● [3671] قوله: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر»؛ أشمط يعني: من شمطه الشيب، أي: ليس فيهم من شابَ شعر رأسه غير أبي بكر؛ لأن أبا بكر أسرع إليه الشيب. وقوله: «فغلفها بالحناء والكتم»، يعني: خضب لحيته بالحناء والكتم.
● [3672] قوله: «فكان أسن أصحابه»، يعني: أكبرهم سنًّا.
قوله: «حتى قنأ لونها» أي: حتى اشتدت حمرتها.
والسنة المؤكدة أن الشيب يغير ولا يترك أبيض، وأنه يغير بالحناء والكتم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن اليهود والنصارى لا يخضبون فخالفوهم»([1])، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قحافة والد أبي بكر، وقد جيء به ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا: «غيروا هذا وجنبوه السواد»([2]).
إذن فالتغيير بالسواد حرام؛ لهذا الحديث.
و تحقيق المسألة: أن الخضاب بالسواد لا يجوز، لكن بعض العلماء أجازه؛ لفعل بعض السلف، وبعض الصحابة منهم: الحسن، والحسين ،خضبا بالسواد، فلعل هذا اجتهاد منه رضي الله عنها.
وذكر ابن القيم في «زاد المعاد»([3]) الخلاف في الخضاب بالسواد؛ فمن العلماء من أجازه لفعل السلف والصحابة، ومنهم من منعه، والصواب المنع؛ لهذا الحديث: «وجنبوه السواد».
ولكن بعضهم قال: «وجنبوه السواد» مدرجة من بعض الرواة، والصواب أنها ليست مدرجة.
فقد جاء الوعيد الشديد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «يأتي في آخر الزمان أناس كحواصل الطير يخضبون بالسواد لا يريحون رائحة الجنة»([4]).
فأبو بكر وعمر وعثمان خضبوا بالحناء والكتم؛ لأن الحناء أحمر والكتم نبت أسود، فإذا خلطهما صارت بين الحمرة والسواد، وصارت تضرب إلى الحمرة.
و الخضاب بالحناء والكتم أفضل، وإن خضبها بالحمرة الخالصة أو بالصفرة الخالصة فلا بأس.
وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم خضب أيضاً بالحناء والكتم([5])، لكن هذا ظن من بعض الرواة للخبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب؛ لأنه لم يشب؛ كما قال أنس: ليس في رأسه ولحيته عشرون شيبة([6])، وكان صلى الله عليه وسلم يستعمل الطيب كثيرًا فيحمر الشعر من كثرة استعماله الطيب؛ فيظن بعض الناس أنه خضب عليه الصلاة والسلام.
أما أبو بكر رضي الله عنه فأسرع إليه الشيب، وكان أسن أصحابه، ولهذا لما هاجر إلى المدينة كانوا يحيون أبا بكر يظنونه النبي صلى الله عليه وسلم.
لطيفة: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر بسنتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر توفي وهو ابن ثلاث وستين، وعمر توفي وهو ابن ثلاث وستين، وعلي توفي وهو ابن ثلاث وستين، وعثمان توفي وقد جاوز الثمانين رضي الله عنهم أجمعين.
● [3673] هذه المرأة التي «يقال لها: أم بكر»، تزوجها أبو بكر ثم طلقها لما هاجر، فتزوجها هذا الشاعر - وهو ابن عمها - وقال هذا الشعر لما قتل صناديد قريش في غزوة بدر وألقوا في القليب، فرثاهم بهذه القصيدة وتوجع لهم.
قوله:
«ماذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تزين بالسنام»
فمعنى الشيزى: شجر يتخذ منه الخشب، تصنع منه الجفان والقصاع، والجفنة: إناء كبير، يوضع فيه الطعام واللحم للضيفان، وكذا القصعة، والجفنة إذا كبرت دل ذلك على كرم القوم.
فمعنى هذا البيت: أن الذين قتلوا وسحبوا قوم كرماء لهم جفان وقصاع يعملون فيها الثريد ويجعلون فيها الطعام، ملأى بلحوم الإبل، ويقدمونها للضيفان مزينة بالسنام.
ثم قال:
«وماذا بالقليب قليب بدر |
من القينات والشرب الكرام» |
القينات: المغنيات
و قوله: «والشرب الكرام» الشَّرْبُ: بفتح الشين وسكون الراء الجماعة يجتمعون للشراب، وهم ندماء كرماء، والندماء هم الجماعة الذين يشربون الخمر.
و قوله: «تحيينا بالسلامة أم بكر» زوجته.
و قوله: «فهل لي بعد قومي من سلام» هل لي سلام بعد قومي الذين قتلوا يوم بدر.
ثم قال: «يحدثنا الرسول بأن سنحيا» بعد الموت، فكيف نحيا بعد؟!
و قوله: «وكيف حياة أصداء وهام»، فمعناه: كيف تحيا العظام والهام التي بليت وصارت في أصلها أوهام، فهو ينكر البعث لجهله وكفره - نسأل الله السلامة والعافية.
● [3674] قوله: «اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما»؛ في الرواية الأخرى: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»([7])، فهذه المعية معيتان: الأولى: معية خاصة من الله تبارك وتعالى، وهي خاصة بالمؤمنين، وهي صفة من صفات الله تعالى، ومعناها في اللغة المصاحبة، وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ والكلاءة والتسديد كما في هذا الحديث « اثنان الله ثالثهما»، وكما قال الله عز وجل في القرآن الكريم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]. هذا في الهجرة.
(لِصَاحِبِهِ)، يعني: صحبة خاصة في الغار، وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه لم يصل إليها أحد غيره من الصحابة يعني: هو الوحيد من بين الصحابة الذي ثبتت صحبته بالقران الكريم .
(إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) هذه أيضًا معية خاصة، ومثله قوله تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46] فهي معية خاصة بالمؤمن، جاءت في سياق المدح والثناء، وتجتمع في حق المؤمن معيتان.
ومثل هذا: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128] ، كلها معية خاصة.
الثانية: المعية العامة أي: عامة للمؤمن والكافر، فالله تعالى مع المؤمن والكافر بإحاطته واطلاعه ومشيئته ومجازاته ومحاسبته، ومقتضاها نفوذ القدرة والمشيئة والاطلاع والإحاطة، كقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [المجادلة: 7]، ومنه قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4] ، جاءت في سياق التهديد والمحاسبة والمجازاة.
ولما خاطب موسى وهارون ربهما عز وجل لما أرسلهما إلى فرعون كما حكى القرآن: (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)[طه: 45]؛ فقال الله تعالى: (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]. فهذه معية خاصة؛ فلما دخل معهم فرعون جاءت المعية العامة: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) [الشعراء: 15] ، فجاءت في سياق التهديد.
وأما قول أبي بكر رضي الله عنه: «يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما»، فمعناه أن الله معنا، حتى ولو طأطؤوا رؤوسهم ما رأونا، فمن حفظه الله فهو المحفوظ؛ ولهذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندهم وهم ينتظرون أمام بيته، وألقى الله عليهم النعاس، فذرَّ صلى الله عليه وسلم على رؤوسهم التراب([8])، وخرج وتركهم على حالهم.
أما قول الصديق: «لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا»، فيدل على أن أبا بكر يخشى على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من خشيته على نفسه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما»، وفي الرواية الأخرى: «لا تحزن إن الله معنا»([9])، فيه بيان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم.
● [3675] في هذا الحديث سؤال الأعرابي عن الهجرة من بلده أو من البادية إلى المدينة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ويحك! إن الهجرة شأنها شديد» لأن فيها من المشقة والغربة ومفارقة الأهل والأصحاب، ولم يوجب عليه الهجرة.
وفيه: دليل على أن الهجرة لا تجب على من يقدر على إظهار دينه، فمن كان في البادية ويستطيع إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة إلى القرى والأمصار، فالناس في الهجرة أنواع: الأول: من لا يستطيع إظهار دينه، فالواجب عليه أن يهاجر، فالهجرة واجبة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين، لا تراءى نارهما»([10])، وقال عليه الصلاة والسلام «من جامع مشركًا وسكن معه فهو مثله»([11])، يعني: من اجتمع معه وأقام، وهو وعيد شديد يدل على أنه من الكبائر، والله تعالى قد توعد الذين بقوا مع الكفار وماتوا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء: 97]؛ فهذا الوعيد الشديد يدل على أن من الكبائر بقاءهم بين الكفار.
وأما الاستثناء في قوله تعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء: 98، 99] فهو للعاجز من النساء والأطفال، والذين ليس لهم حيلة فهؤلاء معفو عنهم.
والثاني: ممن لهم حيلة، ويقيمون بين الكفار، ولا يستطيعون إظهار دينهم، فعليهم الوعيد الشديد، وهم مرتكبون لكبيرة من كبائر الذنوب متوعدون بالنار.
وكانت الهجرة أولًا من مكة إلى المدينة واجبة؛ لمفارقة الكفار، ونصرة الله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكثير سواد المسلمين، فلما فتحت مكة وصارت دار إسلام انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، وبقيت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وبقي الجهاد والنية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»([12]).
قوله: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئًا»، أي: لن ينقصك من ثواب عملك شيئًا، فاعمل من وراء البلدان والقرى ولو كنت بعيدًا، فإن الله تعالى لن ينقصك من عملك شيئًا، فما دمت تستطيع إظهار دينك، وتعطي صدقة إبلك، وتحلبها يوم وردها وتمنح منها، فاعمل في أي: مكان.
وقوله: «البحار»، أي: القرى الواسعة، وسميت بحارًا؛ لأنها واسعة ومنتشرة؛ كما جاء في الحديث أن عبد الله بن أبي كاد أن يتوجه أهل هذه البحيرة، ويعصبوه - أي: يملكوه عليهم - وذلك قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم([13])، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب أيلة: «اتركوا له بحره»([14]) أي: مدينته.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس الذي ركبه: «إن وجدناه لبحرًا»([15])، يعني: واسع الجري.
* * *
المتن
[74/54] باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة
● [3676] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأنا أبو إسحاق، سمع البراء قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال.
● [3677] وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانوا يُقرِئُون الناسَ، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يَقُلْن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فما قدم حتى قرأت (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) في سور من المفصل.
● [3678] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تَجِدُك؟ ويا بلالُ كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امـرئ مُصَبَّـحٌ فـي أهلـه والموت أدنى من شِراك نعلِه
وكان بلال إذا أُقلِع عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شِعري هل أبيتَنَّ ليلةً بـوادٍ وحَـوْلي إذْخِـرٌ وجليلُ
وهــل أَرِدَنْ يومًا مِيَـاهَ مَجَنَّـةٍ وهل يبْدُوَنْ لي شامَةٌ وطَفِيلُ
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد! وصحِّحْها! وبارك لنا في صاعها ومدها! وانقُل حُمَّاها فاجعلها بالْجُحفَة!».
● [3679] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا هشام، قال: أنا معمر، عن الزهري، قال: حدثني عروة بن الزبير، أن عبيدالله بن عدي بن الخيار أخبره، أنه دخل على عثمان.
وقال بشر بن شعيب: حدثني أبي، عن الزهري، قال: حدثنا عروة بن الزبير، أن عبيدالله ابن عدي بن الخيار أخبره قال: دخلت على عثمان، فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمداً بالحق، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمن بما بعث به محمد، ثم هاجرت هجرتين، ونلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعته، فوالله ما عصَيته ولا غشَشته حتى توفاه الله.
تابعه إسحاق الكلبي، قال: حدثنا الزهري... مثله.
● [3680] حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثنا مالك. وأخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيدالله بن عبدالله، أن عبدالله بن عباس أخبره، أن عبدالرحمن بن عوف رجع إلى أهله وهو بمنى في آخر حجة حجها عمر، فوجدني، فقال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الموسم يجمع رعاع الناس، وإني أرى أن تُمهِل حتى تقدمَ المدينة، فإنها دار الهجرة والسُّنَّة، وتخلُصَ لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم، وقال عمر: لأقومن في أول مقام أقومُه بالمدينة.
● [3681] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: أنا ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، أن أمَّ العلاء امرأةً من نسائهم بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، أن عثمان بن مظعون طار لهم في السُّكنى حين أقرعت الأنصار على سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى عثمان عندنا، فمرَّضته حتى تُوُفِّي وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يُدرِيكِ أن الله أكرمه؟!» قالت: قلت: لا أدري بأبي وأمي أنت يا رسول الله، فمَن؟ قال: «أما هو فقد جاءه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعَل به»، قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده، قالت: فأحزنني ذلك، فنمت فأُريتُ لعثمان عينًا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فقال: «ذلك عمله».
● [3682] حدثني عبيدالله بن سعيد، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم في دخولهم في الإسلام.
● [3683] حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم عندها يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تعازفت الأنصار يوم بُعاثَ، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان - مرتين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم».
● [3684] حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبدالوارث. ح وحدثني إسحاق بن منصور، قال: أنا عبدالصمد، قال: سمعت أبي يحدث قال: حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبعي، قال: حدثني أنس بن مالك قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في عُلْو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، قال: فجاءوا متقلدي سيوفهم، وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفُه وملأ بني النجار حوله حتى أَلقَى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم إنه أمر بالمسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني حائطَكم هذا»، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خِرَبٌ، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبِشت، وبالخرب فسوِّيت، وبالنخل فقُطع، قال: فصفُّوا النخل قبلةَ المسجد، قال: وجعلوا عِضادَتَيْه حجارةً، قال: قال: جعلوا ينقُلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقولون:
اللهم إنه لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة فانصُـرِ الأنصـارَ والْمُهاجِـرة
الشرح
هذا الباب في بيان «مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة».
● [3676] قوله: «أول من قدم علينا» يعني: أول من هاجر من مكة إلى المدينة، «مصعب ابن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار بن ياسر».
● [3677] قوله: «أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانوا يقرئون الناس»، أي: تقدموا قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهاجروا مبكرين؛ ليقرئوا الناس القرآن؛ ويعلمونهم أمور دينهم.
وقوله: «ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم»؛ قال أنس: «شهدت يوم قدوم النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أشد فرحًا من هذا اليوم، وما رأيت المدينة اشتد نورها في مثل هذا اليوم، وشهدتها يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فما أظلمت مثل ظلمة ذلك اليوم، وما حزن الناس حزنًا أشد من حزنهم ذلك اليوم».
وقوله: «حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم» الإماء: جمع أمة، وهي المملوكة.
قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: «في رواية عبد الله بن رجاء «فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم: جاء محمد رسول الله، الله أكبر، جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم»([16]).
وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس «فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار»([17])
قوله: «نحن جوار» جمع جارية، أي: بنيات صغيرات، وبنو النجار معروفون، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فما قدم حتى قرأت: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1] في سور من المفصل»؛ أي: أنه عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كنت قد أتقنت حفظ عدة سور من المفصل منها (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وكان البراء صغيرًا قريبًا من سن ابن عمر.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب»: «استصغر يوم بدر وكان هو وابن عمر لدة»([18]). واللدة: المقارب في السن، يعني: من أترابه.
قوله: «يا حبذا محمد من جار» يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الجوار.
قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: «وأخرج أبو سعيد في «شرف المصطفى»، ورويناه في «فوائد الخلعي» من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعًا: «لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا |
من ثنية الوداع |
وجب الشكر علينا |
ما دعا لله داع» |
وهو سند معضل، يعني: سقط منه أكثر من واحد، وهو مشهور لكنه منقطع.
ثم قال /: «ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك».
● [3678] لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة أصابتهم حمى شديدة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقل حمى المدينة، فنقلت إلى الجحفة.
قولها: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال»
أي: كلاهما أصابته الحمى.
قولها: «فدخلت عليهما»،يعني: دخلت عائشة على أبيها أبي بكر وبلال وقد أصابتهما الحمى.
قولها: «فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟»، تسألهما عن حالهما من أثر الحمى.
قولها: «فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله |
والموت أدنى من شراك نعله» |
لأن الحمى بريد الموت، فهو يتذكره. وشراك النعل: سير النعل الذي على ظهر القدم.
والمراد أن الموت أقرب إليه من سير النعل.
قولها: «وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته»، يعني: يرفع صوته ويتمثل بهذين البيتين:
«ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة |
بواد وحولي إذخر وجليل |
وهل أردن يوما مياه مجنة |
وهل يبدون لي شامة وطفيل» |
فهو يتذكر مكة وأوديتها وجبالها؛ فيشتاق إليها، و«الإذخر»: نبت طيب الرائحة، «وجليل»: نبت ضعيف، و«مجنة»: مياه في مكة، و«شامة وطفيل»: جبلان بمكة؛ فالصحابة يحبون مكة، وقد أصابتهم الحمى في المدينة وهم غرباء فيها فاشتاقوا إلى مكة.
قولها: «فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد! وصحِّحْها! وبارك لنا في صاعها ومدها! وانقُل حُمَّاها فاجعلها بالْجُحفَة»، يعني: أزل ما فيها من المرض، واجعل هواءها نقيًّا، وجوها صافيًا طيبًا.
والجحفة: قرية خراب، قيل: كانت مسكنًا لليهود، دعا بنقل الحمى إليها؛ إما لأنها لا تضر أحدًا لأنه ليس بها أحد، أو لأنها فيها يهود في ذلك الوقت، والجحفة ميقات الحج لأهل الشام.
● [3679] هذا الحديث في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان دخل عليه في أشياء نقموها عليه، وأحاطوا ببيته ولاموه، واختلقوا عليه أشياء لم يفهموها، منها أنه فرض الزكاة على الخيل، وأنه أتم الصلاة بمنى، وأنه ولى أخاه لأمه – الوليد بن عقبة - الكوفة، وكان الوليد يشرب الخمر.
قوله: «فتشهد» يعني: قال: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ بدأ خطبته بالشهادتين.
قوله: «أما بعد» فيه: مشروعية الإتيان بالشهادتين عند الكلام، وعند الخطبة، وعند الموعظة، ثم يقول الإنسان: أما بعد للدخول في لب الموضوع.
قوله: «فإن الله بعث محمداً بالحق، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث به محمد ثم هاجرت هجرتين» فالشاهد من الحديث هو الهجرة، فقد هاجر هجرتين: الهجرة الأولى: إلى الحبشة، والهجرة الثانية: إلى المدينة.
قوله: «ونلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم»، يعني: كان عثمان رضي الله عنه زوج ابنتيه رقية وأم كلثوم، تزوج إحداهما بعد الأخرى.
قوله: «وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله» فيه: أنه لا بأس أن يذكر الإنسان ما عمله من الخير إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لا مراءاة للناس، فعثمان رضي الله عنه قصد أن يدافع عن نفسه.
و يؤخذ من هذا:
أولًا: أنه لا ينبغي نشر عيوب الأمراء وولاة الأمور على المنابر؛ لأنه سيكون سببًا في الخروج عليهم، وسبباً في الفتن، وبسببه تجمع السفهاء وأصحاب الأهواء من البصرة ومن الكوفة ومن مصر، وأحاطوا ببيت أمير المؤمنين ونقموا عليه هذه الأشياء وقتلوه.
ثانيًا: أنه لا بأس أن يذكر الإنسان ما عمل من خير إذا دعته الحاجة إلى ذلك؛ للدفاع عن نفسه، إذ كان هؤلاء الثوار هضموا حقه وظلموه وأرادوا قتله.
● [3680] في هذا الحديث أن عمر أراد أن يخطب في آخر حجة له خطبة يوصي فيها بالخلافة لمن بعده، فأشار عليه عبد الرحمن ألا يخطب الخطبة في مكة، وإنما ينتظر حتى يقدم المدينة.
قوله: «إن الموسم يجمع رعاع الناس»، أي: موسم الحج، فإنه يجمع عامة الناس بطبقاتهم: سفهاء، وجهال، وأعراب، وغوغاء.
فخشي عبد الرحمن أن يسمع أحد من غوغاء الناس كلمة من عمر، فيحملها على غير وجهها، ويطير بها في المشارق والمغارب.
قوله: «فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم» المراد: أن المدينة فيها خلاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تكلمت عرفوا كلامك ووزنوه بميزانه.
والشاهد من ذلك أن المدينة هي دار الهجرة والسنة والسلامة.
● [3681] الشاهد من هذا إقراع الأنصار على سكنى المهاجرين وأن الأنصار آووا المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة.
قوله: «أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين أقرعت الأنصار على سكنى المهاجرين»، يعني: لما هاجر المهاجرون لم يكن لهم سكن ولا مال، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار فواسوهم بالأموال، فكان الأنصاري يقسم ماله بينه وبين أخيه المهاجري؛ حتى قال أخو عبد الرحمن بن عوف: إني ذو مال، أقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي زوجتان، انظر أيتهما أعجب إليك، أطلقها فإذا اعتدت تزوجها. فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فجعل يبيع ويشتري حتى رزقه الله وصار من الأغنياء.
وفي هذا الحديث أن الأنصار اقترعوا ليأخذ كل رجل منهم رجلاً من المهاجرين فكان من القرعة أن يسكن عثمان بن مظعون عند أم العلاء وزوجها.
قولها: رحمة الله عليك أبا السائب» أبو السائب كنية عثمان بن مظعون.
قولها: «شهادتي عليك لقد أكرمك الله»، أي: بالجنة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يُدرِيكِ أن الله أكرمه؟» هل تعلمين الغيب؟ كيف تشهدين له بالجنة؟ فيه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة لمعين بالجنة.
قولها: قلت: لا أدري بأبي وأمي أنت يا رسول الله، فمن؟» يعني: إن لم يكن هو من أهل الكرامة فمن يكون من أهلها؟
قوله عليه السلام: «أما هو فقد جاءه والله اليقين»؛ اليقين: الموت.
قوله صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأرجو له الخير وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل به» تحقيق المسألة فيه: أنه قال هذا القول قبل أن يعلمه الله أنه في الجنة؛ كما قال: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ)[الأحقاف: 9]. ثم بعد ذلك أعلمه الله أنه في الجنة، وأن أبا بكر في الجنة، وأن عمر في الجنة، وأن عثمان في الجنة، وباقي العشرة المبشرين أيضًا في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوحي من الله.
قولها: «فوالله لا أزكي أحدًا بعده»، يعني: أن عثمان كان صالحًا، ولما زكته أنكر علي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أزكي بعده أحداً.
قولها: «فأحزنني ذلك» أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليها.
قولها: «فنمت فأريت لعثمان عينًا تجري» أي: في المنام.
قولها: «فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فقال: «ذلك عمله» هذه بشارة عمله، هذه العين: عمله الصالح، وهذه رؤيا صالحة فسرها لها النبي صلى الله عليه وسلم.
و فيه: دليل على تعبير الرؤيا الصالحة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر قال: «هل رأى أحدكم رؤيا»([19])، فإن رأى أحد رؤيا عبرها له.
● [3682] قول عائشة رضي الله عنه: «كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله» كان يوم بعاث يوم حرب ضروس بين الأوس والخزرج، قتلت فيه مقتلة عظيمة، حتى قتل أشرافهم ورؤساؤهم، وافترقوا، فكان هذا كسرًا لحدتهم ونشاطهم، فكان هذا من أسباب دخولهم في الإسلام.
قولها: «فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم، وقتلت سراتهم في دخولهم في الإسلام» أي: كان هذا هو سبب مجيء جماعة منهم، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، فدخلوا في الإسلام، وهذا من فضل الله عليهم.
● [3683] الأصل في الغناء والمعازف التحريم؛ لقوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [لقمان: 6] فقد حلف ابن مسعود أن لهو الحديث هو الغناء، وقال تعالى في وصف المؤمنين: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان: 72]. وفي وصف عباد الرحمن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 3]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف»([20])
أما حديث الباب هذا فمستثنى من النهي عن الغناء والمعازف؛ لأن الجاريتين صغيرتان، وفي يوم عيد، وهو يوم فرح وسرور.
لكن بشرط عدم الاختلاط بالرجال وأمن الفتنة.
أما إنكار أبي بكر رضي الله عنه: بقوله: «مزمار الشيطان؟»، وفي لفظ: «مزمار الشيطان في بيت رسول الله؟» فإنه أنكر عليهم مرتين؛ لما وقر في قلبه من حرمة هذا العمل.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم»، فيدل على أن هذا مستثنى في يوم العيد والأعراس للجواري الصغار.
● [3684] قوله: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة، في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة».
قدم النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، فيكون بناء المسجد في آخر شهر ربيع الأول، يعني: في اليوم السادس والعشرين، لأربع أو خمس بقين.
قوله: «فجاءوا متقلدي سيوفهم»، أي: جاءوا بأسلحتهم استعداداً لأي: أمر يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فكان يصلي حيث أدركته الصلاة»؛ ذلك لأنه جعلت الأرض له صلى الله عليه وسلم مسجدًا وطهورًا؛ كما في الحديث: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل»([21]).
قوله: «ثم إنه أمر بالمسجد»، يعني: بادر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد؛ لأنه مجتمع الناس ومحل عبادتهم.
قوله: «فأرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني حائطكم»، أي: المكان الذي أراد أن يبني فيه المسجد، يعني: اذكروا ثمنه حتى أدفعه إليكم.
قوله: «فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله»، أي: ما نريد ثمنه، ونرجو جزاءه عند الله.
قوله: «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطع»، فيه: جواز قطع النخل للمصلحة الدينية أو الدنيوية، وجعل مكانه مسجدًا أو مدارس أو مساكن أو أراضي يبيعها؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخل بني النضير بشرط أن تكون للمصلحة الراجحة، وليس في هذا منكر.
قوله: «وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقولون:
اللهم إنه لا خيرالآ خرة الآخره |
فانصر الأنصار والمهاجرة» |
كان هذا الرجز يعينهم ويساعدهم، وقد تكرر ذلك أيضًا وهم يحفرون الخندق؛ لكن ليس بصوت جماعي، فكل واحد بمفرده يقول هذا:
«لبيك إن العيش عيش الآخرة الآخره |
فاغفر للأنصار والمهاجرة» |
ويقال:
«اللهم لا خير إلا خير الآخرة |
فانصر الأنصار والمهاجرة» |
ومن الأمثلة لذلك:
الأول: لما هدم اللات والعزى في الطائف، جعل مكانها مسجدًا، وهو مسجد العباس.
الثاني: لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أين تنزل في حجة الوداع؟ قال: «غدًا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر»([22]). فالمكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر نظهر فيه شعائر الإسلام، فإذا أزيلت القبور والمعابد التي يعبد فيها غير الله، فلا بأس أن يقام عليها مسجد، ويذكر فيه اسم الله.
الثالث: ما قام به بعض السلف في الشام أو في غيرها في بعض العصور أنه هدم بعض القبور التي تُعْبَدُ من دون الله، وأذن فوقها أذان الفجر.
وفي الحديث: أيضًا: جواز نبش قبور المشركين؛ لأنه لا حرمة لهم.
وفي الحديث: دليل على أنه: لا حرج أن يجعل مكان القبور مسجداً، ولابد من إزالة مظاهر الشرك وشعائر المشركين.
* * *
المتن
[75/54] باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه
● [3685] حدثني إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا حاتم، عن عبدالرحمن بن حميد الزهري قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز يسأل السائب ابن أخت النمر: ما سمعتَ في سكنى مكة؟ قال: سمعت العلاء بن الحضرمي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث للمهاجر بعد الصَّدَر».
الشرح
في هذا الباب بيان حكم إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه.
● [3685] في هذا الحديث أن المهاجرين من مكة قبل الفتح تحرم عليهم الإقامة بمكة، وابيح أن يقيموا إذا ذهبوا إلى مكة للحج أو العمرة يقيمون ثلاثة أيام لا يزيد عليها؛ لأنهم ما داموا تركوها لله فلا يجوز الرجوع إليها بالمكث فيها.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث للمهاجر بعد الصدر».
أخذ منه بعض العلماء أن من نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام وهو مسافر أتم صلاته، وقيل: أربعة أيام، وقيل: اثنا عشر يومًا، وقيل: عشرون يومًا، والجمهور على أنه من نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم، ومن قال: إن المدة التي يقصر فيها المسافر ثلاثة أيام، ولا يقيم بمكة أكثر منها بعد قضاء نسكه، أخذ بهذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: «ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين، قال النووي /: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة. وحكى عياض أنه قول الجمهور؛ قال: وأجازه لهم جماعة؛ يعني: بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه؛ قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجبا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي: بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق، انتهى كلام القاضي. ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة...)) ثم قال رحمه الله :وقال القرطبي /: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعني: به من هاجر من غيرها؛ لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإقامة بمكة؛ إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه؟ فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال: إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون ي فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليسلم له ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك. انتهى. وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم».
* * *
المتن
[76/54] باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ
● [3686] حدثنا عبدالله بن مسلمة، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد الساعدي قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مَقْدَمه المدينةَ.
● [3687] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأُولَى.
تابعه عبدالرزاق، عن معمر.
الشرح
التاريخ هو الوقت والزمن؛تقول: أرخت وورخت. وقيل: اشتقاقه من الأرخ وهو الأنثى من بقر الوحش،ووجبه المناسبة كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل: هو معرب.
وفي مبدأ التاريخ يقال: أول ما أحدث التاريخ من الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «من أين أرخوا التاريخ»، كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، وقد روى الحاكم في «الإكليل» من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزهري /: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول، وهذا معضل»، يعني: في سنده سقط اثنين فأكثر، ثم قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: «والمشهور خلافه كما سيأتي، وأن ذلك كان في خلافة عمر. وأفاد السهيلي أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)[التوبة: 108] ، لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقًا، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنًا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي: الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي، كذا قال، والمتبادر أن معنى قوله: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)، أي: دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، والله أعلم».
● [3686] قوله: «ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مَقْدَمه المدينة»، لأن يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثة ليسا محددين غير يقينًا، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، وأما الهجرة فهي التي أعز الله بها الإسلام؛ قال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها ولهذا أجمع الصحابة على أن يكون بدء التأريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد اجتمعوا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ليتشاورا من أين تبدأ السنة؟ فقال بعضهم: تبدأ من ربيع الأول الذي هاجر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: من رمضان، ثم اتفق الخلفاء الثلاثة على أن يكون تاريخ الهجرة من المحرم؛ لأن عمر وعثمان قالا: إن بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار في العقبة كانت في شهر ذي الحجة في موسم الحج سنتين متتاليتين، والشهر الذي يليه هو المحرم فكان هذا هو المرجح، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، قال ابن حجر رحمه الله : ((فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم))
وفي سبب عمل عمر رضي الله عنه التاريخ كما يقول ابن حجر أنهم ذكروا أشياء : (( منها ما أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في «تاريخه»، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي «أن أبا موسى كتب إلى عمر م: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ...))
ثم قال الحافظ : ((وقيل: أول من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن، أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى، وروى أحمد وأبو عروبة في «الأوائل»، والبخاري في «الأدب» والحاكم من طريق ميمون بن مهران، قال: «رفع لعمر صك محله شعبان فقال: أي: شعبان: الماضي، أو الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئًا يعرفونه» فذكر نحو الأول. وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب قال: «جمع عمر رضي الله عنه الناس فسألهم عن أول يوم يكتب التاريخ، فقال علي: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه»، وروى ابن أبي خيثمة من طريق ابن سيرين قال: «قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئًا يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا...)) ولما ساق الحافظ هذه الأثار عقب بقولة : ((فاستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي ي».
وهذا يدل على أن أول السنة المحرم، وما أرخ عمر رضي الله عنه التاريخ الهجري إلا في السنة السابعة عشرة، ومن هنا يتبين أن تهنئة الناس بدخول شهر المحرم باطل؛ لأن السنة السابعة عشرة لم يكن فيها تأريخ، ولأن الصحابة اختلفوا من أين تبدأ السنة؟ فقالوا: من رمضان، وقالوا: من ربيع الأول، ثم اتفقوا على أنها تبدأ من المحرم.
تنبيه :
مما تقدم تبين أن التاريخ من المحرم شيء حادث، فالتهنئة به باطلة ولا أصل لها عند دخول السنة.
● [3687]قول عائشة رضي الله عنها : «فرضت الصلاة ركعتين»، أي: بمكة؛ وقول: «تركت»، أي: على ما كانت عليه من عدم وجوب الزائد، بخلاف صلاة الحضر؛ فإنها زيدت في ثلاث منها ركعتان، فالمعنى: أقرت صلاة السفر على جواز الإتمام
– يعني: أربعًا «وإن كان الأحب القصر- يعني: ركعتين.
قولها: «ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى» فيه: أن الزيادة في صلاة الحضر وقعت بالمدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
المتن
[77/54] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أمضِ لأصحابي هجرتَهم»
ومَرثِيَتِه لمن مات بمكة
● [3688] حدثنا يحيى بن قَزْعة، قال: حدثنا إبراهيم، عن الزهري، عن عامر ابن سعد بن مالك، عن أبيه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حَجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا تَرثُني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قال: فأتصدق بشطره، قال: «الثلث يا سعد، والثلث كثير، إنك إن تذر ذُرِّيَّتَك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرك الله بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك»، قلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردَّهم على أعقابهم! لكن البائس سعد بن خولة!»، يَرْثِي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتوفَّى بمكةَ.
وقال أحمد بن يونس وموسى عن إبراهيم: «أن تذر ورثتك».
الشرح
ترجم المؤلف الباب على لفظ الحديث: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم» فهو يشير إلى أن الصحابة ي حينما هاجروا من مكة إلى المدينة إنما هاجروا لله ولنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهم تركوا مكة لله فلا يمكثون فيها بعد الصدر من حج أو عمرة إلا ثلاثة أيام فقط.
فأما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بقوله: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم» ففيه: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه؛ لأن المهاجر إذا رجع إلى البلدة التي تركها لله، كأنه ارتد على عقبه، وترك هجرته؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم أن ييسر الله تعالى لهم إمضاء الهجرة، وعدم الرجوع إلى البلد التي تركوها لله.
● [3688] قوله: «عن أبيه»، هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي أمره أمير المؤمنين عمر على الكوفة وشكاه أهل الكوفة، فقالوا: إنه لا يحسن الصلاة.
ثم عزله عمر رضي الله عنه درءًا للفتنة، فقال سعد رضي الله عنه: أما أنا فلا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنني أركد في الأوليين، وأخفف في الأخريين.
فقال عمر رضي الله عنه: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق.
و لما طعن عمر رضي الله عنه قال: الأمر في ستة، وجعل منهم سعد بن أبي وقاص، وقال: إن أصابت الإمارة سعدًا فذاك، يعني: فهو أهل لها، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وإنما عزلته درءًا للفتنة.
قوله: «عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت»، يعني: مرض في حجة الوداع مرضًا شديدًا، قارب به الموت، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «بلغ بي من الوجع ما ترى»، يعني: أخشى الموت.
قوله: «وأنا ذو مال ولا ترثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قال: فأتصدق بشطره، قال: «الثلث يا سعد، والثلث كثير» فيه: دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدق في مرض الموت بأكثر من الثلث، ولو كان ماله كثيرًا وكان لا يرثه إلا واحد، أما لو كان في زمن الحياة والصحة فيتصدق بما شاء.
قوله: «والثلث كثير»؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: «لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير»([23])؛ ولهذا أوصى بعض الصحابة - كالصديق وغيره - بالسدس، فالأولى أن يتصدق الإنسان بالسدس أو بالخمس أو بالربع.
قوله: «إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»؛ يبين الحكمة من قوله صلى الله عليه وسلم: «والثلث كثير»؛ لأنك إذا أوصيت وأبقيت جل المال للورثة حتى تغنيهم به فهو خير من أن تتركهم فقراء، «يتكففون الناس»، أي: يسألون الناس -بأكفهم- للحاجة.
قوله: «ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرك الله بها» فيه: دليل على وجوب الإخلاص؛ لأن الأعمال لا تتقبل بدون إخلاص وموافقة للشرع؛ لنوال الأجر والثواب عليها.
قوله: «ولست بنافق نفقة»، يعني: منفقًا، ونافق مشتقة من النفقة، ولم يرد في القاموس إلا: مُنْفِق ومُنَفِّق ونفقة؛ ويقال للموت: النفوق.
قوله: «حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك»، يعني: أن ما ينفقه الإنسان على أولاده وعلى زوجته فإن الله يأجره عليه إذا استحضر النية، وإلا فهو مأجور على أداء الواجب.
قوله: «قلت: يا رسول الله: أخلف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة» فيه: إشفاق سعد بن أبي وقاص وخوفه أن يموت أصحابه ويبقى هو؛ لكنه طالت حياته وشفاه الله من هذا المرض، وجاءه عدد من الأولاد،
وفيه: أيضًا أن طول الحياة مع حسن العمل زيادة في درجة الإنسان.
قوله: «ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون»:وهذا من علامات النبوة، فإن الله خلفه، وأطال عمره؛ حتى انتفع به أقوام في فتح فارس فهداهم الله للإسلام، وضُرَّ به آخرون فماتوا على الكفر.
قوله: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم»: دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ أن يمضي الله لهم هجرتهم، ولا يردهم على أعقابهم؛ ويكون موتهم في البلد التي هاجروا إليها لا التي هاجروا منها وتركوها لله؛ والحكمة في ذلك هي كونهم تركوها لله، فلا يرجع الإنسان فيما تركه لله، كالصدقة التي تصدق بها، كالفرس الذي تصدق به عمر رضي الله عنه ثم وجده يباع وظن أنه يبيعه برخص، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»([24])
قوله: ««لكن البائس سعد بن خولة!»، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوفى بمكة» هذا هو الشاهد؛ لما في ترجمة الباب من قوله: «ومرثيته لمن مات بمكة»، ومعنى «يرثي له»، أي: يرق له ويتوجع ويبكيه ويعدد محاسنه؛ لكونه مات في البلدة التي هاجر منها، رغم أن الموت ليس باختياره.
وقد توفي سعد بن خولة - وتحته سبيعة الأسلمية - في حجة الوداع أو بعدها.
قوله: «وقال أحمد بن يونس وموسى عن إبراهيم»، يعني: ابن سعد، أما رواية أحمد بن يونس فأخرجها المصنف في حجة الوداع في آخر المغازي([25])، وأما رواية موسى وهو ابن إسماعيل فأخرجها المؤلف في الدعوات([26]).
([1]) أحمد (2/240)، والبخاري (3462)، ومسلم (2103).
([2]) أحمد (3/160)، ومسلم (2102).
([3]) انظر «زاد المعاد» (4/367)، وما بعدها.
([4]) أحمد (1/273).
([5]) أحمد (4/163).
([6]) أحمد (3/100)، والبخاري (3547)، ومسلم (2347).
([7]) أحمد (1/4)، والبخاري (3653)، ومسلم (2381).
([8]) «سيرة ابن هشام» (3/8، 9).
([9]) أحمد (1/2)، والبخاري (3615)، ومسلم (2009).
([10]) أبو داود (2645)، والترمذي (1604)، والنسائي (4780).
([11]) أبو داود (2787).
([12]) أحمد (1/226)، والبخاري (2783)، ومسلم (1353).
([13]) أحمد (5/203)، والبخاري (4566)، ومسلم (1798).
([14]) «سيرة ابن هشام» (5/206 - 207).
([15]) أحمد (3/170)، والبخاري (2627)، ومسلم (2307).
([16]) رواية عبد الله بن رجاء ساق البخاري سندها عقب رواية إسحاق بن إبراهيم تحت حديث رقم (2439)، ولم يسق لفظها هناك، بل ساق لفظها في «تاريخه الصغير» (1/52).
([17]) أحمد (4/298)، ورواية إسحاق بن أبي طلحة هذه لم أجدها عند الحاكم، وقد أخرجها البيهقي في «دلائل النبوة» (2/508) بهذا اللفظ.
([18]) «تقريب التهذيب» (1/121).
([19]) أحمد (5/8)، والبخاري (1386)، ومسلم (2275).
([20]) أحمد (3/304)، والبخاري تعليقًا (كتاب الأشربة/باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه)، وابن حبان في «الصحيح» (15/154)، والطبراني في «الكبير» (3/282).
([21]) أحمد (1/301)، والبخاري (335)، ومسلم (521).
([22]) أحمد (2/237)، والبخاري (1589)، ومسلم (1314).
([23]) أحمد (1/168)، والبخاري (2743)، ومسلم (1629).
([24]) أحمد (1/40)، والبخاري (1490)، ومسلم (1620).
([25]) البخاري (4409).
([26]) البخاري (6373)