شعار الموقع

لمحات في العقيدة

00:00
00:00
تحميل
202

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا، ونبينا، وإمامنا، وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني، أشهد أنه رسول الله إلى الثقلين: الجن والإنس، إلى العرب والعجم، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله، وعلى أصحابه، وعلى أتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد.

فإني أحمد الله إليكم، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله – سبحانه وتعالى – أن يصلح قلوبنا، وأعمالنا، ونياتنا، وذرياتنا، كما أسأله – سبحانه وتعالى – أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقيًّا ولا محرومًا، كما أسأله – سبحانه وتعالى – أن يجعل جمعنا هذا جمع خير وعلم ورحمة، تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – ﷺ – قال: وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ([1]).

أيها الإخوان، إن المسلم الذي من الله عليه بالإسلام، وهداه للإيمان في نعمة عظيمة خصه الله تعالى بها دون غيره من أصناف الناس غير المسلمين، فإن الله تعالى أنعم على المؤمن بنعمة دينية، خصه بها دون الكافر، وحبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله راشدًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً[الحجرات:7-8].

فلله على المؤمن نعمة دينية، خصه بها دون الكافر، فليغتبط المؤمن بهذه النعمة وبهذا الخير العظيم، هذه النعمة التي خصه بها دون الكافر هي أنه على عقيدة سليمة، وعلى عمل صالح، وعلى اعتقاد صحيح، فهو من المهتدين في الدنيا، وهو من المفلحين في الآخرة، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[البقرة:2-5].

فالمؤمن هو الذي له هذا الفضل، هو الذي له الحياة السعيدة، هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا، يعيش في هذه الدنيا مغتبطًا، منشرح الصدر، فرحًا بنعمة الله عليه، فهو يعيش في هذه الدنيا لتكون مزرعة للآخرة، يفرح بالأيام والليالي حتى يتزود عملاً صالحًا، والعمل الصالح لا يكون عملًا صالحًا إلا بعلم نافع وبعقيدة سليمة، بالإيمان الصادق يحرز الإنسان العمل، ويكتب له أجره وثوابه، أما الذي ليس له إيمان صادق، وليس له اعتقاد صحيح، فلا ينفعه أي عمل يعمله.

ثبت في الحديث أن الكافر إذا عمل عملًا صالحًا في الدنيا، برًّا بوالديه، وصلة لرحمه، وصدقاتٍ وغيرها، فإنه يجازى بها في الدنيا صحةً في بدنه، ووفرةً في ماله وأولاده، ثم يفضي إلى الآخرة ولا حسنة له، نسأل الله السلامة والعافية، أما المؤمن فإن الله يأجره في الدنيا، ويخلف عليه، ويجعل العاقبة الحميدة له في الآخرة.

العقيدة هي ما يعتقده الإنسان، العقيدة من العقد، أصله العقد الربط والشد، هو الشيء الذي تربطه، وتشد عليه، وتهتم به، والعقيدة هي ما يعتقده الإنسان، ويدين به ربه من أمور الدين، والعقيدة هي الإيمان بالله، العقيدة الصحيحة هي الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، والإيمان بالرسل، هي الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه هي العقيدة الصحيحة السليمة، من آمن بهذه الأصول، هذه أصول الإيمان التي يعتقدها الإنسان المسلم ويدين بها ربه، إذا كان اعتقادًا صحيحًا.

قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[البقرة:177]، هذه أصول خمسة بينها الله، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[البقرة:177]، والقدر ذكره الله تعالى في قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، وقال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[الفرقان:2]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا[النساء:136]، بين الله تعالى أن من كفر بهذه الأصول فهو كافر، وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا[النساء:136]، فالكفر بهذه الأصول هو الكفر، والإيمان بهذه الأصول هو الإيمان، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[البقرة:285].

ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن النبي – ﷺ – كان جالسًا يومًا بين أصحابه، فجاء رجل فدخل المسجد، رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد، حتى جلس إلى النبي – ﷺ – وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبَ لَهُ الصَّحابة يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: الإيمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: صدقت, قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، ثمَّ لَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ النبي ﷺ: أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلُ؟ ردوه, فذهبوا فلم يجدوا أحداً فقَالَ عليه الصلاة والسلام: هذا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ([2]) ، وفي لفظ أمر دينكم.

فجعل الدين على هذه المراتب الثلاثة، الإسلام والإيمان والإحسان، الدين على هذه المراتب، وكل مرتبة لها أركان، فالإسلام له أركان خمسة، والإيمان له أركان ستة، والإحسان له ركن واحد، والإحسان هو أعلى هذه المراتب، ثم الإيمان، ثم الإسلام، فالمسلم يعتقد هذه الأصول في الباطن، يؤمن بالله، ويؤمن بملائكة الله، ويؤمن بالكتب المنزلة، ويؤمن بالرسل، ويؤمن باليوم الآخر، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ويعمل أيضًا بجوارحه، يأتي بأركان الإسلام الخمسة، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ينطق بها بلسانه، يرفع بها صوته، ويعتقد معناها بقلبه، ويعمل بمقتضاها بجوارحه، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، من أقام هذه الأركان الخمسة في الظاهر، وأتى بأركان الإيمان الستة في الباطن، وهي العقيدة، فهذا هو المسلم باطنًا وظاهرًا، ومن أتى بأركان الإسلام الخمسة، ولم يأتِ بأركان الإيمان الستة في الباطن فهو منافق، في الدرك الأسفل من النار، من نطق بالشهادتين ظاهرًا، وصلى وصام، وزكى، وحج، ولكنه في الباطن لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالكتب، ولا بالرسل، ولا باليوم الآخر، فهذا هو المنافق في الدرك الأسفل من النار.

عبد الله بن أبي رئيس المنافقين في زمن النبي – ﷺ – كانوا هكذا، كانوا يصلون مع النبي – ﷺ – وينطقون بالشهادتين، ويصلون مع الناس، ويصومون، ويحجون، ويجاهدون، ولكنهم في الباطن غير مؤمنين، فصاروا في الدرك الأسفل من النار، نسأل الله السلامة والعافية.

والعقيدة هي الأساس التي تنبعث منه الجوارح، وأصل الاعتقاد هو الإيمان بالله، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه محمد – ﷺ – بالرسالة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذا أصل الدين، وأساس الملة، أن تشهد أن لا إله إلا الله بلسانك، وتعتقد معناها بقلبك، تعتقد أنه لا معبود حق إلا الله، وتعتقد أن الله هو الرب، هو الخالق، وهو المدبر، وتعتقد أن لله تعالى أسماء حسنى وصفات عُلا، وتؤمن بالرسل والملائكة، والكتب، وتؤمن بيوم الحساب، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، وبهذا يكون الإنسان مسلمًا إن لم يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام.

إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بطل اعتقاده، وصار مرتدًّا إلا إن تاب قبل الموت، فالإيمان بالله هو أن تعتقد أن الله تعالى موجود، وأن الله فوق السماوات، وفوق العرش، وأنه واجب الوجود لذاته، وأنه قديم أزلي، وأنه غني عمن سواه، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، ولا بد أن تعتقد أن الله هو الرب وغيره مربوب، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك، وغيره مملوك، وأنه المدبر، وغيره مدبَّر، وبهذا تكون وحدت الله في ربوبيته، ولا يكفي هذا في الإيمان، لأن هذا يعتقده كفار قريش، ولا بد أن تؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا التي أخبر بها في كتابه، أخبر الله بها عن نفسه في كتابه، أو أخبر بها عنه رسوله – ﷺ – تعتقد بأن الله هو الرحمن، هو الرحيم، هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن هو الرحيم، هو الملك هو القدوس، هو السلام، هو المؤمن، هو العزيز، هو الجبار، هو المتكبر، هو الخالق، هو البارئ، هو المصور، هو العزيز، هو الحكيم، يرضى ويغضب، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه.

وأسماء الله وصفاته توقيفية، ليس للعباد أن يخترعوا لله أسماء من عند أنفسهم، بل هو كما أثبت لنفسه – سبحانه وتعالى – أسماء الله وصفاته توقيفية، ما ثبت لله من الأسماء والصفات في كتابه العزيز، أو في القرآن، أو في السنة، نثبته لله، أما غيرها فلا، وبهذا يكون الإنسان وحد الله في أسمائه وصفاته.

ولا يكفي أيضًا هذا في الإيمان، حتى يوحد الله في عبادته وألوهيته، بأن يعتقد بأن الله هو المعبود بالحق، وأنه لا يستحق العبادة غيره، ويلتزم بعد ذلك، ويعمل، والعبادة التي يعبد الإنسان بها ربه هي الأوامر والنواهي التي أمر الله بها في كتابه، أو أمر بها رسوله – ﷺ – الله تعالى أمر بالصلاة، أمر بالزكاة، بالصوم، بالحج، بالدعاء، بالذبح، بالنذر، بالاستعاذة، بالاستغاثة، بالتوكل، بالخوف، بالرجاء، هذه أنواع العبادة تصرفها لله، وتوحد الله بها، فلا تصلِّي إلا لله، ولا تزكِّ إلا لله، ولا تصم إلا لله، ولا تحج إلا لله، ولا تدعُ إلا الله، ولا تذبح إلا لله، ولا تنذر إلا لله، ولا تتوكل إلا على الله، ولا تخف إلا الله، ولا ترجُو إلا الله، ولا تتوكل إلا على الله، جميع أنواع العبادة تصرفها لله – عز وجل – ولا تصرفها لغيره، وبهذا تكون قد وحدت الله في عبادته وألوهيته.

والمشركون الذين بُعث إليهم النبي – ﷺ – بل الذين بُعث إليهم جميع الرسل يؤمنون بتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، ولم يحصل بينهم وبين الأنبياء نزاع، يقرون بأن الله هو الرب، وأنه الخالق، وأنه الرازق، وأنه المالك، وأنه المدبر، ويقرون بأن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلا، لكن الخلاف والنزاع بينهم وبين الرسل في توحيد العبادة والألوهية، فالرسل يأمرونهم بأن يوحدوا الله في العبادة، فلا يدعوا أحدًا إلا الله، كما قال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18]، وأبى المشركون، قالوا: لا، ندعو الله، وندعو غيره معه، يدعون اللات، ويدعون العزى، ويدعون أيضًا بعض الصالحين، يدعون عيسى، ويدعون الشمس، ويدعون القمر، وفي هذا الزمن كذلك يدعون البدوي، يدعون زينب، يدعون ابن علوان، يدعون العيدروس، وهكذا، أبوا إلا الشرك، إلا أن يشركوا مع الله في العبادة غيره، والله تعالى يقول: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18]، وقال سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس:106]، من المشركين, وقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ۝ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

الرسل يدعون الناس إلى أن يخصوا الله بالذبح، فالذبح لا يكون إلا لله، كما قال سبحانه وتعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر:2]، وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام:162-163]، فأبى المشركون إلا أن يذبحوا لله ويذبحوا لغيره، يذبحون للات وللعزى، وللأصنام وللشمس، وللقمر، وللنجوم، وللبدوي، وللدسوقي، ولزينب، ولإبراهيم، وللعيدروس، وللكاظم، ولعلي، وللحسين، أشركوا مع الله غيره، الذبح عبادة، لا يجوز أن تصرف إلا لله، فمن صرفها لله، وصرفها لغيره فقد وقع في الشرك، لا بد أن تخص الله بالعبادة فلا تشرك معه أحدًا، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف:110].

المشركون قالوا للنبي ﷺ: اعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فنزلت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ۝ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون:1-6]، مفاصلة بين المسلم والكافر، ما فيه التقاء، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون:6]، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ في المستقبل، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لأنهم على الشرك، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ تيئيساً لهم في المستقبل، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون:5-6]، وهكذا جميع أنواع العبادة لا بد أن تصرفها لله – عز وجل – الذبح، النذر، كذلك النذر عبادة لا تكون إلا لله، إذا نذر طاعة، فإنه يجب عليه الوفاء بها، كأن ينذر صلاة أو صيامًا، وسواء كان النذرً مطلقًا، أو معلقًا، والمشرك ينذر لغير الله، تجده يقول: إن شفى الله مريضه، يذبح لصاحب القبر، أو للنجم، أو للقمر، والمسلم ينذر لله إذا شفى الله مريضي لأتصدقن بكذا، أو لأصومن كذا، أو لأذبحن لله كذا، والمشرك يذبح على روح الميت، فلا بد في الإيمان بالله من الإيمان بربوبيته – سبحانه وتعالى – أفعال الربوبية من الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، تخص الله بها، وتفرده بها، وتعتقد أنه هو الفاعل وحده، وهو المتصرف، هو الذي له الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والتدبير.

ولا بد أن توحد الله في أسمائه وصفاته، بأن تؤمن بأسماء الله وصفاته التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله – ﷺ – أو وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - ﷺ – ولا بد أن توحد الله في عبادته، وألوهيته، فتصرف العبادة لله – عز وجل – من صلاة ومن صيام، زكاة، ذبح، نذر، خوف، توكل، رجاء، بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان إلى الجيران، كف نفسك أيضًا عن الأذى، كونك تكف نفسك طاعة لله ولرسوله، تتعبد لله بذلك، تكف لسانك، فلا تؤذي الناس، تكف جوارحك، تكف لسانك عن الغيبة والنميمة طاعة لله ولرسوله، تعبد الله بذلك.

العبادة فعل وأمر، أمر ونهي، أقيموا الصلاة، لا تقربوا الزنى، فأنت تقيم الصلاة طاعة لله ولرسوله، وتبتعد عن الزنى طاعة لله ولرسوله، فعل وترك، الشريعة فعل وترك، افعل، لا تفعل، فالمسلم يفعل العبادة طاعة لله، ويخص الله بها، يعبدها محبة لله، وخوفًا، يفعل العبادة محبة لله وخوفًا ورجاءً وخضوعًا لله – عز وجل – وتعظيمًا وإجلالاً، ويكف نفسه عن المحرمات، يكف نفسه عن الزنى، عن السرقة، عن شرب الخمر، عن قطيعة الرحم، عن عقوق الوالدين، عن أذية الناس، عن الغيبة والنميمة، عن السخرية طاعة لله ولرسوله، يفعل الطاعة يتعبد بها لله، ويترك المعصية عبادة لله، فالعبادة فعل وترك، أمر ونهي.

فهذا توحيد العبادة، هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وبين الأمم، أما توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، فهذا أمر فطر الله عليه الخلائق، والكفار أقروا بذلك، ولم ينازعوا الرسول في هذا إلا من شذ، وإنما الخصومة والنزاع في توحيد العبادة، فإذا وحد الإنسان ربه في ربوبيته، ووحده في أسمائه وصفاته، ووحده في ألوهيته، فقد آمن بالله، يكون مؤمنًا بالله، هذا هو المؤمن بالله، أن يوحد الله في ربوبيته، ويوحد الله في أسمائه وصفاته، ويوحد الله في عبادته وألوهيته، مع الإيمان بالرسل وبالنبي – ﷺ – وبشرط أن يلتزم وأن يؤدي العبادة، وبشرط أن لا يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام، فإن فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بطلت العبادة، إذا وحد الإنسان ربه، وصار يصلي ويصوم ويحج ويبر والديه، ويصل رحمه، ويتهجد، يصلي في الليل، ويتصدق، وله أعمال، لكنه فعل ناقضًا من النواقض، سب الله أو سب الرسول - ﷺ – أو سب دين الإسلام، ارتد عن الإسلام، بطلت العبادة، صار مرتد، عليه أن يتوب، فإن تاب قبل الموت أحرز أعماله الصالحة، وإن مات على الردة حبطت الأعمال كلها، بطلت، صارت هباءً منثوراً، ولو كان يتعبد مئات السنين، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:217]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[المائدة:5].

كذلك إذا فعل الشرك، دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، يكون فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، أشرك بالله، والشرك محبط للأعمال، قال تعالى لما ذكر الأنبياء قال: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:88]، قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ[الزمر:65-66].

كذلك لو استهزأ بالله، أو استهزأ بكتاب الله، أو استهزأ برسوله، أو استهزأ بدين الإسلام بطل عمله، وحبط، صار مرتد، والعياذ بالله، فعليه أن يتوب، فإن تاب أحرز عمله، وإذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام وهو متوضئ بطل وضوؤه، عليه إذا تاب أن يعيد الوضوء، لأن الردة ناقض من نواقض الإسلام، وهي ناقض من نواقض الوضوء أيضًا، وكذلك لو كان صائمًا، ثم سب الله، أو سب الرسول، ارتد، صار مرتد، بطل صومه، عليه أن يعيد هذا الصوم، إذا تاب في نفس اليوم عليه أن يعيد هذا الصوم، فالصوم هذا بطل بالردة، نعوذ بالله، وبطل الوضوء إذا كان متوضئًا، يعيد الوضوء، ويعيد هذا الصوم الذي فعل فيه ناقضًا من نواقض الإسلام، والردة ليست بعيدة، ولا تحتاج إلى الإنسان يرفع علم، كثير من الناس يفعل الردة ولا يبالي، تأتي أسئلة من الجزائر ومن غيرها، وليبيا يقولون: كثير يسألون، يقولون: عندنا بعض الناس إذا غضب سب الله، أو سب الرسول، أو سب دين الإسلام، والعياذ بالله، وهذا معتاد عندهم، إذا غضب سب الله، وسب الرسول، وسب الدين الإسلام، نسأل الله السلامة والعافية، بعض الناس إذا غضب كذلك سب دين الإسلام، سب دين من يخاطبه، شتم دينه، وذم دينه، ولعن دينه، دينه دين الإسلام، فيكون مرتد والعياذ بالله، الأمر خطير.

إذا أنكر وجوب الصلاة، وقال: الصلاة ليست واجبة، الصلاة اللي يحب يصلي واللي ما يحب ما يصلي، ما هي بواجبة، رياضة، يكون مرتد، ولو كان مصليًا، بهذا الاعتقاد لأنه أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، أنكر وجوب الصلاة، كذلك إذا أنكر وجوب الزكاة، قال الزكاة ليست واجبة، أو أنكر وجوب الصوم، أو أنكر وجوب الحج يكون مرتدًّا، لأنه أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.

وكذلك إذا أنكر تحريم أمر معلوم من الدين بالضرورة، أنكر تحريم الزنى، وقال: الزنا ليس بحرام، حلال، أو شرب الخمر حلال، أو عقوق الوالدين حلال، أو قطيعة الرحم حلال، هذا يكفر، فهذه أمور معلومة من الدين بالضرورة، أما الأشياء المختلف فيها ما يكفر، مثل لو أنكر الوضوء من أكل لحوم الإبل، هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، وإن كان الصواب أن يتوضأ من لحم الإبل، لكن ما أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، هذه مسألة خلافية بين أهل العلم.

فهذا هو المؤمن بالله الذي يوحد الله في ربوبيته، ويوحد الله في أسمائه وصفاته، ويوحد الله في عبادته وألوهيته.

الإيمان بالملائكة هو الأصل الثاني من أصول الإيمان، هذه عقيدة، عقيدة المسلم لا تتجزأ، لا بد أن تؤمن بالله، وتؤمن بالملائكة، وتؤمن بالكتب، وتؤمن بالرسل، وتؤمن باليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، هذه أصول الإيمان الستة التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، وأجمع عليها المسلمون، ولم يجحد شيئًا منها إلا من خرج عن دائرة الإسلام، وكان من الكافرين، هذه أصول الإيمان، وأركان الإيمان، أصول العقيدة، عقيدة المسلم هذه، الإيمان بالله، ثم الإيمان بالملائكة، ثم الإيمان بالكتب المنزلة، ثم الإيمان بالرسل، ثم الإيمان باليوم الآخر.

فالإيمان بالملائكة بأن تؤمن أن الملائكة خلق خلقهم الله من نور كما ثبت في صحيح مسلم، خلقهم الله لعبادته، وأن لهم شرف ومكانة، أن تؤمن بفضلهم وشرفهم، ومكانتهم عند الله، ولهم وظائف، وظفهم الله، وتؤمن بأنهم كرام عند الله – عز وجل – وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فالله لا يعصى في السماء، وإنما يعصى في الأرض.

والملائكة ذوات وأشخاص محسوسة، تصعد وتنزل، وتذهب، وتُرى، وتجيء، وتخاطب الرسول – عليه الصلاة والسلام – ولهم وظائف، منهم من وظفهم الله في عمارة السماوات، يعمرونها بالعبادة، بالتسبيح، بالتقديس، وبالصلاة، ومنهم ملائكة وكلهم الله بحمل العرش، فيحمل العرش ثمانية، يحمله أربعة الآن، وفي يوم القيامة ثمانية، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، وهم الكروبيون الذين حول العرش من أشرف الملائكة، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا[غافر:7].

ومنهم ملائكة وكلوا بحفظ بني آدم، يحفظونه، ومنهم ملائكة وكلوا بكتابة أعمال بني آدم، كتابة الحسنات وكتابة السيئات، فكل واحد من بني آدم وكل به أربعة أملاك بالليل، وأربعة أملاك بالنهار، بدلاً حافظان وكاتبان، حافظان واحد أمامه، وواحد خلفه، وكاتبان، واحد عن يمينه يكتب الحسنات، وواحد عن شماله يكتب السيئات، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ۝ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:17-18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وقال عليه الصلاة والسلام: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ([3])، وقال سبحانه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ[الرعد:11]، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.

ويجتمع هؤلاء الملائكة في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، ففي صلاة الصبح ينزل ملائكة النهار، ويصعد ملائكة الليل، وفي صلاة العصر ينزل ملائكة الليل، ويصعد ملائكة النهار، الإنسان ليس مهمَلاً، لسنا مهمَلين، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا[المؤمنون:115]، كل واحد من بني آدم وكِّل به ثمانية أملاك، أربعة بالنهار، وأربعة بالليل، حافظان وكاتبان أربعة، حافظان أمامه وخلفه اثنان، واثنان عن يمينه وعن شماله، يكتبون الحسنات والسيئات.

وهناك ملائكة وكلوا بأمر النطفة، وتدبيرها حتى يتم خلقها، وملائكة وكلوا بقبض أرواح بني آدم, ملك الموت، قال سبحانه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ[السجدة:11]، وله أعوان يساعدونه، فإذا جاء الأجل جاء ملك الموت عند رأسه، يستخرج الروح، إن كانت صالحة قال: (يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان)، وإن كانت عاصية قال: (أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى غضب من الله، وسخط) فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم إذا استخرجها ملك الموت، أخذها الملائكة الأعوان، كما قال سبحانه: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا[الأنعام:61]، قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ[السجدة:11]، وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا[الزمر:42]، ولا منافاة بين هذه الآية، فملك الموت هو الذي يتولى قبض الروح، والملائكة الذين معه يأخذونها ويتولونها، ويجعلونها في الكفن، والله هو الآمر بذلك، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ[السجدة:11]، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا[الأنعام:61]، اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا[الزمر:42]، فالله يتوفى الأنفس، هو الذي قدر ذلك، وكتب في اللوح المحفوظ، وهو - سبحانه وتعالى – أمر ملك الموت والملائكة بالقبض حين الوفاة.

وهناك ملائكة وكلوا بالقطر والنبات، وهو ميكائيل، وملائكة وكلوا بالوحي، وهو جبريل، وجبريل ملك الوحي، وميكائيل ملك موكل بالقطر والنبات، الذي فيه إحياء الأبدان، وملك الموت، وإسرافيل ملك موكل بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح، الحياة إلى أبدانها، فهؤلاء هم رؤساء الملائكة، جبريل وميكائيل وإسرافيل، لأنهم موكلون بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي فيه حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر والنبات الذي فيها حياة أبدان الناس والحيوانات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيها إعادة الأرواح إلى أجسادها، ولهذا توسل النبي – ﷺ – في الحديث الصحيح بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة، في حديث الاستفتاح كما ورد في صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – ﷺ – كان إذا قام من الليل يستفتح يهذا الاستفتاح، فيقول: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ([4])، توسل بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة الذين وكلوا بالحياة.

وهناك ملائكة وكلوا بالشمس، وملائكة وكلوا بالقمر، وملائكة وكلوا بالجنة وإعداد النعيم لأهلها، وملائكة وكلوا بالنار وإعداد العذاب لأهلها، في الحديث "يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"، والنار موجودة أسفل، وتبرز يوم القيامة، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى[النازعات:36]، فالنار أسفل، وتبرز يوم القيامة، والجنة فوق السماء السابعة، وسقفها عرش الرحمن، ومع ذلك فالجنة في العلو، في البعد، والنار أسفل، والملائكة تخاطب أهل الجنة، وتخاطب أهل النار، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ[الأعراف:50]، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ[الأعراف:44]، يتخاطبون مع هذا البعد العظيم، ويرى أهل الجنة يرون أهل النار، ويتفرجون عليهم، أسأل الله السلامة والعافية، وهم يعذبون.

وقد قص الله علينا في سورة الصافات قصة مسلم وكافر، مسلم له قريب من الكفار، وكان ينكر البعث، فمات فدخل النار، والمؤمن دخل الجنة، فجعل المؤمن يتحدث مع أصحابه وإخوانه وزملائه، وقال: إني كان لي قرين في الدنيا ينكر البعث، هل ننظر نطلع عليه، فناداه فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ[الصافات:55]، يتقلب في النار، فجعل يناديه، وقال: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ۝ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ۝ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ۝ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[الصافات:56-59]، أنت تنكر البعث، رأيت البعث الآن؟ الآن رأيت الجنة والنار؟ يوبخه، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ۝ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[الصافات:58-59]، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ۝ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ۝ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ۝ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ۝ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۝ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ۝ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ[الصافات:50-57].

وبالجملة كل حركة في السماوات والأرض فهي ناشئة عن الملائكة بإذن الله الكوني القدري، ومنهم المرسلات عرفًا، والعاصفات عصفًا، والناشرات نشرًا، والفارقات فرقًا، والملقيات ذكرًا، هم الملائكة، ومنهم النازعات غرقًا، والناشطات نشطًا، والسابحات سبحًا، والسابقات سبقًا، والمدبرات أمرًا، هم الملائكة، هم أشخاص، وذوات محسوسة، تصعد وتنزل، وترى، وتذهب وتجيء، وترى، وتخاطب الرسول، أما الفلاسفة أعداء الله، فأنكروا الملائكة، وقالوا ما في أشخاص محسوسة، وقالوا: الملائكة عبارة عن أشكال وأشباح نورانية، يتخيلها النبي بزعمهم، يتخيلها وإلا ليس لها حقيقة، وهؤلاء كفروا بالله، كفار، الفلاسفة، الفلاسفة لا يؤمنون بالله، الفلاسفة أتباع أرسطو الفلاسفة، الفلاسفة المشاؤون لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالملائكة، الملائكة أشخاص وذوات محسوسة، كما أنهم لا يؤمنون بالرسل.

ولا بد للمسلم في عقيدة المسلم أن يؤمن بالكتب المنزلة، وأن الله تعالى أنزل كتبًا كثيرة على أنبيائه ورسله لهداية الناس وإصلاحهم، وإنقاذهم من الظلمات إلى النور، لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله، ونؤمن بما سمى الله منها، وهي الكتب الأربعة العظيمة، التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وصحف إبراهيم وصحف موسى.

وهناك كتب كثيرة لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله كما قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ[البقرة:213]، وأعظم هذه الكتب الأربعة القرآن العظيم، ثم يليه التوراة، والتوراة كتاب عظيم أنزله الله على موسى، والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين التوراة وبين القرآن كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۝ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ۝ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[القصص:46-49].

والإنجيل أنزله الله على عيسى، خفف فيه بعض الأحكام، وأحل بعض ما حرُم عليهم، والزبور كتاب أنزله الله على داوود، كله مواعظ وعبر، وكان إذا قرأ الزبور كانت الوحوش والطير كلها تسبح، والجبال تسبح معه وتجاوبه، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ[سبأ:10]، فمن لم يؤمن بالكتب أو أنكرها فهو كافر، كما أن من أنكر ملكًا من الملائكة فهو كافر، من أنكر جبريل، أو ميكائيل، أو إسرافيل، لأنه مكذب بالله، وكذلك من أنكر كتبًا من الكتب التي أنزلها الله فهو كافر، لا بد من الإيمان، بأن الله أنزل على الأنبياء كتبًا لإصلاح الناس، وهدايتهم، وإنقاذهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور العلم والإيمان واليقين.

ولا بد من الإيمان بالرسل، وهو الأصل الرابع من أصول الإيمان، الإيمان بالرسل، وأن الله تعالى أرسل الرسل إلى الناس لهدايتهم، وإبلاغهم دين الله – عز وجل – والتزامهم بالإسلام، الإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، ولا يقبل الله من أحد دينًا غير دين الإسلام، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران:85]، فالإسلام هو دين آدم، وهو دين نوح، ودين هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد – عليهم الصلاة والسلام - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]،وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[آل عمران:85].

وقال عليه الصلاة والسلام: إنَّا معَاشِرَ الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ: دِينُنُا وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى ([5])، الإخوة لعلات يعني أخوة من الأب، والأمهات الشرائع، يعني أن دينهم التوحيد، والشرائع مختلفة، لكل نبي شريعة، أوامر ونواهي، فالإسلام في زمن آدم هو توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله، وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن هود هو توحيد الله، وطاعة هود فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن صالح هو توحيد الله، وطاعة صالح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم هو توحيد الله، وطاعة إبراهيم فيما أتى به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى هو توحيد الله، وطاعة موسى في اتباع موسى فيما جاء به من الشريعة، والإيلام في زمن عيسى هو توحيد الله، واتباع عيسى فيما جاء به من الشريعة.

ولما بعث نبينا محمد – ﷺ – صار الإسلام بمعناه الخاص هو توحيد الله واتباع نبينا محمدٍ – ﷺ – فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، وقد نسخ الله جميع الشرائع ببعثة النبي – ﷺ – ورسالة نبينا محمد – ﷺ – عامة للثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، بخلاف شرائع الأنبياء، فإن الأنبياء كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وقد يكون نبيين في زمن واحد، وكل واحد مكلف بشريعة، فموسى – عليه السلام – هو من أولي العزم في زمنه الخضر، ورحل إليه، وتعلم منه وعمل الخضر شيئًا لا يعلمه موسى، وقال الخضر لموسى: أنا على علم من عند الله لا تعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من عند الله علمك الله لا أعلمه، ولوط وإبراهيم في زمن واحد، أما شريعة نبينا محمد – ﷺ – فهي عامة شاملة، نسخ الله بها جميع الشرائع، بل إن الله أخذ الميثاق على كل نبي لئن بعث محمد – ﷺ – وأنت حي لتتبعنه، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ[آل عمران:81]، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[الفرقان:1]، للعالمين جمع عالم، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ:28]، وقال عليه الصلاة والسلام، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ([6])، وقال عليه الصلاة والسلام: والَّذي نفْسِيْ بيَدِه لو كَانَ موسَى وعيْسَى حيين ما وَسِعَهُما إلا اتبَاعِي([7])، أو كما قال عليه الصلاة والصلام، فمن اعتقد أن هناك أحد يسعه الخروج عن شريعة نبينا محمد – ﷺ – إلى غيره كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى فهو مرتد بإجماع المسلمين، الخضر خرج عن شريعة موسى، لأن موسى ما أرسل إلى الخضر، أرسل إلى بني إسرائيل، لكن محمد – ﷺ – بعث للناس كافة، ما يجوز لأحد الخروج عن شريعته، فمن خرج، ادعى أنه يخرج عن شريعته فهو كافر بإجماع المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: وَالَّذِي نَفْسُي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لا يُؤْمِنْ بِي، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ([8]).

ومن كفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء، لأن الأنبياء متضامنون، المتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، فمن كذب واحد فقد كذب الجميع، ومن كفر بواحد فقد كفر بالجميع، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:105]، وما كذبوا إلا نوح، لكن جعل تكذيب نوح لجميع المرسلين، قوم نوح من الذي أرسل إليهم؟ واحد، نوح، وقال الله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:105]، كلهم، كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:123]، وهم ما أرسل لهم إلا هود، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:141]، قوم صالح، كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:160]، كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ[الشعراء:176]، فجعل الله تكذيبهم لرسولهم تكذيبًا لجميع المرسلين.

كذلك من كفر بكتاب من الكتب فقد كفر بجميع الكتب، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض فهو كافر بالجميع، القرآن من آمن ببعضه وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع، لا يتجزأ.

الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس من أركان الإسلام، اليوم الآخر هو يوم القيامة، والآخر بالكسر يقابله الأول، اليوم الأول هو الدنيا، فجعل الله الدنيا يوم، وهي اليوم الأول، والآخرة يوم وهي اليوم الآخر، يومان، اليوم الأول الدنيا كلها، من أولها إلى آخرها، واليوم الآخر يبدأ من يوم القيامة، إذا قامت القيامة إلى ما لا نهاية، ولهذا قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[الحشر:18]، الغد هو الذي يأتي بعد يومك، اليوم الذي أنت فيه هو الدنيا، والغد هو الذي يأتي بعد يومك، اتقوا الله ولتنظر كل نفس ما قدمت ليوم الغد وهو يوم القيامة، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر:18]، فاليوم الآخر يبدأ إذا قامت القيامة.

ويلحق باليوم الآخر الإيمان بالبرزخ، أنه يحصل البرزخ بعد الموت، من مات فقد قامت قيامته، فلا بد من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وسؤال منكر ونكير، وضغطة القبر، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، هذا لا بد من الإيمان به، برزخ تابع ليوم القيامة، أما يوم القيامة يبدأ من إذا نفخ إسرافيل في الصور نفخة البعث، بدأ اليوم الآخر.

وقبل النفخ هناك أشراط الساعة، أشراط كبرى، وأشراط صغرى، الأشراط الصغرى التي نحن فيها، والأشراط الكبرى عشرة تتوالى، وليست, إذا خرجت توالت كعقد الخرز  الذي إذا قطع تتابع الخرزات، فكذلك أشراط الساعة، إذا ظهر أولها تتابعت، ولم يظهر واحد منها إلى الآن، أولها المهدي، وهو رجل يخرج من سلالة فاطمة، اسمه كاسم الرسول، واسم أبيه كاسم أبيه محمد بن عبد الله المهدي، خليفة يبايع له في آخر الزمان، في وقت ليس للناس فيه إمام، المهدي لا يقاتل الناس، لكنه يبايع له في وقت ليس للناس فيه إمام، وتكون خلافته خلافة نبوة، وفي زمانه تكثر الفتن والحروب، وتحصل حروب الطاحنة بين المسلمين والنصارى، ومن آخرها فتح القسطنطينية.

وإذا فتحت القسطنطينية خرج الدجال، يخرج الدجال، وهي العلامة الثانية من علامات الساعة، وهو رجل من بني آدم يدعي الصلاح أولاً، أنه مصلح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، وهو أعور العين اليمنى، ومكتوب بين عينيه كافر، يقرأها كل مؤمن، ومع ذلك يدعي الربوبية، ومعه صورة الجنة والنار، وله الخوارق، أعطاه الله ابتلاء وامتحان، ويأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويقطع الرجل نصفين، ولا يسلط على غيره، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِنَ الدَّجَّالِ ([9]).

ثم بعد ذلك ينزل عيسى ابن مريم، وهي العلامة الثالثة في زمن الدجال، ويقتل الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، وهي العلامة الرابعة، هذه متوالية ومرتبة، المهدي ثم الدجال ثم عيسى ثم يأجوج ومأجوج، ثم تتوالى بقية أشراط الساعة، هدم الكعبة في آخر الزمان، نعوذ بالله من ذلك، ثم نزع القرآن من الصدور ومن المصاحف، ثم الدخان الذي يملأ الأرض، يصيب من كان بالزكام، يصيب المؤمن بشدة عظيمة، ثم طلوع الشمس من مغربها، ثم خروج الدابة، ثم آخر ذلك نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا، تقف وقت البيتوتة، فإذا انتهت الليل ساقتهم، ومن تخلف أكلته، فإذا جاء وقت القيلولة وقفت، فإذا انتهت القيلولة ساقتهم، ومن تخلف أكلته، ثم بعد ذلك تقوم الساعة.

وفي آخر الزمان بعد أن تطلع الشمس من مغربها، ويُعرف المؤمن من الكافر، بعد ذلك تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات من جهة اليمن، ففي الحديث أنه لا يبقى أحد في قلبه إيمان إلا قبضته، حتى لو كان أحدكم في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، فإذا قبضت أرواح المؤمنين ما بقي إلا الكفرة، وهم في ذلك حسن رزقهم، دارٌّ عيشهم، فعليهم تقوم الساعة، ما تقوم الساعة إلا على الكفرة، فخراب هذا الكون إنما يكون بخلوه من التوحيد والإيمان، وهذا يكون في آخر الزمان، إذا قبضت أرواح المؤمنين والمؤمنات، بقي الكفرة، وهم مع كفرهم دارٌّ رزقهم، حسن عيشهم، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون لي، فيأمرهم بعبادة الأوثان، فلا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، في الحديث: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ ([10])، وهم في هذه الحال يبيعون ويشترون، ويغرسون، ويعملون، ويبيعون، ويشترون، تقوم عليهم الساعة، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور نفخة الفزع، نفخة طويلة، يطولها إسرافيل، فإذا سمع الناس الصوت فزعوا، لا يسمع أحد إلا أصغى ليتًا هكذا، يتسمع يمينًا ويسارًا، فلا يزال الصوت يقوى يقوى يقوى حتى يموت الناس، تقوم الساعة والرجل يغرس الفسيلة يغرسها، والرجل الآخر يلوط الحوض لإبله، والرجل الآخر يمد القماش يتبايعونه، مشغولين بدنياهم، والساعة قامت عليهم، والرجل يأكل اللقمة فلا يأكلها حتى تقوم عليه الساعة، صوت عظيم أوله فزع، ثم آخره صعق وموت.

ثم يبقى الناس مدة أربعين، ثم ينزل الله مطرًا تنبت منه أجساد الناس، وذلك أن الأرض تأكل أجساد الناس كلهم إلا الأنبياء، لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، والإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب، عجب الذنب العصعص، آخر فقرة في العمود الفقري، حبة صغيرة مثل البذرة، في الحديث كُلُّ ابْنِ آدَمَ يبلى، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ، خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ ([11])، سبحان الله، حبة صغيرة، مثل الحبة الصغيرة تنبت منها أجساد الناس، مثل البذرة، تنبت أجساد الناس، ويعيد الله الذرات التي استحالت من التراب، وينشئهم خلقًا جديدًا، ينشئ الله الصفات والذوات هي هي، نفس الذوات يعيدها الله، فذات المؤمن، وذات الكافر، المؤمن يتنعم، فإذا تكامل خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور فعادت الأرواح إلى أجسادها.

الأرواح حينما يموت الإنسان ما تموت الروح، روح المؤمن تنقل إلى الجنة، ولها صلة بالجسد، في الحديث: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ ([12]) لها صلة بالجسد، تنعم الروح، متصلة بالجسد ومفردة، وروح الكافر تنقل إلى النار، ولها صلة بالجسد، والجسد يبلى، والروح باقية، في نعيم، وفي عذاب، فإذا نفخ إسرافيل في الصور عادت الأرواح إلى أجسادها، ودخلت كل روح في جسدها، فدبت الحياة، فقام الناس ينفضون التراب عن رؤوسهم حفاة عراة لا ثياب عليهم، غرلًا غير مختونين، ويقفون بين يدي الله للحساب، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وأول من يكسى في موقف القيامة إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – ثم يحاسب الله الخلائق في وقت واحد، يموج الناس إذا طلبوا من يشفع لهم، ويفزعون إلى الأنبياء، إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون نبينا – ﷺ – فيقول: أنا لها، أنا لها، فيسجد النبي تحت العرش، ويفتح الله عليه المحامد، فيتركه الله، ثم يأذن الله له، ويقول: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفع تشفع، فيسأل الله الشفاعة، فيشفعه الله في الخلائق، وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون.

ثم بعد ذلك تتطاير الصحف، وتوزن الأعمال، وتتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وتوزن الأعمال، ويرد الناس على حوض نبينا – ﷺ – في موقف القيامة، وينصب الصراط على متن جهنم، ثم الاستقرار في الجنة أو في النار، لا بد من الإيمان بالبعث، من أنكر البعث فهو كافر، لا بد من الإيمان بالجنة، والإيمان بالنار، والإيمان بالحساب، والميزان، والصراط.

ثم الركن السادس الإيمان بالقدر، أن تؤمن بأن الله علم الأشياء قبل كونها في الأزل، ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وتؤمن بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، لا يقع في ملك الله ما لا يريد، وكل شيء وقع في هذا الوجود فالله أراده، والله خالق كل شيء، الخير والشر، والسعادة والشقاوة، هذا أصل من أصول الإيمان.

هذه لمحة مختصرة عن عقيدة المسلم، وأسأل الله أن يرزقني وإياكم الإخلاص في العمل، والصدق في القول، وأن يثبتنا على دينه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله، وسلم، وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.

 


[1] صحيح مسلم (4/ 2074)،  باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم: 2699.

[2] صحيح مسلم (1/ 37)، باب معرفة الإيمان والإسلام، رقم: 8.

[3] صحيح البخاري (9/ 142)، باب كلام الرب مع جبريل. رقم: 7486.

[4] صحيح مسلم (1/ 534)، باب الدعاء في صلاة الليل، رقم: 770.

[5] مسند أحمد مخرجا (15/ 398)، مسند أبي هريرة رقم: 9632.

[6] صحيح البخاري (1/ 95)، رقم: 438.

[7] صحيح البخاري (1/ 95)، باب قول النبي ﷺ، رقم: 438.

[8] صحيح مسلم (1/ 134)، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا،  رقم: 153.

[9] مسند أحمد مخرجا (26/ 187)، باب حديث هشام بن عامر، رقم: 16255.

[10] صحيح مسلم (1/ 131)، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان، رقم: 148.

[11] صحيح مسلم (4/ 2271)، باب ما بين النفختين، رقم: 2955.

[12] سنن ابن ماجه (2/ 1428)، باب ذكر القبر والبلى، رقم: 4271.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد