إلى طلب العلم فهذه نعمة أخرى من الله بها عليه فجعله يختار الإيمان، ويُحبه ويرضى به، حيث جعله يختار ميراث النبوة، ميراث الأنبياء؛ فــ «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»؛ ولهذا فإن الأنبياء لا يُورَثون؛ لأنهم بُعثوا لهداية الناس وإصلاحهم.
والعلماء يرثون الأنبياء، يرثون منهم العلم، وفي الحديث: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ولمَّا سأل زكريا -عليه الصلاة والسلام- ربَّه الولد قال: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾[مريم:6]، هل المراد يرث المال؟ لا، يرث النبوة، قال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾[مريم:5-6]، لم يُرد أنه يرث المال؛ ولهذا فإن الأنبياء لا يُرثون، ما تركوه صدقة.
قال -عليه الصلاة والسلام-: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ»، والحديث رواه عدد من الصحابة يقرب من عشرة، وقد عمل به الصديق أبو بكرٍ -رضي الله عنه- لما تولَّى الخلافة وجاءت فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- -رضي الله عنها- تسأل أبا بكرٍ ميراثها من أبيها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء الصديق -رضي الله عنه- وقال: الأنبياء لا يُورثون، فغضبت عليه -رضي الله عنها- وظنت أن لها الميراث، وهجرته، والحق مع أبي بكرٍ -رضي الله عنه-، وهي سيدة نساء أهل الجنة فاطمة -رضي الله تعالى عنها- لكنها ليست معصومة، فغلطت وظنَّت أنها ترِث؛ ولهذا عاتبت أبا بكرٍ حين طلبت ميراثها.
لو كان النبي يُورث لكان لزوجاته -عليه الصلاة والسلام- الثمن، ولابنته فاطمة النصف، والباقي لعمه العباس، لو كان يُورث، لو كان يُروث لكان هكذا الميراث، لكانت لزوجاته الثمن لأنه فرع الوارث، ولابنته فاطمة النصف، والباقي لعصبته عمه العباس، لكن الأنبياء لا يُورثون، قال: ما تركوه صدقة؛ لأنهم بُعثوا لهداية الناس وإصلاحهم، ولم يُبعثوا للدنيا.
والعلماء هم أفضل الناس، العلماء العاملون بعلمهم، العلماء أهل الحق، علماء الآخرة، العلماء قسمان:
علماء دنيا.
وعلماء الآخرة.
علماء الآخرة هم ورثة الأنبياء، وهم الصديقون، وهم أعلم الناس بالله، وهم أخشى الناس؛ ولهذا قال الله –تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28]، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ﴾؛ الخشية التامة، وإلا فكل مؤمن له نصيبٌ من الخشية، من لم يخش الله ليس بمؤمن، من لم يخش الله فهو كافر.
إذا فُقدت الخشية حتى العاصي عنده نصيب من الخشية، أصل الخشية لا بد منه، ولكن العاصي اتخذ كفر، وهو عنده نصيب من الخشية، لكن الخشية الكاملة للعلماء، وهي خوفٌ مع علم.
فالعلماء أخشى الناس، وأخشى الناس هم الأنبياء، في مقدمة العلماء الأنبياء، في مقدمة العلماء الأنبياء فهم أخشى العلماء، وأخشى الأنبياء الرُّسُل، وأخشى الرسل أولو العزم الخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-، هؤلاء هم أولو العزم الخمسة، لهم من القوة والتحمل والصبر ما ليس لغيرهم؛ ولهذا أُمِر نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال الله –تعالى-: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35].
قد ذكرهم الله –تعالى- في سورتين من كتابه، في سورة الأحزاب قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب:7]، وفي سورة الشورة قال –تعالى-: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]؛ فدين الأنبياء واحد.
وأخشى أولي العزم الخليلان: إبراهم ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-؛ وهما أفضل الأنبياء وأتقى الأنبياء علمًا وحالًا ومعرفةً وخوفًا وخشية، وأخشى الخليلين وأتقاهما: نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، هو أفضل البشر وأتقى البشر -صلى الله عليه وسلم- وسيد البشر، كما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»، فهو أفضل الناس، وأتقى الناس، وأعبد الناس، وأزكى الناس -عليه الصلاة والسلام-، وأشجع الناس، وأكرم الناس -عليه الصلاة والسلام-، ثم يليه جده إبراهيم، ثم يليه موسى الكليم، ثم بقية أولي العزم، ثم بقية الرسل، ثم الأنبياء، ثم الصديقون.
والصِّدِّيقون جمع صِدِّيق، والصِّدِّيق صيغة مبالغة، والصِّدِّيق هو: الذي قوي إيمانه وتصديقه حتى (00:08:00) الشبهات والشهوات فلا يُصر على معصية، هذا هو الصديق، وفي المقدمة: الصديق الأكبر: أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، فدرجة الصدِّيق تلي درجة الأنبياء.
ثم يلي الصديقون الشهداء، الشهيد الذي قُتل في المعركة لإعلاء كلمة الله، ما هي كلمة الله التي يقصد إعلائها الشهيد؟ كلمة الله إما خبر، وإما أمر، يعني الشريعة إما أخبارٌ تُصدق، وإما أوامر تُنفذ، هذه هي الشريعة إما خبرٌ يُصدق، وإما أمرٌ يُنفذ.
فالشهيد هو الذي قُتل لإعلاء كلمة الله، لتكون كلمة الله هي العليا، كلمة الله لأن التي تعبَّدَ الخلق، وأنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وشرع لهم الشرائع، وهي أخبارٌ تُصدق وأوامر تُنفذ، هذه هي كلمة الله، فالشهيد هو الذي قُتل لإعلاء كلمة الله، هذا هو الشهيد الذي مرتبته تلي مرتبة الصديقين، وله من الفضل ما ليس لغيره، فالشهيد يجري عليه عمله بعد موته، والشهيد يأمن من الفتَّان في القبر.
جاء في الأثر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن الشهيد: هل يُفتن في قبره؟ فقال: كفى بالسيف بارقةً على رأسه، يعني رُفع عنه الفتن بسبب بارقة السيف على رأسه.
والشهادة فضلها كبير وأجرها كبير، والشهداء عند ربهم يُرزقون، كما قال الله تعالى-: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:169-171].
والشهيد إذا مات تُنعَّم روحه تنعيمًا أكمل من تنعيم سائر المؤمنين، فالمؤمن إذا مات نُقلت روحه إلى الجنة ولها صلةٌ بالجسد، والكافر إذا مات نُقلت إلى النار ولها صلةٌ بالجسد، لكن المؤمن روحه تُنعم في جنات النعيم تأخذ شكل طائرًا، كما في الحديث: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»؛ تأخذ شكل طائر، تُنعم وحدها.
وأما الشهيد فإن روحه تتنعم بواسطة حواصل طيرٍ خُضر؛ لأن الشهيد لما أَتلفَ جسده لله عوَّض الله روحه جسدًا آخر تتنعم بواسطته وهي: حواصل طيرٍ خُضر، كما في الحديث الصحيح: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْبَحُ فِي الْجَنَّةِ، تَرِدُ أَنْهَارَهَا، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةً بِالْعَرْشِ»؛ فتنعُّم أرواح الشهداء أكمل من تنعُّم سائر أرواح المؤمنين.
وأما الذي قُتل في المعركة لا لإعلاء كلمة الله، للرياء والسمعة فهذا يُعذب –نسأل الله السلامة والعافية-، فهذا مُعذب، ويُحرم الثواب، يقصد الرياء والسمعة، والرياء والسمعة يُحبط الأعمال، يُحبط الأعمال الرياء والسمعة، جميع الأعمال؛ لأن الواجب على المسلم أن يُخلص عمله لله، وأن يقصد بعمله وجه الله والدار الآخرة، وهذا أصلٌ من أصلين لا تصح العبادة إلا بهما:
الأصل الأول: أن تكون العبادة خالصة لله، مُرادًا بها وجه الله والدار الآخرة.
والأصل الثاني: أن يكون العمال موفقًا للشرع، وصوابًا على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قد جمع الله –تعالى- بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه، قوله –تعالى-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110].
والعمل الصالح الذي ليس فيه شرك، العمل الصالح هو الموافق للشرع، والعمل الذي ليس فيه شركٌ هو الخالص لله، قال –تعالى-: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[لقمان:22]؛ وإسلام الوجه هو: إخلاص العمل لله.
قال –تعالى-: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[البقرة:112]، من أسلم وجهه يعني أخلص عمله لله.
فإسلام الوجه هو إخلاص العمل لله، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾؛ الإحسان هو العمل الصالح، ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أخلص عمله، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾.
وقد دلَّ على هذا الأصل الأول وهو الإخلاص: ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، الأعمال بالنيات، العمل بالنية، وإذا تخلف هذا الأصل حل محله الشرك، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
والأصل الثاني وهو: أن يكون العمل صوابًا على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، قد دل عليه من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنه- أن النبي قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ»، وفي لفظٍ لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ»؛ يعني مردود الأصل، وإذا تخلف الأصل حلَّ محله البدع، وهو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
فالأصل الأول وهو: الإخلاص، هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
والأصل الثاني وهو: المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
وهذا الأصلان هما أصل الدين وأساس لله، أصل الدين وأساس لله أن تشهد لله –تعالى- بالوحدانية، وأن تشهد لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله).
فهذا الذي قُتل في المعركة شهيدًا لإعلاء كلمة الله؛ هذا ثوابه هذا، وهذا أجره، يؤمن من الفتان، ويجري عليه عمله، وله أجورٌ كثيرة يجري عليها عمله بعد موته، والغدوةٌ والرَّوْحَةٌ التي يروحها في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، وخير من العبادة في شهر؛ فإذا أُضيف إلى الجهاد في سبيل الله هي ذروة سنام الإسلام.
والمجاهِد أغلى ما يملكه هي روحه التي بين جنبيه، يبذلها رخيصةً لإعلاء كلمة الله؛ فكان هذا ثوابه، وكان هذا أجره، وفي الجنة أعد الله للمجاهدين في سبيل الله مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والله –تعالى- يقول في كتابه الكريم: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[النساء:95-96].
أما الذي قاتل في المعركة للرياء والسمعة فهذا عليه الوعيد الشديد، وعمله حابِط، كما أن الذي يتعلم العلم الشرعي ويتعلم القرآن للرياء والسمعة عمله حبِط وعليه الوعيد، وكذلك الذي يُنفق أمواله في المشاريع الخيرية إن قصد وجه الله فهذا من النفع المتعدد، وإن قصد الرياء والسمعة فعمله من حرام، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثَلَاثَةٌ، وقال: قَارِئٌ وَعَالِمٌ، وَقَتِيلٌ فِي الْمَعْرَكَةِ، ومتصدقٌ، أما العالِم والقارئ فيُؤتى به ويُوقف بين يدي الله، فيقول الله له –سبحانه وتعالى-: ماذا عمِلت؟ فيقول: يا رب، قرأت فيك القرآن، يعني لإعلاء كلمتك، لأجلك، وتعلمت فيك العلم، يعني لأجلك، فيقول الله –تعالى-: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، وإنما قرأت القرآن ليُقال قارئ، وتعلمت ليُقال عالم، وقد قيل، وليس لك إلا ما قيل، ثم يأمر الله به فيُسحب على وجهه حتى يُلقى في النار، -نسأل الله السلامة والعافية-.
ويُؤتى بقتيل المعركة فيُوقف بين يدي الله، فيُقال له: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب، قاتلت فيك لإعلاء كلمتك، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، وإنما فعلت ذلك ليُقال: شجاع، وليُقال: جريء، فقد قيل وليس لك إلا ذلك، ثم يأمر الله به فيُسحب على وجهه ويُلقى في النار.
ويُؤتى بالمتصدق الذي أنفق أمواله في المشاريع الخيرية وسُبل الخيرات، فيُوقف بين يدي الله، فيُقال له: ماذا عمِلت؟ فيقول: يا رب، ما تركت من سبيلٍ تُحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها ابتغاء وجهك. فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، وإنما فعلت ذلك ليُقال: فلانٌ جواد، وليُقال: فلانٌ كريم، وقد قيل، وليس لك إلا ذلك، ثم يأمر الله فيُسحب على وجهه حتى يُلقى في النار.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: وهؤلاء الثلاثة أول خلق الله تُسعر بهم النار يوم القيامة، فهؤلاء الثلاثة ما الذي جعل أعمالهم التي هي ظاهرها الصلاح تنقلب وبالًا عليهم؟ النية.
الأول لو كانت نيته خالصة لله لكان من الصديقين، الذين مرتبتهم تلي مرتبة الأنبياء.
والثاني لو كان عمله لله لكان شهيدًا في المعركة، كان من الشهداء.
والثالث لو كان عمله صالحًا لكان من الصالحين.
فالنية هي التي تُبنى عليها الأعمال، هي الأساس التي تُبنى عليها الأعمال؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، فالنية تُميز الفرض من النفل، وهي التي يكون فيها الإخلاص وغير الإخلاص، العمل مبنيٌ على النية.
فهؤلاء الشهداء مرتبتهم تلي مرتبة الصديقين، ثم بعد ذلك تأتي مرتبة الصالحين، والصالح هو الذي أدى الواجبات، وترك المحرمات، وأخلص عمله لله، فهؤلاء الصالحون هم الذين صلُحت أعمالهم ونياتهم، ولكنهم يتفاوتون، هم درجات لهم مراتب، ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة السابقين.
المرتبة الثانية: مرتبة المقتصدين أصحاب اليمين.
والمرتبة الثالثة: مرتبة الظالمين لأنفسهم.
كلهم من أهل الجنة، كلهم ممن ورث الكتاب، لكن درجاتهم تتفاوت في الجنة، فمرتبة السابقين المقربين أعلى، فالسابقون المقربون هم الذين أدوا الفرائض والواجبات، وانتهوا عن المحرمات، أدوا الفرائض والواجبات وكان عندهم نشاط أيضًا ففعلوا المستحبات، وسابقوا بالخيرات، وتركوا المحرمات والكبائر.
وتركوا أيضًا المكروهات كراهة التنزيه، وتركوا أيضًا التوسع في المباحات؛ فلهذا صارت عندهم مراتب، صارت مرتبتهم عالية، فعلوا الواجبات أدوها الواجبات، وزادوا على ذلك وفعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات، وزادوا عليه تركوا المكرهات كراهة تنزيه، بل وتركوا التوسع في المباحات حتى لا يقعوا في المكروهات، فهؤلاء السابقون المقربون.
والطبقة الثانية: المقتصدون أصحاب اليمين، هؤلاء أدوا الواجبات والفرائض، لكن ما كان عندهم نشاط لفعل النوافل والمستحبات، واقتصروا على أداء الواجبات، وتركوا المحرمات والكبائر، ووقفوا عند هذا الحد، ما كان عندهم نشاط، يفعلون المكروهات كراهة تنزيه، ويتوسعون في المباحات.
وهؤلاء مثل ما جاء في الحديث: الرجل الذي جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسأله قال: «مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: خَمْسَ صَلَواتٍ فِي الْيوْمِ وَاللَّيلَةِ. قَالَ: وَمَاذَا أَوْجَبَ عَلَيّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِكَ، وَالصَّوْمِ؟ قَالَ: أَنْ تَصُوُمَ رَمَضَان، ثُمَّ قَال: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ»، هذا من أصحاب اليمين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذَا مِنَ الْمُقْتَصِدِينَ»، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ صَدَقَ لَيدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»؛ لأنه أدى ما أوجب الله عليه، «إِنْ صَدَقَ لَيدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ».
فهؤلاء السابقون المقربون والمقتصدون من أصحاب اليمين كلهم يدخلون الجنة من أول وهلة؛ لأنهم أدو ما أوجب الله عليهم، لكن منزلة السابقين أعلى في الجنة.
والصنف الثالث أو القسم الثالث: الظالمون لأنفسهم، وهو مؤمنون موحدون، مصدقون، ماتوا على التوحيد، لم يقع في عملهم شرك، لكن أضعفوا هذا الإيمان بالمعاصي والكبائر التي ماتوا علليها من غير توبة، هؤلاء هم الظالمون لأنفسهم، هؤلاء قد يتأخر دخولهم للجنة بخلاف الصنفين الأولين السابقون المقربون والمقتصدون، فهؤلاء يدخلون الجنة من أول وهلة، لكن هؤلاء قد يتأخر دخولهم الجنة بسبب المعاصي التي ماتوا عنها، وهم أقسام:
منهم من يعفوا الله عنه فيطهر من الذنوب والمعاصي بعفو الله عنه فيدخل الجنة من أولها، قال الله –تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:116]؛ فهم تحت مشيئة الله.
ومنهم من يستحق دخول النار فيُشفع فيه فيُشفِّعُ الله فيه الشفعاء، فلا يدخل النار، وهذا أيضًا لا يدخل النار.
ومنهم من يُعذب في قبره، فتسقط عنه عقوبة جهنم بعذاب القبر، كما في حديث ابن عباس في قصة الرجلين الذين مر بهما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَينِ وَغَرَسَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، وَقَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَم يَيْبَسَا».
ومنهم من تُصيبه أهوال وشداد في موقف القيامة، فتكون هذه عقوبته الأهوال والشدائد التي تُصيبه.
ومنهم من يدخل النار ويُعذب فيها، وقد تواترت الأخبار عن النبي أنه يدخل النار جُملة من مرتكبي الكبائر، مؤمنون، مصدقون، موحدون، ولا تأكل النار مواضع السجود، وتلهبهم النار، وليسوا كالكفار، الكفار تغشاهم النار من جميع الجهات –نعوذ بالله-، تصلونهم من جميع الجهات، بخلاف المؤمن العاصي فلا يكون كذلك، لا تغشاهم من جميع الجهات، أولئك: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف:41].
وأما العُصاة فإنهم لا يكونون كذلك، ولا تصلاهم النار من جميع الجهات، ولا تأكل مواضع السجود، ويُعذبون بقدر جرائمهم.
ومنهم من يطول مُكثه بسبب كثرة المعاصي والذنوب، أو من بغضها وفحشها، كالقاتل أخبر الله أنه يُخلَّد، والخلود خلودان:
خلودٌ مؤبدٌ لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة.
والثاني: خلودٌ مؤمَّد، له أمدٌ ونهاية، وهذا خلود بعض العُصاة الذين عظُمت وغلظت معاصيهم، كالقاتل أخبر الله عنه أنه يُخلد، ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾[النساء:93]، والخلود طويل، تقول العرب: أقام فأخلد، أقام في المكان فأخلَدَ.
وهؤلاء يشفع لهم الشفعاء، يُشفع الله فيهم الشفعاء، الأنبياء يشفعون لهم، والأنبياء يشفعون لهم، والأفراط يشفعون، والصالحون يشفعون، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يشفع أربع شفاعات، كل مرةً يحد الله لهم حدًا فيُخرجهم بالعلامة، في المرة الأولى يقول الله له: أخرج من كان في كان في قلبه مثقال قُرة أو حبة من خردل، أو ذرة من إيمان، ويُقال له في المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه نصف مثقال حبة خردل من إيمان، وفي المرة الثالثة يُقال له: أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، وفي الرابعة يُقال له: أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، ويُخرجهم بالعلامة.
وفي هذا دليل أو علامة على أن المعاصي ولو كانت عظيمة لا تبلى الإيمان، ولا يبلى الإيمان بالمعاصي، متى ينتهي الإيمان؟ إذا جاء الكبر الأكبر أو الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر فهذا يقضي على الإيمان، أما المعاصي والكبائر ولو كثرت ولو عظمت لا تقضي عليه.
ولهذا هؤلاء العُصاة بقي شيءٌ من الإيمان خرجوا به من النار، لو انتهى الإيمان ما خرجوا من النار، هذا في آخر مرة، والحديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأحاديث كلها صحيحة، يُقال له: أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، شيءٌ قليل خرجوا به من النار، وتبقى بقية لا تنالهم شفاعة، فيُخرجهم رب العالمين برحمته، شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم تبقى إلى رحمة أرحم الراحمين، فيُخرج قومًا يقولون: لم نعمل خيرًا قط، قال العلماء: يعني زيادة عن التوحيد والإيمان، أما من لم يكن من أهل التوحيد والإيمان فهذا معروف يكون كافرًا مخلدًا في النار –نسأل الله السلامة والعافية-.
وثبت أنه يخرج منها (00:33:00) قد امتحشوا وصاروا فحمًا، ثم يُصب عليهم من نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة البذرة في منحدر السيل، فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذن لهم بدخول الجنة.
وهذا يدل على أن بعضهم يتأخر في دخول الجنة، لكن مآلهم إلى الجنة، ودخولهم للنار دخول تمحيص وتطهير، وإزالة الخبث الذي أصابهم؛ لأن الجنة دار الطيبين لا يدخلها إلا الطيبين، وهم عندهم خبث، فلا يدخلونها وهم عندهم خبث، فهم قد عفى الله عنهم زال عنهم الخبث، ومن عُذِّب في قبره زال عنه الخبث، ومن شَفَّع الله فيه زال عنه الخبث، ومن دخل النار فهذا يزول خبثهم بدخول النار، فيخرجون منها طيبين، فيدخلون دار الطيبين وهي الجنة، لا يدخلها إلا الطيبون، أما الخبث لا يدخل، فيدخلون الجنة ويكونون هم الصنف الثالث من أصناف أهل الجنة، يدخلون الجنة كلهم برحمة الله.
ودخول الجنة برحمة الله، ولكن العمل سبب، العمل سبب، فمن جاء بالسبب نالته الرحمة، ومن لم يأت بالسبب لم تنله الرحمة، قال الله –تعالى-: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل:32]؛ هذه الباء سببية.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ الْجَنَّةَ بعَمَلُهُ. قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا أنا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ»؛ هذه الباء باب عِوض، (00:35:18) لن يدخل أحد الجنة عِوضَ عمله، ما يدخل الجنة أحد بعمله، وإنما يدخلها برحمة الله، لكن العمل سبب.
الباء التي في الإثبات: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل:32]؛ هذه باء السببية، والباء التي في النفي باء العِوض.
وقد غلِط المعتزلة عكسوا وقالوا: إن العمل ثمن وعِوض، وقالوا: إن العبد يدخل وفاء نفسه، ويقولون: إنه يجب على الله أن يُثيب المُطيع ويُعاقب العاصي؛ لأنهم يقولون: هذا عمله، عرق جبينه، كأنهم يقولون: ما لله فضل علي، هذا عرق جبينه، يجب على الله أن يُثيب المُطيع، كما يجب عليه أن يُعاقب العاصي لأن الله لا يُخلف وعده، هكذا قومٌ يعملون بعقولهم.
معروف أن المعتزلة يعملون بالعقل حتى قال بعضهم من غُلُوهم في قوله –تعالى-: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]؛ فقالوا: الرسول العقل.
فأهل الجنة يدخلون الجنة برحمة الله، ولكن العمل سبب، من جاء بالسبب نالته الرحمة، قال –تعالى-: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾[الأعراف:156]؛ والتقي هو المؤمن، فرحمة الله للمتقين، فهم يدخلون الجنة برحمة الله، ثم يتقاسمون درجات الجنة بأعمالهم، يتقاسمون الدرج والغرف بالأعمال، ويدخلون الجنة برحمة الله –سبحانه وتعالى-.
هؤلاء الأصناف الذين يدخلون الجنة ذكرهم الله –تعالى- في سورة فاطر، قال الله –تعالى-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾[فاطر:32]؛ ثلاثة أصناف، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾؛ كلهم ورثوا الكتاب، وكلهم اصطفاهم الله.
حتى العاصي اصطفاه الله لأنه مؤمن بالإيمان، من كان عنده نقصٌ، ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾[فاطر:32-33]؛ كلهم.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة أو الأصناف الأربع وهم: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون؛ هم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، هم المُنعَم عليهم.
وفي سورة الفاتحة التي هي أعظم سورة في القرآن بيان أصناف الناس وأنهم ثلاثة: مُنعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين، وهذه السورة التي هي سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن، ولم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في التوراة مثلها، فيها التوحيد والإلهيات، وإثبات البعث والمعاد، وفيها أركان الإيمان: المحبة، والخوف والرجاء.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة:2]؛ دلت على رُكن العبادة: المحبة.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾[الفاتحة:3]؛ الرجاء.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة:4]؛ الخوف.
وهذا ثناءٌ على الله وتمجيد، وتعليمٌ للمؤمن بأن يُثني على ربه ويُمجد ربه قبل الدعاء.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة:4]؛ ثم قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]؛ (00:39:05) وتصرف لله الاستعانة، ثم جاء الدعاء: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة:6-7]، هذا أعظم دعاء، وأنفع دعاء، وأجمع دعاء، وحاجة العبد إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجة إلى النَّفَس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب مات الجسد، والموت لا بد منه، ولا يظن الإنسان الموت إذا مات وهو موحد مستقيمٌ على طاعة الله، لكن إذا فقد الهداية مات روحه وقلبه وصار إلى النار، وصار فقده الهداية أعظم من فقده للطعام والشراب.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ اهدنا ودلنا وأرشدنا وثبتنا يا الله على الصراط المستقيم، ما هو الصراط المستقيم؟ قيل: هو الإسلام، وقيل: هو الإيمان، وقيل: هو الإحسان، كلها حق، ديننا هو الإسلام.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾؛ الذين أنعم الله عليهم هم الأصناف الأربعة الذين سمعت: الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، بدليل آية النساء، قول الله –تعالى-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء:69].
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، هؤلاء هم المهتدون، هم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل.
ثم قال الله –تعالى-: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾؛ غير صراط المغضوب عليهم، المغضوب عليهم وهم: الذين يعلمون ولا يعملون، ويدخل في ذلك اليهود دخولًا أوليًا، الذين يعلمون ولا يعملون، حلت عليهم الغضب، غضب الله، فهم أمةٌ غَضَبية وقع عليهم الغضب، فهم غاوون؛ لأنهم تركوا العمل مع العلم، ومن فسد من علماء هذه الأمة فله شبهٌ باليهود كما قال سُفيان بن عُيينة، من فسد من علماء هذه الأمة فله شبه باليهود.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ يعني غير صراط المغضوب عليهم، غير صراط الضالين، الضالون الذين يعملون بدون علم، ما في علم، يعملون بالجهل، أهل الضلال، ويدخل في ذلك دخولًا النصارى، وفسد من عُبَّاد هذه الأمة ولهم شُبه كالزُّهاد والصوفية وغيرهم ومن يتعبدون بالجهالات يدخلون في هذا.
فهما داءان:
داء الغواية.
وداء الضلال.
داء الغواية هو الذي يترك العمل مع العلم، هذا غضب، مغضوبٌ عليهم.
وداء الضلال هو الذي يعمل بدون علم، وقد برأ الله نبيه الكريم عن هذين الوصفين الغواية والضلال، لقوله –تعالى-: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾[النجم:1-2]؛ وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فليس غاويًا ولا ضالًا، بل هو راشد.
الناس أقسام ثلاثة:
إما غاوي، وهو الذي يعلم ولا يعمل.
وإما ضال، وهو الذي يعمل بدون علم.
وإما راشد، وهو الذي يعمل بعلم.
فهذه السورة وهي سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن، كما أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وهي سبع آيات، وهي السبع المثاني من القرآن العظيم؛ اتفقوا على أنها سبع آيات، سبع آيات لم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وهي ركنٌ في الصلاة لا تصح صلاة إلا بها في كل ركعة، الإمام والمنفرد ركنٌ في حقه، فلو ترك الفاتحة أو حرفًا منها لم تصح صلاته.
وكذلك المأموم في الصلاة السرية، وفي الصلاة الجهرية فيها خلاف: منهم من قال: في الصلاة الجهرية تكفي قراءة الإمام، ومنهم من قال: هي واجبةٌ في حق المأموم واجبٌ مخفف، تسقط إذا نسيها أو جاء والإمام راكع، أو لم يبقى وقتٌ لقراءتها، أو قلَّد من يقول بعدم قراءتها، فهي واجبٌ مُخففٌ في حق المأموم، ولكنها ركنٌ في حق الإمام والمنفرد.
فلو ترك حرفًا منها لم تصح الصلاة، أو لحَن فيها لحنًا يُحيل المعنى بطلت الصلاة، وهي سبع آيات أولها ما هي؟ فيه قولان:
القول الأول: أن أول آية هي: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾، والثانية: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، والثالثة: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والرابعة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، والخامسة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، والسادسة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، والسابعة طويلة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾.
والقول الثاني: أن البسملة ليست من الفاتحة، ولكنها آيةٌ مستقلةٌ مستحبةٌ قراءتها في أول السورة أو تفصل بين السور، وإنما الآية الأولى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، والثانية: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والثالثة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، والرابعة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، والخامسة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، والسادسة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، والسابعة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾.
أي القولين أصح؟
القول الأول أن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾؛ الآية الأولى؛ هذا هو الموجود في المصاحف الآن، لو فتحت المصحف تجد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ رقم واحد مكتوبة، أليس كذلك؟
لكن الصواب القول الثاني وهو: أن الآية الأولى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ وأن البسملة والتعوذ مُستحب، قراءتهما مستحبة، ما الدليل على الترجيح هذا؟
الحديث القدسي في صحيح مسلم: يقول الله –تعالى-: «قَسَمْتُ الصَّلَاة بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»، فالصلاة المراد بها: الفاتحة، من أسماءها، من أسماءها: الصلاة، الحمد، وأم القرآن.
«قَسَمْتُ الصَّلَاة بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ عَبْدِي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَأَثنْىَ عَلَيّ»، ولو كانت الآية الأولى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ لقال: فإذا قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾.
ولو كانت الآية الأولى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ لبطلت صلاة بعض الناس الذين لا يقرؤونها أو بعض الأئمة الذين لا يقرؤون في الجهرية كما تسمع بعض الأئمة في الصلاة الجهرية إذا قام للركعة الثانية قال: الله أكبر، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ما في وقت الآن، أنت تسمعه الآن، ما سكت للبسملة، أليس كذلك، الله أكبر، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هل بسمل؟ ما في بسمل، وإن سقطت آية كاملة فإن الصلاة باطلة، إذا سقط حرف فكيف إذا سقطت آية.
لكن على القول الثاني فإن الصلاة صحيحة؛ لأن البسملة سنة، قراءتها سنة، وهذا هو الصواب.
فطلب العلم يعني من أجل القربات وأفضل الطاعات، فالمسلم عليه أن يُجاهد نفسه على الإخلاص، وأن يكون تعلُّمه وتعليمه لوجه الله، لا رياء ولا سمعة، ولا الدنيا، ولا الوظيفة، ولا لأي شيءٍ آخر؛ لأن العبادة لا بد من إخلاصها لله.
فصرف العبادة لغير الله شرك، بخلاف من تعلم الطب والصيدلة أو الهندسة أو الكيمياء أو الكهرباء أو غير ذلك؛ إن هذا لا بأس، هذه علوم دنيوية وإذا تعلمها له أجر، لكن ما في مانع يتعلمها لأجل الدنيا، لكن العلم الشرعي لا، ليس طريقًا للدنيا، إذا كان إنسانٌ يُريد الدنيا ادخل في معترك الحياة الشركات، والمؤسسات، والمصانع، وغيرها، أما أن يجعل العلم الشرعي طريقًا للدنيا فهذه من المصائب.
فالإنسان يُعالج نفسه، يُجاهد نفسه، والمجاهد موعودٌ بالهداية، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت:69]، ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾[العنكبوت:6]، قال بعض السلف: تعلَّمها لله فأبى إلا أن يكون لله.
وعندي لكم محاضرة إن شاء الله في هذا الفصل، واحدة في الرسالة التدمرية بالاشتراك مع فضيلة الشيخ الدكتور/ أبو بكر سالم الشحات، ثلاثة محاضرات، وهو محاضرة، وهذا فيكون عندي لكم الآن إن شاء الله نأخذ الدرس القادم الفصل الأخير من التدمرية وهو: التوحيد في العبادات، آخر الرسالة التدمرية إن شاء الله سنبدأ فيها في الدرس القادم، ويكون معكم الكتاب نشرح الأول ثم نقرأ الكتاب، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وفق الله الجميع.