بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني، أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين (الجنس والإنس) إلى العرب والعجم، وأشهد أنه خاتم النبيين وإمام المرسلين فلا نبي بعده، وأشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وعلى أصحابه وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإني أحمد الله إليكم وأُثني عليه الخير كله وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه أن يُصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا، كما أسأله سبحانه أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحوما، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصوما، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقيًّا ولا محروما، كما أسأله سبحانه أن يجعل اجتماعنا هذا جمع خير وعلم ورحمة، تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، ([1]).
أيها الإخوان، الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى لنبيه ﷺ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: ادعُ لهم، الصلاة معناها في اللغة: الدعاء، ولهذا قال الله لنبيه: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.
والصلاة شرعًا: هي العبادة العظيمة الهيئة المفتتحة بالتكبير، والمختتمة بالتسليم، مشتملة على أركان وعلى واجبات وعلى أذكار وعلى قراءة، فهي هيئةٌ مجتمعة مُفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم. قال عليه الصلاة والسلام: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ([2]).
تَحْرِيمُهَا : إذا كبَّر المسلم في الصلاة تكبيرة الإحرام تسمى تكبيرة التحريم؛ لأنه يحرم عليه ما كان مباحًا له قبل الصلاة؛ فيحرم عليه الكلام، يحرم عليه الأكل والشرب، يحرم عليه ما كان مباحًا له قبل الدخول في الصلاة.
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ : فإذا سلَّم حلَّ له ما كان محرمٌ عليه داخل الصلاة.
تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ([3])، هذه الصلاة عبادةٌ عظيمة، وهي أعظم أعمال الجوارح وهي أفضل العبادات وأعظم أعمال الجوارح، ولها من المزايا والخصائص ما ليس لغيرها؛ فمن المزايا والخصائص:
أنها فُرضت على نبينا الكريم من فوق سبع سماوات، فُرضت في المحل الأعلى، أُسري بنبينا ﷺ ومعه صحبه جبريل على البراق - وهي دابةٌ دون البغل وفوق الحمار، سُمي بُراق لما فيه من البريق واللمعان - ركبه النبي ﷺ وركبة جبرائيل، وكان هذا البراق خطوه مد البصر، فقطع المسافة التي بين مكة إلى بيت المقدس في وقتٍ قصير؛ لأن خطوه مد البصر؛ يضع خطوة نهاية البصر وخطوة ثانية نهاية البصر، فقطع المسافة في وقتٍ وجيز، فتكون سرعته قريبة من سرعة الطائرة، يعني قطع المسافة في أقل من ساعة أو ساعة ونصف، وكان الناس في ذلك الوقت يقطعون المسافة في مدة شهر كامل من مكة إلى بيت المقدس.
فجُمع الأنبياء للنبي r، وقدَّم جبريل النبي ﷺ فصلى بهم إمامًا عليه الصلاة والسلام، فظهر فضله عليه الصلاة والسلام، ثم أوتي بالمعراج وهو كهيئة السلم، كهيئة الدرج، فصعد جبريل وصعد النبي ﷺ في وقتٍ وجيز حتى وصل إلى السماء. قطع هذه المسافة، مسافة طويلة ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسون عام، والله على كل شيء قدير.
فنحن نسلِّم ونؤمن بالإسراء والمعراج، ومَن أنكر الإسراء فقد كذَّب الله، ومَن كذَّب الله كفر؛ قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]. فلما وصلا إلى باب السماء استفتح جبريل عليه السلام، فدل على أن السماوات لها حراس لها أبواب ولها حراس، فقيل: مَن؟ قال: جبريل. قيل: ومَن معك؟ قال: محمد. قال: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم.
فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام، فرحب به وأقرَّ بنبوته، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. ثم عرج إلى السماء الثانية واستفتح كما فعل في السماء الأولى ووجد فيها ابني الخالة: عيسى ويحيى. فرحب بالنبي ﷺ وأقرَّا بنبوته وقالا: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح؛ لأنه أخ ليس من السلالة الأبوية. ثم عرج إلى السماء الثالثة ووجد فيها إدريس، فرحب به وأقرَّ بنبوته، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج إلى السماء الرابعة فوجد فيها إدريس، فرحب به وأقرَّ بنبوته، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج إلى السماء الخامسة فوجد فيها هارون عليه السلام، فرحب به وأقرَّ بنبوته وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج إلى السماء السادسة فوجد فيها موسى، فرحب به وأقرَّ بنبوته وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصلاح. ثم عرج إلى السماء السابعة فوجد فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فرحب به وأقرَّ بنبوته وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنه من سلالته، إبراهيم جد نبينا ﷺ فهو حفيده.
فآدم وإبراهيم قالا: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، وبقية الأنبياء إخوة، كلٌّ منهم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ووجد إبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور كعبةٌ سماوية تحاذي الكعبة المشرفة، لو سقط لسقط عليه؛ يدخله كل يومٍ للطواف والصلاة سبعون ألف من الملائكة، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة؛ لا يصلهم الدور من كثرة الملائكة. فإبراهيم عليه السلام كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه بنى الكعبة الأرضية فأسند ظهره إلى الكعبة السماوية.
ثم تجاوز نبينا ﷺ السماء السابعة ووصل إلى سدرة المنتهى وتجاوزها ووصل إلى مكانٍ يسمع فيه صريف الأقلام (أقلام القدر)، ففرض عليه رب العزة والجلال في ذلك المحل الآن الصلاة (خمسين صلاة)، وكلَّمه الله من دون واسطة، من وراء حجاب على الصحيح. لم يرَ ربه، ولا يستطيع أحد أن يرى الله؛ لأن الله احتجب من خلقه بحُجب، ولو كشفها لاحترق الخلق، لكن في يوم القيامة يُنشئ الله المؤمنين تنشئةً قوية يرون الله U، ويثبتون لرؤيته، فكلَّم الله نبينا ﷺ من دون واسطة من وراء حجاب، وفرض عليه الصلاة في المكان الأعلى. هذا يدل على عِظم شأن الصلاة فرضت في المكان الأعلى، فوق السماء السابعة، أما الزكاة والصوم والحج فُرضت في الأرض، ثم أيضًا الصلاة فُرضت بدون واسطة، كلَّمه الله بدون واسطة، أما الزكاة والصوم فُرضت بواسطة جبرائيل، ثم من أهميتها فُرضت في أول الأمر خمسين صلاة ثم هبط نبينا صلى الله عليه وسلم حتى مرَّ على موسى في السماء السادسة، فقال: ماذا فرض عليك ربك؟
قال: خمسين صلاة في اليوم والليلة. قال: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك ضعيفة لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة وإن عرفت من بني إسرائيل أكثر من ذلك. فالتفت النبي ﷺ كأنه يستشيره، فأشار إليه أن نعم، فعلا به جبرائيل إلى ربه جل جلاله، فسأل ربه التخفيف، فوضع عنه عشرًا، فكانت أربعين، وفي رواية أنه وضع خمسًا (خمس وأربعين). ثم مرَّ على موسى في السماء السادسة، فسأله، فقال له مثل ما قال له، فقال: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق أربعين صلاة ولا خمس وأربعين، ارجع إلى ربك، فرجع إليه فوضع عنه عشرًا. فما زال يتردد بين ربه وبين موسى حتى وصلت إلى خمس صلوات. فلما مرَّ على موسى، قال: ماذا فرض عليك ربك؟ قال: فرض عليَّ خمس صلوات في اليوم والليلة. قال موسى: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف على أمتك؛ فإن أمتك ضعيفة لا تطيق خمس صلوات في اليوم والليلة، وإني عرفت بني إسرائيل أكثر منك. فقال النبي ﷺ: إني سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسلم.
فنادى منادي من السماء أن أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هي خمس في العدد وهي خمسون في الميزان والأجر، لا يبدل القول لديَّ، وهذا من فضل الله تعالى خمس صلوات في اليوم والليلة أجرها أجر خمسين. لأن الحسنة بعشر أمثالها. هذا يدل على عِظم شأن الصلاة؛ من عِظم شأنها وخصائصها أنها تتكرر في اليوم والليلة خمس صلوات لتُجدد العلاقة والصلة والرابطة بين العبد وبين ربه، أما الزكاة فلا تجب إلى في السنة مرة، والصوم في السنة مرة، والحج في العمر مرة، لكن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة وهي خمس سنوات، ومن خصائصها أن كل صلاة تُكفِّر الذنوب، كما جاء في الحديث: إذا صلى المسلم الفجر فإن الله يكفِّر خطاياه إلى صلاة الظهر، وإذا صلى الظهر كفَّر الله خطاياه إلى صلاة العصر، وإذا صلى العصر كفَّر الله خطاياه إلى صلاة المغرب، وإذا صلى المغرب كفَّر الله خطاياه إلى صلاة العشاء، وإذا صلى العشاء كفَّر الله الخطايا إلى صلاة الفجر.
والمراد بالخطايا: الصغائر، أما الكبائر فلا بُد لها من توبة. هذا كله يدل على عِظم شأن الصلاة.
ومن عِظمها وشأنها: أنها أول ما يُحاسب الإنسان عنها إذا وُضع في قبره، أول ما يُحاسب الإنسان عنه: عمله، من عمله: صلاته، فإن أُجيزت نُظر في سائر العمل، وإلا فلا يُنظر؛ أول ما يُحاسب الإنسان عنها من الأعمال البدنية. وأما ما يتعلق بالعباد؛ فأول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، فيما يتعلق بأعمال العباد أول ما يقضى بين الناس في الدماء وأول ما يُحاسب الإنسان عنه في الأعمال البدنية: الصلاة؛ ومن خصائصها: أنها آخر ما يُفقد من الدين؛ قال ﷺ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ ([4]).
قال الإمام أحمد وغيره: "كل شيء فُقد آخره لم يبقَ منه شيء".
ومن خصائصها: أن الله قرنها بأعمال البر، قُرنت بالزكاة في مواضع متعددة من القران، وقُرنت بأعمال البر.
ومن خصائصها: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وهذا قول الله وكلام الله، والله أصدق القائلين. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وقد يقول قائل: إننا نرى بعض المصلين يصلون وهم يفعلون الفحشاء والمنكر، ما نهتهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، فكيف وقد أخبر الناس أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ونرى بعض الناس يفعل الفواحش وهو يصلي، ويفعل المنكر وهو يصلي؟
الجواب: أن هذا الذي يفعل الفحشاء والمنكر إنما أوتي من قِبل نفسه؛ ما أقام الصلاة كما أمر الله و أمر رسوله، لو أقامها لنهته عن الفحشاء والمنكر؛ لأن بعض الناس يصلي ولكن لا يقيم الصلاة، والله تعالى أمر بإقامة الصلاة. الثواب إنما رُتب الثواب والأجر إنما رُتِّبا على الصلاة التي تُقام لا على فِعل الصلاة، والله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277].
قال: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ، ولم يقل: صلوا؛ لأن الإنسان قد يصلي ولكن لا يقيم الصلاة، فليس كل مَن صلى قد أقام الصلاة. إقامة الصلاة: معناه هو أن تؤديها معطيًا حقها، مقيمًا لها باطنًا وظاهرًا، مؤديًّا لها، تكون صحيحة في الباطن وفي الظاهر، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب؛ إقامة الصلاة تترتب عليها الثواب. ولا تجد آية فيها ذِكر الصلاة إلا على إقام الصلاة؛ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277]، قال سبحانه في وصف المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71]، ما قال: ويصلون وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
والإقامة غير فعل الصلاة؛ فعل الصلاة شيء والإقامة شيءٌ آخر. وكثيرٌ من الناس يصلي ولكنه لا يقيم الصلاة، فإقامة الصلاة غير فعل الصلاة. ولهذا يقال: المصلي كثير والمقيم للصلاة قليل، كما يقال: الركب كثير والحاج قليل. الذين يركبون إلى مكة إذا جاء وقت الحج كم عددهم؟ ملايين، لكن أين المقيم ؟ أين الحاج الذين يقيمون الحج كما أُمر؟ كما أمر الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ قال عليه الصلاة والسلام: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ([5])، فالركب كثير والحاج قليل، كذلك المصلي كثير والمقيم للصلاة قليل. فالذي يقيم الصلاة هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، والذي لا يقيم الصلاة قد لا تنهاه عن المنكر، وبهذا يزول الإشكال.
يعني بعض الناس يقول: نرى كثير من الناس يصلون ولا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، والله أخبر وهو أصدق القائلين أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكيف ذلك؟!
نقول: هذا الذي لم تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر ما أقام الصلاة؛ لو أقام الصلاة لنهته عن الفحشاء والمنكر. ولهذا قال الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، نفس الآية، ما قال: وصلِّ؛ قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ؛ فإقامة الصلاة غير فِعل الصلاة، إقامة الصلاة: أن تقيمها ظاهرًا وباطنًا.
ظاهرًا: بأن تأتي بشروطها وأركانها وواجباتها وهيئاتها، تصلي صلاة شرعية متابعًا فيها النبي ﷺ تؤدي شروط الصلاة، ما هي شروط الصلاة؟ في شروط تسبق الصلاة، لابد أن تتحقق، لابد أن توجد هذه الشروط قبل أن تدخل في الصلاة:
منها: الوضوء، شرط، فلابد أن تتوضأ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ([6]) وقال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ ([7])؛ إذًا لابد من الطهارة، هذا شرط يسبق الصلاة، فلو صلى بغير طهارة ما صحَّ.
كذلك من الشروط التي تسبقها: استقبال القبلة، قبل أن تدخل في الصلاة لابد أن تستقبل القبلة، فلو صلى لغير القبلة ما صحت صلاته.
من شروط الصلاة ستر العورة، فلو صلى وهو مكشوف العورة ما صحت صلاته.
من شروط الصلاة النية: تنوي بقلبك أنك تصلي صلاة الظهر أو صلاة المغرب أو صلاة العشاء، النية هي التي تفرق، هي التي تميز هل هذه الصلاة نافلة أو فريضة؟ هل هي السنة الراتبة؟ هل هي صلاة الليل؟ هل هي سنة الوضوء؟ ما الذي يميزها؟ النية، النية تسبق، لابد أن تسبق النية. قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الحديث الصحيح: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى([8]).
كذلك انقطاع موجب الطهارة، موجب الطهارة الحدث، فلابد أن ينقطع الحدث، فالحدث مثل البول، البول يوجب الطهارة، فلا تصح الصلاة إلا بطهارة، والطهارة لا تصح والحدث مستمر حتى ينقطع البول، إذا انقطع البول تتوضأ ثم تصلي، هذا يسبق انقطاع ما يوجب الطهارة.
ودخول الوقت أيضًا لمن حدثه دائم مستمر، كمن به سلس أو جرح سيالة، أو امرأة مستحاضة، لابد أن يكون الوضوء بعد دخول الوقت.
هذه شروط لا بُد أن تتوفر في الصلاة. كذلك أيضًا الأركان، أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، أركانها:
القيام مع القدرة، فلابد أن يصلي المسلم قائمًا إذا كان يستطيع، فإن كان مريضًا سقط عنه القيام وصلى قاعدًا، فإن كان اشتد به المرض ولم يستطع الصلاة قاعدًا صلى على جنبه الأيمن، فإن عجز كان لا يستطيع على جنبه صلى مستلقيًا ورجله إلى القبلة، كما ثبت في الحديث الصحيح من حديث عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ([9]) زاد النسائي: فإن لم تستطع فمستلقيًا ([10]). إذًا القيام مع القدرة هذا ركن، فلو صلى الفريضة قاعدًا وهو يستطيع القيام لم تصح صلاته؛ لأنه لم يأتِ بركن من أركانها.
ومن هنا ينبغي الانتباه: بعض الناس قد يتأخر عن الإمام حينما يقوم للركعة الثانية خصوصًا في صلاة الفجر بعض الناس يجلس، ولا يقوم حتى يقرب الإمام من الركوع، كسل، ليس مريضًا، ليس به علة، حتى إنه يوجد بعض الشباب يجلس كسل حتى يقرب الإمام من الركوع ثم يقوم، هذا لا تصح صلاته، ترك القيام، يجب عليك أن تقوم وتتابع الإمام، ما تتأخر هذا التأخر الكثير، تقوم تقف بمجرد ما تسمع صوت الإمام تتبعه، أما أن تجلس حتى يقرب الإمام من الركوع ثم تقوم؛ هذا ترك لركن من أركان الصلاة وهو القيام.
كذلك من الأركان: قراءة الفاتحة، من لم يقرأ الفاتحة لا تصح صلاته، أما الإمام والمنفرد فهي ركن في حقهما، ركن في كل ركعة، لو لم يقرأ الإمام الفاتحة في ركعة أو المنفرد ما صحت صلاته؛ لقول النبي ﷺ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ([11]). وأما المأموم فهي في حقه واجب مخفف على الصحيح، اختلف العلماء في المأموم هل يقرأ في الصلاة الجهرية؟ في الصلاة السرية يقرأ، في الصلاة الجهرية هل يقرأ الفاتحة أو لا يقرأ؟ على قولين:
من العلماء من قال: لا يقرأ، يكتفي بقراءة الإمام.
ومنهم من قال: يقرأ، مستثناة الفاتحة, يقرأ في السكتات سكتات الفاتحة، فإن لم يكن سكتات قرأها وسردها لأنها مستثناة؛ لعموم قول النبي ﷺ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ولقوله ﷺ: لعلكم تقرءون خلف إمامكم ؟([12]) قالوا: نعم، قال: لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ ([13]) فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
كذلك الركوع هذا ركن، لو تركه ما صحت الصلاة.
كذلك الرفع منه ركن، لو لم يرفع من الركوع والاعتدال، رفع مع اعتدال حتى يعود لنفس موضعه، لو ركع ثم سجد من دون رفع لم تصح صلاته، لابد من الرفع والاعتدال.
كذلك السجود ركن، لو تركه ما صحت الصلاة.
الجلسة بين السجدتين ركن.
كذلك التشهد الأخير ركن.
وقراءة التشهد ركن.
والصلاة على النبي ﷺ ركن عند جمع من أهل العلم، فيها خلاف الصلاة على النبي: قيل: إنها ركن، وقيل: إنها واجبة، وقيل: إنها مستحب, والتسليمتان ركن.
هذه أركان، إذا لم يأتِ بها ما صحت الصلاة، كذلك الواجبات, الواجبات تسقط سهوًا ولكن لا تسقط عمدًا، مثل تسبيحة الركوع وتسبيحة السجود، التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، فتكبيرة الإحرام ركن، أول الأركان: القيام ثم تكبيرة الإحرام ثم قراءة الفاتحة، أما التكبيرات غير تكبيرة الإحرام واجب من واجبات الصلاة، عند جمع من أهل العلم، عند الحنابلة وجماعة، وكذا قول: ربِّ اغفر لي بين السجدتين، وقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، قول: سبحان ربي العظيم في الركوع، سبحان ربي الأعلى في السجود، هذه واجبة عند جماعة من أهل العلم، عند الحنابلة وغيرهم؛ لأن النبي ﷺ حافظ عليها وقال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ و صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ([14]). وذهب جمهور من العلماء إلى أنها ليست واجبة، وإنما مستحبة من السنن.
فلابد من الإتيان بالواجبات والشروط والأركان، فإذا أتى المسلم بالواجبات والشروط والأركان.
ومن الشروط التي تسبق الصلاة: الوقت، لابد أن تصلي في الوقت، لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103]، أي: مفروضة في الأوقات، فلو صلى قبل دخول الوقت ولو بلحظة ما صحت الصلاة، وكذلك إذا أخر وصلى بعد خروج الوقت وليس له عذر أيضًا ما تصح عند جمعٍ من أهل العلم، الصلاة محددة بأوقات.
فإذا أتى المسلم الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها هنا أقام الصلاة ظاهرًا، أقامها في الظهر, بقي الإقامة في الباطن، إقام الصلاة، الله تعالى مدح أثنى على المقيمين: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [النساء: 162]، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [البقرة: 277]، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 29]، أقاموها باطنًا وظاهرًا. ظاهرًا كما سمعتم بأداء الواجبات الشروط والواجبات والأركان.
وباطنًا: يقيموها بإخلاص، يكون عنده إخلاص، ويقصد بصلاته وجه الله والدار الآخرة، فإن صلى بغير إخلاص كالمشرك وكالمنافق الذي يصلي رياءً ما صحت صلاته.
ومن إقامة الصلاة باطنًا: حضور القلب، يصلي بحضور القلب، يكون قلبه حاضر، يتدبر القراءة، يتدبر ما يقرأ الإمام، يتدبر ويتأمل أذكار الركوع وأذكار السجود، يتدبر التشهد الذي يقرأه، لابد من حضور القلب، فإن صلى بغير حضور القلب فإنه لا يكتب له من الصلاة إلا بقدر ما عقل من صلاته، ولهذا ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: إِنَّ من النَّاس من يَنْصَرِفُ من صَلاتِه وَملا يُكتَبُ لَهُ إِلاَّ ثُلُثُها أو إلا نِصْفُهَا أو إلا ثُلُثُها أو إلا رُبُعُهَا أو إلا خُمُسُهَا أو إلا سُدُسُهَا أو إلا عُشرُها ([15]).، وقد ينصرف بعض الناس ولا يُكتب له شيء، ما عقل من صلاته شيء، فهذا ما أحضر قلبه، قلبه, جسمه مع المصلين وقلبه يجول في كل وادِ، فهذا ما أقام الصلاة باطنًا، وإن كانت صلاته مجزئة لا يؤمر بإعادة الصلاة، لكن ليس له من الثواب والأجر إلا بقدر ما عقل من صلاته.
هذه الصلاة إذا أقامها المسلم ظاهرًا وأقامها باطنًا هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ [الإسراء: 78] ما قال: وصلي، أقم، إقامة الصلاة غير فعل الصلاة، بل إن الله تعالى توعد من يفعل الصلاة مع السهو والغفل بالويل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4، 5] يصلون لكن مع السهو توعدوا بالويل، بخلاف المقيمين للصلاة وعدهم الله بالأجر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 277] لهم الأجر ولا خوف عليهم فيما يستقبل في الآخرة ولا يحزنون على ما خلفوا من أولاد، هذا تأمين لهم في المستقبل، لا يخافون من عذاب القبر ولا يخافون من عذاب النار، ولا يحزنون على ما مضى، ما خلفوا من أموال وأولاد، من هم هؤلاء؟ الذين أقاموا الصلاة، لكن الذين يفعلون الصلاة بدون إقامة مع السهو والغفلة عليهم الوعيد: فَوَيْلٌ وشدة العذاب فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4، 5] ، فهذا مصلي توعد بالويل، وهذا مقيم للصلاة موعود بالثواب، فرق بينهم.
فالذي يقيم الصلاة هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، والذي لا يقيم الصلاة هو الذي لا تنها صلاته عن الفحشاء والمنكر، متوعد، عليه الوعيد، فرق بين عليه الوعيد ومن له الوعد الكريم، فالمقيم للصلاة له الوعد الكريم، والذي يفعل الصلاة مع السهو عليه الوعيد، فهذا هو السر في هذه الصلاة، السر في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] الفحشاء ما عظم وغلظ، فحش من المنكرات، كالزنا واللواط وغير ذلك من الكبائر، والمنكر المنكرات الأعمال السيئة والمعاصي، فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء وعن المنكر هي الصلاة التي أُقيمت باطنًا وظاهرًا.
ومن تمام إقامة هذه الصلاة من تمام إقامتها الإتيان بالأذكار بعد الصلوات، والإتيان بالسنن الرواتب، كل هذه من مكملاتها؛ لأن الإنسان محل الخطأ ومحل السهو، ويحتاج إلى ما يكمِّل صلاته، فالسنن الرواتب وكذلك الأذكار تُكمِّل ما نقص من الصلاة؛ ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الربَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حينما يحاسب العبد ويكون فيها نقص، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ ([16]) فإن كان له تطوع كُملت بها الفرائض، التطوع من أهم التطوع في الصلاة السنن الرواتب، والسنن الرواتب هي ثنتي عشرة ركعة، وهي: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، كما ثبت هذا في حديث أم حبيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: من صلَّى في اليَومِ و الليْلة وكُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ([17]) ثم فسرتها: أربع ركعات قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر.
وجاء في حديث ابن عمر أنها عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، لكن ثنتي عشرة ركعة أثبت، فهذه مما تكمِّل بها الفرائض، تُكَمَّل يُكمَّل النقص.
كذلك أيضًا من التطوع الذي يكون في الصلاة: صلاة الضحى، صلاة الضحى من التطوع, من التطوع في الصلاة, صلاة الضحى أقلها ركعتان ولا حد لأكثرها، ووقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح، يعني من بعد طلوع الشمس بربع ساعة أو ثلث ساعة إلى قبيل الظهر، أمر النبي ﷺ أبا هريرة أن يحافظ على صلاة الضحى، وأبا الدرداء، قال: "أمرني خليلي بثلاث: أن أوتر قبل أن أنام وأن أحافظ على صلاة الضحى وأن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر". هذه فضلها عظيم.
وأفضلها أفضل وقت الضحى حين ترتفع الشمس، حين تشتد, حين يشتد النهار وتكون الحرارة، حرارة الشمس، في الساعة العاشرة والتاسعة والنصف والتاسعة، وهذه صلاة الأوابين. قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إِذَا تَرمَضُ الْفِصَالُ ([18]) والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة، حين تصيبه الرمضة، حين تشتد الحر هذه صلاة الأوابين.
كذلك أيضًا من التطوع في الصلاة: صلاة الليل، صلاة الليل الصلاة في الليل, وصلاة الليل تبدأ من بعد صلاة العشاء وصلاة السنة الراتبة إلى طلوع الفجر، هذه صلاة الليل، وتسمى صلاة الوتر، وهذه من أفضل صلوات التطوع صلاة الليل, صلاة الليل هي أفضل التطوع، والله تعالى أثنى على الذين يصلون في الليل، قال الله تعالى في كتابه العظيم في وصف المتقين: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الحديث الآخر: وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ([19]) ثم قال ﷺ: وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ([20]) يعني: تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار. قال تعالى في وصف المؤمنين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16].
وأقل صلاة الليل ركعة وتر، يوتر بها، وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين أو بسلام واحد، يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي الثالثة، وإن قرأ في الركعة الأولى الركعتين الركعة الأولى بعد الفاتحة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] والثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، والثالثة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فحسن، وإذا سردهما ولم يجلس إلا في آخره فله ذلك، إما أن يسردهما وإما أن يسلم بسلام واحد، هذا أدنى الكمال، وله أن يوتر بخمس، بسبع، بتسع، وكان النبي ﷺ في الغالب يوتر بإحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، وربما أوتر بأقل من ذلك.
وأفضل صلاة الليل النصف الأخير، النصف الأخير فاضل؛ لأن النصف الأخير من الليل أفضل من النصف الأول، فالسدس الرابع والخامس هي صلاة داوود عليه السلام، قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أفضَلُ الصَّلاَةِ صَلاَةُ دَاوُودَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ([21]) فداوود عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان ينام النصف الأول من الليل، ثم يقوم السدس الرابع والسدس الخامس، وبقي السدس السادس ينام ليتقوى على عمل النهار؛ لأن داوود عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان حاكمًا يحكم بين الناس، كان نبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، نبي وحاكم وملك، أعطاه الله الملك والنبوة: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] فهو يحتاج إلى أن ينام السدس الأخير حتى يتقوى به على عمل النهار. وكان عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نبي وملك ومع ذلك يصلي, يصلي السدس الرابع والسدس الخامس من الليل.
وكذلك الصوم: قال ﷺ: أفضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُودَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ([22]) وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى شوف هذا النبي الكريم أعطاه الله الملك والنبوة ومع ذلك أفضل الصلاة صلاة داوود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داوود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، مع الملك والنبوة ومع ذلك يصوم يوم ويفطر يوم، وكان لا يفر إذا لاقى.
والثلث الأخير من الليل هو السدس الخامس والسادس، هو وقت التنزل الإلهي، كما ثبت في الحديث المتواتر: أن النبي ﷺ قال: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ([23]) حتي يطلع الفجر وبهذا يتبين أن النصف الأخير من الليل أفضل من النصف الأول؛ لأن السدس الرابع والخامس هذه صلاة داود، والسدس الخامس والسادس هو ثلث الليل الآخر، هو وقت التنزل الإلهي، يتبين النصف الأخير بأسداسه الثلاثة أفضل من النصف الأول.
كان النبي ﷺ كما جاء في الحديث: إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه، وكما ثبت في حديث عائشة و عبدالله ابن عباس: وكان إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي. إذًا النبي ﷺ ينام بعد العشاء وإذا انتصف الليل أو قبله بقليل قام يصلي، وها نحن الآن حالتنا ما هي؟ نحن الآن نسهر إلى حتى يبقى ربع الليل أو سدس الليل، نسهر على أي شيء؟ على صلاة؟ ما نسهر، ثم بعد ذلك ننام، والجيد الذي يوفقه الله يقوم لصلاة الفجر، ومن الناس من لا يقوم، كيف حالتنا الآن وحالة السلف؟ وحالة الذين يتهجدون وحالة النبي ﷺ كان النبي ﷺ إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه، فإذا انتصف الليل أو قبله بقليل قام يصلي، ويصلي صلاة طويلة عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
عائشة حزرت السجدة الواحدة من سجدات النبي قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية، خمسين آية وهو ساجد، وفي حديث حذيفة، أن النبي ﷺ صلَّى ليلةً فقرأ بالبقرة، يقول: فقلت: إذا وصل إلى مائة آية يركع. فمضى، قلت: يركع بمائتين. فمضى، قلت: يصلي بها. فمضى، أكمل البقرة، ثم افتتح النساء فقرأها كاملة ثم قرأ آل عمران، خمس أجزاء وربع في ركعة واحدة، وكان يقرأ قراءة مترسلًا مرتلاً بالترتيل والتمهل، لا يمر بآيةٍ فيها تسبيح إلا وقف يسبِّح، ولا يمر بآيةٍ فيها رحمة إلا وقف يسأل، ولا يمر بآيةٍ فيها عذاب إلا ووقف يتعوذ. كم تستغرق هذا؟ قال: ثم ركع فكان ركوعه قريبًا من قيامه -مَن يستطيع هذا؟!- ثم رفع، ثم سجد، فكان سجوده قريبًا من قيامه. كم تستغرق هذه الصلاة؟
وقال كما تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفة. تتشقق من طول القيام، تتشقق شقوق في رجليه، فتقول عائشة: يا رسول الله، لِمَ تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟ فقال رسول الله ﷺ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ([24]).
فهذا شكر لله، هؤلاء الأكياس والأخيار؛ إذا زادت الفضل والنِّعم عليهم زادوا في الشكر والعبادة، فصلاة الليل أيضًا كذلك مما تُكمَّل بها صلاة الفريضة، ولكن يجب على الإنسان أن يؤدي صلاة الفجر في وقتها. إذا كان يصلي الليل ثم ينام عن صلاة الفجر، لا يجوز له أن يصلي؛ لأنه ما يسأله عن صلاة الليل؛ إنما يسأله عن صلاة الفريضة، لا بُد من العناية بالفرائض وأداء الصلاة في وقتها.
كذلك أيضًا من النوافل: تحية المسجد، سنة الوضوء، صلاة الاستخارة، صلاة الاستسقاء، صلاة العيد، على الخلاف في صلاة العيد هل هي فرض عين أو فرض كفاية، فهي صلاة سنوية.
وكذلك أيضًا الأذكار، كذلك أيضًا مما يُكمِّل أيضًا: التبكير, التبكير إلى الصلوات، والإتيان إليها مبكر؛ قال عليه ﷺ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التهْجِيرِ والأذَانِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا،([25]).
التهجير: التبكير، التبكير إلى الصلوات. الإنسان إذا بَكَّر إلى الصلاة، تستغفر له الملائكة، ويدعو ربه فيستجاب له الدعاء، ويقرأ ما تيسر من القرآن بخلاف الذي يأتي متأخر. التهجير التبكير إلى الصلوات فضلٌ عظيم.
كذلك السُّنن الرواتب، وكذلك الأذكار؛ ينبغي للإنسان أن يأتي بالأذكار ويحافظ عليها، التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بعد الصلوات مَن حافظ عليها غُفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. والتسبيح أنواع؛ جاءت السُّنة بأنواع من الذِّكر؛ منها: التسبيح، أن يسبِّح الله ثلاثًا وثلاثين، وأن يحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وأن يكبِّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، هذا نوع.
هناك نوعٌ آخر علَّمه النبي ﷺ عليًّا وفاطمة عند النوم، لما جاءت فاطمة تسأل خادم، وشكت إليه ما تجده من مشقة خدمة البيت، ومشقة الرحى التي تطحن -ما عندهم الدقيق يُطحن عندنا بطواحين، لا، تطحن بنفسها، وتجلب الماء بنفسها-. فقال النبي ﷺ: ألا أدلكما على خير من خادم؟ إذا آويتما إلى فراشكما تسبحون الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبِّرونه أربعًا وثلاثين، هذا نوع من الذِّكر يؤتى به بعد الصلاة. قالت فاطمة، فأتت بهذا الذِّكر فما وجدت بعد ذلك مشقة، زالت المشقة، أعانها الله بهذا الذِّكر، هذا نوع.
هناك نوع آخر من الذِّكر، كله مشروع في الصلاة: أن تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين، تسع وتسعين فقط.
هذا علَّمه النبي ﷺ فقراء المهاجرين في منافسة بين الفقراء والأغنياء؛ فجاء الفقراء إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إنا إخواننا الأغنياء سبقونا. قال: كيف ذلك؟. قالوا: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتق -ما عندنا أموال-. قال ﷺ: أَفلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سبَقْتُم غَيْرَكُم ولم يأتِي أحَدٌ مثْلَكُم إلا من فَعَلَ مِثْلَما فَعلْتُم أو زاد، قال: تُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُونَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُونَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ([26]) فقط تسعة وتسعون.
فسمع الأغنياء بذلك ففعلوا، فرجع الفقراء مرةً ثانية إلى رسول اللهﷺ وقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا الأغنياء بما قلت ففعلوا مثلما فعلنا وزادوا بالعتق والصدقات، فماذا نفعل؟ قال ﷺ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
كذلك أيضًا من أنواع الذِّكر بعد الصلاة: أن تُسبح الله خمسًا وعشرين، وتحمد الله خمسًا وعشرين، وتُهلل الله خمسًا وعشرين، وتُكبر الله خمسًا وعشرين فتلك مائة. سبحان الله خمس وعشرين، والحمد لله خمس وعشرين، ولا إله إلا الله خمس وعشرين، والله أكبر خمس وعشرين، كل هذه الأعداد صحيحة .
هناك أيضًا كذلك نوع آخر في غير الصحيحين: أن تُسبح الله عشرًا، وتحمد الله عشرًا، وتكبر الله عشرًا، ثلاثون. فهذا قد يكون مستعجل، وفي الأسفار.
هذه كلها مما يُكمِّل الصلاة، ويُكمِّل ما نقص منها، فينبغي للمسلم بأن يعتني بصلاته، وأن تشتد عنايته بها. والله تعالى قال في كتابه العظيم: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة عمومًا والصلاة الوسطى خصوصًا. والصلاة الوسطى على الصحيح هي صلاة العصر، ومعنى الوسطى: الفاضلة؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني خيارًا عدولًا.
فالله تعالى أمر بالمحافظة على الصلاة عمومًا، والصلاة الوسطى خصوصًا، والمحافظة عليها تشمل المحافظة عليها باطنًا وظاهرًا. فهذه الصلاة أمرها عظيم، ومن خصائصها ومزاياها: أنه ورد فيها من النصوص ما لم يرِد في غيرها؛ دلت النصوص الكثيرة على أن ترك الصلاة كفرٌ حتى ولو لم يجحد وجوبها. مَن جحد وجوب الصلاة، هذا كافرٌ بالإجماع؛ بل حتى من جحد الزكاة وجوب الزكاة أو جحد وجوب الصوم أو جحد وجوب الحج، هذا كافرٌ بالإجماع؛ لأنه مكذِّبٌ لله؛ ولأنه أنكر أمرًا معلوم من الدين بالضرورة، فيكون كافرًا، لكن من صدَّق وآمن بوجوب الصلاة لكن تركها كسلًا وتهاونًا، فما الحكم؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يكفر كفرًا أكبر مخرجاً من الملة، ولكن يكفر كفرًا أصغر، ولكن المحققون من أهل العلم ذهبوا إلى أنه يكفر كفرًا أكبر يُخرج من الملة ولو لم يجحد وجوبها، والأدلة في هذا صريحة؛ منها: ما ثبت من حديث جابر بن عبد الله، ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر t، أن النبي ﷺ قال: بَيْنَ الرجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ ([27])، فجعل الصلاة حدًّا فاصلًا بين الإيمان والكفر، البينية تفصل بين ما بين الشيء وبين الشيء.
وقال ﷺ: العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ([28]). رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث بريدة بن الحصيب .
وقال ﷺ فيما رواه البخاري من حديث برادة t، قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ([29]). والذي يحبط عمله هو الكافر؛ قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، دليل على أن تركها كُفر، وبقية الصلاة كذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ([30]).
وثبت في حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ ذَكَر الصلاة يومًا، فقال: مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا، وَلَا بُرْهَانًا، وَلَا نَجَاةً, وحُشِرَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وقَارُونَ ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ ([31]). وهذا يدل على كفره؛ كونه يُحشر مع الكفرة مع أئمة الكفر دليل على كُفره. كون تارك الصلاة يُحشر مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف يدل على كُفره.
قال العلماء: كونه يُحشر مع هؤلاء؛ لأن تارك الصلاة إن تركها من أجل مُلكه حُشر مع فرعون (ملك مصر في زمن موسى)، وإن تركها من أجل وزارته حُشر مع هامان وزير فرعون، وإن تركها من أجل ماله حُشر مع قارون (تاجر بني إسرائيل الذي أتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أُولي القوة)، وإن تركها من أجل وظيفته وشهواته حُشر مع أُبي بن خلف. فكون تارك الصلاة يُحشر مع هؤلاء الكفرة يدل على كفره.
ومما يدل أيضًا على أهمية الصلاة على أهميتها وعِظم شأنها وأن تركها كُفر: أن النبي ﷺ نهى عن الخروج على ولاة الأمور إذا كانوا يقيمون الصلاة.
في حديث عوف بن مالك الأشجعي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، يقول النبي ﷺ: خيار أئمتكم الأئمة: يعني ولاة الأمور، خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ يعني تدعون لهم ويدعون لكم وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ([32])، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ مادام شِرار ويتلاعنون، نقاتلهم بالسيف ؟ قال: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ.
فكون النبي ﷺ ينهى عن الخروج على الأئمة إلا إذا اقاموا الصلاة، دليل على أن ترك الصلاة كُفر، ومفهومه: أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يجوز الخروج عليهم. ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الآخر، أن النبي ﷺ نهى عن الخروج على الأئمة، وقال: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ([33]).
كُفرًا: يعني لا فسقًا، بواحًا: يعني ظاهرًا لا لبس فيه. عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ : دليلٌ واضح من الكتاب والسنة.
فإذا جمعت بين الحديثين؛ أن النبي نهى عن الخروج إلا إذا فعل كفرًا بواحًا، وحديث: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ ، دل على أن ترك الصلاة كُفر بواح؛ لأنه هنا نهى عن الخروج عليهم إلا إذا أقاموا الصلاة، وهنا قال: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا ، فدل على أن ترك الصلاة كفرٌ بواح، وهذا يدل على عِظم شأن الصلاة وأن تركها كفر.
ومما يدل على ذلك: أن عبد الله بن شقيق العُقيلي التابعي الجليل نقل إجماع الصحابة على أن تركها كفر، قال: لم يكن أصحاب النبي ﷺ يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة غير الصلاة. وكذلك نقل الإجماع أبو محمد بن حزم، وغيرهم نقلوا الإجماع على أن ترك الصلاة كفر.
أما الزكاة والصوم والحج ففيه خلاف؛ من العلماء مَن قال: إنَّ تركها كُفر، ولكن الصواب أنه إذا تركها كسلًا وتهاونًا فلا يكفر تارك الزكاة؛ بل يُعذَّب. ويدل على ذلك: أن الأحاديث التي فيها أن تارك الزكاة يوم القيامة يُعذَّب بماله؛ إن كان نقودًا صُفِّحت له صفائح من نار، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وإن كان ماله إبل أو بقر أو غنم قُطح لها في قاع قرقر تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مرَّ عليه أُولاها رُدت عليه أُخراها، تتكرر عليه العملية في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فقول النبي ﷺ: ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ([34])، دليل على أنه لا يكفر؛ لأنه لو كان كافر ليس له سبيل إلى الجنة. فدل على أن ترك الزكاة كسلًا وتهاونًا لا يكفر على الصحيح، لكنه مرتكب لجريمة أعظم من جريمة الزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه. تُؤخذ منه الزكاة ويُسجن ويُضرب ويؤدب حتى يؤدي الزكاة، لكن لا يكفر على الصحيح، بخلاف الصلاة فإنَّ تركُها ولو كسلًا وتهاونًا كُفر، وكذلك الصيام؛ على الصحيح: إذا جحد وجوب الصيام كَفَر، لكن إذا تركها كسلًا وتهاونًا فإنه يؤدب بالسجن والضرب ويُلزم بالصيام ولكنه لا يكفر، أما الصلاة فإنْ تركها ولو كسلًا وتهاونًا -على الصحيح- كُفر، كما سمعتم في هذه الأحاديث.
فنسأل الله للجميع التوفيق والسداد، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا لإقامة هذه الصلاة، نسأل الله أن يعيننا على إقامة الصلاة باطنًا وظاهرًا، وأن يجعلنا سبحانه وتعالى من المقيمين الصلاة الذين تكون الصلاة قرة أعينهم، كان النبي ﷺ قرة عينه؛ قال: وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ([35])، فنسأل الله أن يجعل الصلاة قرة عيوننا، وأن يرزقنا إقامتها باطنًا وظاهرًا، وأن يرزقنا فيها الإخلاص لله وأن يُثبتنا على دينه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
([1])صحيح مسلم (4/ 2074)، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم: 2699.
([2])سنن الترمذي ت بشار (1/ 54)، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، رقم: 3.
([3]) سبق تخريجه.
([4])المعجم الكبير للطبراني (9/ 353)، رقم: 9754.
([5]) مسند الشافعي - ترتيب السندي (1/ 351)، الباب السادس فيما يلزم الحاج، رقم: 904
([6])صحيح البخاري (9/ 23)، باب في الصلاة، رقم: 6954.
([7])صحيح مسلم (1/ 204)، باب وجوب الطهارة للصلاة.
([8])صحيح البخاري (1/ 6)، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،رقم: 1.
([9])صحيح البخاري (2/ 48)، باب إذا لم يطق قاعداً صلي على جنب، رقم: 1117.
([10])شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (2/ 305)، باب إذا لم يطق قاعدا، رقم: 1117.
([11])صحيح البخاري (1/ 152)، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم: 756.
([12])صحيح وضعيف سنن أبي داود (ص: 2، بترقيم الشاملة آليا)، باب 823.
([13])سنن الترمذي ت بشار (1/ 406)، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، رقم: 311.
([14]) صحيح البخاري (8/ 9)، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: 6008.
([15])أخرجه أحمد 4/321(19100) قال : حدَّثنا صَفْوَان بن عِيسَى . و"أبو داود"796 .
([16])سنن الترمذي ت بشار (1/ 535)، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به، رقم: 413.
([17])صحيح مسلم (1/ 503)، باب فضل السنن الراتبة، رقم: 728.
([18])صحيح مسلم (1/ 516)، باب صلاة الأوابين حين تومض الفصال، رقم: 748.
([19])سنن ابن ماجه (2/ 1314)، باب كف اللسان في الفتنة، رقم: 3973.
([20])مسند أحمد مخرجا (36/ 344)، حديث معاذ بن جبل.
([21])صحيح البخاري (4/ 161)، باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، رقم: 3420.
([22]) سبق تخريجه.
([23])صحيح مسلم (1/ 521)، باب الترغيب في الدعاء والذكر، رقم: 758.
([24])صحيح البخاري (2/ 50)، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 1130.
([25])صحيح البخاري (1/ 126)، باب الاستهام في الأذان، رقم: 615.
([26])مصنف ابن أبي شيبة (6/ 34)، باب ما يقال دبر الصلوات، رقم: 29267
([27])سنن أبي داود (4/ 219)، باب في رد الإرجاء، رقم: 4678.
([28])سنن الترمذي ت بشار (4/ 310)، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: 2621.
([29])صحيح البخاري (1/ 115)، باب من ترك صلاة العصر، رقم: 553.
([30])الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (6/ 215)، باب أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 3447.
([31])سنن الدارمي (3/ 1789)، باب المحافظة على الصلاة، رقم: 2763، وإسناده صحيح.
([32])صحيح مسلم (3/ 1481)، باب خيار الأئمة وشرارها، رقم: 1855
([33])صحيح البخاري (9/ 47)،باب قول النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 7055
([34])صحيح مسلم (2/ 682)، باب إثم مانع الزكاة، رقم: 987.
([35])سنن النسائي (7/ 61)، باب حب النساء، رقم: 3940.