شباب! قبل أن نبدأ، بسم الله الرحمن الرحيم، الشيخ لا يرضى أن يصور، فلذلك لا أحد يطلع جواله ويصور قبل أن نبدأ، بارك الله في الجميع.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
نحن الليلة سعداء بفضل الله علينا وعليكم بالالتقاء بهذه الكوكبة من الإخوة الدارسين في الدورات الشرعية في المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات الصناعية القديمة، وبفضل الله علينا وعليكم أنه تيسر زيارة الشيخ جزاه الله خيرًا لنا في هذه الليلة، والشيخ ممن هم مشغولون كثيرًا، لكنه جزاه الله خيرًا اقتطع من وقته جزء للقاء بكم، فنسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يكون هذا اللقاء مباركًا له ولنا جميعًا، فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي هو علم معروف، الأستاذ الدكتور في جامعة الإمام، ونسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ننتفع بما نقول، وأن نستفيد من هذه الكلمات التي نسمعها منه فليتفضل مشكورًا.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله من خلقه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإني أحمد الله إليكم، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه أن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، وألا يجعل فينا ولا منا شقيًا ولا محرومًا، كما أسأله سبحانه أن يجعل اجتماعنا هذا جمع خير وعلم ورحمة تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده.
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»، وفي بعض ألفاظ الحديث ليس فيه بيت من بيوت الله، لا يشترط أن يكون في المسجد، فهذا الاجتماع تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، سواء كان في المسجد أو في غير المسجد.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع متصف بهذه الصفات، تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في العمل والصدق في القول.
أيها الإخوان! إن تعلم العلم وتعليمه والتفقه في دين الله والتبصر في شريعة الله من أهم المهمات، ومن أفضل الطاعات، ومن أجل القربات، فتعلم العلم وتعليمه قربة إلى الله يتقرب بها المسلم، يتقرب المسلم إلى الله بأن يتعلم، ويتفقه ويتبصر في شريعة الله، يتقرب إلى الله بذلك، فهذه عبادة، والعبادة لا تصح ولا تكون نافعة ولا مقبولة عند الله إلا إذا بنيت على أصلين: الأصل الأول أن تكون هذه العبادة خالصة لله، مراد بها وجه الله والدار الآخرة، يكون الإنسان الذي يتقرب إلى الله بالصلاة أو بالزكاة أو بالصوم أو بالحج أو بتعلم العلم أو بتعليمه أو بالدعوة إلى الله أو بالجهاد في سبيل الله أو ببر الوالدين أو بصلة الأرحام أو ببذل المعروف أو بكف نفسه عن المحرمات أيضًا، لا بد أن ينوي بذلك وجه الله والدار الآخرة؛ لأنها عبادة، الفرق بين العبادة والعادة النية والإخلاص، لا بد أن تكون خالصة إلى الله، مراد بها وجه الله والدار الآخرة.
فإن أردت بصلاتك أو صيامك أو حجك أو برك للوالدين أو تعلمك العلم أو دعوتك إلى الله أردت الدنيا، أو أردت الشهرة أو الرياء والسمعة فاعلم أن عملك حرام مردود عليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه العبادة باطلة وحابطة، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65]، قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23]، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88].
والأصل الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لشرع الله، وصواب على هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، موافقة للشرع، لا يتعبد الإنسان بعبادة مبتدعة مخترعة، ليس لها دليل من الكتاب والسنة، لا بد أن تكون العبادة جاء بها الشرع، جاءت هذه العبادة في كتاب الله أو في سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسنة وحي ثان، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، لا بد أن تكون هذه العبادة موافقة لشرع الله، وصواب على هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هذان الأصلان لا بد منهما، لا بد لكل مسلم أن يلاحظ هذين الأصلين في كل عبادة تعبد بها إلى الله، والله تعالى قد بين هذين الأصلين في كتابه العظيم، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110].
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾[الكهف:110]، هذا الشرط، أن يكون العمل موافقًا لشرع الله، فالعمل الصالح ما كان موافقًا للشرع، ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، والعمل الذي ليس فيه شرك هو الخالص لله، فتبين أنه لا بد من هذين الأصلين، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[لقمان:22]، وإسلام الوجه هو إخلاصه لله بأن يكون العمل خالصًا لله.
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[لقمان:22]، الإحسان: أن يكون العمل موافقًا للشرع، قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة:112]، وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، الأعمال بالنيات، ثم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، الأعمال بالنيات، ودل على الأصل الثاني وهو أن يكون العمل موافقًا لشرع الله ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي لفظ لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد».
إذن فهذان الأصلان لا بد من تحققهما في كل عبادة، أن يكون العمل خالصًا لله، مرادًا به وجه الله والدار الآخرة، وإذا تخلف هذا الأصل حل محله الشرك.
والثاني: أن يكون موافقًا للشريعة، صوابًا على هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإذا تخلف هذا الأصل حل محله البدع.
والأصل الأول وهو الإخلاص لله: هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والأصل لله وهو المتابعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، فأصل الدين وأساس الملة أن تشهد لله تعالى بالوحدانية، وأن تشهد لنبيه محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هما أصل الدين وأساس الملة، بهما يدخل الإنسان في الإسلام، وبهما يخرج من الدنيا، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فإذن أنتم الآن والحمد لله تطلبون العلم، فعلى كل واحد منا أن يجاهد نفسه على الإخلاص، أن يكون قصده وجه الله والدار الآخرة، حتى يتفقه ويتوصل في شريعة الله، حتى ينقذ نفسه من الجهل وينقذ غيره.
قيل للإنسان أحمد رحمه الله: ماذا ينوي؟ قال: ينوي أن يرفع الجهل عن نفسه، ثم يرفع الجهل عن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[النحل:78]، فأنت تنوي أن ترفع الجهل عن نفسك حتى تعبد الله على بصيرة؛ لأنك مخلوق لعبادة الله، لماذا خلقنا؟ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، والعبادة هي التوحيد، وبها بعث الله جميع الرسل، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وكل نبي بعثه الله يبدأ دعوة قومه بالدعوة إلى التوحيد بادئ ذي بدأ، كل نبي يدعوا إلى التوحيد، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[المؤمنون:23]، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[الأعراف:65]، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[الأعراف:73]، ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[الأعراف:85]، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25].
فالعبادة حق الله، وهي التي خلق الخلق من أجلها، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، ومن فقهه الله في دين الله فهذا من علامة الخير، من علامة الخير أن يتجه الإنسان إلى طلب العلم، التعلم الشرعي، هذا من علامات إرادة الله للعبد الخير، ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، قال العلماء: هذا الحديث له منطوق وله مفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا، ومفهومه: أن من يفقه في الدين لم يرد به خيرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذن فأنتم والحمد لله على خير، أنتم على خير عظيم، عليكم أنت تجاهدوا أنفسكم على الإخلاص، وأن تحرصوا أيضًا على طلب العلم والتعلم والتفقه في شريعة الله، والتبصر في دين الله، حتى تعبدوا الله على بصيرة أولًا، ثم بعد ذلك تدعون، تعملون بما تعلمتم، وبما صلكم من العلم ثم تدعون غيركم، تدعون من وراءكم، هنا في بلادكم وبين أهليكم وإخوانكم وقبائلكم ومجتمعاتكم تدعونه، حتى تكونوا من عباد الله، من الدعاة إلى الله، فإن الإنسان إنما يكون من الدعاة العاملين الصابرين على الدعوة، يكون من أهل الربح، من الرابحين، السالمين، الناجين من عذاب الله، فإن الله تعالى حكم على جميع الناس بالخسران إلا من اتصف بهذه الصفات، في قوله سبحانه، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾[العصر:1/3].
هذه السورة القصيرة قال فيها الإمام الشافعي: لو ما أنزل الله على عباده حجة إلا هذه الآية لكفتهم، الله تعالى أقسم بالعصر وهو الزمان على الصحيح، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وهو الصادق سبحانه وتعالى، أقسم لأهمية الأمر، ولعظم هذا المقام، ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾[العصر:1/2]، الإنسان جنس، كل إنسان في خسران، كل إنسان في خسر ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾[العصر:3]، هذه صفات الرابحين، من اتصف بهذه الصفات سلم من الخسران، ومن ضيع هذه الصفات الأربع تم خسرانه، ومن نقص منها شيئًا فاته شيء من الربح، وحصل على شيء من الخسارة بقدر تقصيره فيها، {إلا الذين آمنوا}، والإيمان مبني على العلم والبصيرة، ليس هناك إيمان بلا علم وبصيرة، يعني تعلموا وتفقهوا وتبصروا فآمنوا، والعلم يسبق القول ويسبق العمل، ليس هناك عمل إلا بعلم، وليس هناك قول إلا بعلم، لا تتكلم إلا بعلم، ولا تعمل إلا بعلم، قال الله تعالى في كتابه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد:19]، ولهذا بوب الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- في صحيحه، باب العلم قبل القول والعمل، ثم استدل بهذه الآية: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[محمد:19]، أن تتعلم وتتبصر ثم بعد ذلك تتكلم وتعمل، لا تتكلم ولا تعمل إلا على بصيرة، {إلا الذين آمنوا}، هذا الإيمان مبني على العلم.
ثم بعد ذلك العمل {وعملوا الصالحات}، الواجبات والمستحبات، الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد في سبيل الله، الإحسان إلى الجيران وصلة الأرحام، كف نفسك عن المحارم هذا كذلك لا بد له من نية، تكف نفسك عن المحرمات طاعة لله ولرسوله، فهذا العمل يأتي بعد العلم، الإيمان يأتي بعد العلم، الإيمان مبني على العلم ثم يأت العمل، أداء الواجبات والمستحبات، هذه الصالحات، الصالحات تكون بما شرعه الله من العبادات القولية والفعلية، الواجبة والمستحبة، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.
ثم بعد ذلك: {وتواصوا بالحق}، هذه الدعوة إلى الله، الدعوة إلى الله، بعد أن تتعلم وتعمل بعد ذلك من الله عليك بالعلم، ومن الله عليك بالعمل بعد ذلك تقوم بالدعوة، هذا الخير الذي من الله به عليك توصله إلى غيرك، تدعو غيرك، تنفع غيرك، تقتضي بالأنبياء والرسل والدعاة إلى الله، تدعوا، {تواصوا بالحق} أي: تكون داعيًا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وداعية، تدعوا الناس إلى هذا الخير فيكون لك مثل أجور من تبعك، يكون لك من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، هذا فضل الله.
وإذا قمت بالدعوة والأمر والنهي وتعلم التعليم فاعلم أن طريق الدعوة إلى الله ليس مفروشًا بالورود بل هناك متاعب ومشاق؛ لأنك تقف أمام الناس في رغباتها فلا بد أن يؤذوك، فينالك كلام سيء وينالك أذية بالفعل والقول فلا بد من الصبر، لا بد أن تصبر، وتتحمل، فإن لم تصبر [00:16:28]، لا بد من الصبر، {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، والصبر ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صبر على طاعة الله، تؤدي الطاعة فلا بد من الصبر، لا بد أن تصبر حتى تؤدي هذه الطاعة، هذه العبادة التي تؤديها، لا بد من الصبر حتى تؤديها.
ثانيًا: صبر عن محارم الله، المعصية لا بد أن تصبر حتى تكف نفسك عن المحرمات، لا بد من هذا.
ثم النوع الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، إذا أصبت بمصيبة في نفسك وفي أهلك وفي مالك فلا بد أن تصبر.
فمعنى الصبر: هو أن تحبس نفسك على الجزاء، وتحبس اللسان عن التشكي، وتحبس الجوارح عما يغضب الله، هذا الصبر، حبس النفس عن ..... التشكي، البعض تشكى، يشكو ربه للمخلوق! يقول: أنا كذا!
بعض الناس إذا أصيب بمصيبة تجده يشكو ربه، ويمن على الله، يقول: أنا أصلي وصائم لماذا لم يصب الناس شيء وأصابني، وأنا أصلي وأصوم، ماذا فعلت حتى تأتيني هذه المصيبة؟! تشكو ربك؟! المصيبة هذه في رفع الدرجات وتكفير للسيئات، تشكو ربك للمخلوق، إذن المصائب لا تصيب غير المصلي وغير الصائم، لماذا أصاب بالمصائب والناس ما أصابهم؟ المصائب يصاب بها الأنبياء، «أشد الناس بلاء الأنبياء»، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرضه كان يوعك كما يوعك الرجلان، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا رسول الله! إنك توكع كما يوعك الرجلين! قال: نعم، قال: أذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم، قال: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، «يصاب الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه، وإن كان دون ذلك فله مثل ذلك»، أو كما جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فلا بد من الصبر على أقدار الله المؤلمة، تحبس نفسك عن الجزع، ما يكون عندك هلع وجزع، وتحبس لسانك عن التشكي فلا تشكو، وتحبس جوارحك عما يغضب الله، فلا تلطم خدًا ولا تشق ثوبًا ولا تنتف شعرًا ولا يكون لك صياح وصراخ وعويل، بعض الناس يكون عنده صراخ وعويل وصياح عندما يصيبه شيء، هذا منهي عنه، منهي عن الصراخ؛ لأن العويل والصراخ ورفع الصوت هذا يدل على التسخط على قضاء الله وقدره، لكن دمع العين، وحزن القلب هذا ليس فيه شيء، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم»، وأشار إلى لسانه، ولما مات ابن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصغير (إبراهيم) قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»، فدمع العين وحزن القلب لا شيء فيه، لكن الصراخ والصياح والعويل والندب وإعلان محاسن الميت، هذا منهي عنه، هذا من النياحة، النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برئ من السالقة والحالقة والشاقة، كذلك أيضًا شق الثوب، بعض الناس ويكون في البادية تشق ثوبها إذا أصابها مصيبة، هذا نوع من التسخط، أو نتف الشعر، أو لطم الخد، كل هذا منهي.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «برئ من الحالقة والسالقة والشاقة»، فالسالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، فلا بد من الصبر على أقدار الله المؤلمة، أن تكون داعية، إن أصابك أذى بكلام وغيره لا بد أن تصبر، كذلك إن أصبت بأي مصيبة في غير الدعوة إلى الله، لا بد أن تصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا تجزع ولا تسخط، فهذه صفات الرابحين، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
فأنت والحمد لله على خير عظيم فعليكم أن تجتهدوا في طلب العلم، أولًا: تجاهدوا أنفسكم على الإخلاص، يكون قصدك وجه الله والدار الآخرة، تتعلمون وتتفقهون في دين الله، ولتدعون عباد الله، ولتعملون بدين الله، تتعلم حتى تنقذ نفسك من الجهل، وتعمل بدين الله، وتدعو غيرك، تصبر على ما يصيبك من الأذى.
كذلك أيضًا من صفات طالب العلم: الحرص على طلب العلم ويكون عنده يقظة، متيقظ فإذا تكلم المتكلم أو الداعية يكون عنده يقظة، وتسجيل أيضًا الفوائد، تسجيلها وسماعها مرة أخرى في الشريط حتى يستفيد، وكذلك أيضًا المباحثة، التباحث مع غيرك من إخوانك في الفوائد التي استفدتها وهكذا.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يثبتنا على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.