بِسْمِ اللَّهِ والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أيها الأحبة في الله يسر إخوانكم في تسجيلات الراية الإسلامية بالرياض أن يقدموا لكم هذه المحاضرة والتي هي بعنوان: "حقوق الأنبياء والصحابة" لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، والتي ألقيت بجامع الأمير فيصل بن فهد بمدينة الرياض في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألفٍ وأربعمائة وخمسة وعشرين من الهجرة النبوية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني، أشهدُ أنه رسولُ الله وأنه خاتمُ النبيين وأنه رسول الله إلى الثقلين الجنِ والإنس إلى العربِ والعجم، وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأُمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وعلى أصحابه وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
فإني أحمد الله إليكم وأثني عليه الخير كله وأسأله المزيد من فضله وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا وألا يجعل فينا ولا منا شقيًا ولا محرومًا، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماع خيرٍ وعلمٍ ورحمة تنزلُ عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره اللهُ فيمن عنده فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ([1]).
أيها المسلمون إن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لحكمةٍ عظيمة لم يخلقهم سُدى ولم يتركهم هملًا بل خلقهم لعبادته وتوحيده وطاعته، لم يخلقهم هملًا لا يؤمرون ولا ينهون ولا سدىً لا يجازون ولا يحاسبون بل خلقهم لأمرٍ عظيم، خلقهم لعبادته وتوحيده وطاعته، قال اللهُ تعالى في كتابه العظيم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وقال سبحانه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36]، وقال سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115].
فقد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له |
|
فربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل |
فلذلك حاجة الناس إلى الرسل حاجةٌ شديدة أشدُ من حاجتهم إلى الطعامِ والشراب، بل أشد من حاجتهم إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الإنسان؛ لأن الرسل يبلغونهم شرع اللهِ ودينه فيمتثلون أوامر الله ويجتنبون نواهيه، تحصلُ لهم السعادة الأبدية إذا أطاعوا الرسل ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة.
أما إذا فقد الإنسان الطعام والشراب فإنه يموت الجسد، والجسد لابد من موته إن عاجلًا أو آجلًا ولا يضر الإنسان كونه يموت إذا مات على التوحيد والإيمان، لكن إذا فقد النور الإلهي، إذا فقد الوحي، إذا فقد الحياة الحقيقية، إذا فقد ما يكونُ سببًا في سعادته فإنه يموتُ قلبه وروحه ويكون إلى النار أعوذُ بالله، نسألُ الله السلامةَ والعافية.
قال الله تعالى في كتابه العظيم: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213].
وقال سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]. فالله تعالى أرسل الرسل يبشرون وينذرون، هذه هي مهمة الرسل البشارة والنذارة، يبشرون من أطاعهم ووحد الله بالجنة والكرامة وينذرون من عصاهم وعصا الله بالنار والعذاب الأليم، وأفضل الخلق هم الرسل، أفضل الخلق هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم يليهم الصديقون، ثم يليهم الشهداء، ثم يليهم الصالحون.
وأفضل الرسل هم أولوا العزم الخمسة وهم: محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، هؤلاء هم أولوا العزم الخمسة هم أفضل الأنبياء أعطاهم الله من القوة والصبر والتحمل ما ليس لغيرهم، ذكرهم الله تعالى في آيتين من كتابه في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7]، هذه في سورة الأحزاب، وقال في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].
فألوا العزم الخمسة هم أفضل الرسل، فقد أمر الله نبيه أن يقتضي بهم وأن يتسلى بهم بالصبر والتحمل في تبليغ الرسالة والدعوة والشريعة، قال سبحانه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35].
وأفضل الرسل، أفضل ألوا العزم الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وأفضل الخليلين: نبينا وإمامنا محمدٌ صَلَّىاللهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ، فهو أفضل الخلق على الإطلاق، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ([2])، وقال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ أَخْشَاكُمْ وَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ أَنَا([3]) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هو أتقى الناس نبينا عليه الصلاة والسلام، وأعبد الناس وأشجع الناس، وأزهد الناس، وأعلم الناس بربه، وأتقاهم وأفضلهم في جميع الخصال.
ثم يليه في الفضيلة جده إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء، والد الأنبياء والحنفاء وكلُ نبيٍ بعثه الله بعده فهو من سلالته قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27] لأن الله تعالى رزقه ابنين عبدين صالحين ونبيين كريمين أحدهما إسماعيل وأُمه هاجر وهو أبو العرب الأبُ الثاني ومن سلالته نبينا محمدٌ ﷺ.
والثاني إسحاق عليه الصلاة والسلام وهو والد يعقوب ويعقوب هو إسرائيل ومن سلالته جميع أنبياء بني إسرائيل الذين آخرهم وخاتمهم عيسى عليه الصلاة والسلام.
وبهذا يتبين أن كل نبيٍ بعثه الله بعد إبراهيم فهو من سُلالته، وكلُ كتاب أنزله اللهُ بعده فهو في ذريته. وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27].
ثم يليه في الفضيلة موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ثم عيسى ونوح. هؤلاء هم أولوا العزم الخمسة، ثم يليهم في الفضيلة الأنبياء، ثم يليهم بعد ذلك الصديقون الذين كمل إيمانهم وتصديقهم، من قوة إيمانهم وتصديقهم، هذا التصديق والإيمان يحرق الشبهات والشهوات، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر الصديق.
ثم يليهم الشهداء الذين بذلوا أرواحهم لله عز وجل، ثم يليهم الصالحون، سائر الصالحين، وهم ثلاث طبقات:
السابقون المقربون الذين تقربوا إلى الله بالفرائض، ثم تقربوا إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتقربوا إلى الله بترك المحرمات ثم تقربوا إلى الله بترك المكروهات وفضول المباحات.
ثم أصحاب اليمين المقتصدون الذين أدوا الواجبات واقتصروا على ذلك ولم يكن نشاط في فعل المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات واقتصروا على ذلك ولم يكن لهم نشاط في ترك المكروهات كراهة التنزيه أو التوسع في المباحات.
وهؤلاء الصنفان يدخلون الجنة من أول وهلة فضلًا الله وإحسان.
ثم الطبقة الثالثة: الظالمون لأنفسهم الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقع في عملهم شرك لكنهم قصروا في بعض الواجبات وفعلوا بعض المحرمات، فسموا ظالمين لأنفسهم فهم على خطرٍ عظيم من عذاب القبر ومن الشدائد التي تصيبهم في يوم القيامة ومن دخول النار، منهم من يُعفى عنه ومنهم من يُعذب ولكنهم في النهاية مصيرهم إلى الجنة والكرامة لأنهم ماتوا التوحيد، لكن هذه المعاصي خبث، منهم من يُطهر بالنار إذا لم يعفوا اللهُ عنه، فإذا طُهر بالنار خرج منها إلى الجنة والكرامة.
فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم على الناس حقوق، حقوق هؤلاء الأنبياء محبتهم، أن يحبهم الإنسان محبتهم محبة قلبية ويقدم محبتهم على محبة الأموال والأولاد والأنفس لأنهم رُسلُ الله وأنبياؤه الذين اصطفاهم اللهُ عز وجل ولأنهم أنقذوا الناس من الظلمات إلى النور، وأنقذوهم بتوفيق الله جعلهم الله سببًا في إنقاذ الناس من ظلمات الجهل والشرك والكفر إلى نور العلم والإيمان واليقين.
ومن حقوقهم علينا موالاتهم وأن نواليهم.
ومن حقوقهم علينا نصرتهم وموالاتهم.
ومن حقوقهم علينا تصديقهم والإيمانُ بهم والشهادةُ لهم بالبلاغ وأنهم أفضلُ الناس، وكلُ نبيٍ في زمانه يجبُ على قومه، على المؤمنين في زمانه أنه يحبه وأن يواليه وأن يصدقه وأن يشهد له بالبلاغ وأن يعمل بشريعته، أما نحنُ أُمة محمد عليه الصلاة والسلام فإننا يجب علينا محبة الرُسل وموالاتهم وتصديقهم والشهادةُ لهم بالبلاغ،وأما العمل بالشريعة فإننا نعملُ بشريعة نبينا محمدٍ ﷺ.
فنبينا محمد ﷺ هو حظنا من الأنبياء والرُسل، ونحنُ حظه من الأُمم وهو أفضلُ الخلق عليه الصلاة والسلام، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع، لأن الإسلام بمعناه العام هو دين الأنبياء جميعًا، الإسلام بمعناه العام هو دينُ نوح، هو دين آدم ودين نوح ودين هود ودين صالح ودين لوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء الذين جاءوا بعد موسى، ودينُ نبينا محمد ﷺ.
فالإسلام هو دينُ الله في الأرضِ وفي السماء، قال اللهُ تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19]، قال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].
فالأنبياء كلهم دينهم واحد دينهم الإسلام، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد([4]) ديننا واحد وهو التوحيد، وهو توحيدُ الله والإيمانُ بالله وملائكته ورُسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والحذر من الشرك وطاعة نبيٍ في كل زمانه، في كل زمان هذا يجبُ طاعته.
فهذا دين الإسلام، دينُ الإسلام في زمن نوح، زمن هود، وزمن آدم، توحيد الله وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، وفي زمن نوح الإسلام توحيد الله وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة اجتناب الأوامر واجتناب نواهيه، والإسلام في زمن هود توحيد الله وطاعة هود فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن صالح توحيدُ الله وطاعة صالح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم هو توحيدُ الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيدُ الله وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى هو توحيدُ الله وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة، حتى بُعث نبينا محمد ﷺ.
فلما بُعث نبينا ﷺ صار الإسلام هو توحيدُ الله والعمل بالشريعة الخاتمة التي جاء بها نبينا وإمامنا محمدٌ ﷺ.
فالواجبُ على كلِ إنسان بعد بعثة نبينا محمد ﷺ أن يؤمن به وأن يُصدقه وأن يواليه وأن يُحبه وأن ينصره وأن يعملَ بشريعته، فمن لم يؤمن بشريعته عليه الصلاة والسلام، ومن سمع به ولم يؤمن به ومات على ذلك فهو من أهل النار، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ([5]) لأن شريعته عامة للثقلين الجن والإنس بخلاف الأنبياء السابقين فإن شريعة كل نبيٍ خاصة بقومه.
وقد يوجد من الأنبياء قد يبعث الله نبيين في زمن واحد، كل نبي يكون مبعوثًا إلى قوم كما كان لوط وإبراهيم في زمن واحد، أما نبينا محمد ﷺ فإن شريعته عامة للثقلين الجن والإنس، للعرب والعجم، فالواجب على كل إنسان أن يؤمن به وأن ينصره وأن يعزره وأن يواليه وأن يُحبه ويوقره، قال الله تعالى في كتابه العظيم: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9].
وقال سبحانه وتعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156، 157]. الذين آمنوا به وعزروه يعني وقروه، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وقال سبحانه: قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]، ولعل ليست للترجي بل هي للتعيين، والمعنى فاتبعوه لتهتدوا، فمن اتبع هذا النبي عليه الصلاة والسلام فهو من المهتدين، ومن لم يتبعه فهو من الضالين، فنبينا عليه الصلاة والسلام من حقه علينا أن نؤمن به، ومن حقه علينا أن نعزره يعني نوقره ونحترمه، ومن حقه علينا أن نواليه، ومن حقه علينا أن نُحبه أعظم من محبتنا لأولادنا وأهلينا وأموالنا وأنفسنا.
فمن أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أحبه محبة إيمانية فهو المؤمن وذلك بإتباعه عليه الصلاة والسلام، بالعمل بشريعته وتصديق أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هذا دليلُ محبة، المحبة، من ادعى محبة النبي ﷺ فلابد أن يصدقها بالإتباع والطاعة والتصديق قال الله تعالى في كتابه العظيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31].
هذه الآية تسمى آية المحنة الامتحان وذلك أن قومًا ادعوا محبة الرسول ﷺ فامتحنهم الله بهذه الآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31]، يعني من كان صادقًا في محبته للنبي ﷺ فلابد أن يتبعه فإن كان لا يتبعه ولا يتمثلُ أوامره ولا يجتنب نواهيه فهو كاذب، كاذبٌ في دعواه، كيف يدعي أنه يحبه وهو يخالفُ أوامره ويرتكبُ نواهيه، يقول الناظم:
تعصي الإله وتزعمُ حبههذا |
لعمري في القياس بديعُ |
لو كنت صادقًا لأطعته | المحب لمن يحبُ مطيعُ |
فالذي يدعي محبة الله عز وجل لابد أن يطيع ربه، يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه حتى يحقق هذه المحبة، والذي يدعي محبة النبي ﷺ لابد أن يصدقه في أخباره ولابد أن يطيعه في أوامره ولابد أن ينتهي عن النواهي، ومحبة النبي ﷺ مقدمة على محبة الأولاد والأموال والأنفس.
ولما قال عمر للنبي ﷺ يا رسول الله إني أحبك إلا من نفسي أو أقدم محبتك إلا من نفسي، فقال له النبي ﷺ: الآنَ يَا عُمَرُ([6])، يعني لا تبلغ المحبة الكاملة، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ([7])، فقال عمر : فَأَنْتَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْآنَ يَا عُمَرُ([8]) الآن بلغت المحبة.
فإذًا الرسول عليه الصلاة والسلام، نبينا عليه الصلاة والسلام له الحق علينا، من حقه أن نؤمن به ومن حقه أن تُصدقه في أخباره، ومن حقه أن نحبه أعظم من محبتنا لأنفسنا وأهلنا وأموالنا، ومن حقه أن نواليه، ومن حقه أن ننصره أن ننصر شريعته، ومن حقه أن نتعبد لله بما شرعه لنا من الوحي الذي أنزله الله عليه في كتابه الكريم أو في السُنة المطهرة؛ لأن السُنة وحي ثاني، قال اللهُ تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4]، هذا حق النبي ﷺ.
إذًا حق النبي ﷺ المحبة والنصرة والموالاة والتصديق لأخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والعمل بشريعته، التعبد لله بالعمل بالشريعة التي جاء بها بما أنزله الله عليه من الوحي في كتابه الكريم أو في السُنة المطهرة. هذا هو حقُ نبينا ﷺ.
أما الأنبياء السابقون فإن حقهم علينا أن نحبهم وأن نواليهم وأن نصدقهم في أخبارهم، أما العمل بشريعتهم فإن شريعتهم خاصة انتهت ببعثة نبينا محمد ﷺ.
أما نبينا ﷺ فلابد من العمل بشريعته، وتصديق أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه عليه الصلاة والسلام، واللهُ سبحانه وتعالى اختار لنبيه الكريم أصحابًا هم خيرُ الناس وأفضلُ الناس بعد الأنبياء، والصحابي أصحُ ما قيلَ في تعريفه: هو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا به ومات على الإسلام. من اجتمع بالنبي ﷺ ولو لحظة مؤمنًا به ومات على الإسلام هذا هو الصحابي.
ولذلك الصحابة صغار الصحابة الأطفال الذين رأوا النبي ﷺ وحنكهم يعتبروا من الصحابة واجتمع به يعتبر الاجتماع أولى من التعبير بالرؤية ليشمل العُميان كعبد الله بن مكتوم فإنه لم يرى النبي ﷺ لكن اجتمع به مؤمنًا به فهو من الصحابة.
والصحابة يتفاوتون في طول الصحبة، لكن الصحابي هو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنًا به ومات على الإسلام، أفضل أصحاب الأنبياء على الإطلاق هم أصحابُ نبينا صَلَّىاللهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ، فهم أفضل من أصحابِ موسى وأفضل من أصحاب عيسى، وأفضل من الحواريين، والصحابة يتفاوتون.
والصحابة قسمان:
* المهاجرون.
* والأنصار.
والمهاجرون أفضل من الأنصار لأنهم جمعوا بين الهجرةِ والنصرة، وأما الأنصار فإنهم نصروا الله ونصروا رسوله والمؤمنين، فالمهاجرون أفضل، ثم يليهم الأنصار رضوان اللهِ عليهم.
وأفضل المهاجرين الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، رضي اللهُ عنهم، فهؤلاء الخلفاء الأربعة هم أفضلُ الناس، أفضلُ الصحابة، وترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة فأفضلهم أبو بكر أفضل الصحابة ثم يليه عمر بن الخطاب ثم يليه عثمان بن عفان ثم يليه علي بن أبي طالب.
وكذلك أيضًا من أفضل الصحابة أهلُ بدر وأهلُ بيعة الرضوان على خلافٍ بين العلماء أيهم أفضل الذين شهدوا بدرًا وهم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلًا عدةِ طالوت الذين جازوا النهر وما جازه إلا مؤمن ثلاثمائة وبضعة عشر، قال النبي ﷺ لعمر: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ([9]).
وكذلك أيضًا أهلُ بيعة الرضوان الذين بايعوا النبي ﷺ تحتَ الشجرة في الحُديبية على حدود الحرم، قال اللهُ تعالى في كتابه العظيم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]، وقال عليه الصلاة والسلام: لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ([10]) يعني لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة.
وكذلك العشرة المبشرين بالجنة الذين بشرهم النبي ﷺ بالجنة لهم فضيلة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وأبو عامر أبو عبيدة بن الجراح. هؤلاء هم العشرة المبشرينَ بالجنة، وكذلك الحسن والحُسين سيدا شباب أهل الجنة، شُهد لهم بالجنة، وعُكاشة بن مُحسن شهد له النبي ﷺ أنه من الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب، وثابت بن القيس شهد له النبي ﷺ بالجنة قال: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ([11])، وكذلك ابن عمر، وجماعة.
فهؤلاء لهم مزية ولهم فضل على غيرهم من الصحابة، والصحابة لهم علينا حقوق، من حقوقهم علينا محبتهم وموالاتهم، ومن حقوقهم علينا سلامة قلوبنا لهم من الغل والحقد والبغضاء والكراهية، وسلامة ألسنتنا من السب والشتم والعيب والذم، كل هذه من حقوق الصحابة علينا وذلك لما لهم من الفضائل.
من فضائلهم أنهم خيرُ القرون، قال عليه الصلاة والسلام: يْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،([12]) فهذه القرون المفضلة الثلاثة خيرها القرن الأول الذين بعث فيهم النبي ﷺ وهم الصحابة فهم خيرُ الناس وأفضلُ الناس، خيرُ الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
من فضائلهم أنهم هم الواسطة بين الرسول ﷺ وبين الأُمة فإنهم بلغوا الرسالة ونقلوا الشريعة وحملوها للناس وبلغوها ونشروا دين الله في مشارق الأرض ومغاربها. ومن فضائلهم ما كان علي أيديهم من الفتوحات فتحوا البلدان ومصروا الأمصار ودعوا إلى الله ونشروا دين الله وجاهدوا في سبيل الله.
من فضائلهم أنهم جاهدوا مع النبي ﷺ في سبيل الله. من فضائلهم ما أعطاهم الله من العلم النافع والعمل الصالح فلهم مزية على الأُمة ولهم حقوق على الناس.
فمن حقوقهم علينا محبتهم، ومن حقوقهم علينا موالاتهم، ومن حقوقهم علينا سلامة قلوبنا لهم من الغل والحقد والبغضاء والكراهية وسلامة ألسنتنا من السب والشتم والطعن والعيب، والواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يعرف للصحابة مكانتهم، وأن يتبرأ من طريق بعض أهل البدع الذين يسبونهم ويؤذونهم ويعيبونهم وينتقدونهم أو يكفرونهم أو يفسقونهم؛ فإن هذا الطريق طريق أهل الضلال والانحراف والزيغ.
والطريق الثاني طريق الذين ينصبون العداوة لأهل البيت ويؤذونهم ويسبونهم، قال عليه الصلاة والسلام: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ([13]).
والصحابة طبقات كما سبق، المهاجرون والأنصار، ومن حضرَ بيعة الرضوان، ومن شهد بدرًا، ومن أنفق من قبل الفتحِ وقاتل، والمراد بالفتح صلح الحديبية فإن صلح الحديبية حدٌ فاصل بين السابقين الأولين ومن عداهم، فمن كان إسلامه قبل صلح الحديبية فهو من السابقين الأولين، ومن كان إسلامه بعد ذلك فهو ممن جاء بعدهم، والسابق والأول له مزية على غيره، فلا يستوون مع غيرهم، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد: 10].
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ المراد بالفتح هو صلح الحديبية، فإن صلح الحديبية فتح، وفتحُ مكة فتح، قال اللهُ تعالى أنزل الله تعالى في صلح الحديبية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1]، قال عمر: أهو فتحٌ مبين؟ قال نعم.
وقال في فتح مكة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر: 1، 2]، سماه اللهُ فتحًا لما يعقبه من نصر لأن حصل فيه الصلح ووضعت الحرب أوزارها واختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلام الله وكلام رسوله ودخل جمٌ غفير في الإسلام وتفرغ النبي ﷺ لفتح خيبر والكتابة لرؤساء القبائل والعشائر والملوك ثم بعد ذلك نقضت قريش العهد فغزاهم النبي ﷺ وفتحَ مكة.
والأخبار التي تروى عن الصحابة وما يذكره المؤرخون والأخبار التي تروى عنهم على أقسام:
أولًا: يجب على المسلم أن يترضى عن الصحابة وأن يسلمَ قلبه من الغلِ والحقدِ والحسد والبغضاء والكراهية، وأن يحفظ لسانه من سبهم وإيذائهم، وأن يُمسك عما شجر بينهم، هذا هو عقيدة السُنة والجماعة الإمساك عما شجر بينهم من الخلاف والنزاع، وأما الحروب التي جرت بينهم فهم ما بين مجتهدٍ مصيب له أجران، وما بين مجتهدٍ مخطئ له أجر.
فالحروب التي وقعت بين الصحابة عن اجتهاد والمجتهد قال عليه الصلاة والسلام: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ([14])، فهم ما بين مجتهدٍ مصيب له أجر الاجتهاد وأجر الصواب، وما بين مجتهدٍ مخطئ فاته أجرُ الصواب وحصل على أجر الاجتهاد وذلك أن الفُساق الذين كثروا في آخر خلافة عثمان رضي اللهُ عنه وتجمع كثير من السفهاء وبث بينهم الإشاعات أهلُ النفاق كعبد الله بن سبأ اليهودي الذي دخل في الإسلام نفاقًا ونشر مساوئ، مساوئ عثمان ثم تجمعوا وقتلوا أمير المؤمنين عثمان رضي اللهُ عنه.
ثم بويعَ، بايع أكثر أهل الحل والعقد بايعوا أمير المؤمنين علي بالخلافة فثبتت له الخلافة بمبايعة أكثر أهل الحل والعقد، لكن اجتهد معاوية وأهلُ الشام رضي اللهُ عنهم وصاروا يطالبون بدم عثمان لأنه منهم وقالوا نحنُ نطالب بدم عثمان وتأخروا عن البيعة، فرأى علي أن يقاتلهم أن يخضعهم حتى يبايعوا.
هو لا يُمانع من أخذ قتلة عثمان لكنَ علي يقول: إن الذين قتلوا عثمان لا يُعرفون الآن، لا يعرف أحدهم بعينه اندسوا بين الناس، وهناك من تنتصر له قبيلته والمقام مقام فتنة، وإذا هدأت الأمور يؤخذ قتلة عثمان.
فقال معاوية وأهل الشام: لا، نريد الآن. فحصل الخلاف وانضم أكثر الصحابة وجماهير الصحابة انضموا إلى علي ورأوا أنه صاحب الحق وأنه هو الوسيط عملًا بقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: 9]، فقالوا إن أهل الشام بغاة، وإن كانوا لا يعلمون أنهم بغاة مجتهدون لكنهم بغاة، كما قال النبي ﷺ لعمار: تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ([15]) فقتله جيش معاوية، فدل على أنهم بغاة، فحصل القتال على الاجتهاد÷ فصار علي ومن معه مصيب لهم أجران، عملوا بالآيةفَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي.
وأهل الشام ومعاوية مجتهدون فاتهم أجر الصواب ولهم أجر الخطأ، وبعض الصحابة لم يتبين له الأمر فأشكل عليه الأمر فاعتزلوا الفريقين، منهم ثابت ابن زيد وأبو بكرة وسلمة ابن الأعوع وابن عمر وجماعة اعتزلوا الفريقين لم يتبين لهم وجه الصواب، لكن جماهير الصحابة انضموا مع علي ورأوا أنه المصيب، وهذا هو الحق أن علي هو المصيب وأما أهل الشام فهم بغاة لكن لا يعلمون أنهم بغاة مجتهدون.
هكذا ينبغي للمسلم ولا ينبغي للمسلم أن يسب الصحابة ولا أن يتلكم فيهم والأخبار التي تروى عن الصحابة على ثلاثة أقسام، الأخبار التي يرويها المؤرخون وغيرهم:
القسم الأول: منها ما هو كذبٌ لا أساس له من الصحة، هذا يُرد.
القسم الثاني: ومنها ما هو له أصل ولكن زيدَ فيه ونُقص فيه وغُير عن وجه، هذا أيضًا كذلك يُرد.
القسم الثالث: ومنها ما هو صحيح، وهذا الصحيح هو هم ما بين مجتهدٍ مصيب له أجران، وما بين مجتهدٍ مخطئ له أجر.
فتكون الأخبار المروية على هذه الأقسام الثلاثة:
منها ما هو كذب لا أساس له من الصحة، فهذا يرد.
ومنها ما له أصل لكن زاد فيه من يرويه أو نقص أو غيره عن وجهه.
ومنها ما هو صحيح فهذا الصحيح هو ما بين مجتهد مصيب له أجران، وبين مخطئ له أجر.
والصحابة رضوان الله عليهم هم أفضلُ الناس وخير الخير الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم لكنهم ليسوا معصومين، ليسوا معصومين عن كبائر الذنوب ولا عن صغائره، ولكن إذا صدر من الواحد منهم ذنب، ذنبٌ محقق فهم يوفقون لمحوِ هذا الذنب، إما أن يتوب ويوفق للتوبة وإما أن يُمحى عنه الذنب بالحسنات الماحية العظيمة التي لهم من سبقهم إلى الإسلام والجهاد مع النبي ﷺ وتبليغهم دين الله، وإما أن يُعفى عنهم ببلاءٍ يصيبهم وإما أن يُغفر لهم بشفاعة نبينا محمدٍ ﷺ الذين هم أولى الناس بها، هذا في الذنوب المحققة، فكيف بغير الذنوب المحققة؟
الذنوب المحققة الواضحة هناك أسباب تُمحى بها عنهم ولاسيما أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، إما أن يتوب من الذنب والتوبة تجبُ ما قبلها، وإما أن يُمحى بحسناته العظيمة، وإما أن يُمحى بسابقته إلى الإسلام، وإما أن يُمحى ببلاءٍ يصيبه، وإما أن يُمحى بشفاعة النبي ﷺ الذين هم أولى الناسِ بها.
وبهذا يتبين أن الواجب على المسلم أن يوالي الصحابة وأن يحبهم وأن يعتقد فضلهم وسابقتهم ومنزلتهم وأن الله اختارهم لصحبة نبيه، لا كان ولا يكون مثلهم، لو كان أحدًا أفضل منهم لاختاره الله لصحبة نبيه، والله سبحانه وتعالى لا يختار لنبيه من الأصحاب إلا من كان في علمه أنهم أفضلُ الناس، فهم خيرُ الناس وأفضلُ الناس، لا كان ولا يكون مثلهم لكنهم بشر ليسوا معصومين وإذا صدر منهم ذنب محقق فكما سمعتم الأسباب التي تُمحى بها.
فكيف يطعن بعض الناس فيهم؟ كيف يتكلم بعض الناس فيهم؟ كيف يسوغ للمسلم أن يكون في قلبه غل وحقد وكراهية لأصحاب النبي ﷺ الذين هم خيرُ الناس، الذين حملوا الشريعة إلينا؟ كيف ينتقد المسلم الصحابة؟ كيف يتكلم بلسانه يسب الصحابة؟ كيف يتنقص الصحابة وهم الذين بلغوا الرسالة، هم الذين نقلوا لنا الشريعة؟
هم الذين حملوا لنا الشريعة، هم الذين فتحوا الأمصار، هم الذين فتحوا البلدان، هم الذين شهدوا التنزيل، هم الذين كانوا مع النبي ﷺ ليله ونهاره، سلمه وحربه، سفره وحضره يسمعون كلام الله وكلام رسوله ويعرفون معنى كلام الله وكلام رسوله واللهُ تعالى في كتابه العظيم زكاهم وعد لهم قال الله في كتابه العظيم: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]، والحسنى الجنة كلهم وعدوا بالجنة من أسلم قبل الفتح أو بعد الفتح. وفي الآية السابقة: لا.
وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29]. هؤلاء الصحابة، هذا تزكية الله، زكاهم الله، وعد لهم ووعدهم بالجنة، فكيف يليقُ بالمسلم أن يتنقصهم؟ أو ينتقضهم؟ أو يكون في قلبه غل أو حقد لهم؟ أو يسبهم أو يؤذيهم؟ ويكون مصادمًا للكتاب والسُنة محادًا للهِ ولرسوله.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، نسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للمحبةِ الصادقة لأنبيائه ولنبينا محمد صَلَّىاللهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ، المحبة التي تُثمر العمل، المحبة التي تثمر تصديق نبينا محمد ﷺ في أخباره وإتباعه في أوامره واجتنابه في نواهيه، والتعبد لله بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حب الصحابة والترضي عنهم وموالاتهم ونصرتهم وتعذيرهم وتوقيرهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يُعيذنا من الغلِ والحقد والكراهية للصحابة، نسأله سبحانه وتعالى أن يُعيذنا من تنقص الصحابة، ومن إيذائهم، ومن الغلِ والكراهيةِ لهم، ومن التسلطِ عليهم بما لا يليقُ من القول.
نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل في قلوبنا حُب الصحابة وحُب المؤمنين وحُب الأنبياء وأن يكون هذا الحب حُبًا صحيحًا يستلزم الطاعة والامتثال لأوامر الله وأوامر رسوله ﷺ والاستقامة على شرع اللهِ ودينه، والوقوفِ عند حدوده، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على دينه القويم وأن يُعيذنا من الشيطان الرجيم وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين غير ضالين ولا مُضلين، وأن يُثبتنا على دين الإسلام حتى الممات إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد اللهِ ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
([1])صحيح مسلم (4/ 2074)، باب فضل الاجتماع على تلاوة القران، رقم: 2699.
([2]) سنن ابن ماجه (2/ 1440)، باب ذكر الشفاعة، رقم: 4308.
([3]) معارج القبول بشرح سلم الوصول (2/ 450)، باب ومن أنواعها خشيه الله، رقم: 450.
([4]) أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة = 200 سؤال وجواب في العقيدة الاسلامية (ص: 50)، باب جمله الرسل الذينسماهم الله في القرآن.
([5]) صحيح مسلم (1/ 134)، باب وجوب الإيمان برسالة الأنبياء، رقم: 153.
([6]) صحيح البخاري (8/ 129)، باب كيف كانت يمين النبي صلي الله عليه وسلم، رقم: 6632.
([7]) سبق تخريجه.
([8])مسند أحمد مخرجا (31/ 293)، باب حديث جد زهرة بن معبد، رقم: 18961.
([9]) صحيح مسلم (4/ 1941)، باب من فضائل أهل بدر رضي الله، رقم: 2494.
([10]) السنن الكبرى للنسائي (10/ 264)، باب قولة تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين، رقم: 11444.
([11]) صحيح البخاري (4/ 201)، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: 3613.
([12])مسند أحمد مخرجا (6/ 76)، باب مسند عبد الله بن مسعود، رقم: 3594.
([13]) صحيح البخاري (5/ 8)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 3673.
([14])سنن النسائي (8/ 223)، باب الإصابة في الحكم، رقم: 5381.
([15])صحيح البخاري (1/ 97)، باب التعاون في بناء المسجد، رقم:447.