بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، يسر تسجيلات الراية الإسلامية بالرياض أن تقدم لكم هذه المحاضرة، والتي هي بعنوان صفة الحج المبرور وضوابطه لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني، أشهد أنه رسول الله حقا، وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين.
فهو خاتم النبيين وخاتم المرسلين عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإني أحمد الله إليكم وأثني عليه الخير كله، وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوما، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروما، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خيرٍ وذكرٍ وعلم، تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده.
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ([1])، يا لها من فضائل.
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها قال بعضهم لبعض هذه طلبتكم فحفوها بأجنحتكم، وثبت أن الرب سبحانه وتعالى يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه وتعالى عن حالهم، وعن سؤالهم، وأن الرب سبحانه وتعالى يعطيهم ما سألوا ويعيذهم مما استعاذوا.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه إذا أتى القوم من ليس منهم فإن الله تعالى يغفر له وتعمه الرحمة، ويقول الرب سبحانه وتعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وما ذاك إلا لأن مجالس الذكر يُذكر فيها كلام الله، وكلام رسوله ﷺ، يتعلم المسلم ويتفقه في دينه، ويتبصر في شريعة الله حتى يعبد الله على بصيرة.
ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان ، أن النبي ﷺ قال: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَ أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي ([2])، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، فمنطوقه أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرا، ومفهومه أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا.
فينبغي للمسلم أن يحرص على مجالس الذكر، وعلى سماع المحاضرات والندوات، والدروس العلمية وغيرها، في المساجد في المدارس في الكليات وفي الجامعات وفي الأشرطة المفيدة وفي إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية، فيها برامج مفيدة، وفتاوى.
وكذلك يحرص على قراءة الكتب النافعة التي كتبها أهل البصيرة ذو المعتقد السليم من كتب التفسير وكتب الحديث، وكتب العقائد والتوحيد، وكتب الفقه.
وموضوع الكلمة في هذه الليلة كما سمعتم عن الحج المبرور وضوابطه، والحج في اللغة معناه القصد، وشرعاً: هو قصد مكة لأداء المناسك في وقتٍ مخصوص، ومكانٍ مخصوص، وأعمالٍ مخصوصة، لأداء المناسك والمتعبدات في الحج في وقتٍ مخصوص، ومكانٍ مخصوص، ومن شخصٍ مخصوص.
والحج هو أحد أركان الإسلام التي لا يقوم الإسلام ولا يستقيم إلا بها، وهو الركن الخامس، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَومِ رمَضَان وَحَجِّ بيتِ الله الحَرَام ([3])، فهذه أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام ولا يستقيم إلا بها.
هذه عُمد وأركان ودعائم، فمن أقامها واستقام عليها فإنه لابد أن يأتي ببقية شرائع الإسلام ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
والحج فريضة الله على عباده، أوجب الله سبحانه وتعالى على الناس حج البيت كلهم إذا توفرت الشروط، وهذه الشروط لابد من توفرها حتى يكون الحج واجباً، وهذه الشروط هي الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، هذه الشروط الخمسة إذا توفرت وجب على الإنسان أن يحج بنفسه.
الإسلام، فالكافر لا يصح منه الحج في حال كفره، ولا يؤمر بالحج، بل يُدعى إلى الإسلام فإذا أسلم ووحد الله وشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه محمد ﷺ بالرسالة، فإنه بعد ذلك يؤمر بالحج.
وإن كان يعذب يوم القيامة على ترك الحج وعلى ترك الإسلام، وعلى ترك الصلاة، لكنه لا يصح منه الحج في حال كفره، ولا يؤمر بالحج، بل يُدعى إلى الإسلام فإذا أسلم ووحد الله ودخل في الإسلام، فإنه يؤمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج.
الثاني: البلوغ: فالصبي الذي لم يبلغ لا يجب عليه الحج، ولكن يصح منه الحج، لو حج به وليُّه صح منه الحج ويكون الأجر له، ولوليِّه أجر المعونة والسبب لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ مر على قوم فرفعت إليه امرأة صبياً يعني في المهد فقالت: ألهذا حجٌ؟ قال: « نَعَمْ، وَلَكِ أَجْره »([4])، ولكنه إذا بلغ فإنه يجب عليه أن يحج حجة الإسلام، لا تُجزئه عن حجة الإسلام.
العقل، ففاقد العقل المجنون لا يجب عليه الحج، إلا أن يكون طرأ عليه زوال العقل بعد بلوغه لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» وذكر منهم «الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ ([5]).
والرابع: الحرية، فالعبد الذي يُباع ويُشترى لا يجب عليه الحج، ولكن لو أذن له سيده بالحج صح منه الحج، ولكن لا يجزئه عن حجة الإسلام، فإذا أعتق بعد ذلك فإن عليه أن يحج حجة الإسلام، لما ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى.
الخامس: الاستطاعة أو القدرة, القدرة على الحج، والقدرة نوعان: قدرة بالمال، وقدرة بالبدن، فإذا توفرت القدرتان وجب عليه أن يحج بنفسه، فالقدرة بالبدن معناها أن يستطيع الثبات على المركوب، سواء كان المركوب دابة أو سيارة أو طائرة أو بآخرة، يستطيع الثبات على المركوب، ويستطيع الذهاب إلى الحج بنفسه والرجوع.
فإن كان مريضاً لا يُرجى برئه أو كبيراً طعن في السن وكبرت سنه، ولا يستطيع الثبات على المركوب فإنه يكون فاقداً للقدرة البدنية.
والنوع الثاني من القدرة: القدرة المالية، ومعناها أن يكون عنده مال يكفيه ذهاباً وإياباً للحج زائداً عن نفقة أهله وأولاده ومن يعول، فإن توفرت القدرتان عنده مال يكفيه للحج ويستطيع الثبات على المركوب فإنه يجب عليه أن يحج بنفسه.
لقول الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فإذا تخلفت إحدى القدرتين كأن لا يستطيع الثبات على المركوب لكونه كبير السن أو مريضاً لا يرجى برئه، وأيس من ذلك فإنه يُنيب من يحج عنه، إذا كان عنده مال، فإذا لم يكن عنده مال فإن الحج لا يجب عليه.
والمرأة لابد أن يكون يُشترط في وجوب الحج عليها أن يوجد محرمٌ من محارمها يصحبها في سفرها، والمحرم هو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ مباح، كالأب والجد والابن وابن الابن، والأخ الشقيق أو لأب أو لأم وابن الأخ الشقيق أو لأب أو لأم، والعم الشقيق والعم لأب والعم لأم، والخال، وكذلك أيضاً المحارم من الرضاع، والصهر.
كالابن من الرضاع، والأخ من الرضاع، والأب من الرضاع، وكذلك أيضاً زوج الأم، وزوج البنت كل هؤلاء محارم المرأة، فإن لم تجد محرماً فمن العلماء من قال إنه يسقط عنها الحج، ومنهم من قال: إذا أيست وكان عندها مال فإنها تُنيب من يحج عنها، ولا يجوز لها أن تحج بدون محرم، فإن حجت بدون محرم فهي آثمة عليها الإثم، وهي في إثمٍ ومعصية من حين خروجها حتى ترجع، ولكن الحج صحيح.
لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: لَا يَحِلُّ لِامرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أن تُسَافِرُ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ([6])، ولما خطب النبي ﷺ الناس وقال: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أن تُسَافِرُ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ([7])، قام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي ﷺ: ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ([8]).
فهذا الرجل كُتب في الغزو كتب في الجهاد، فلما أخبر النبي ﷺ أن امرأته خرجت حاجة أمره أن يترك الجهاد والغزو وأن يلحق بامرأته فيصحبها في سفرها للحج، فدل هذا على وجوب المحرم.
وإذا كان الإسلام لا يوجب على المرأة الحج إلا مع ذي محرم، فما بال كثير من النساء تأتي من بلادها كالخادمات وغيرهن تأتي بدون محرم، وبعض الناس يستقدم المرأة الخادم بدون محرم، فيتعاون معها على الإثم والعدوان.
الإسلام لا يوجب على المرأة الحج إلا بمحرم، وهذه الخادم تأتي بدون محرم تعمل في البيوت، ويستقدم الإنسان المرأة بدون محرم فيتعاون معها على الإثم والعدوان، الإسلام حفظ كرامة المرأة وصانها وهي تتمرد على تعاليم الإسلام وتأبى إلا أن تخرج عن تعليم الإسلام فتأتي بدون محرم.
ومن عزم على الحج فعليه أن يراعي أموراً من هذه الأمور: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، والتوبة لا تكون نصوحاً حتى تستكمل شروطها، وهي الإقلاع عن المعاصي أو المعصية التي يكون الإنسان متلبساً بها، وثانياً: الندم على ما مضى، وثالثاً: العزم على عدم العود إلى هذه المعصية والمعاصي مرة أخرى.
وإن كانت مظلمة بينه وبين الناس مظلمة للناس فلابد من رد المظلمة إلى أهلها، إن كان يتعلق بالبدن فلابد أن يُسلم نفسه حتى يصطلح مع من ظلمه، أو مالاً يسلم المال إليهم، أو عرض يستحلهم منه، وكذلك أيضاً على الإنسان أن يراعي ما عليه من الديون والودائع، ويكتبها، ويقضي ما عليه من الودائع أو من الديون قبل أن يحج، وعليه كذلك أن ينتخب من ماله نفقة طيبة، من ماله الحلال خالصاً من الحرام والشبهة ليحج به؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
كما ثبت في الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ([9])، وجاء في الحديث أن الرجل إذا أخرج من النفقة الطيبة، ووضع رجله في الغرز نادى منادي من السماء نفقتك طيبة، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا أخرج بالنفقة الخبيثة ووضع رجله في الغرز نادى منادي من السماء زادك حرام، ونفقتك حرام، وحج مأزور غير مبرور.
والذي يحج بالمال الخبيث الذي كسبه من الربا أو من الرشوة أو جحد حقوق الناس، أو تلفيق السلعة بالحلف الكاذب، أو الغش والخداع وغير ذلك، فإنه في الحقيقة لم يحج وإنما الذي حج مركوبه، المركوب هو الذي حج، كما قيل:
إذا حججت بمالٍ أصله سحتُ | فما حججت ولكن حجة العير. |
ما يقبل الله إلا كل صــــــــــــــــالحة | ما كل من حج بيت الله مبرور |
ولهذا قيل: الركب كثير والحاج قليل، الركب الذين يركبون ويذهبون إلى مكة كثير، ولكن الحاج الذي يحج كما أمر الله وكما أمر النبي ﷺ قليل، كما قيل: المصلي كثير والمقيم للصلاة قليل.
الذين يصلون كثير ولكن الذي يقيم الصلاة ويؤديها بشروطها وخشوعها وهيئاتها، كما أمر الله وكما أمر الرسول ﷺ في قوله: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي([10])، قليل، فالمصلي كثير والمقيم للصلاة قليل، والركب كثير والحاج قليل.
ومن ذلك أن على الإنسان أيضاً أن يُراعي الرفقة الذين يسافرون معه في الحج يختار رفقة طيبة من أهل الورع والتقوى والعلم، تساعده على أداء نسكه، وإذا خرج المسلم وركب إلى مكة فإن عليه أن يبدأ قبل الإحرام بالاغتسال، والتنظف، والتطيب والتجرد من المخيط إن كان ذكراً، إن كان عن طريق البر في السيارة فإنه إذا وصل إلى الميقات يقف، ويغتسل والاغتسال سنة، ويتنظف ويتطيب، ثم يُحرم عقب الفريضة إن كان الوقت وقت فريضة، وإلا صلى ركعتين سنة الوضوء أو سنة الضحى.
أو الركعتان تكون للإحرام عند جمهور العلماء ثم يحرم، وأما إذا كان مجيئه عن طريق الجو فإنه يغتسل قبل ركوبه الطائرة، يغتسل ويتنظف ويتطيب ويستعد ويتهيأ فإذا حاذى الميقات تهيأ تجرد من المخيط، تجرد من المخيط إذا كان ذكراً، ويلبس رداء وإزار أبيضين نظيفين.
ويخير الإنسان إذا جاء في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة بين الأنساك الثلاثة، وهي التمتع والقران والإفراد، هذه أنساك ثلاثة يُخير الإنسان بين واحدٍ منها إذا كان مجيئه في أوقات الحج في أشهر الحج وهي شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
إما أن يحرم بالتمتع أو يحرم بالحج والعمرة قارناً أو يُحرم بالحج مفرداً، فالتمتع صفته هو أن يحرم بالعمرة أولاً ثم يفرغ منها ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن، وأما القران فإنه يُحرم بالحج والعمرة معاً ولا يتحلل منهما إلا يوم العيد، وأما الإفراد فإنه يُحرم بالحج وحده، ولابد من الإحرام في الميقات، ولا يتجاوز الإنسان الميقات إلا بإحرام.
والإحرام: هو نية الدخول في النسك، ليس الإحرام الاغتسال، ولا التنظف، ولا التجرد من المخيط ولا صلاة ركعتين، هذا تهيؤ واستعداد للإحرام، الإحرام هو النية، والنية محلها القلب.
فإذا اغتسل المسلم وتنظف وتطيب ولبس الإزار والرداء فإنه ينوي بقلبه الدخول في النسك، فإذا نوى بقلبه الدخول في النسك فيكون قد أحرم، فإن كان يريد التمتع وهو أفضلها فإنه ينوي بقلبه الدخول في العمرة، فإذا نوى بقلبه الدخول في العمرة أحرم بالعمرة، ثم يتلفظ يذكر نُسكه في تلبيته، يُلبي ويتلفظ بما نواه في تلبيته، يعني يذكر نُسكه في تلبيته فيقول: لبيك عمرة، أو اللهم لبيك عمرة، أو أوجبت عمرة.
ثم يُلبي بتلبية رسول الله ﷺ فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويكرر هذه التلبية ويُكثر منها، ولاسيما عند تغير الأحوال بعد الفريضة، أو إذا أقبل الليل أو أدبر نهار، أو صعد مرتفعاً أو هبط وادياً، أو قابل ملبياً، أو فعل محظوراً ناسياً يُكرر يُكثر من التلبية.
فإذا وصل إلى مكة ودخل المسجد الحرام قطع التلبية، ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط ثم يصلي ركعتين خلف المقام ثم يسعى بين الصفا والمرة سبعة أشواط، ثم يحلق رأسه أو يقصر من جميع شعر رأسه، وإذا كان الوقت واسع فإنه يحلق أفضل، وإن كان الوقت إذا كان مجيئه مبكراً فإن الأفضل أن يحلق رأسه الرجل.
وإن كان وقت مجيئه متأخراً فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه ثم يترك بقية شعر رأسه ليحلقه في الحج، فإذا طاف وسعى وقصر أو حلق تحلل، ويعود حلالاً كما كان، ويلبس ثيابه ويبقى في مكة حتى يأتي اليوم الثامن، فإذا أتى اليوم الثامن وهو يوم التروية يوم الثامن من ذي الحجة، فإنه يغتسل ويتنظف ويتطيب ويحرم بالحج، ويخرج إلى منى مع الناس، هذا المتمتع.
وفي يوم العيد يرمي جمرة العقبة ويذبح هديه، ويحلق رأسه، ويطوف ويسعى للحج؛ لأن طوافه وسعيه الأول للعمرة، هذا المتمتع، ثم يُكمل بقية المناسك، وأما القارن فإنه إذا وصل إلى الميقات بعد التنظف والتطيب والغسل ينوي بقلبه الدخول في العمرة والحج معاً، فإذا نوى بقلبه الدخول في العمرة والحج معاً فقد أحرم بهذه النية، بالنية أحرم هي بمثابة تكبيرة الإحرام في الصلاة.
ثم بعد ذلك يذكر نُسكه في التلبية الذي نواه، فيقول: لبيك عمرة وحجا، أو اللهم لبيك عمرة وحجا، أو أوجبت عمرة وحجا، ثم يلبي تلبية النبي ﷺ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويكثر من التلبية.
فإذا وصل إلى مكة ودخل المسجد الحرام، فإنه يطوف بالبيت سبعة أشوط طواف القدوم، والمتمتع الطواف الأول طواف العمرة فرض، وهذا يطوف طواف القدوم سنة، ثم يسعى بين الصفا والمروة سعي العمرة والحج جميعاً ما عليه إلا سعي واحد، ويبقى على إحرامه ما يُقصر ولا يتحلل، وإذا جاء اليوم الثامن خرج إلى منى مع الناس.
فإذا جاء يوم العيد فإنه يرمي جمرة العقبة ثم يذبح هديه، ثم يحلق رأسه ثم يطوف طواف الحج والعمر، وليس عليه سعي، وإن أحب أن يؤخر السعي الذي سعاه مع طواف القدوم يؤخره، إن حب أن يؤخره حتى يسعى بعد طواف الإفاضة يوم العيد فله ذلك، ما عليه إلا طواف واحد وسعيٌ واحد للعمرة والحجِ.
لقول النبي ﷺ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ([11])، بخلاف المتمتع فإن عليه طوافاً وسعياً للعمرة فرض، وطوافاً وسعياً للحج، أما المتمتع فإن طوافه الأول سنة للقدوم، والسعي هو بالخيار إن أحب أن يقدمه مع طواف القدوم، وإن أحب أن يؤخره مع طواف الإفاضة يوم العيد، ثم يُكمل مناسك الحج.
وأما المفرد فإنه إذا وصل إلى الميقات وتنظف وتطيب واغتسل وتجرد من المخيط وصلى ركعتين فإنه ينوي بقلبه الدخول في الحج، فإذا نوى بقلبه الدخول في الحج يكون أحرم، ثم يُلبي ويذكر نُسكه في تلبيته فيقول لبيك حجا، أو اللهم لبيك حجا أو أوجبت حجا، ثم يُلبي بتلبية رسول الله ﷺ، فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
فإذا وصل إلى مكة ودخل المسجد الحرام فإنه يطوف بالبيت سبعة أشواط طواف القدوم مثل القارن سنة ليس بواجب، ثم يسعى إن أحب سعي الحج وإن أحب أن يؤخره مع طواف الإفاضة يوم العيد فله ذلك، فإذا كان يوم العيد رمى جمرة العقبة ثم حلق رأسه وليس عليه ذبح ما عليه هدي، ثم يطوف طواف الإفاضة، طواف الحج.
ويسعى سعي الحج إن لم يكن سعى مع طواف القدوم، وإن كان سعى مع طواف القدوم كفاه ذلك، المتمتع والقارن كلٌ منهما عليه هدي يذبحه يوم العيد، والمفرد ليس عليه هدي، وذلك أن كلاً من المتمتع والقارن أتى بنُسكين في سفرة واحدة، فوجب عليه أن يشكر الله بذبح دم، حيث حصل على نُسكين في سفرة واحدة، أما المفرد فإنه لم يحصل إلا على نسك واحد وهو الحج، فليس عليه هدي يذبحه.
وأفضل الأنساك الثلاثة التمتع في أصح أقوال أهل العلم ثم القران ثم الإفراد، والحج له واجبات وله أركان، فله أركان الأركان لا تسقط لا سهواً ولا عمداً ولا نسياناً لابد من الإتيان بها.
أركان أربعة:
الركن الأول: الإحرام، وهو نية الدخول في النسك، هذا لابد منه، فمن لم يحرم بالحج والعمرة ما انعقد حجه، كما لو لم يكبر في الصلاة تكبيرة الإحرام ما انعقدت صلاته، متى يدخل في الصلاة؟ إذا كبر تكبيرة الإحرام، متى يدخل في الحج؟ إذا أحرم بالحج.
فالإحرام ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به فمن لم يحرم ومن لم ينوي الحج ما يصير حاجاً ما يصح حجه، كذلك من لم يكبر للصلاة تكبيرة الإحرام ما صحت صلاته ولا انعقدت.
فالركن الأول: الإحرام لا يسقط لا عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، من لم يأتي بالإحرام لا يصح حجه.
الركن الثاني: الوقوف بعرفة, الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، ويبدأ الوقوف عند جمهور العلماء من زوال الشمس من ظهر اليوم التاسع ويستمر إلى طلوع فجر ليلة العيد، فإذا مضى هذا الوقت ولم يقف الإنسان بعرفة فاته الحج، وذهب الحنابلة إلى أن وقت الوقوف يبدأ من طلوع الشمس، من طلوع شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر ليلة العيد.
وجمهور العلماء على أن الوقوف ما يبدأ إلا بعد زوال الشمس، لأن النبي ﷺ وقف بعد الزوال وقال: خُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ ([12]).
ومعنى الوقوف بعرفة أن يوجد الإنسان على أرض عرفة في هذا الوقت، سواء وجد حتى ولو كان نائماً، ولو دخل عرفة جاهلاً ما يدري أنها عرفة ووطئت رجله أرض عرفة أدرك الحج في هذا الوقت، فإذا ذهب هذا الوقت وانتهى هذا الوقت، ولم يطأ أرض عرفة في هذا الوقت من زوال الشمس إلى طلوع الفجر فاته الحج هذا العام, فاته الحج.
وبعد ذلك إما أن يتحلل بعمرة عند بعض العلماء وينتهي ويذهب إلى بلده فاته الحج، هذا الركن هو الركن الأعظم الوقوف بعرفة، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: الْحَجُّ عَرَفَةُ ([13])، يعني ركن الحج الأعظم عرفة.
الركن الثالث: طواف الإفاضة، وهذا الطواف يكون يوم العيد، يُسمى طواف الإفاضة؛ لأن الحاج يفيض من عرفة إلى مكة، ويُسمى طواف الحج ويسمى طواف الصدَر، فطواف الإفاضة لا يسقط لا عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، فلو ذهب إلى بلده ولم يطوف طواف الإفاضة يرجع ولو بعد سنين يبقى هذا الركن في ذمته، ولا ينوب عنه أحد، ولا يُجبر بدم، الركن لا يسقط لا سهواً ولا عمداً ولا جهلاً.
الركن الرابع: السعي بين الصفا والمروة سعي الحج في أصح قولي العلماء، عند جمهور العلماء وهذا فيه خلاف عند جمهور العلماء أنه ركن من أركان الحج، هذه أركان الحج لابد من الإتيان بها لا تسقط لا سهواً ولا عمداً ولا جهلاً، الإحرام, الوقوف بعرفة, طواف الإفاضة, سعي الحج.
وهناك للحج واجبات, واجبات سبعة هذه الواجبات إذا ترك واحداً منها لابد أن يجبره بدم، تُجبر بدم ويصح الحج, يعني يذبح شاة بمكة ويجبرها بدم، سبعة:
أولها: أن يكون الإحرام من الميقات، الإحرام ركن من أركان الحج، لكن كونه يكون من الميقات هذا واجب من واجبات الحج، والمواقيت التي وقتها الرسول ﷺ خمسة:
الأول: ذو الحليفة وهو ميقات أهل المدينة، ويُسمى اليوم أبيار علي.
والثاني: الجحفة وهو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، وكانت خربت فصار الناس يحرمون من رابغ ورابغ قبلها بيسير والآن أُعيد الميقات في الجحفة الآن، أعادته الدولة السعودية، وبُني مسجد كبير فيه حمامات ومغاسل في الجحفة في نفس الجحفة.
الميقات الثالث: ميقات أهل اليمن، وهي يلملم ويسمى السعدية.
الميقات الرابع: ميقات أهل نجد وهو قرن المنازل ويسمى السيل، السيل الكبير أو وادي محرم.
الميقات الخامس: ميقات أهل العراق وأهل المشرق وهو ذات عرق ويُسمى الضريبة.
فهذه المواقيت لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها إلا بإحرام إذا كان قاصدا ًالحج والعمرة، فلو تجاوزها تجاوز الميقات ولو بمسافة قليلة فإنه يجب عليه أن يرجع قبل أن يُحرم إلى الميقات، فإن رجع وأحرم من الميقات فلا شيء عليه، وإن أحرم بعد أن تجاوزها فعليه دم، شاة يذبحها في مكة وحجه صحيح.
الإحرام الذي هو نية الدخول في النُسك هذا ركن، لكن كون الإحرام من الميقات هذا واجب، كونه من نفس الميقات هذا واجب، فإذا تجاوزه وأحرم وجب عليه دم شاة يذبحها، هذا واحد.
الثاني: عدم الانصراف من مزدلفة قبل غروب الشمس، فإذا وقف بعرفة اليوم التاسع ثم انصرف من عرفة قبل غروب الشمس فإن رجع قبل غروب الشمس أو في الليل فليس عليه شيء، وإن انصرف قبل غروب الشمس ولم يرجع فقد ترك واجباً من واجبات الحج عليه شاة يذبحها.
الثالث: المبيت بمزدلفة ليلة العيد، والمبيت معناها أن يوجد على أرض المزدلفة أكثر من نصف الليل، يتجاوز نصف الليل, فإن خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه أن يرجع في آخر الليل، فإن لم يرجع فعليه دم شاة يذبحها.
الرابع: المبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر أكثر من نصف الليل، بمعنى أنه يوجد على أرض منى أكثر من نصف الليل، ولو ذهب في أول الليل أو في آخر الليل لا يضر، لكن لابد أن يوجد على أرض منى أكثر من نصف الليل، سواء المصف هذا, سواء من أول الليل أو من آخره.
فإن لم يبيت بها فإن عليه دم، شاة يذبحها.
الخامس: رمي الجمار، فإذا ترك رمي الجمار سواء واحدة أو أكثر فإنه يُعيده في أيام التشريق الثلاثة، فإن مضت أيام التشريق الثلاثة ولم يرمي فإنه يكون ترك واجباً من واجبات الحج، فعليه أن يذبح شاة في مكة.
السادس: الحلق أو التقصير، يجب على الحاج أن يحلق رأسه أو يُقصر من جميع الجهات، فإذا لم يحلق أو يقصر فإنه يكون ترك واجباً من واجبات الحج فعليه شاة يذبحها.
السابع: طواف الوداع، على الحاج أن يطوف سبعة أشواط بالبيت عند السفر عند مغادرته مكة، إذا نوى السفر عليه أن يطوف للوداع سبعة أشواط, فإن سافر ولم يطوف للوداع فإنه يكون ترك واجباً من واجبات الحج فعليه شاة يذبحها في مكة، هذه سبعة, سبع واجبات إذا ترك واحداً منها عليه شاة دم.
والأركان الأربعة لا تسقط لا سهواً ولا عمداً ولا تجبر بدم لابد من الإتيان بها، وأما الواجبات فإنها تجبر بدم، وما عدا ذلك فهي سنة، سنة قولية أو سنة فعلية، مثل المبيت بمنى ليلة التاسع هذه سنة, هذه سنة من سنن الحج، ومثل الدعاء والأذكار في الطواف وفي السعي وعلى الصفا وعلى المروة، وكذلك الدعاء في مزدلفة أو في عرفة كل هذه مستحبات هذه سنن، سنن أقوال وسنن أفعال.
وهناك محظورات للإحرام، محظورات بمعنى ممنوعات، إذا دخل الإنسان في الحج أو في العمرة وأحرم ونوى الدخول في الحج أو في العمرة أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة فإن عليه أن يجتنب محظورات الإحرام وهي تسعة أشياء, تسعة أشياء تُسمى عند أهل العلم محظورات الإحرام عُرفت بالاستقراء والتتبع من النصوص.
تسعة أشياء يجتنبها المحرم الذكر:
أولها: لبس المخيط، فلا يلبس شيئاً مخيط سواء كان على جسده أو على عضوٍ من أعضائه، لا يلبس ثياب قميص ولا يلبس الفلينة، ولا السروال، ولا الشُراب اليدين ولا الرجلين بالنسبة للرجل، وأما المرأة فإنها تمتنع من لبس القفازين على اليدين وأما القدمان فلا بأس.
ثانياً: تغطية الرأس للرجل فلا يغطي رأسه.
وثالثاً: أخذ شيء من الشعر لا يأخذ شيء من شعر رأسه ولا غيره.
ورابعاً: تقليم الأظفار، لا يُقلم المحرم شيئاً من أظفاره.
وخامساً: الطيب، فلا يتطيب، ومن الطيب الزعفران، فلا يشرب القهوة التي فيها زعفران.
وسادساً: قتل الصيد، فالمحرم لا يصيد.
وسابعاً: عقد النكاح، فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره، لقول النبي ﷺ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ ([14])، يعني لا يتزوج هو ولا يزوج غيره, موليته.
وثامناً: الوطء الجماع، وهذا أشد المحظورات.
وتاسعاً: المباشرة، مباشرة المحرم المرأة دون الجماع، هذه تسعة محظورات عرفت بالاستقراء والتتبع وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ سئل عن ما يلبس المحرم: فقال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس، ولا الخفاف، ولا شيء مسه زعفران أو ورص، ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكٍحُ ([15])وإذا عقد النكاح وهو محرم فالعقد فاسد، ولا يصح عليه أن يعيده بعد أن يتحلل من إحرامه.
وإذا فعل شيئاً من المحظورات الخمسة، وهي تغطية الرأس ولبس المخيط، وأخذ الشعر وتقليم الأظفار، والطيب هذه الخمسة إذا فعل شيئاً منها ناسياً أو جاهلاً فالصواب أنه معفو عنه، إذا فعل شيئاً منها ناسياً أو جاهلاً، فالصواب من أقوال العلماء, من أقوال أهل العلم أنه معفو عنه، لقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلت.
وبعض العلماء يرى أنه يجب عليه الفدية ولو كان جاهلاً، أما إذا فعل واحداً منها متعمداً فهذا فيه تفصيل إن كان محتاج متعمد وهو محتاج كأن يكون في رأسه جروح فيحلق رأسه ليداوي الجروح، أو يُغطي رأسه لأنه من شدة البرد ولا يتحمل البرد فهذا يجوز لا يأثم لكن عليه الفدية، أما إذا كان بغير حاجة فإن عليه أمرين:
الأمر الأول: الإثم يأثم يكون عاصياً لله، عليه التوبة والاستغفار وعليه الفدية، والفدية واحدة من ثلاث أمور وهي:
إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام.
والإطعام والذبح في مكة، والصيام في أي مكان؛ لما ثبت من حديث كعب بن عجرة أن النبي ﷺ أتاه، يقول: حملت إلى رسول الله ﷺ والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما أظن الوجع قد بلغ بك ما أرى، ثم قال احلق رأسك واذبح شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام، فإذا فعل واحدة من الخمسة فإن عليه هذه الفدية.
أما إذا قتل الصيد فإن عليه جزاءه، والجزاء ورد عن الصحابة، أنه إذا قتل حمامة فعله شاة، وإذا قتل نعامة فعليه بدنة بعير، وكل صيد له جزاءه، ما قضى به الصحابة فإن عليه جزاءه وما لم يقض به الصحابة فإنه يُرجع فيه إلى قول عدلين ويقوَّم، وأما عقد النكاح فإنه ليس فيه فدية، بل النكاح فاسد وليس عليه فدية.
وأما الجماع إذا جامع الرجل امرأته فهذا أشدها وأغلظها، إذا جامع المحرم هذا أشد وأغلظ المحظورات، فإذا جامع قبل التحلل الأول، التحلل الأول بماذا يحصل؟ التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق رأسه وطاف وسعى، إذا فعل هذه الثلاثة حل التحلل الأول والثاني، وإذا فعل اثنين رمى وحلق أو رمى وطاف حل التحلل الأول، وأما قبل أن يرمي ويحلق ويطوف هذا معناه ما حل التحلل الأول، فإذا جامع قبل التحلل الأول لزمه أربعة أشياء, إذا جامع المحرم قبل التحلل الأول لزمة أربعة اشياء:
الأمر الأول: فسد الحج.
الأمر الثاني: يجب عليه أن يُكمل الحج الفاسدِ.
الأمر الثالث: يجب عليه أن يذبح بعير بدنة.
الأمر الرابع: يجب عليه قضاء هذا الحج من العام القادم ولو كان نفلاً، ولو كان هذا الحج نفل، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة:196].
فهذا الجماع أشد محظورات الإحرام، إذا جامع المحرم قبل التحلل الأول لزمه أربعة أشياء: فسد الحج ، ووجب عليه أن يمضي في فاسده ويكمله ولو كان فاسداً، وثالثاً عليه بعير بدنة يذبحها جزاء، ورابعاً: قضاء الحج.
أما إذا كان الجماع بعد التحلل الأول يعني بعد أن رمى وحلق ولكن قبل أن يطوف فهذا لا يفسد الحج، ولكن عليه شاة يذبحها، ويُكمل حجه مع التوبة والاستغفار، وأما الجماع أما المباشرة دون الفرج فهذه فيها تفصيل، إذا باشر المحرم زوجته فمن العلماء من قال: إنه قبل التحلل الأول عليه بدنة، والصواب أن عليه شاة، سواء أنزل أو لم يُنزل وبعض العلماء فصل في هذا.
قال: إذا أنزل فعليه شاة وإن لم يُنزل فليس عليه شيء، مع التوبة والاستغفار، ولا يجوز للإنسان أن يفعل محظور متعمداً، ولاسيما يفعل هذا المحظور متعمداً، ولا يجوز للإنسان أن يتسبب في إفساد حجه، محرم الجماع والمباشرة من أغلظ المحرمات، وأما تغطية الرأس وحلق الرأس إذا احتاج المحرم إلى ذلك فهذا كما سبق أنه لا إثم عليه ولكن عليه الفدية.
والمرأة مثل الرجل إلا فيما تختص به، فالمرأة من المعلوم أن المرأة تُحرم فيما شاءت من الثياب، وليس عليها أن تتجرد من الثياب كالرجل، وليس عليها أن تكشف رأسها، بل المرأة عورة تغطي رأسها ووجهها وبدنها، إلا أنها لا تُغطي وجهها بالنقاب والبرقع وهو ما خيط على قدر الوجه، وكذلك لا تُغطي يديها بالقفازين، وهما شراب اليدين المخيط على قدر العضو.
لكن لها أن تغطي يديها بثيابها، وتغطي وجهها إذا كان عندها رجال أجانب بخمارها، بالخمار الشيلة، أما المخيط على قدر الوجه وهو البرقع والنقاب هذا هو الممنوع في الإحرام، وكذلك المخيط على قدر اليد، لقول النبي ﷺ: لاَ تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ([16])، فلا تلبس النقاب ولا البرقع وما خيط على قدر العضو ، لكن تغطي وجهها إذا كان عندها رجال أجانب بخمارها بثوبها بخمارها الغطاء المعروف، لكن لا يكون مخيط على قدر الوجه.
كما أنها تغطي يديها بثيابها ولا تغطيها بالقفازين وهما شراب اليدين، وتمتنع المرأة من الطيب كالرجل، وكذلك أيضاً هي ممنوعة من زوجها، وممنوعة أيضاً من قتل الصيد، والمرأة إذا أحرمت بالعمرة يصح إحرامها ولو كان عليها العادة الشهرية، لها أن تُحرم بالحج أو بالعمرة بالعادة الشهرية إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام ولا تطوف حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت وطافت.
فإذا جاءت مثلاً قبل الحج وعليها العادة تُحرم ولو كان عليها العادة، تُحرم بالعمرة وتبقى تجلس خارج المسجد الحرام ما تدخل المسجد الحرام، وإن أحرمت وهي طاهرة ثم حاضت قبل أن تصل إلى المسجد الحرام كذلك، تبقى في بيتها ولا تدخل المسجد الحرام.
فإن طهرت قبل اليوم الثامن من ذي الحجة اغتسلت وطافت وسعت وقصرت وتحللت، وإن جاء اليوم الثامن من ذي الحجة وهي على حالها ما طهرت، فإنها تُلبي بالحج وتدخل الحج على العمرة وتكون قارنة، كما فعلت عائشة-رضي الله عنها-.
إن عائشة-رضي الله عنها- أحرمت بالعمرة ثم لما قربت من مكة حاضت، فدخل عليها النبي ﷺ وهي تبكي فقال مالك، أنفستي؟ قالت: نعم ,قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم والحيض يسمى نفاس، ثم قال لها النبي ﷺ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ يعني اتركي اعمالها وامتشطي واغتسلي ولبِّي بِالحَجِّ ([17])، فتركت أعمال العمرة ولبت بالحج، وخرجت مع الناس وصارت قارنة، ثم بعد ذلك بعد الحج لم تطب نفسها لأن عمرتها الأولى كانت أدخلت عليها الحج.
فطلبت من النبي ﷺ أن يأذن لها في عمرة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، فاعتمرت عمرة ثانية بعد الحج، فمن كانت حاله مثل حال عائشة فله أن يعتمر بعد الحج، وأما النبي ﷺ والصحابة فإنهم لم يعتمروا بعد الحج اكتفوا بعمرتهم السابقة قبل الحج.
وصفة الحج باختصار: هو أنه إذا جاء اليوم الثامن من ذي الحجة يتوجه جميع الحجاج إلى منى، المفرد والقارن على إحرامهما يتوجهان إلى منى، والمتمتع الذي أحل من عمرته يغتسل ويتطيب ويتنظف ثم يلبي بالحج وكذلك أهل مكة يحرموا بالحج في اليوم الثامن، ويتوجهون جميعاً إلى منى في اليوم الثامن، ويصلون فيها، والسنة لهم أن يحرموا قبل الظهر أو بعد الظهر قبل الزوال أو بعده، والأفضل قبل الزوال، فيصلوا في منى خمس صلوات: الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها قصر بدون جمع أهل مكة وغيرهم.
يصلون الظهر ركعتين في وقتها، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب في وقتها ثلاث ركعات، المغرب والفجر لا تقصران, العشاء في وقتها ركعتان، والفجر في وقتها ركعتان، لأنهم مقيمون لا حاجة إلى الجمع، المسافر إذا كان مقيم ما يحتاج إلى الجمع، إنما يحتاج إلى الجمع إذا كان جاد في السير.
فإذا طلعت الشمس من يوم عرفة وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، توجه الحجاج إلى عرفة، ملبين يلبون ويكثرون من التلبية، ثم يذكر العلماء أنه يُشرع النزول بنمرة اقتداءً بالنبي ﷺ، وهي مكان غربي عرفة إلى الزوال إن تيسر، ولكنه الغالب أنه لا يتيسر، إن لم يتيسر دخلوا عرفة.
فإذا زالت الشمس فإن الحاج يصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، والإمام أو نائبه يخطب الناس خطبة تناسب الحال، وبعد الخطبة يخطب الإمام، أو نائبه خطبة عرفة اقتداءً بالنبي ﷺ فإن النبي ﷺ خطب الناس بعرنة خطبة عظيمة على راحلته قرر فيها قواعد التوحيد وهدم فيها الشرك، وبين حقوق النساء على الرجال وحقوق الرجال على النساء، وأبطل فيها دماء الجاهلية، وربا الجاهلية.
قال: ربا الْجَاهِلِيَّةِ كلٌ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ ([18])، خطبة عظيمة، وكانت حجة النبي ﷺ يوم عرفة يوم جمعة خطب الناس نزل عليه الصلاة والسلام لما دفع من منى بعد زوال الشمس نزل بنمرة، نمرة مكان غربي عرفة، ثم لما زالت الشمس ركب راحلته وخطب الناس بعرنة وهو بطن الوادي الآن.
الذي هو أمام مسجد نمرة، خطب الناس في بطن عرنة، ثم بعد أن انتهت الخطبة أمر بلال فأذن فالخطبة قبل الأذان فدل على أنها ليست صلاة، لم يصلي النبي ﷺ الجمعة، والمسافر لا يصلي جمعة، والحاج لا جمعة عليه المسافر.
خطب الناس على راحلته عليه الصلاة والسلام ثم لما انتهت الخطبة خطبة واحدة ليست خطبتان، ثم أمر بلالاً فأذن، ثم صلى الظهر ركعتين ولم يجهر بالقراءة، لو كانت جمعة لجهر بالقراءة، صلاها ظهر، ثم أمره فأقام لصلاة العصر ثم صلى العصر ركعتين، ثم ركب راحلته عليه الصلاة والسلام ودخل عرفة.
فهذه ثلاثة مواضع: قبل الزوال نزل بنمرة، وبعد الزوال خطب الناس بعرنة بطن الوادي وصلى فيه، ثم ركب راحلته ووقف بعرفة بعد الصلاة، وقف على راحلته عليه الصلاة والسلام، والحكمة في الجمع والقصر قال العلماء: ليتسع وقت الوقوف، ولم يزل عليه الصلاة والسلام وقف استقبل الجبل يُسمى جبل الرحمة، جعله بينه وبين القبلة، وقف عند الصخرات وهو على بعيره عليه الصلاة والسلام ورفع يديه يدعو ويتضرع إلى الله ويبتهل من زوال الشمس من الظهر حتى غربت الشمس وهو على هذه الحالة.
حتى إنه وهو آخذ بزمام الناقة لما هو آخذ بإحدى يديه زمام الناقة بقيت يده الأخرى مرفوعة، فينبغي للحاج أن يُكثر من التضرع والابتهال إلى الله U والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، يسأل صلاح قلبه وصلاح نيته وذريته، ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، يسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.
يسأل الله لاسيما في هذا الوقت العصيب أن يرفع هذه الشدة وهذه الكربة على المسلمين هؤلاء الكفرة الذين تجمعوا الآن وأحاطوا جاءوا بقبضهم وقديدهم وجموعهم نسأل الله أن يرد كيدهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، ونسأل الله أن يعز الإسلام وأهله ويذل الشرك وأهله.
ونسأل الله أن من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه وأن يجعل كيده في نحره، وأن يجعل تدبيره تدميراً عليه، وأن ينزل عليه بأسه هكذا يجب على الحجاج لاسيما في أوقات الإجابة يسأل الله أن يكشف هذه الكربة وهذه الغمة.
لاشك أن الحرب لها آثار سيئة فنسأل الله أن يرد عنا كيد الأعداء، وأن يكشف الغمة، وأن يدفع عنا الحرب وشروره، وأن يرد الأعداء على أعقابهم خائبين، يجب على الحاج أن يُكثر الدعوة والتضرع في أوقات الإجابة، يدعو للإسلام والمسلمين وأن يكشف الله هذه الكربة وهذه الغمة.
ثم إذا غربت الشمس دفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة ويكثرون من التلبية، ولا يصلي الحاج إلا بمزدلفة، إذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، يؤذن ثم يصلي المغرب ثلاث ركعات ثم يصلي العشاء ركعتين، يعني المغرب والفجر لا تقصران اقتداءً بالنبي ﷺ، سواء صلاها في وقت المغرب أو في وقت العشاء، إلا إذا خشي خروج الوقت خشي فوات الوقت خشي أن يأتي نصف الليل يقف ويصلي ولا يؤخر.
بعض الحجاج يكون في زحام مثلاً السيارات ولا يصلون إلا الساعة الثالثة ليلاً ولا يصلون المغرب والعشاء إلا الساعة ثلاثة، هذا غلط.
الصلاة لا تؤخر عن وقتها، أداء الصلاة في وقتها أهم من كون الصلاة في مزدلفة، كون الصلاة في مزدلفة سنة، لكن أداء الصلاة في الوقت هذا فرض، إذا خشيت خروج الوقت وقف قف وصلي في أي مكان ولو في الطريق، ولا تؤخر الصلاة عن وقتها؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها من كبائر الذنوب.
الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء:103]، ويمتد وقت العشاء إلى نصف الليل، فيجب أن تكون الصلاة قبل نصف الليل،المغرب والعشاء، أما إذا تيسر لك الوصول قبل نصف الليل فالسنة تصلي المغرب والعشاء في مزدلفة.
ثم بعد ذلك يبيت الحاج في مزدلفة يبيت هذا هو السنة، وإذا صلى الفجر يصلي الفجر في أول وقتها، بعد تحقق الفجر، وانشقاق الفجر يصلي مبكراً اقتداءً بالنبي ﷺ ثم بعد ذلك يرفع يديه ويدعو هذا هو المشعر الحرام.
المزدلفة تُسمى المشعر الحرام، والنبي ﷺ وصل إلى الجبل وقف عند الجبل وهو جبل قزح وهو الذي بُني عليه المسجد، وقال: وقفت هاهنا والجمع كلها موقف في أي مكان استقبل القبلة وارفع يديك، وبعد الإسفار جدا وقبل طلوع الشمس يدفع الحاج إلى منى اقتداءً بالنبي ﷺ.
والنبي ﷺ خالف المشركين، كانوا المشركون يحجون وهم على شركهم فكانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، إذا صارت الشمس فوق الجبال كعمائم الرجال دفعوا، فخالفهم النبي ﷺ فلم يدفع إلا بعد غروب الشمس، وغياب قرص الشمس واستحكام غروبها.
وكان يدفعون في مزدلفة بعد طلوع الشمس إذا طلعت الشمس واشرقت على الجبال يقولون: "أشرق ثبيل كيما نغير"، ثبيل جبل في مزدلفة إذا أشرقت عليه الشمس دفعوا فخالفهم النبي ﷺ فدفع قبل طلوع الشمس قال: خالف هدينا هدي المشركين، هذا خالفهم في الدفع من عرفة، فكانوا يدفعون قبل الغروب فلم يدفع إلا بعد الغروب، وخالفهم في الدفع من مزدلفة فكانوا يدفعون بعد شروق الشمس فدفع قبل طلوع الشمس عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك يصل الحاج إلى منى، وتحية منى هي رمي جمرة العقبة، وهي بمثابة صلاة العيد لأهل الأمصار، الحاج ما عليه صلاة عيد، بعد الحجاج يظن أن عليه صلاة عيد، رمي جمرة العقبة يقوم مقام صلاة العيد.
ومن أين يأخذ الحصى بعض الحجاج إذا وصل إلى مزدلفة يجمع الحصى ويتكلف، الحصى يؤخذ من مزدلفة ومن أي مكان، والسنة للحاج أن يأخذ سبع حصيات في طريقه إليها، النبي ﷺ أمر بن عباس أن يأخذ سبع حصيات في اليوم الأول، وفي أيام التشريق يأخذها من منى يرمي جمرة العقبة.
فإذا رمى جمرة العقبة قطع التلبية لأنه شرع في التحلل، ثم بعد ذلك يذبح هديه إذا كان متمتعاً أو قارناً ثم يحلق رأسه أو تقصر، والمرأة تقصر من كل ظفيرة قدر أنملة رأس الأصبع إذا كان لها ظفائر، وإن لم يكن لها ظفائر جمعت الشعر وأخذت من أطرافه بقدر رأس الأصبع.
والرجل يحلق رأسه كله أو يقصر من جميع الجهات بعد الذبح ثم يطوف، هذا الأفضل أن يرتب وظائف العيد هكذا، رمي جمرة العقبة ثم الذبح و النحر ثم الحلق ثم الطواف، وإن قدم بعضها على بعض فلا حرج على الصحيح.
بعض العلماء كالأحناف يقولون: إذا قدم بعضها على بعض فإن عليه دم، والصواب أن ليس عليه شيء، لكن الأفضل أن يرتب هكذا، يرمي ثم يذبح ثم يحلق ثم يطوف، فقد تدعو الحاجة إلى الحلق قبل الذبح فلا حرج، لكن إذا تيسر للمسلم أن يرتبها فهذا هو السنة وهذا هو الأفضل.
ثم إذا رمى وذبح وحلق يطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو طواف الحج سبعة أشواط ثم يسعى سعي الحج إذا كان متمتع أو قارن إذا كان متمتع يسعى فإن كان قارن أو مفرد فليس عليه إلا سعي واحد إن كان سعى مع طواف القدوم فليس عليه سعي، وإن لم يكن سعى مع طواف القدوم سعى.
ثم يبيت الحاج بمنى ليلتين إن تعجل وثلاث ليال إن تأخر، ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر، وفي كل يوم من أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال بعد الظهر يرمي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف وهي أقرب الجمرات إلى منى وهي سبع حصيات متعاقبات، الله اكبر الله أكبر الله أكبر واحدة بعد واحدة يرميها رمي لا يضعها وضع.
ثم إن تيسر له أنه يتأخر عنها يتقدم عنها ويجعلها عن يساره ويرفع يديه يدعو والنبي ﷺ دعا دعاءً طويلاً بمقدار قراءة سورة البقرة، ولكنا ضعفاء الإنسان يدعو بما تيسر ولو وقت قليل حسب ما تيسر له.
ثم يذهب ويرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم يتقدم عنها ويجعلها عن يمينه ويرفع يديه يدعو والنبي ﷺ دعا دعاء بمقدار قراءة سورة البقرة أيضاً، ثم بعد ذلك يرمي جمرة العقبة التي رماها يوم العيد تكون هي الأخيرة، ولا يقف عندها.
واختلف العلماء: لماذا لم يدعو؟ ولم يدعو بعدها؟ لماذا لم يدعو النبي ﷺ بعد رمي جمرة العقبة، ودعا بعد الجمرتين الأوليين؟ فقال بعضهم: لأن المكان ضيق، في ذلك الوقت كان الجبل، كانت بجوار الجبل ما يستطيع البعير يمر.
وقيل وهذا هو الأولى: لأن العبادة انتهت، لما رمى جمرة العقبة ورمى الجمرة الوسطى في وسط العبادة كأنه في الصلاة فلذلك دعا، فلما رمى جمرة العقبة انتهت العبادة فكأنه سلم من الصلاة فلذلك انصرف، وفي اليوم الثاني عشر كذلك.
ثم في اليوم الثاني عشر إذا رمى الجمار ينصرف إن أحب أن يتعجل خرج من منى قبل غروب الشمس، وطاف طواف الوداع وذهب إلى بلده راجعاً، فإن غربت عليه الشمس ولم يخرج وجب عليه المبيت، والرمي في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، وإن أحب أن يتأخر ويرمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث عشر بعد الزوال فهو أفضل.
وإذا أراد الخروج من مكة فإنه يطوف للوداع سبعة أشواط، والنبي ﷺ لم يتعجل وبات ثلاث ليال في منى ثم بات ليلة الرابع عشر في المحصب في الأبطح، ولما كان في آخر الليل نزل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وطاف طواف الوداع ثم أدركته صلاة الفجر، فصلى بالناس وقرأ سورة الطور، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة ﷺ راجعاً إلى المدينة عليه الصلاة والسلام.
وهذه هي صفة الحج باختصار، ولابد للحاج أن يترك الرفث والفسوق والعصيان، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: من حج لله فَلم يرْفث وَلم يفسق رَجَعَ من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه وقَالَ الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة([19])، الحج المبرور هو الذي ليس فيه إثم ولا معصية لا يفعل الإنسان كبيرة.
والفسق هو الخروج عن طاعة الله بالمعاصي، والفاسق هو الذي يرتكب الكبيرة أو يداوم على الصغيرة، والكبيرة أصح ما قيل في تعريفها: كل ذنبٍ خُتم بنارٍ أو لعنة أو غضب في الآخرة أو وجب فيه حدٌ في الدنيا.
كل ذنبٍ وجب فيه حدٌ في الدنيا أو توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب، فمثلاً السرقة فيها حد قطع اليد كبيرة، الزنى فيه الجلد أو الرجم كبيرة، أكل مال اليتيم توعد عليه بالنار: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، كذلك أكل الربا من الكبائر، عقوق الوالدين من الكبائر، قطيعة الرحمن من الكبائر, الغيبة من الكبائر النميمة من الكبائر، أكل الرشوة من الكبائر.
فالحاج الذي يحج ويتوب من المعاصي ولا يرفث، والرفث من الجماع والكلام في النساء، ولا يفعل كبائر يتوب من الكبائر لا يكون في حجه, يكون تائب من الكبائر والمعاصي ما يكون مصر على معصية هذا هو الحج المبرور، ويكون عمله خالصاً لله قصد وجه الله والدار الآخرة، وأدى مناسك الحج كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺفي قوله: « خُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ »([20]).
هذا هو الحج المبرور، الحج المبرور هو أن المسلم الذي يحج بيت الله وهو مؤمن بالله وبرسوله، ولا يفعل الشرك، لا يكون في عمله شرك لا يدعو غير الله ولا يذبح لغير الله ولا ينذر لغير الله، لأن بعض الحجاج يحج وهو مشرك فلا يصح منه الحج، بعض الحجاج يحجون وهم يدعون غير الله، يا فلان يا ولي يا رسول الله أغثني، يا بدوي يا ابن علوان يا فلان يا سيدي يا حسين يا عيدروس، يا زينب، يا بدوي هذا شرك.
لا ينفع مع الشرك عمل، قال الله تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، أو يذبح لصاحب القبر أو يصلي له ركعتين، أو يطوف بقبره تقرباً إليه هذا شرك.
المشرك هذا لا يصح منه أي عمل، لابد أن يكون الحاج مؤمناً بالله ورسوله ولا يفعل الشرك، فإن كان يفعل الشرك فإنه تنتقض كلمة التوحيد لو كان واحد يقول لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ثم يذبح، أو يدعو غير الله بطلت كلمة التوحيد، بطل توحيده وإيمانه.
مثل الإنسان الذي يتوضأ ويحسن الوضوء ويتطهر ويحسن الطهارة ثم يخرج منه بول أو غائط أو ريح هل تبقى الطهارة أم تزول؟ تزول، كذلك لو قال لا إله إلا الله ثم قال يا رسول الله أغثني بطلت لا إله إلا الله أبطلها بالشرك نعوذ بالله.
أو يقول يا ولي يا بدوي يا حسين يا كذا، أو يذبح له أو ينذر له أو يطوف بقبره تقرباً إليه هذا شرك ينقض التوحيد، فلابد أن يكون الحاج مؤمناً بالله ورسوله، ولابد أن يخلص عمله لله، يكون قصده وجه الله والدار الآخرة، ولابد أن يؤدي المناسك كما أمر الله وكما أمر رسوله.
ولابد أن يجتنب الكبائر التي سمعتم حتى لا يكون فاسق حتى لا يفسق، ويجتنب الكلام في النساء وإتيان النساء، فإذا كان كذلك فهذا هو الحج المبرور الذي قال فيه النبي ﷺ: من حج فَلم يرْفث وَلم يفسق رَجَعَ من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه ([21])، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
الحج المبرور هو حج المؤمن الذي لا يقع في عمله شرك، الذي أخلص عمله لله، وأدى المناسك كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ، ولم يفعل كبيرة من الكبائر يفسق بها فلا يفعل الرفث ولا الفسوق ولا الجدال هذا هو الحج المبرور.
وفق الله الجميع لطاعته، وثبت الله الجميع على الهدى، ورزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى حج بيته الحرام، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، ويوفقنا للاقتداء بنبينا محمد ﷺ، ونسأله سبحانه أن يثبت الجميع على الهدى، وأن يعذنا جميعاً من مضلات الفتن، وأن يثبتنا على دينه القويم حتى الممات إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
([1]) صحيح مسلم (4/ 2074)،باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم: 2699.
([2]) صحيح البخاري (1/ 25)، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، رقم: 71.
([3]) صحيح البخاري (1/ 11)،باب قول النبي صلي الله عليه وسلم، رقم : 8.
([4]) صحيح مسلم (2/ 974)، باب صحه حج الصبي، رقم: 1336.
([5]) سنن أبي داود (4/ 140)، باب في المجنون يسرق، رقم: 4401.
([6]) صحيح مسلم (2/ 975)، باب سفر المرأة مع محرم إلي الحج، رقم: 1338.
([7]) سبق تخريجه.
([8]) صحيح البخاري (4/ 72)، باب كتابه الإمام للناس، رقم: 3061.
([9]) صحيح مسلم (2/ 703)،باب قبول الصدقة، رقم: 1015.
([10]) صحيح البخاري (1/ 128)،باب الأذان للمسافر، رقم: 631.
([11]) سنن الدارمي (2/ 1178)، باب من أعتمر في أشهر الحج، رقم: 1898.
([12]) صحيح مسلم (2/ 943)،باب استحباب رمى جمر العقبة.
([13]) السنن الكبرى للنسائي (4/ 221)، باب أيام مني ،رقم: 221.
([14]) صحيح مسلم (2/ 1031)، باب تحريم نكاح المحرم، رقم: 1409.
([15]) سبق تخريجه.
([16]) صحيح البخاري (3/ 15)، باب ما ينهي من الطيب للمحرم، رقم: 1838.
([17])المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة (6/ 334)، باب:تفسير قوله تعالى: فإذا أمنتم فتمتعوا..
([18])صحيح مسلم (2/ 889)، باب حجة النبي ﷺ، رقم: 1218.
([19]) السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات (ص: 169)، باب فصل في الترهيب من ترك الحج.
([20]) صحيح مسلم (2/ 943)،باب استحباب رمى جمر العقبة.
([21]) سبق تخريجه.