السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله وخليله وصفيه وأمينه على وحيه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد...
فأحمد الله إليكم وأُثني عليه الخير كله، وأسأله –سبحانه وتعالى- أن يُصلح ظواهرنا وبواطننا، وأن يرزقنا خشيته وتقواه في السر والعلن إنه سبحانه سميعٌ مجيب، وأسأله سبحانه أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا للإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يوفقنا إلى قول السداد والعمل الرشاد.
أيها الإخوان: إن المسلم الذي منَّ الله عليه بالعلم لقد أُوتي خيرًا كثيرًا، أتاه الله الحكمة ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[البقرة:269]، والعلم الذي ينفع هو العلم الذي يُورث الخشية؛ خشية الله وتقواه في السر والعلن، وأن يحذر كل ما يكون سببًا في ضعف إيمانه وتقواه.
المسلم المؤمن طالب العلم هو الذي يخشى الله ويتقيه، هو الذي يخاف بطش الله ونقمته وعقوبته.
المسلم المؤمن الموفَّق الذي وفقه الله للعلم والعمل، هو الذي يراقب ربه ويخشاه. أيها الإخوان؛ العلم نور يقذفه الله في قلب العبد، فإذا قذف الله النور في قلب العبد كان هذا النور فرقانًا يُفرِّق به بين الحق والباطل، وإن طالب العلم لا يزال يبحث ويأخذ العلم من أهله ومن أفواه العلماء ومن بطون الكتب؛ يبغي امتثال أمر ربه وتقواه، فالعالِم الموفق هو الذي يطلب العلم ويتعلم ويتبصر، ولا يزال العبد يتعلم حتى يموت وهو يتعلم ويستفيد، كما قال الإمام رحمه الله: "من المحبرة إلى المقبرة".
وإذا أنفق طالب العلم عمره في العلم أو أكثر عمره في العلم فإنه ينال حظًا من العلم بتوفيق الله –سبحانه وتعالى- إذا وفقه الله، فإذا أعطى الإنسان العلم كله (00:02:47)، أما إذا قصَّر وتساهل وكان طلبه على العلم في وقت فراغه؛ فإنه لا ينال من العلم شيئًا إلا قليلًا.
والعلم: هو المأخوذ من كتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والأئمة والعلماء.... "العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان".
ثم إن العلم النافع هو الذي يُكسب الخشية؛ خشية الله وتقواه، وإذا تأهل المسلم في العلم وصار عنده شيءٌ من العلم فإن من توفيق الله له أن ينشر علمه بين الناس، وأن يوصل هذا الخير الذي أعطاه الله إلى الناس، هذا الخير الذي منَّ الله به عليه يُوصِّله إلى غيره، كما رفع الجهل عن نفسه فإنه يرفع الجهل عن غيره، فيكون بذلك من الرابحين الذين سلِموا من الخسران، وعليه مع ذلك أن يصبر على التعليم ومشقة التعليم كما صبر على مشقة التعلم.
وإذا كمَّل هذه المراتب؛ صار من أهل الربح وسلِم من الخسران، وقد أقسم ربنا –سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم في سورة قصيرة: أن جنس الإنسان في خسران، وأنه لا يسلم م الخسران إلا من حقق هذه المراتب الأربع: تعلَّم، آمن عن علمٍ وبصيرة، وأدى حقوق الله وحقوق العباد فعمل الصالحات، ودعا إلى الله على بصيرة ونشر علمه وصبر على الأذى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:3] فهؤلاء هم أهل الربح الذين سلموا من الخسران.
فمن حقق هذه الأمور الأربعة وكمَّلها: فهو من الرابحين وسلِم من الخسران، ومن ضيَّعها: فهو من الخاسرين، ومن انتقص شيئًا منها: فاته من الربح وحصل على شيءٍ من الخسران بقدر تضييعه لما ضيَّعه منها.
ثم إن على الداعية والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والخطيب الذي يخطب الناس ويعظ الناس والمفتي الذي يُفتي الناس في أمور دينهم: عليه أن يجتهد في تعلم هذا الأمر الذي وُكِّل إليه والذي تصدى له من الإفتاء أو الخطابة أو الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، عليه أن يتبصر ويتفقه في هذا الأمر الشرعي وأن يبذل جهده حتى يكون على بصيرة.
فلا بد للداعية والخطيب والمفتي من علمٍ وبصيرة فيما يتكلم به، وفيما يُفتي فيه، وفيما يعظ الناس به، وفيما يأمر به وينهى عنه، لا بد من العلم، العلم الشرعي الذي يستنير به والذي يطمئن إليه ويعلم أنه على هدى وعلى بصيرة، ولا بد له من العلم بحال المدعوين وبحال المأمورين وبحال من يخاطبهم؛ حتى يُوقِع دعوته وأمره وعظته وفتواه في محلٍ هم لها، في محلٍ قابلٍ بما يتكلم به، وهذه هي طريقة النبي –صلى الله عليه وسلم- وطريقة أتباعه من البصيرة والعلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108].
ولا بد أيضًا للداعية والخطيب والمفتي من الحلم والرفق في حال دعوته وفي حال أمره وفي حال موعظته، أن يرفق بحال المدعو وبحال المأمور، أن يكون عنده حلمٌ ورفق، فإن ذلك أدعى إلى القبول والامتثال، وقد قال الله تعالى لنبييه موسى وهارون حينما بعثهما إلى أكفر أهل الأرض في زمانهم وهو فرعون، الذي ادعى الربوبية وقال للناس: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24]، ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[القصص:38]، قال الله لهما –عليهما الصلاة والسلام-: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾[طه:43-44].
فيُسلك مسلك اللين والرفق والحلم، فإن ذلك أنجع وأدعى إلى القبول والامتثال، فإن تجاوز المدعو حده وتعدى طوره ولم يقبل اللين فإنه يُنتقل معه إلى مسلكٍ آخر، إلى مسلك الشدة والقوة؛ لأنه هوم الذي تجاوز حده، فلما تجاوز حده صرت في مسلكٍ آخر يناسب انحرافه وتجاوزه؛ ولهذا قال تعالى في كتابه العظيم: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾[العنكبوت:46]: فمن ظلم وتجاوز الحد فإنه يُسلك معه مسلكٌ آخر، مسلك القوة بسبب ظلمه وعناده وتجاوزه الحد، وإلا فالأصل أن يسلك الداعية والآمر مسلك اللين والرفق، قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل:125].
فإذا طغى وتجاوز الحد وظلم وتعدى فإنه يُسلك معه مسلك القوة كما قال الله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾[العنكبوت:46].
ثم إن على الداعية والآمر والمفتي والخطيب بعد الدعوة وبعد الأمر وبعد الموعظة وبعد التذكير وبعد الفتوى عليه أن يسلك مسلك الصبر، عليه بالصبر والتحمل؛ لأن هؤلاء الذين يخاطبهم أو يدعوهم أو يُفتيهم أو يعظهم متفاوتون؛ منهم ضعيف الإيمان، ومنهم قوي الإيمان، ومنهم سريع الغضب، ومنهم بطيء الغضب، ومنهم المتكلم بكلامٍ لا يزنه ولا يدري ما عاقبته.
فإن لم يصبر الداعية والخطيب والمفتي فإنه ينقطع ويترك هذا السبيل القويم الذي هو سبيل الرسل وأتباعهم، فلا بد من لصبر والتحمل فإن طريق الدعوة إلى الله وطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق الرسل وأتباعهم ليس مفروشًا بالورود، بل فيه مصاعب ومتاعب، وهذه المصاعب والمتاعب تكون حلوةٌ يستلذها الداعية والآمر بالمعروف الذي يتيقن أنه ملاقٍ ربه، وأن الله سيجازيه، ويستلذ المشاق والمتاعب والمصاعب، تكون حلوةٌ لذيذة على قلبه، وإن كان فيها مشقةً على جسده، فالقلب يتنعم ويتلذذ والبدن يتألم، والعبرة بالقلب، العبرة بحياة القلب، والحياة الحقيقية هي حياة القلوب.
ولهذا فإن من كان قلبه حي يتلذذ ويتنعم ولو كان بدنه مسجونًا محبوسًا أو مضروبًا؛ ولهذا قال الإمام شيخ الإسلام/ ابن تيمية –رحمه الله-: "ما يفعل أعدائي بي؟! حبسي خلوة وقتلي شهادة ونفيي سياحة" في كل حالة من الأحوال هو مستفيد وفي عبادة لله عز وجل.
قال: "إن قُتلت فأنا شهيد، وإن حُبست خلوت لعبادة ربي، وإن طُردت ونُفيت سِحت في أرض الله وأعبد الله وأتفكر في مخلوقات الله" هكذا الموفقون يتنعمون ويتلذذون، قلوبهم مطمئنة، هذه هي الحياة الطيبة.
قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97]، والرسل –عليهم السلام- هم الأسوة والقدوة، هذا نبي الله ورسوله، أول رسولٍ بعثه الله نوح عليه الصلاة والسلام مكث في قومه للدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، وهو في ذلك يدعو قومه ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، ولم يقصِّر ولم يألُّ جهدًا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)﴾ [نوح: 5-20].
وهكذا الرسل تتابعوا بعد نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا هود عليه الصلاة والسلام دعا قومه وصبر على الأذى، ثم نبي الله صالح صبر على قومه، دعاهم وصبر على آذاهم حتى نجاهم الله، وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكذلك شعيب، وكذلك موسى وهارون، وكذلك عيسى، حتى ختم الله الأنبياء والرسيل بنبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذي كمَّل الله له، وجمع فيه من الصفات التي فيها كمال، جمع الله له من صفات الأنبياء وكمَّله، فكان عليه الصلاة والسلام أكمل الناس وأعبد الناس وأتقى الناس وأطوع الناس لربه عليه الصلاة والسلام.
فهو الأسوة وهو القدوة، وقام بالدعوة إلى الله وصبر على الأذى، والله تعالى يُسليه ويُصبِّره ويأمره بالتأسي بالرسل السابقين: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ﴾[الأحقاف:35]، وأن يتأسى –عليه الصلاة والسلام- لما أعطى بعض الغنائم، جاءه عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- وأخبره عن مقالةٍ قالها بعض الناس، قال "هذه قسمةٌ ما أُريد بها وجه الله" فتغيَّر وجه النبي –صلى الله عليه وسلم- وقال: "يرحم الله موسى، لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر"، يتأسى به.
هكذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتأسى بعضهم ببعض، ونحن أسوتنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ورسل الله الكرام، والداعية والخطيب والمفتي والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر إذا بذلوا جهدهم واستفرغوا وُسعهم وأخلصوا عملهم ومعهم رهط (مفرد الرهيط وهم من ثلاثة إلى تسعة) ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، يعني أتباعه.
بعض الرسل ما تبعه إلا رهط، من ثلاثة إلى تسعة، وبعض الرسل ما تبعه إلا رجل أو رجلان، وبعض الرسل ليس معه أحد، وبعض الرسل قُتِل، أنبياء بني إسرائيل بعضهم قُتِل كزكريا ويحيي، قال الله تعالى: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾[البقرة:87]، ومع ذلك أدوا رسالة ربهم، وأدوا ما عليهم.
فالداعية والآمر والمفتي والناصح والواعظ عليه أن يتأسى بأنبياء الله ورسله، وبنبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يصبر على الأذى ويتحمل، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل وجل، وأن يُخلص عمله لله عز وجل وجل، وبهذا يكون الإنسان (00:16:41).
فالداعية عليه أن يشترطوا فيه.. الداعية والآمر يشترطوا فيه العلم قبل الدعوة، شرطٌ قبل أن يدعو وقبل أن يعظ، وشرطٌ في حال الدعوة والوعظ، وشرطٌ بعد الدعوة والوعظ والإفتاء.
شرطٌ قبل الدعوة: وهو العلم، العلم بهذه المسألة التي تتكلم فيها والتي تتحدث فيها والتي تعظ فيها والتي تدعو إليها والتي تأمر بها والتي تنهى عنها، لا بد أن يكون عندك علم بشريعة الله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذر أن تقول هذا حلال وهذا حرام من غير علم ولا بصيرة، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)﴾[النحل:117].
ولا يمنعنك مراعاة الناس أن تقول لما تعلم: "لا أعلم"، عليك أن تقول للشيء الذي سُئلت عنه إذا كنت مفتيًا أو داعية، أن تقول: "لا أعلم" أو تقول: "لا أدري"، أو تقول: "أمهلني حتى أبحث هذه المسألة في كتب أهل العلم أو مع أهل العلم، أو تقول.. أو تحيله إلى غيرك من أهل العلم.
قال بعض السلف: "إذا أخطأ الإنسان (العالِم أو الداعية) لا أدري فقد أُصيبت مقاتله"، وقال بعضهم: "لا أدري: نصف العلم"؛ لأن العلم نوعان: نوعٌ تعلمه ونوعٌ لا تعلمه، فالذي تعلمه هذا عندك، والذي لا تعلمه تقول: لا أدري؛ فلهذا كانت "لا أدري: نصف العلم".
فلا بد من الورع، طالب العلم يسلك الورع في هذا الأمر وأن يتقي الله –عز وجل- حتى يكون من خير هذه الأمة، قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران:110]، فالخيرية إنما حصلت بهذه الصفات: بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن حقق هذه الأوصاف حصلت له الخيرية، ومن ضيَّع هذه الأوصاف فقد الخيرية.
وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]: حصل الفلاح في هؤلاء؛ الذين يدعون للخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومن المعلوم أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُقيِّد هذه بالنصوص الأخرى التي سمعتم شيئًا منها، فإن النصوص يُضم بعضها إلى بعض.
وليحذر الداعية والآمر والواعظ أن يتكلم بشيءٍ لا يعلمه وأن يفتي بشيءٍ لا يتحقق منه، وأن يفتي بغير علم، فإن فعل فإن عليه إثمه وإثم ما أفتاه، فمن أُفتي بغير ثَبَت فإثمه على من أفتاه، فليتق الله المسلم وليحذر وليتأسى بالرسل الكرام وبأهل العلم ، ونبينا –صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح، لما جاءه رجلٌ وهو بالجعرانة مُحرم وقد تضمخ بالطيب، فقال: لبِس جُبة، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُفتى حتى جاءه العلم من الله، جاءه الوحي من الله، فنزل عليه الوحي وتغشاه، فيتغشاه ثم قال: أين السعي؟ جاءه العلم بوحي من الله، فجاء، فقال: انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوك (يعني الطيب) واصنع في عمرتك ما أنت صانعٌ في حجك.
هكذا العلم، هنا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يجيب إلا عن علم، وإذا لم يكن عنده شيء توقف حتى يأتيه الوحي من ربه، فالعالِم كذلك، وطالب العلم كذلك قدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليعلم الإنسان الداعية والعالِم أنه فاته شيءٌ كثير، وأنه لم يحصل على العلم كله بل هناك شيءٌ من العلم فاته، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء:85].
فإذا سلك الداعية والآمر مسلك الورع والتقوى فإن الله تعالى يوفقه ويسدده وعليه مع ذلك أن يلجأ إلى الله، وأن يضرع إليه في أن يسدده ويلهمه الصواب، وأن يدعو بهذا الدعاء: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني" فمع بذل الجهد في التعلم ومع بذل الجهد في البحث عما أشكل عليه، ومع سؤال أهل العلم والبحث في كتب أهل العلم يوَّفق الإنسان.
وكذلك أيضًا إذا سلك مسلك الورع وأحجم عن ما لا يعلم فإن الله تعالى يوفقه ويسدده، والله -سبحانه وتعالى- يُثيب عبده أكثر من عمله، يُثيبه -سبحانه وتعالى- على القليل أجرًا كثيرًا، فإذا مشى العبد إلى ربه أتاه هرولة، ومن تقرب إلى الله شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرَّب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، وإذا أتاه يمشي أتاه هرولة، كما ثبت ذلك في الحديث القدسي.
وليحذر أيضًا الإنسان من العُجب والكبر فإن هذه آفات وأمراض من أمراض القوب ومن الكبائر، من الأخلاق السيئة، من كبائر الذنوب من أعمال القلوب، فإن الكبائر تكون باطنة في الباطن كما تكون في الظاهر، فكما أن الزنا والسرقة وشرب الخمر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وشهادة الزور والتعامل بالرب من الكبائر الظاهر، فذلك العُجب والكبر وازدراء الناس واحتقارهم من كبائر الذنوب الباطنة.
فليحذر الإنسان العجب والكبر والغرور والتعالي على الناس؛ أن يُعجب بنفسه وأن يرى أنه فوق الآخرين، هذه كلها من أمراض القلوب ومن الكبائر، فليحذرها المسلم ويحذرها الداعية والعالم والواعظ والناصح والمفتي، يكون عند الإنسان ورع وخشية لله –عز وجل- تحجزه من اقتراف هذه الكبائر الباطنة والظاهرة.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا خشيته وتقواه والتأسي برسل الله الكرام وبنبينا صلى الله عليسه وسلم وبالسلف الصالح من التابعين والأئمة والعلماء الربانيين، وأن يلحقنا بهم وأن يوفقنا لسلوك طريقهم، وأسأله –سبحانه وتعالى- أن يثبتنا على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.