بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصل الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحه أجمعين.
أما بعد:
فنحمد الله -سبحانه وتعالى- أن وفقنا لانعقاد مجالس العلم، ونسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح، ولا شك أيها الإخوان أن تعلُّم العلم وتعليمه من أفضل القُرُبات وأجلِّ الطاعات.
والله -سبحانه وتعالى- نوَّه بشأن العلم والعلماء، وأخبر أن أهل العلم لا يستوون مع غيرهم، قال –سبحانه-: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[الزمر:9].
وقرن الله تعالى شاهدة العلماء بشهادته وشهادة ملائكة، قال: أجل مشهود به، قرن الله تعالى- شهادة العلماء بشهادته وشهادة الملائكة، على أجلِّ مشهود به وهو الشهادة لله –تعالى- بالوحدانية، قال –تعالى-: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18].
وتعلُّم العلم والذهاب إليه إلى العلم، وسلوك الطريق الموصل إلى العلم سلوكٌ إلى طريق الجنة، قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَن سَلَك طريقًا يلتمِسُ فِيهِ عِلمًا، سهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجنَّة»، ولم يأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله أن يستزيد من شيء سوى الاستزادة من العلم، قال –سبحانه- لنبيه الكريم: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[طه:114].
موسى الكليم، كليمُ الله، وهو أحد أولي العزم الخمسة، وهو الثالث في الفضيلة، أفضل الناس بعد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم إبراهيم الخليل ثم موسى الكليم، رحل لطلب العلم، رحل الرحلة البحرية التي قصها الله علينا في القرآن، رحل إلى الخضر ليتعلم منه.
ومن ذلك أن موسى -عليه الصلاة والسلام- كان يُحدِّث بني إسرائيل فسأله رجل: هل تعلم أن أحدًا أعلم منك من الناس؟ قال: لا، فعتِب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فقال الله –تعالى-: بلى، عبدنا الخِضْر أعلم منك، قال: يا رب أين أجده؟ قال: في مجمع البحرين، فركب البحر وسافر لطلب العلم، ولما وصل إلى الخضر وسلَّم عليه قال: وأنَّا بأرضك السلام، من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى من بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: ما جاء بك؟ قال: أتعلم منك العلم، قال: ما يكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟ أو كما قال.
ولما كان، لما اجتمع موسى مع الخضر جاء عصفور ونقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى -عليه الصلاة والسلام-: يا موسى ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور في منقره من هذا البحر، بحر متلاطم الأمواج وش ينص؟ ما ينقصه منه شيء.
علم الله واسع، الله تعالى علمه لا ينفد، وكلامه كلامه لا ينفد، قال سبحانه: ولو جُعِلَت الأشجار أقلامًا يُكتَب بها، والبحر مدادًا، والبحر يمد من بعده سبعة أبحر، لتكسرت الأقلام، ونفدت مياه البحار، ولم تنفد كلمات الله، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[الكهف:109].
فوصيتي لإخواني وأبنائي طلابًا: أن يحرصوا على طلب العلم ما داموا في زمن الشباب، وفي وقت المُهلة، قد يأتي وقتٌ لا يجد أحد من يسأل أهل العلم أو يتعلم من أهل العلم، ولا تقولون: إن الناس الآن كلهم الآن، تنظروا إلى كثرة المدارس والجامعات، وكثرة الصحف والمجلات، والكتُّاب والإعلاميين، كل هؤلاء ما يسمون أهل العلم إلا العلم الشرعي، ليس كل من يقرأ ويكتب يسمى عالم طالب علم، يقرأ ويكتب وهو جاهل، قد يكون جاهل مرُكَّب، العلم: قال الله، وقال رسوله؛ العلم الشرعي.
العلم، ابن عباس -رضي الله عنهما- حصلت له قصة، معلوم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ناهز الحُلُم، وقد ناهز العشرين، قريبًا من العشرين، والصحابة متوافرون، فجَعَل يطلب العلم من الصحابة، يذهب إلى الصحابة ويسألهم ويتعلم منهم، وكان له زميلٌ من الأنصار، شاب، فقال لابن عباس: أن تحرص على الآن أن تذهب إلى هذا وإلى هذا، والصحابة متوافرون، أتظن الناس سيحتاجون إليك؟ الصحابة متوافرون الآن والناس ليسوا بحاجة إليك، وتركه طالب العلم الأنصاري، ابن عباس ترك قوله واستمر في طلب العلم، يأتي إلى الصحابة ويأخذ عنهم، ويأتي إلى من سمع بالحديث عند أحد من الصحابة أو شيء من العلم، جاء عند باب بيته وتوسد يده ونام حتى تَسُف الرياح عليه التراب.
فإذا خرج الصحابي قال: يا ابن عم رسول الله، ألا أخبرتني، ألا أعلمتني؟ قال: أين حديثك؟ ويأخذ من العلم، وهكذا، ويأخذ من هذا ومن هذا، حتى آتاه الله علمًا غزيرًا وصدقت فيه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما دعا له: «اللهم وفقِّههُ في الدين، وعلمه التأويل»، وانقرض الصحابة وماتوا، وظهر ابن عباس وبرز، صار علمًا شامخًا، وصار الناس يأتون إليه وصارت تُضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان، وكان يجلس بين الناس.
وبرز في التفسير، وفي الفقه، وفي الحديث، وفي الشعر، فصار يجلس للناس، يجلس بعد الفجر مثلًا لأهل التفسير، ثم بعد ذلك لأهل الشعر، ثم لأهل الفقه، وهكذا، لأهل الحديث، والناس يصدرون عليه يذهب هؤلاء ويأتي هؤلاء، وطالت حياة الأنصاري زميله الأنصاري، والأنصاري بقى على جهله، ورأى ابن عباس والناس يصدرون عنه فكان يقول: هذا كان أعقل مني.
والعلم النافع ينقسم إلى ثلاثة أقسام، العلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العلم بالله وأسماءه، وصفاته، وأفعاله، وهذا يشمل توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، بالله وبأسمائه، وصفاته.
والثاني: العلم بالأوامر والنواهي، العلم بالحلال والحرام.
لأن العلم الأول هذا يتعلق بالله، علم بالله، هذا أشرف العلوم، به تعرف ربك، العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله فتكون إيش؟ عرفت ربك، عرفت ربك بأسمائه وصفاته، وأنه –سبحانه- هو الخلاق، أنه العليم، وأنه القدير السميع البصير، وأنه فوق العرش، وأنه خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وهو الذي أوجد الناس من العدم، وهو الذي يربيهم بنعمه، وهو الذي يخلقهم، ويرزقهم، ويميتهم، ويحييهم، ولا يغتنون عنه ولا طرف عين، ولا قوام لهم إلا به -سبحانه وتعالى-.
ثم بعد أن عرفت ربك وعرفت أنه مستحق للعبادة، بعد ذلك تنقل إلى القسم الثاني وهو: معرفة حقه، وهو الأمر الذي خلقك الله من أجله، وهو العبادة، الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، فتكون تتعلم كيف تعبد ربك، كيف تؤدي ما أوجب الله عليك من العبادات والمعاملات.
ثم بعد ذلك تنتقل إلى القسم الثالث وهو العلم بالجزاء الذي يكون في الآخرة، جزاء أهل التوحيد وأهل الإيمان، وما أعد الله لهم من الكرامة والنعيم، وجزاء من ترك التوحيد والإيمان من أهل الكفر والمعاصي.
هذه أقسام العلم النافع، قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
والعلم أقسامٌ ثلاثةٌ ما لها
من رابعٍ، والحقُّ ذو تبيانِ
عِلمٌ بأوصافِ الإله وفِعلهِ
وكذلك الأسماءُ للرحمن
هذا الأول.
(والأمر والنهي الذي هو دينه)؛ هذا الثاني، (وجزاءه يوم المعاد)؛ الثالث، وما عدا ذلك هذا العلم الشرعي، العلم الشرعي عبادة، يتعبد بها الإنسان لربه، ولا يجوز الإنسان أن يتعلم العلم لأجل الدنيا، ولا لأجل المال، ولا لأجل الوظيفة، ولا لأجل المنصب، ولا لأجل الرئاسة، إذا فعل ذلك فعليه الوعيد الشديد، قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»، هذه عبادة، يعني تجعل العبادة، تجعل العلم وسيلة إلى المال، إلى المنصب، إلى الجاه، العلم أعلى وأسمى.
فيجعل الإنسان ما جاء من المال مكافأة مُعينًا ومساعدًا له على تعلُّم العلم، والعلم هو الأصل، إذا كنت تريد الدنيا ادخل في معترك الحياة، مثل: المؤسسات والشركات، والبقالات وغيرها، أما أن تجعل العلم الشرعي هو الطريق إلى كسب المال ويلٌ لك، ويلك ثم ويل لك.
أما العلوم الأخرى مثل: علم الطب، علم الصيدلة، علم الجيولوجيا، علم الكيمياء، علم النجارة، علم الحدادة، علم الكهرباء، علم السباكة، هذه علوم، علوم فرض كفاية يتعلم الإنسان قاصدًا بها قصدًا حسنا وأن ينفع المسلمين ويغنيهم فهو مأجور، فرض كفاية، ولا يهمه أن يكون تعلم النجارة، والحدادة، والطب لأجل لقمة العيش، لأجل الكسب لا بأس، لكن تتعلم العلم الشرعي لأجل المال؛ هذا أمرٌ عظيم، هذا العلم الشرعي عبادة، تجعل عبادة وسية إلى المال وإلى تحصيل المال.
فنسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.