَّ وهو مطيعٌ لله وموحدٌ لله، يعلم أن له ربًّا أمره بذلك فهو يمتثل أمره ويخلص عمله لله عزَّ وجلَّ، تغتسل لمن؟ لله؛ لأن الله هو الذي أمرك بهذا على لسان نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام، تتطيب؛ لأنك تعلم أن هذا مشروع وأنه سنة امتثالٌ لأمر الله، تتعبَّد لله بالتطيب.
ثمَّ كذلك يتجرَّد من المخيط -الذكر- ويلبس إزار ورداء، إزار يشد به النصف الأسفل، ورداء يضعه على كتفيه، والحجاج كلهم هكذا، تتذكر وقوفك بين يدي الله في هذه الحالة، تتذكر خروجك من القبر، تتذكر أنك سوف تخرج من هذه الدنيا ولا تملك شيئًا، لا تملك إلا الكفن الذي تتكفَّن به، فأنت الآن تتذكر، تتذكر الموت، وتتذكر القيامة، وتتذكر الوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيدعوك ذلك إلى أن تخلص له العبادة.
الدنيا كلها فانية، وما عندك من المال وديعةٌ عندك، فأنت حينما تتجرَّد من المخيط تعلم أنك عبدٌ لله، وأنك راجعٌ إلى الله، وأنك ستقف بين يدي الله، وتتذكر أن هؤلاء الحجاج كلهم خضعوا لله، كلهم كشفوا رؤوسهم لله، كلهم لبسوا أكفان الموتى، كلهم تجردوا لله عزَّ وجلَّ، فالمسلم يتأثر بهذه الأعمال وبهذه المناسك، يدعوه ذلك إلى أن يخلص لله العبادة.
ثمَّ بعد ذلك تنوي بقلبك الدخول في النسك الذي تريده، وهذه النية عبادة «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى» فأنت داخلٌ لله في هذه النية، حينما تنوى الحج، أو تنوي العمرة، أو تنوي العمرة والحج معًا فأنت ذاكرٌ لله عزَّ وجلَّ؛ لأن النية عبادة ولا تصح العبادة إلا بالنية، بل لا يدخل الإنسان في الحج ولا في العمرة إلا بالنية، والنية ركن من أركان الحج، وركنٌ من أركان العمرة؛ لأن أركان الحج أربعة:
الإحرام وهو نية الدخول في النسك.
والوقوف بعرفة.
والطواف بالبيت.
وسعي الحج عند جمهور العلماء.
أربعة، وأركان العمرة ثلاثة:
الإحرام وهو النية.
والطواف.
والسعي.
والواجبات في الحج سبعة:
أن يكون الإحرام من الميقات.
والوقوف بعرفة كونه يستمر إلى غروب الشمس.
والمبيت بمزدلفة إلى آخر الليل ليلة العيد.
والمبيت بمنى ليلة الحادي عشر، والثاني عشر.
ورميُّ الجمار.
والحلق أو التقصير.
وطواف الوداع.
هذه الواجبات سبعة، والأركان أربعة وما عدا ذلك فهو سنن ومستحبات.
والمحظورات محظورات الإحرام على المحرم تسعة أشياء -الرجل-:
يتجرَّد من المخيط.
والمحظور الثاني: تغطية الرأس، لا يغطي رأسه.
المحظور الثالث: حلق الشعر.
المحظور الرابع: تقليم الأظفار.
المحظور الخامس: الطيب.
السادس: قتل الصيد.
السابع: عقد النكاح.
الثامن: الجِماع.
التاسع: المباشرة دون الفرج.
فالمحرم حينما يُحرم ويكشف رأسه ويلبس إزارً ورداء يتذكر أنه عبدٌ لله، وأنه يجب عليه أن يخلص العبادة لله عزَّ وجلَّ، وأنه ممتثلٌ لأمر الله، وأنه معظِّمٌ لربه، فيؤثر ذلك فيه هذه المعاني تؤثر فيه خوف الله عزَّ وجلَّ ومراقبته، فلا يدعو إلا الله، ولا يذبح إلا لله، ولا ينذر إلا لله، كيف تدعو مع الله غيره وأنت الآن تتجرَّد من المخيط، وتخضع لله عزَّ وجلَّ؟! بل تشعر بأنك عبدٌ مأمور.
ثمَّ بعد ذلك إذا نوى لبَّى فيلبي الحاج تلبية فيقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، تلبي، هذه التلبية بالتوحيد، قال جابر رضيَّ الله عنه في صفة حج النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أهلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد)، (لبيك اللَّهم لبيك): يعني أُلبي تلبيتك يا الله مرة بعد مرة، أُجيب دعوتك مرة بعد مرة (لبيك اللَّهم لبيك).
(لبيك لا شريك لك): هذا التوحيد يهل الحاج بالتوحيد، (لا شريك لك): لا شريك لك في الربوبية، ولا شريك لك في الألوهية، ولا شريك لك في الأسماء والصفات، ولا شريك لك في الملك، لا شريك لك، فأنت الآن توحد الله عزَّ وجلَّ (لا شريك لك) توحده بقولك ولسانك.
فيجب عليك أن توحد الله وتخلص له العبادة، وأن تبقى موحدًا ولا تنقض هذا التوحيد بأفعالك، لكن مع الأسف بعض الحجاج تجده يلبي بالتوحيد يقول: (لبيك لا شريك لك) بلسانه لكن ينقضها بأفعاله، تجد بعض الحجاج في أسئلة كثير من الحجاج الوافدين يقول: إنه جاء وقد ذبح لأصحاب القبور لما يسميه بالأولياء، ودعاهم من دون الله، وطاف بقبورهم وهو حاج، نقول له: كيف أنت تقول: (لا شريك لك) بلسانك وأنت تنقضها بأفعالك؟!
طوافك بالقبور هذا عبادة صرفتها لغير الله فوقعت في الشرك، الطواف عبادة لا يكون إلا لله في بيت الله، قال الله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، تجده يذبح خروف يقول: أنا أذبح خروف أو عجل، أو دجاج يقول: أذبحه للولي، وما علم أن هذا الشرك، هذا الشرك بعينه، الذبح عبادة لا تكون إلا لله، قال الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر:2]، كما أن الصلاة لله فالنحر لا يكون إلا لله صلِّ لربك وانحر لربك.
وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي[الأنعام:162]: يعني وذبحي قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
فيجب على الحاج أن يتوب من الشرك، إذا حج وهو مصرٌ على الشرك لا يصح حجه، إذا لم يتب من الشرك حجه باطل، وعليه أن يتوب من الشرك، ومن شروط الحج كما سبق: الإسلام، والإسلام معناه هو: الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فالذي يذبح لأصحاب القبور، أو يدعوهم من دون الله يقول: يا فلان، يا رسول الله، بعضهم يدعو النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعض الحجاج ينادي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدعونه من دون الله يقول: يا محمد جئتك من بلادٍ بعيدة أغثني، فرِّج كربتي، لا تخيِّب رجائي، أنا في حسبك، أنا في جوارك، أشرك بالله.
أو يقول: يا سيدي البدوي، يا دسوقي، يا عبد القادر، يا فلان، يا ابن علوان دعوى لغير الله، قال الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ[الذاريات:51]، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس:106]: يعني من المشركين، قال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]، فالدعاء عبادة لا تكون إلا لله، فإذا دعا غير الله دعا الميت أو دعا الرسول، أو دعا القبر، أو دعا جني أو شجر، أو حجر، أو ملائكة، أو غيرهم فإنه صرف العبادة لله فيكون مشرك، يكون وثنيًا من أهل الأوثان.
وكذلك إذا ذبح لهم، أو طاف بقبورهم تقربًا إليهم، أو نذر لهم، يقول بعض الحجاج: عليه ذبيحة لأهل الله، قلت له: كيف ذبيحة لأهل الله، قال: عليه ذبيحة لأهل الله للأولياء أذبح لهم، كيف تذبح لأولياء الله؟ تصرف لهم حقَّ الله؟! الذبح عبادة عليك أن تتوب، تتوب من هذا الشرك حتى يصح حجك، أمَّا أن تحج وأنت مصرٌ على الشرك فحجك باطل، أنت تُهل بالتوحيد، بلسانك فلا تنقضه بأفعالك، (لا شريك لك).
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك): لا شريك لك في الربوبية، ومن اعتقد أن هناك مدبر مع الله، أو أن هناك أحد يشارك الله في الربوبية، أو يتصرَّف في الكون فهو مشرك جعل لله شريكًا في الربوبية، وكذلك من جعل شريك الله في العبادة، فجعل لله شريكًا في الصلاة، أو في الدعاء، أو في الذبح، أو في النذر، أو في الزكاة، أو في الصيام، أو في غيرها، صرف العبادة لغير الله فوقع في الشرك، وكذلك إذا جعل لله شريكًا في الأسماء والصفات، وكذلك جعل لله شريكًا في الملك، هذه الكلمة أنت توحد الله تقول: (لا شريك لك)، لا شريك لك يا الله في الربوبية، ولا شريك لك في الألوهية، ولا شريك لك في الأسماء والصفات، ولا شريك لك في الملك.
ويجب على كل مسلم أن يكون داعية إلى الله وينبه الحجاج إذا رأى منهم من يقع في الشرك ينبهه، يجب وجوب إذا علمت، يتعيَّن عليك إذا لم يعلم بذلك إلا أنت؛ لأن أعظم المنكر الشرك بالله عزَّ وجلَّ، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه.
وأعظم المنكر الشرك، أعظم منكر، وأعظم ذنب يعصون الله به هو الشرك بالله عزَّ وجلَّ، وصرف العبادة لغير الله عزَّ وجلَّ، هؤلاء المساكين الذين يحجون وهم يذبحون لأصحاب القبور، أو ينذرون لهم، أو يطوفون بقبورهم، أو يدعونهم من دون الله، عليك أن تنبههم، وتوضح لهم أن هذا الأمر الذي فعلوه هو الشرك بالله عزَّ وجلَّ، تبين لهم أن العبادة التي صرفوها لهؤلاء لأصحاب القبور هي حقُّ الله عزَّ وجلَّ، هي محض حقِّ الله، حقُّ الله التوحيد، حقُّ الله العبادة، لا يرضى سبحانه وتعالى أن يُشرك معه غيره، لا ملكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل.
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، ولا يزال الحاج في هذه التلبية، يلبي ما دام محرم، ويتذكر أنه موحدٌ لله، وأنه عبدٌ لله، ويُشعر نفسه ويُشعر غيره بأنه لا يجعل لله شريكًا، هذا أثرٌ عظيم في الحاج، الحاج المسلم تؤثر فيه التلبية؛ لأنه يلبي يُهلُّ بالتوحيد.
والتوحيد هو إخلاص العبادة لله، والعبادة اسمٌ جامع لكل ما يرضاه الله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، هذه العبادة، العبادة هي الأوامر والنواهي التي أمر الله بها وأمر بها رسوله، والتي نهى الله عنها ونهى عنها رسوله، تفعل الأوامر طاعةً لله، وامتثال لأمره وطاعة لله ولرسوله، وتترك النواهي خوفًا من الله وطاعةً لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه هي العبادة، الصلاة عبادة، والصوم عبادة، والزكاة عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، والجهاد في سبيل الله عبادة، وبر الوالدين عبادة، والإحسان إلى الناس عبادة، وكف نفسك عن المحرمات عبادة.
وكذلك الحاج إذا طاف بالبيت أول شيء يبدأ به ينوي الطواف، أن هذا طواف الإفاضة، أو طواف الوداع، أو طواف القدوم، ثمَّ يُكبِّر يقول: (الله أكبر)، الله أكبر أعظم من كل شيء، التكبير يؤثر في الحاج، الله أكبر من كل شيء، الله أكبر من المخلوقات كلها فهو الأكبر وهو الأعظم سبحانه وتعالى، فلا يليق بك أن تصرف حقَّه لغيره، كيف تُكبِّر تقول: (الله أكبر) وأنت تذبح لأصحاب القبور؟ أو تنذر لهم، أو تدعوهم من دون الله، أو تطوف بقبورهم؟ ما عظَّمت الله، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74]، لو قدرت الله حقَّ قدره أو عظمت الله حقَّ تعظيمه وعلمت أنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء لما صرفت حقَّه لغيره.
ثمَّ أيضًا الكعبة التي يطاف بها وهي التي تُستقبل في الصلاة، يستقبلها المسلمون في كلِّ مكان ولا يُطاف إلا بها، فأسس دين الإسلام على التوحيد، والقبلة أُسِّست على التوحيد، قبلةٌ واحدة، ودينٌ واحد، وربٌّ واحد، ونبيٌّ واحد عليه الصَّلاة والسَّلام، تذكر أن هذه القبلة إنما أُسِّست على التوحيد، وهذه الكعبة إنما أُسِّست على التوحيد، بناها خليل الرَّحمن هو وابنه إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام.
ثمَّ تذكر الله في أثناء الطواف، تسبح (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) هذا توحيد، لا بد أن يمثله في الحاج يقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، (لا إله إلا الله): يعني لا معبود بحق إلا الله، فكيف تقع في الشرك؟ كيف تعصي الله؟ كيف تصر على المعاصي وأنت تُعظِّم الله بالتسبيح والتهليل والتكبير؟!
ثمَّ تصلي ركعتين خلف المقام تقرأ فيهما: في الركعة الأولى: الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثانية: الفاتحة وقل هو الله أحد، تذكَّر حين تقرأ الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:1-5]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5]: نخصك يا الله بالعبادة توحيد، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5].
ثمَّ قراءة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1]: شُرِعت قراءة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] ليُشعر الإنسان نفسه ويُشعر غيره أنه إنما يطوف بالبيت لا يعبد البيت ولا الكعبة، الكعبة أحجار لكن نطوف بها امتثالًا لأمر الله، وتأسيًا بنبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأنت تُشعر نفسك وتُشعر غيرك بأنك إنما تطوف بالبيت لله لا للكعبة ولا لغيرها، أنت تقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] تتبرأ من الكفر وأهله قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].
وفيه أن الكفار على دين لكن دينهم باطل، لكم دينكم الباطل ولي ديني الحق، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ: من الآن وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ: حالهم هكذا، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ في المستقبل، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ تأييس لهم، لكم دينكم الباطل ولي ديني الحق، هذا التوحيد براءة من الكفر وأهله، براءة من الشرك وأهله، فكيف تتلبَّث بالشرك وأنت تتبرأ من الكفر وأهله؟
كيف الحاج يقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] وهو يدعو غير الله؟ تتبرأ منهم بقراءاتك، بلسانك وأنت تكون معهم بأفعالك؟ تدعو الميت من دون الله، تذبح له، تنذر له، تركع لمخلوق، تسجد له، كيف ما تتأثر أيُّها الحاج؟!
ثمَّ بعد الطواف يُشرع للحاج أن يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وأول شيءٍ يبدأ به يُسنُّ له صعود الصفا ثمَّ استقبال القبلة اقتداءً بالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ توحيد الله وتكبيره وتعظيمه، فيُشرع للحاج اقتداءً بالنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ذكر جابر في سياق حجة النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه استقبل البيت ووحَّده وكبَّر الله وهلَّله وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده انجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده: توحيد.
(لا إله إلا الله): معناها لا معبود بحق إلا الله، ألا يؤثر هذا في الحاج؟! أثره عظيم في الحاج حينما يهلل ويوحد الله (لا إله إلا الله) هذه كلمة التوحيد التي من أجلها خلق الله الخلق، من أجلها أرسل الله الرسل، من أجلها أنزل الله الكتب، من أجلها ينقسم الناس إلى شقيٌّ وسعيد، إلى مؤمن وكافر، من أجلها خُلِقت الجنة والنار، من أجلها حقَّت الحاقة ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله.
هي مشتملة على نفي وإثبات، مشتملة على كفر وإيمان، كفر بالطاغوت وإيمانٌ بالله، براءة من الشرك وأهله، (لا إله): هذا كفرٌ بالطاغوت، (إلا الله): هذا إيمانٌ بالله، وليس هناك توحيد إلا بأمرين:
نفي.
وإثبات.
كفرٌ بالطاغوت وإيمانٌ بالله، قال الله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة:256].
كيف أيُّها الحاج تهلل على الصفا وتقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير) توحد الله ثمَّ تشرك وتقع في الشرك بأفعالك؟! توحد الله بلسانك وتنقض التوحيد بأفعالك؟! أين أثر الحج فيك؟ هل أثَّر الحج فيك؟ المؤمن الموحد لا يقع في الشرك، ويبتعد عن الشرك، ويهرب من الشرك، ويبحث عن الشرك وذرائعه ووسائله حتى يتجنبها ويحذرها؛ لأن الشرك لا يُغفر لمن لقي الله بالشرك فلا يُغفر فهو ذنبٌ عظيم، (48:47) عظيم.
لمَّا في حديث ابن مسعود رضيَ الله عنه قال: أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك هذا أعظم الذنوب، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48].
وإبراهيم الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كسَّر الأصنام بيديه، وأخبر الله عنه أنه أمة، وقاطع وعادى أباه وأهله وجميع الناس في زمانه وبقي على التوحيد ومع ذلك يدعو الله فيقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ[إبراهيم:35]، وبنيه من هم؟ أنبياء (إسماعيل، وإسحاق) أنبياء، وهو خليل الرَّحمن، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده ثمَّ يقول يسأل ربَّه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ[إبراهيم:35-36]: يسأل الله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
ولهذا قال إبراهيم التيمي: (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام): يعني إذا كان إبراهيم الخليل الذي كسَّر الأصنام بيديه ومع ذلك يسأل ربَّه أن يجنبه وبنيه الأنبياء ويباعد بينه وبينهم قال: (وَاجْنُبْنِي) : يعني باعد بيني وبين عبادة الأصنام، فكيف بغيره؟! إذن فالأمر عظيم.
فيتعين على الحاج أن يوحد الله وأن يصرف له العبادة، وأن يعلم حقَّ الله حتى يؤديه، وحتى لا يصرف حقَّ الله لغيره، حقُّ الله العبادة، الصلاة عبادة إذا صرفتها لغير الله وقعت في الشرك، الدعاء عبادة إذا صرفته لغير الله ودعوت الميت أو الحي أو الشجر أو الحجر أو الجن أو الملائكة أو أي أحد من المخلوقات وقعت في الشرك؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[المؤمنون:117] حكم الله عليهم بالكفر.
قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر:13-14] سمَّاه الله شِركًا، قال سبحانه: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ[الشعراء:213]، وقال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18].
كيف تدعو غير الله وأنت توحد الله وتُهلُّه بالتوحيد؟ الذبح عبادة لا يجوز لك أن تصرفها إلا لله، الصلاة عبادة، النذر عبادة بعض الناس ينذر يقول: إن شفى الله مريضي أو نجح ولدي في الامتحان فلله عليَّ خروف أن أذبحه على روح السيد البدوي، أو على روح فلان، أو على روح الرسول، هذا الشرك نذر لغير الله، لا تنذر إلا لله، الله تعالى مدح الأبرار قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا[الإنسان:7]، قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ[البقرة:270].
كذلك الحاج حينما يكبِّر ويُلبي في طريقه إلى منى في وقوفه بعرفة كاشف الرأس يتضرع لله عزَّ وجلَّ يدعو الله ويهلله، «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير»، يُسن الإكثار من هذه الكلمة في عرفة، كيف تُكثر من كلمة التوحيد في عرفة وأنت تقع في الشرك إذا رجعت إلى بلدك؟ احذر أن تقع في الشرك، الزم التوحيد، احذر أن تذبح لغير الله، احذر أن تدعو غير الله، احذر أن تنذر لغير الله، احذر أن تطوف بغير بيت الله تقربًا بذلك، احذر أن تصلي لغير الله وتركه لغير الله أو تسجد لغير الله، استمر على التوحيد، أنت وحَّدت الله في حجك فاستمر على التوبة، هكذا ينبغي للمسلم.
كذلك أيضًا الحجاج في جميع تنقلاتهم يذكرون الله، في الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار حينما ترمي تقول: الله أكبر، تكبِّر الله وتعظمه، توحيد، حينما تطوف بالبيت توحِّد الله، حينما تسعى بين الصفا والمروة توحد الله وتذكر الله، وذكر الله توحيد، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: إنما جُعِلَ الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
فالحاج في جميع أحواله، وفي جميع تنقلاته ذاكر لله عزَّ وجلَّ، موحدٌ لله، حينما يكشف رأسه ليتذكر أنه خاضع لله عزَّ وجلَّ، حينما يلبي يُلبي بالتوحيد، حينما يذكر الله يذكر الله بالتوحيد، حينما يطوف بالبيت، حينما يسعى بين الصفا والمروة، حينما يذكر الله ويُعلن كلمة التوحيد فوق الصفا وفوق المروة، وفي مزدلفة وفي عرفة، وفي جميع أحواله كله ذاكرٌ لله، موحدٌ لله عزَّ وجلَّ.
فالواجب على الحاج أن يكون للحجِّ أثر، أثرٌ عليه في أفعاله وفي أقواله، وفي تصرفاته يتأثر، يلزم التوحيد، يحذر من الشرك، يكون عنده بصيرة، يسأل عمَّا أشكل عليه، إذا منَّ الله عليه بالتوحيد يكون داعية إلى ذهب إلى بلده، ينصح هؤلاء الجهال الذين يذهبون للقبور يذبحون لهم، وينذرون لهم من دون الله.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيَّاكم للعمل الصالح الذي يرضيه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وصوابًا على هدي نبيه الكريم، فإن الحج بل جميع الأعمال لا تصح إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون خالصًا لله.
والشرط الثاني: أن يكون موافقًا لشرع الله، وصوابًا على هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفَّق الله الجميع إلى طاعته، وثبَّت الله الجميع على هداه، ورزق الله الجميع العفو والعافية، والنجاة من الفتن، وثبَّتنا على ديننا القويم إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.