قوله: «بضعة عشر وثلاثمائة»؛ البضع: من ثلاثة إلى تسعة، وقد ثبت أن البضع هنا تسع، فيكون العدد تسعة عشر وثلاثمائة، فأصحاب بدر بلغوا أعلى البضع.
وعدد أصحاب بدر موافق لعدد الذين جاوزوا النهر مع طالوت ثلاثمائة وتسعة عشر، صبروا ففتح الله عليهم؛ قال الله تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً) [البقرة: 250]، وكانوا قالوا قبل ذلك: (قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249]، فكبت عدوهم، قال الله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة: 251]، وكان في جيش طالوتَ نبيُّ الله داود، آتاه الله الملك والحكمة وجعله ملكًا نبيًّا، ثم خلفه ابنه سليمان وأعطاه الله الملك والنبوة.
* * *
المتن
[7/55] دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش شيبة وعتبة
والوليد وأبي جهل بن هشام وهلاكُهم
● [3710] حدثني عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود قال: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش: على شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًّا.
● [3711] حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إسماعيل، قال: أنا قيس، عن عبدالله، أنه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر، فقال أبو جهل: هل أعمد من رجل قتلتموه؟
● [3712] حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا سليمان، أن أنسًا حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثني عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، عن سليمان التيمي، أن أنسًا حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ينظر ما صنع أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: أنت أبا جهل؟ - قال أحمد بن يونس: أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته - قال: وهل فوق رجل قتلتموه - أو رجل قتله قومه؟
● [3713] حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «من ينظر ما فعل أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته قال: أنت أبا جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتله قومه - أو قال: قتلتموه؟
● [3714] حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا سليمان، قال: أنا أنس بن مالك... نحوه.
● [3715] حدثنا علي بن عبدالله، قال: كتبت عن يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم، عن أبيه، عن جده في بدر. يعني: حديث ابني عفراء.
● [3716] حدثني محمد بن عبدالله الرقاشي، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي، يقول: حدثنا أبو مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.
وقال قيس: وفيهم أنزلت (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج: 19]، قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة - أو أبو عبيدة - بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة، والوليد بن عتبة.
● [3717] حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس ابن عباد، عن أبي ذر قال: نزلت (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) في ستة من قريش: علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
● [3718] حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب - كان ينزل في بني ضبيعة، وهو مولى لبني سدوسٍ، قال: ونا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد قال: قال علي: فينا نزلت هذه الآية (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).
● [3719] حدثني يحيى بن جعفر، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد: سمعت أبا ذر يقسم: لنزلت هؤلاء الآيات في هؤلاء الرهط الستة يوم بدر... نحوه.
● [3720] حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا هشيم، قال: أنا أبو هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد: سمعت أبا ذر يقسم قسما: إن هذه الآية (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة.
● [3721] حدثني أحمد بن سعيد أبو عبدالله، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق: سأل رجل البراء وأنا أسمع قال: أشَهِد عليٌّ بدرًا؟ قال: بارز وظاهر.
● [3722] حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثني يوسف بن الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبدالرحمن قال: كاتبت أمية بن خلف، فلما كان يومُ بدر... فذَكر قتلَه وقتلَ ابنه، فقال بلال: لا نجوتُ إن نجا أميةُ!
● [3723] حدثنا عبدان بن عثمان، قال: أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (وَالنَّجْمِ)، فسجد بها، وسجد من معه غير أن شيخًا أخذ كفًّا من تراب فرفعه إلى جبهته فقال: يكفيني هذا، قال عبدالله: فلقد رأيته بعدُ قُتل كافرًا.
● [3724] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن هشام، عن عروة قال: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف إحداهن في عاتقه، قال: إن كنت لأدخل أصابعي فيها، قال: ضرب ثنتين يوم بدر وواحدة يوم اليرموك، قال عروة: وقال لي عبدالملك بن مروان حين قتل عبدالله بن الزبير: يا عروة، هل تعرف سيف الزبير؟ قلت: نعم، قال: فما فيه؟ قلت: فيه فَلة فُلَّها يوم بدر، قال: صدقت.
.................... بهن فلول من قِراع الكتائب
ثم رده على عروة، قال هشام: فأقمناه بيننا ثلاثةَ آلافٍ، وأخذه بعضُنا، ولودِدت أني كنت أخذته.
● [3725] حدثني فروة، قال: حدثنا علي، عن هشام، عن أبيه قال: كان سيف الزبير ابن العوام محلى بفضة. قال هشام: وكان سيف عروة محلى بفضة.
● [3726] حدثنا أحمد بن محمد، قال: أنا عبدالله، قال: أنا هشام بن عروة، عن أبيه، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ قال: إني إن شددت كذبتم، فقالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً، فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير، قال عروة: وكان معه عبدالله بن الزبير يومئذ وهو ابن عشر سنين، فحمله على فرس، ووكل به رجلاً.
● [3727] حدثني عبدالله بن محمد، سمع روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقُذفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر خبيث مُخْبِث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُد عليها رحلُها، ثم مشى واتَّبعه أصحابه، قالوا: ما نُرَى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟»، قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعَهم قولَه توبيخًا وتصغيرًا ونَقْمَةً وحسرةً وندمًا.
● [3728] حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) قال: هم والله كفار قريش، قال عمرو: هم قريش ومحمد نعمة الله، (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28]: قال: النار يوم بدر.
● [3729] حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: ذُكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم «أن الميت يُعذَّب في قبره ببكاء أهله»؛ فقالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن»، قالت: وذلك مثلُ قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب
وفيه: قتلى بدر من المشركين، فقال لهم مثلَ ما قال: «إنهم ليسمعون ما أقول»، إنما قال: «إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حقٌّ»، ثم قرأتْ (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[فاطر: 22] ، يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار.
● [3730] حدثني عثمان، قال: حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟»، ثم قال: «إنهم الآن يسمعون ما أقول»، فذُكر لعائشة، فقالت: إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق»، ثم قرأت (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) حتى قرأتِ الآيةَ.
الشرح
● [3710] هذا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش؛ لأنهم آذوه عليه الصلاة والسلام، ولا بأس بالدعاء على الظالم المؤذي، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ذات مرة عند الكعبة فرآه ملأ من قريش، فقال بعضهم لبعض: أيكم يأتي بسلى الجزور الذي ذبح ويضعه على ظهر محمد إذا سجد؟! فانطلق أشقى القوم فلما سجد جاء بسلى الجزور ووضعه على كتفيه فجعلوا يضحكون، ويميل بعضهم إلى بعض من الضحك حتى كادوا يسقطون من الضحك إلى أن جاءت فاطمة ل وأزالت الأذى عنه وأقبلت عليهم تسبهم وهي بنية صغيرة، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته اتجه واستقبل الكعبة ودعا عليهم وخصص أناسًا منهم: «اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بالوليد بن عتبة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام»([1])، فلما رأوه يدعو ويلعن امتنعوا من الضحك وخافوا، وكانوا يعلمون أنه مستجاب الدعوة، ويعلمون في أنفسهم أنه صادق.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس وكان يومًا حارًّا»، يعني: يوم بدر، وقد استجيبت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل كل هؤلاء الذين دعا عليهم، قتلوا يوم بدر حتى غيرتهم الشمس وكان يومًا حارًّا، ثم سحبوا وألقوا في بئر هناك.
والدعاء على الكفار يكون خاصًّا بمن يؤذي منهم ويشتد أذاه على المسلمين، فمن كان يؤذي المسلمين من الكفار واشتد أذاه يُدعى عليه ويلعن بخصوصه، وأما من لم يكن مؤذيًا فلا يدعى عليه بخصوصه، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا القراء([2]) شهرًا، والمؤمنون يؤمِّنون. ومن دعا عليهم فلا بأس وإن صبر أو عفا فهو خير له، ولم يدعُ صلى الله عليه وسلم على من كف أذاه، فقد قيل له: إن دوسًا امتنعت عن الإسلام فادع عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسًا وائت بهم»([3])، فجاءوا مسلمين.
قال الحافظ ابن حجر /: «مضى بيانه في «كتاب الطهارة» حيث أورده المصنف من حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب بأتم منه سياقًا، وأورده في «الطهارة»؛ لقصة سلى الجزور ووضعه على ظهر المصلي فلم تفسد صلاته، وفي «الصلاة»؛ مستدلًّا به على أن ملاصقة المرأة في الصلاة لا تفسدها».
لكن قوله: «ووضعه على ظهر المصلي فلم تفسد صلاته»، فيه: مقال من وجوه:
أولًا: لم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم ما الذي وضع على ظهره.
وثانيًا: أن هذا كان أولًا في مكة قبل أن تشرع الطهارة والصلاة.
وكذلك قوله: «ملاصقة المرأة في الصلاة لا تفسدها» فيه: مقال؛ حيث إن المرأة هنا ابنته وهي بنية صغيرة.
فكل هذا ليس له وجه لاستشكال هذه الأشياء.
فائدة: الأحناف([4]) يرون أن المرأة إذا صلت بجوار الرجل فسدت صلاتها وصلاة من بجوارها، لكن على كل حال الضرورة تقدر بقدرها.
● [3711] الكلام في هذا الحديث وفي الأحاديث التالية عن مقتل عدو الله أبي جهل.
قوله: «عن عبد الله»، هو ابن مسعود، «أنه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر»، ذلك بعد أن قتله معوذ ومعاذ ابنا عفراء، أتاه عبد الله بن مسعود، فوجد عدو الله مجندلًا لا زالت به حياة، فاحتز عبد الله بن مسعود رأسه.
قوله: «هل أعمد من رجل قتلتموه؟»، أعمد، يعني: أعظم. وفي اللفظ الآخر: «أنه لما جاءه وقف على صدره، فنظر إليه وهو في سكرات الموت، فقال أبو جهل يخاطب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم»([5])، سبحان الله، حتى وهو في الموت لا يزال مستمرًّا في كبره وتعاظمه وخيلائه الذي منعه من قبول الحق واتباعه والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «فقال أبو جهل: هل أعمد...؟» ، في الكلام حذف تقديره: فكلمه أي: بكلام تشفى منه فأجابه بذلك. ووقع بيان ذلك في رواية عمرو بن ميمون عند الطبراني عن ابن مسعود قال: أدركت أبا جهل يوم بدر صريعًا فقلت: أي: عدو الله قد أخزاك الله قال: وبم أخزاني من رجل قتله قومه؟»، ثم قال الحافظ ابن حجر /: «و«أعمد» بالمهملة أفعل تفضيل من عمد، أي: هلك؛ يقال: عمد البعير يعمد عَمَدًا بالتحريك إذا ورم سنامه من عض القتب فهو عميد، ويكنى بذلك عن الهلاك» ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وقيل: معنى أعمد أعجب. وقيل بمعنى أغضب. وقيل معناه: هل زاد على سيد قتله قومه».
● [3712]، [3713]، [3714] قوله: «ضربه ابنا عفراء»: هما معوذ ومعاذ ابنا عفراء، ضرباه حتى برد، وبقي فيه حركة كحركة المذبوح، فجاء عبد الله بن مسعود ووقف على صدره، وقال: «أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته».
قوله: «وهل فوق رجل قتلتموه - أو رجل قتله قومه؟»، قال أبو جهل هذا وهو في الرمق الأخير، وهذا يدل على أنه ما يزال مستمرًّا في كبره وتعاظمه وخيلائه الذي منعه من قبول الحق واتباعه ومن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
● [3715] قوله: «عن صالح بن إبراهيم» هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الصحابي.
● [3716] هذا الحديث والأحاديث التالية في ذكر أول المبارزين والذين نزلت فيهم الآية: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)[الحج: 19].
قول علي رضي الله عنه: «أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة» هذه الأولية المراد بها أول المجاهدين من هذه الأمة، وإلا فقد سبقهم المجاهدون من الأمم السابقة، وسبب هذه الأولية أن المبارزة المذكورة هي أول مبارزة وقعت في الإسلام.
وفي الحديث: جواز المبارزة والرد على من أنكرها، وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد([6]) وإسحاق جواز المبارزة بإذن الأمير على الجيش،
وفيه: جواز إعانة المبارز؛ لأن اثنين قتل كل منهما صاحبه واختلف الثالث وصاحبه ضربًا فجاء مبارزا المسلمين على الكافر الثالث فأجهزا عليه.
وذكر الحافظ ابن حجر المبارزة فقال: «عن علي قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة»، فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة([7])».
ففيه: دليل على جواز إعانة المبارز رفيقه.
وفيه: فضيلة لهؤلاء المبارزين: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث.
● [3717] قوله: «نزلت (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج: 19] في ستة من قريش»، أي: كلهم من قريش؛ ثلاثة من المسلمين وثلاثة من الكفار، والآية عامة فيهم وفي غيرهم، لكن هذا سبب نزولها.
● [3718]، [3719]، [3720] قوله: «عن قيس بن عُبَاد»، هو بضم العين، والباء مخفَّفة. وأما قيس بن سعد بن عبادة فهو ابن سعد بن عبادة سيد الأنصار، كانت فيه كل الخصال الحميدة إلا أنه كان كوسجًا، أي: ليست له لحية، حتى قالت الأنصار: لو كانت اللحية تباع وتشترى بالآلاف لاشتريناها لسعد بن عبادة. أما في عصرنا فصاروا يحلقون اللحية ويزيلونها باختيارهم؛ فانتكست الفطر.
● [3721] قوله: «بارز» المبارزة: معناها هو أن يخرج بعض أفراد الجيش ويقابلهم أفراد آخرون من الجيش الآخر ويتبارزون بين الصفين، ويتركهم الجيشان يتقاتلون.
برز من المسلمين ثلاثة: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وبرز من الكفار ثلاثة: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وكلهم من قريش، فتبارزوا كل واحد معه واحد، فكل من حمزة وعلي قتل صاحبه، وبقي الثالث عبيدة فاختلف هو والوليد ضربتين فجرحا بعضهما، ثم أجهز حمزة وعلي على الوليد فقتلاه.
قوله: «وظاهر»، معناه: لبس درعًا على درع، وهذا لا ينافي التوكل على الله، فهو من فعل الأسباب، فلبس الدرع للوقاية من ضربات العدو، مثل لبس الثياب في الشتاء للوقاية من البرد، ومثل الأكل لدفع الجوع، ومثل الشرب ليذهب الظمأ، ومثل السلاح لملاقاة العدو، كل هذا من الأسباب التي لا تنافي التوكل على الله.
● [3722] قوله: «كاتبت أمية بن خلف» معناه: عاهدت أمية بن خلف - بفتحتين - واللفظ الذي في «كتاب الوكالة»: «كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته»([8])، وصاغية الرجل: خاصته والذين يميلون إليه ويأتونه. وكان عبد الرحمن وأمية صديقين في الجاهلية.
قوله: «فذكر قتله»، أي: قتل أمية.
قوله: «فقال بلال: لا نجوت إن نجا أمية»، قال العيني: «قال الكرماني: فقتله بلال؛ لأنه كان قد عذب بلالًا كثيرًا في المستضعفين بمكة».
● [3723] حدثت هذه الواقعة في مكة، حيث قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم حتى إذا بلغ موضع السجود سجد وسجد معه المسلمون و المشركون كلهم.
قوله: «غير أن شيخاً أخذ كفاً من تراب فرفعه إلى جبهته فقال: يكفيني هذا» جاء في رواية أخرى أنه أمية بن خلف، وأنه ما استطاع السجود لِكبْره.
قوله: «قال عبدالله» هو ابن مسعود.
قوله: «فلقد رأيته بعدُ قُتل كافرا» يعني: أمية فإنه قتل يوم بدر كافرًا.
فائدة: لا يشترط لسجود التلاوة طهارة حيث كان هذا في مكة قبل أن تشرع الأحكام.
فائدة: تسمى هذه الحادثة بقصة الغرانيق والتي تحكى، وهي قصة غير ثابتة وسندها ضعيف؛ قالوا: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم حتى قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)[النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى -وهذا في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحج: 52]- فقالوا: هذا الذي نريد، ما نريد إلا الشفاعة، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها وسجد معه المسلمون والمشركون، وشاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تصافى مع المشركين، فجاءوا من الحبشة.
● [3724] هذا الحديث فيه شجاعة الزبير رضي الله عنه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وزوج أسماء بنت أبي بكر.
قوله: «كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف إحداهن في عاتقه»، أي: من شجاعته وإقدامه، فلا يبالي بما يلاقي في الحرب.
قوله: «إن كنت لأدخل أصابعي فيها» أي: إن تلك الضربات التي كانت في الزبير تركت أثرًا في موضع الضربة كأنها فتحة أو حفرة، فكان عروة يلعب فيها لأنه كان صغيرًا.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «ضرب ثنتين يوم بدر وواحدة يوم اليرموك» في رواية ابن المبارك أنه ضرب يوم اليرموك ضربتين على عاتقه وبينهما ضربة ضربها يوم بدر، فإن كان اختلافًا على هشام فرواية ابن المبارك أثبت؛ لأن في حديث معمر عن هشام مقالًا، وإلا فيحتمل أن يكون فيه في غير عاتقه ضربتان أيضًا فيجمع بذلك بين الخبرين، ووقعة اليرموك كانت أول خلافة عمر رضي الله عنه بين المسلمين والروم بالشام سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة خمس عشرة ويؤيد الأول قوله في الحديث الذي بعده: إن سن عبد الله بن الزبير م كان عشر سنين. واليرموك بفتح التحتانية وبضمها أيضًا وسكون الراء».
قوله: «هل تعرف سيف الزبير؟»، أي: حتى يعطيه إياه، فأجاب عروة أن نعم، فيحتمل أنه كان مع عبد الله بن الزبير فلما قتله الحجاج أخذه؛ لأن الحجاج كان أميرًا لعبد الملك بن مروان.
قوله: «فما فيه؟» أي: ما علامته؟
قوله: «فيه فلة فلها يوم بدر» فلة - بفتح الفاء وبضمها - أي: كُسرت قطعة من حده.
قوله: «بهن فلول من قراع الكتائب» هذا شطر بيت للنابغة الذبياني، استشهد به عبد الملك بن مروان يقول:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وهذا من المدح بما يشبه الذم كما قال الحافظ ابن حجر /؛ وذلك لأن الفل في السيف هو الكسر، وهو نقص حسي، لكنه دليل على قوة ساعد صاحبه وإقدامه على الأعداء؛ لأن هذا من كثرة الضربات بالعدو، فكان من جملة كمال صاحب السيف.
و«الكتائب»: جمع كتيبة وهي الفرقة من الجيش.
قوله: «ثم رده على عروة»، أي: أعطاه له لما عرفه.
قوله: «فأقمناه بيننا ثلاثة آلاف» يقال: قومت الشيء وأقمته أي: ذكرت ما يقوم مقامه من الثمن، والمعنى: قدرنا قيمة سيف الزبير بثلاثة آلاف.
قوله: «وأخذه بعضنا»، أي: أخذه بعض الورثة بما قوّم به.
قوله: «ولوددت أني كنت أخذته»، تمنى عروة أنه هو الذي أخذ السيف بثلاثة آلاف مع أن فيه كسرة؛ لأنه من آثار والده رضي الله عنه.
● [3725] قوله: «محلى بفضة»، أي: إن مقبضه به شيء من الحلية بالفضة، ولا بأس بهذه التحلية للسيف فهو مستثنى؛ لأن السيف كان له شأن ولذلك قوَّمه ورثته بثلاثة آلاف كما في الحديث السابق.
● [3726] هذا الحديث فيه شجاعة الزبير النادرة، وكان هذا يوم اليرموك في زمن عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة، وكانت الموقعة بين المسلمين والروم.
قالوا له: «ألا تشد فنشد معك؟»، أي: تدخل في صفوف العدو فنتبعك.
قوله: «إني إن شددت كذبتم» الكذب يطلق على خلاف الواقع، فيقال: كذب فلان أي: أخطأ، والمعنى لا تستطيعون أن تصدقوا في قولكم، وليس المراد أنهم يتعمدون الكذب.
فقالوا: «لا نفعل»، أي: ما نقدر.
قوله: «فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد ثم رجع مقبلًا» هذا فيه مدى شجاعة الزبير وقوته وإقدامه رضي الله عنه، فكان يخترق صفوف العدو وحده ولا يبالي بما يصيبه في سبيل الله.
قوله: «فضربوه ضربتين على عاتقه» هذا الذي أصابه في هذه المعركة.
قوله: «بينهما ضربة ضربها يوم بدر»، أي: فصارت ثلاث ضربات على عاتقه، فصارت حفرة حتى كان عروة يدخل أصابعه فيها وهو صغير يلعب بها.
قال عروة: «وكان معه عبدالله بن الزبير يومئذ وهو ابن عشر سنين» أي: إنه رأى فيه علامة النجابة والشجاعة والفروسية فأركبه الخيل؛ ليمرنه على القتال.
قوله: «ووكل به رجلًا» أي: جعل معه رجلًا يلاحظه؛ ليأمن عليه من العدو إذا انشغل عنه بالقتال.
● [3727] قوله: «من صناديد قريش»، أي: من رؤسائهم وعتاتهم.
قوله: «فقذفوا في طوي من أطواء بدر» الطوي: هي البئر، سميت طويًّا؛ لأنها مطوية بالحصى.
قوله: «خبيث مخبث» وصف بالخبث؛ لأنه ليس فيه ماء، فهو سيئ لطوله وضيقه.
قوله: «أقام بالعرصة ثلاث ليال» العرصة الأرض الواسعة، يقيم بها ثم يرحل في اليوم الرابع.
قوله: «قالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته»، أي: ما يدرون إلى أين يذهب؟
قوله: «حتى قام على شفة الركي»، أي: قام على حافة البئر الذي طرح فيه هؤلاء الصناديد.
قوله: «فجعل يناديهم» ينادي الكفار الذين قذفوا بأسمائهم وأسماء آبائهم.
قوله: «ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟!» هذا تعجب من عمر لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه الأموات.
قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»؛ المعنى أنهم يسمعون، وفي لفظ: «غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئًا»([9]).
قوله: «قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعَهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا»، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وبخهم فرد الله عليهم أرواحهم؛ حتى سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ليزداد عذابهم.
والأصل أن الموتى لا يسمعون؛ فقد قال الله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22] وقال سبحانه: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] ، لكن يستثنى من هذا قتلى بدر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثبت لهم سماعًا.
وكذلك يستثنى من ذلك سماع الميت قرع نعال مشيعيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم»([10]).
وكذلك ترد إليه الروح ويسمع كلام الملكين منكر ونكير فيسألانه عن ربه وعن دينه وعن نبيه، ثم بعد ذلك لا يسمع.
و قد يقال: إنه يسمع سلام المسلم؛ فقد جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام»([11])، فيحتمل أن باقي الأموات كذلك مثل النبي صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي أن عائشة ل ردت على ابن عمر هذا وقالت: لا، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنهم يسمعون.
● [3728] في هذا الأثر فسر ابن عباس قوله تعالى: (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) [إبراهيم: 28] أن المقصود في الآية كفار قريش، وأن نعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم فهو النعمة المسداة أنعم الله تعالى به على هذه الأمة ومنَّ به عليهم، وأقسم ابن عباس تأكيدًا للكلام.
وفسر قوله تعالى: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) أن النار وجبت لهم بمقتلهم يوم بدر. والآية تشملهم وتشمل غيرهم.
● [3729] قوله: «ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله»، فقالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه»، وفي اللفظ الآخر: «فقالت: وَهِلَ»([12])، بكسر الهاء، بمعنى غَلِطَ وزنًا ومعنى، وأما وهل بفتح الهاء فمعناها نسي.
وسبب تخطئة عائشة ل لابن عمر أنها أخذت بعموم الآية: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164] ، فأخذت من الآية أن الإنسان لا يعذب بوزر غيره، وإذا كان الميت يعذب ببكاء أهله عذب بوزر غيره، فتمسكت بالآية.
كما غلطته في قوله: «إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام على القليب
وفيه: قتلى بدر من المشركين فقال لهم مثل ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول» قالت: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا إنما غلط ابن عمر وإنما قال: «إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق»؛ لأنها أيضًا تمسكت بالآية «ثم قرأت: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] » وقوله تعالى: «(وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[فاطر: 22] ، يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار».
● [3730] في هذا الحديث أنكرت عائشة أن الموتى يسمعون، فغلطت ابن عمر في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم إخباره أن قتلى بدر من صناديد قريش يسمعون نداءه.
وعائشة ل غلطت ابن عمر م في مسأئل منها:
المسألة الأولى: فيما روى ابن عمر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله»، قالت: كيف يعذب الميت ببكاء أهله؛ والله تعالى يقول: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] ، فقالت: غلط ابن عمر، وإنما الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه ليعذب بخطيئته وبذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن»([13]).
المسألة الثانية: غلطته في روايته أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كلم أصحاب بدر في القليب أخبر أنهم يسمعون، قالت: كيف يسمعون والله تعالى يقول: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22]، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق».
والصواب في هاتين المسألتين مع ابن عمر م ، لا مع عائشة ل، فهي وإن كانت أفقه امرأة - كما قال العلماء: لا نعلم أفقه منها - لكنها ليست معصومة.
من المسائل ما خطأت عائشة فيه ابن عمر رضي الله عنهما وكان الحق معها كما تقدم في إنكارها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب .
وبيان المسالتين المتقدمتين كما يلي :
المسألة الأولى: في أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه، فنقول: هذا مخصص لقول الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، وكان قد أشكل على عائشة معنى الآية التي تقتضي أنه لا يعذب أحد بفعل غيره، فنقول: ويستثنى من ذلك بكاء أهله عليه.
وقال بعض العلماء: إن ذلك محمول على ما إذا أوصاهم بالبكاء عليه أو رضي به في حياته، ففي هذه الحالة يكون العذاب بما فعل من وصيته لهم. وقد اختار هذا البخاري /، ولكن هذا لا دليل عليه، والصواب الأول أن هذا مستثنى.
و لكن هذا التعذيب في الحديث قد يكون تعذيبًا خاصًّا؛ فالتعذيب أنواع
وفي الحديث: «السفر قطعة من العذاب»([14])، يعني: فيه ألم ومشقة.
المسألة الثانية:في سماع قتلى بدر للرسول صلى الله عليه وسلم، فعائشة استدلت بالآية: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) وهي تفيد أن الموتى لا يسمعون، فوهَّمت ابن عمر م في هذا، ونقول: إن هذا الذي رواه ابن عمر م قد رواه غيره، فيجمع بين الآية والحديث بوجوه:
الوجه الأول: أن الله أحياهم حتى أسمعهم كما قال قتادة.
الثاني: أن الآية عامة وهذا خاص، كما أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين فكذلك سمع قتلى بدر كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن المراد بالآية (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] إنك لا تسمعهم سماعًا ينفعهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أسمعهم ما يضرهم.
وأما قول عائشة: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق»؛ فيجاب عنه بأنهم يعلمون هذا في الدنيا قبل الموت، وإنما منعهم من الانقياد الكبر والعناد وليس خاصًّا بالآخرة.
* * *
المتن
[8/55] فضلُ مَن شهد بدرًا
● [3731] حدثنا عبدالله بن محمد، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، قال: سمعت أنسًا يقول: أُصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال: «ويحك! أَوَهَبِلْتِ؟! أَوَجنةٌ واحدةٌ؟! هي إنها جنانٌ كثيرةٌ، وإنه في جنة الفردوس!».
● [3732] حدثني إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبدالله بن إدريس، قال: سمعت حصين بن عبدالرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن السُّلمي، عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثدٍ والزبير بن العوام - وكلنا فارس - قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين»، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: الكتابَ. فقالت: ما معنا الكتابُ؟ فأنخناها، فالتمسنا فلم نرَ كتابًا، قلنا: ما كذَب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لَنُجَرِّدَنَّكِ! فلما رأت الجد أهوت إلى حُجزَتها - وهي محتجزة بكساء - فأخرجتْه، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ فدعني فَلِأَضربَ عنقه، فقال: «ما حملك على ما صنعت؟!» قال: والله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله؛ فقال: «صدق، ولا تقولوا له إلا خيرًا»، فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ فدعني فلِأَضربَ عنقه؛ فقال: «أليس من أهل بدر؟!» فقال: «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة -أو فقد غفرت لكم»؛ فدمعت عينا عمر، وقال:الله ورسوله أعلم.
الشرح
● [3731] قوله: «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام»، أي: كان حارثة صغيرًا لم يبلغ، قتل وهو يشرب من الحوض، وقد خرج عينًا ينظر ولم يكن مقاتلًا؛ لأنه لا يقاتل إلا من بلغ، فجاءه سهم من المشركين فقتله.
قولها: «قد عرفت منزلة حارثة مني»، أي: إنها كانت تحبه كثيرًا.
قولها: «فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب»، أي: تتعزى بكون ابنها في نعيم الجنة.
قولها: «وإن تك الأخرى ترى ما أصنع»، أي: من الحزن والاجتهاد في البكاء عليه.
قوله: «إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس»؛ وفي لفظ: «وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى»([15]). في هذا دليل على أن الجنة جنات وأن النعيم درجات.
وفي هذا الحديث فضل من شهد بدرًا.
وفيه: أن حارثة من أهل الجنة؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك، كالعشرة المبشرين بالجنة([16])، والحسن والحسين([17])، وعبد الله بن سلام([18])، وثابت بن قيس بن شماس([19])، وغيرهم.
وفيه: أن من كان مع المقاتلين في الجهاد للخدمة أو لغير ذلك فهو منهم؛ فحارثة ما قاتل لكنه شهد.
● [3732] في هذا الحديث أن حاطب بن أبي بلتعة فعل كبيرة عظيمة وهي موالاة الكفار؛ حيث كتب لهم كتابًا يخبرهم بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، جاء في بعض الروايات أنه كتب إليهم: أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل. وأعطاه امرأة لتوصله إلى قريش([20]).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وأخبره خبره، فأرسل عليًّا وأبا مرثد والزبير ي وكلهم فارس شاب من الشجعان الأقوياء تعادى بهم خيلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ»، اسم لمكان، «فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين»، أي: فائتوني بالكتاب قبل أن يصل إليهم، فانطلقوا حتى وصلوا إليها، فقالوا لها: «الكتاب»، أي: أعطينا الكتاب، فأنكرت المرأة أن معها كتابًا، قال: «فالتمسنا فلم نر كتابًا»، لأنها وضعته في مكان بحيث لا يراه أحد، فقالوا: «ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك»، أي: من الثياب، «فلما رأت الجد»، أي: علمت أنه لا حيلة، ورأت منهم الحزم والعزم على تجريدها، «أهوت إلى حجزتها» وكانت قد فتلت شعرها عليه، وأخرجته وأعطتهم إياه، فذهبوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه، واستدعى حاطبًا، فقال: «ما حملك على ما صنعت؟!» فقال حاطب: يا رسول الله «والله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله»، يعني: أنا مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: «ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام»([21])، أي: وما ارتددت عن ديني.
قوله: «أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله»، أي: إن له أهلًا ومالًا ويخشى عليهم ولا يستطيع أن ينقذ أهله وماله إلا إذا اتخذ عندهم يدًا يتقرب بها إليهم حتى يخلص أهله وماله، وفي لفظ آخر: «وأنا رجل ملصق في قريش»(1)، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «صدق، ولا تقولوا له إلا خيرًا» ولكن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين»، أي: إن كونه يكتب للمشركين ويخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوهم فهذه خيانة لله وخيانة لرسوله صلى الله عليه وسلم وخيانة للمؤمنين «فدعني فلأضرب عنقه»، أي: ائذن لي أن أقتله، وفي اللفظ الآخر: «دعني أضرب عنق هذا المنافق»([22])؛
وفيه: دليل على أن من رمى شخصًا بالنفاق متأولًا لا يشمله الوعيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر على عمر؛ لأنه قال ذلك غيرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك في قصة الإفك لما قال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين([23])، ما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه متأول.
أما من رمى أخاه بالنفاق، أو بالكفر، أو بالفسق، لهوى في نفسه، أو بغيًا عليه؛ هذا هو الذي عليه الوعيد: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»([24]).
وفي هذا الحديث دليل على أن الصحابة ي ليسوا معصومين من الكبائر، والعصمة إنما هي للنبي صلى الله عليه وسلم فهو معصوم من الشرك ومعصوم من الكبائر ومعصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله.
وهذا الذي فعله حاطب أنزل الله فيه صدر سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)[الممتحنة: 1 - 2] وكذلك في آخر السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13].
وحاطب يجسس على المسلمين والجاسوس حده القتل ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله، ومنعه من القتل أمران:
الأمر الأول: أنه صادق متأول.
والأمر الثاني: أنه شهد بدرًا.
وهذان الأمران لا يجتمعان في أحدٍ غير حاطب؛ فالذي يتجسس بعد ذلك يقتل؛ لأنه ما يكون شهد بدرًا.
والحديث ساقه المؤلف في «فضل من شهد بدرًا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو فقد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم» .هذا فيه فضل عمر ورجوعه ورضاه بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يقال: الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم؛ لأنه ينزل عليه الوحي، وبعد وفاته يقال: الله أعلم؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله.
وقوله: «لعل الله اطلع إلى أهل بدر»، لعل أو عسى إذا كانت من الله فهي واجبة وليست للترجي؛ لأن الله لا يرجو أحدًا، وإعرابها هنا يقال: لعل للتعليل، والمعنى لأن الله اطلع على أهل بدر.
وقوله: «اعملوا ما شئتم»، ليس إذنًا لهم في المعاصي، إنما المعنى أنه ليس من شأن هؤلاء الأكياس الأخيار فعل الشرك والمعاصي؛ بل من شأنهم المسارعة إلى العمل الصالح، وأن الله يسددهم ويوفقهم لما يكون سببًا لمغفرة ذنوبهم، إما بالتوبة التي تجب ماقبلها، وإما بالأعمال الصالحة التي تمحو السيئات، وإما بالمصائب التي يكفر الله بها الخطايا، وإما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أولى الناس بها.
قال الحافظ ابن حجر /: «والمراد منه هنا الاستدلال على فضل أهل بدر بقوله صلى الله عليه وسلم المذكور، وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم، ووقع الخبر بألفاظ منها: «فقد غفرت لكم»([25]). ومنها: «فقد وجبت لكم الجنة»([26]). ومنها: «لعل الله اطلع» لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم للوقوع، وعند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة رحمهم الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بالجزم ولفظه: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([27]). وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم رحمهما الله من حديث جابر م مرفوعًا: «لن يدخل النار أحد شهد بدرًا»([28]).
وقد استشكل قوله: «اعملوا ما شئتم»؛ فإن ظاهره أنه للإباحة، وهو خلاف عقد الشرع، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي، أي: كل عمل كان لكم فهو مغفور، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ولقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب رضي الله عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر رضي الله عنه منكرًا عليه ما قال في أمر حاطب رضي الله عنه، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه. وقيل: إن صيغة الأمر في قوله: «اعملوا» للتشريف والتكريم، والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة، وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي: كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي: عمل كان فهو مغفور، وقيل: إن المراد ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة، وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم،
وفيه: نظر ظاهر لما سيأتي في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر وحده عمر رضي الله عنه فهاجر بسبب ذلك، فرأى عمر رضي الله عنه في المنام من يأمره بمصالحته([29])، وكان قدامة بدريًّا، والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني وهو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي التابعي الكبير /؛ حيث قال لحيان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء، وذكر له هذا الحديث. وسيأتي ذلك في «باب استتابة المرتدين»، واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها والله أعلم».
* * *
المتن
[9/55] بابٌ
● [3733] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبدالرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أُسَيد و الزبير بن المنذر بن أبي أُسَيد، عن أبي أُسَيد قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إذا أكْثَبُوكُم فارموهم، واستَبْقُوا نبلَكم».
● [3734] حدثني محمد بن عبدالرحيم، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبدالرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد و المنذر بن أبي أسيد، عن أبي أسيد قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إذا أكتَبُوكُم - يعني: أكثروكم - فارموهم، واستبْقُوا نبلَكم».
● [3735] حدثني عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد عبدالله بن جبير، فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائةً: سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلًا، قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجالٌ!
● [3736] حدثني محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى - أُراه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا الخيرُ ما جاء الله به من الخير بعدُ، وثوابُ الصدق الذي آتانا بعد يوم بدرٍ».
● [3737] حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: قال عبدالرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرِني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه؛ فشدَّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراءَ.
● [3738] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم، قال: أنا ابن شهاب، قال: أخبرني عَمْرو بن أَسِيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة - وكان من أصحاب أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرةً عينا، وأمَّر عليهم عاصمَ بن ثابتٍ الأنصاريَّ جدَّ عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالْهَدَةِ بين عسفان ومكة ذُكروا لحي من هُذيل يقال لهم: بنو لِحْيانٍ، فنفَروا لهم بقريب من مائة رجل رامٍ، فاقتَصُّوا آثارهم حتى وجدوا مأْكلَهمُ التمر في منزل نزلوه، فقال: تمر يثرب، فاتَّبعُوا آثارَهم، فلما أحَسَّ بهم عاصم وأصحابه لَجَئُوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم، فقالوا: انزلوا فَأَعْطُوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألَّا نقتلَ منكم أحدًا، فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أمَّا أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبِرْ عنا نبيَّك! فَرمَوْهم بالنَّبل؛ فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدَّثِنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسِيِّهِم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء إِسْوَةً يريد القتلى، فَجرَّرُوه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فانطُلِق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث مُوسًى يستحِدُّ بها فأعارته، فدرج بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدتْه مُجلِسَه على فخذه، والموسى بيده، قالت: ففزعت فَزْعةً عرفها خبيب، فقال: أتَخْشَيْ أن أقتلَه؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل قِطْفًا من عنب في يده، وإنه لَمُوثَقٌ بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحِل قال لهم خبيب: دعوني أُصَلِّي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت، اللهم أحصهم عددًا! واقتلهم بددًا! ولا تبق منهم أحدًا! وقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي: جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأْ يبـاركْ في أوصال شِلْوٍ مُمَزَّع
ثم قام إليه أبو سَرْوعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكل مسلم قُتل صبرًا الصلاةَ، وأَخبَر أصحابَه يوم أُصيب خَبَرَهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم ابن ثابت حين حُدِّثوا أنه قُتل أن يُؤتَوْا بشيء منه يُعرف، وكان قَتَل رجلًا من عظمائهم، فبعث الله عز وجل لعاصم مثل الظُّلَّة من الدَّبْر، فحَمَتْه من رسلهم؛ فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا.
وقال كعب بن مالك: ذكروا مُرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا.
● [3739] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا ليث، عن يحيى، عن نافع، أن ابن عمر ذكر له أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وكان بدريًّا- مرض في يوم جمعة؛ فركب إليه بعد أن تعالى النهار واقتربتِ الجمعةُ، وترك الجمعةَ.
وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، أن أباه كتب إلى عمر بن عبدالله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبَيعةَ بنتِ الحارث الأسلمية فيسألَها عن حديثها وعن ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته، فكتب عمر بن عبدالله بن الأرقم إلى عبدالله بن عتبة يخبره أن سُبَيعةَ بنتَ الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرًا، فتُوُفِّيَ عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعَلَّت من نفاسها تَجمَّلت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَكٍ - رجلٌ من بني عبدالدار - فقال: ما لي أراكِ تجمَّلتِ للخُطَّاب؟! تُرْجِينَ النكاح وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليكِ أربعةُ أشهر وعشر؟! قالت سُبَيعةُ: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتُه عن ذلك؛ فأفتاني بأني قد حَللْت حين وضعت حملي، وأمرني بالتَّزَوُّج إن بدا لي.
تابعه أصبَغُ، عن ابن وهب، عن يونس. وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، وسألناه فقال: حدثني محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان مولى بني عامر بن لؤي، أن محمد ابن إياس بن البُكَيْر - وكان أبوه شهد بدرًا - أخبره....
الشرح
هذا الباب تابع للترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق.
● [3733] ذكر في هذا الباب حديث أبي أسيد من طريقين:
الأول: من طريق شيخه عبد الله بن محمد الجعفي.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقود المعركة يوم بدر بحنكة واقتدار، ويدل صحابته على كيفية قتال الكفار حتى يتحقق لهم النصر.
قوله: «إذا أكثبوكم»، أي: قربوا منكم وتكاثروا عليكم فأمكنوكم من أنفسهم - «فارموهم»، أي: بالحجارة؛ لأن اليد لا تخطئ إذا رمى بها الجماعة.
قوله: «واستبقوا نبلكم»، فعل أمر بالاستبقاء، أي: أبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم بها لا تصيبون غالبًا، وإذا صاروا إلى الحالة التي يمكن فيها الإصابة غالبًا فارموا.
● [3734] هذا هو الطريق الثاني لحديث أبي أسيد، وهو طريق محمد بن عبد الرحيم شيخ البخاري.
قوله: «إذا أكتبوكم - يعني: أكثروكم» هذا تفسيرمن بعض الرواة، وهو الداودي ومستنده ما وقع في الرواية الأولى، وأنكر عليه؛ لأن هذا خلاف الظاهر.
وجاء في رواية عند ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه ألا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وقال: «إذا أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل»([30])، وهذا يؤيد أن معنى أكثبوكم يعني: قربوا منكم كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر /.
● [3735] قوله: «أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائةً: سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلًا» هذا هو الشاهد من الحديث؛ لأن هذه الأحاديث كلها في غزوة بدر وليس المراد منها غزوة أحد.
ويقول الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165]. وقد بين الحديث ما في هذه الآية، وبعض الآية في غزوة أحد من غير خلاف.
● [3736] قوله: «بعد يوم بدر» هذا هو الشاهد من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
وفي هذا الحديث عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بقرًا فأوَّلَها أنها تكون شهادة لأصحابه([31]).
● [3737] هذا الحديث فيه قصة يحكيها عبد الرحمن بن عوف يقول: «إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن»، هما معوذ ومعاذ ابنا عفراء، وكانا صغيرين أجازهما النبي صلى الله عليه وسلم للقتال يوم بدر ولم يجز غيرهما مثل: عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وقد استصغرهما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -وهو من السابقين الأولين ومن كبار السن- وتمنى أن لو كانا رجلين كبيرين، لذلك جاء في الرواية الأخرى أنه قال في نفسه: «لو كنت بين رجلين أضلع منهما»([32])، أي: إن ذلك يكون أفضل له حتى يكونا حماية لظهره، بخلاف الصغيرين لتخوفه من كونهما لا يستطيعان ذلك.
قوله: «فكأني لم آمن بمكانهما» هذا تخوف من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهعلى الصغيرين خشية أن يؤتى المسلمون من قبلهما.
قوله: «إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه»، أي: دون أن يشعر صاحبه، وهذا يدل على الإخلاص، وهذه شيمة الأبطال الشجعان؛ يصنعون العظائم ويقللون من شأنها في أنفسهم.
قوله: «عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه»، في الرواية الأخرى أنه قال: «لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فالتفت إليه صاحبه وقال له مثل ذلك، فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جهل يختال بين الصفين»([33]).
قوله: «فما سرني أني بين رجلين مكانهما»، هنا دخلت إلى نفس عبد الرحمن الطمأنينة لما رأى من شجاعة الصغيرين وإقدامهما على ما لا يستطيع أن يقدم عليه هو، فسرت نفسه وفرح بمكانه منهما.
قوله: «فأشرت لهما إليه»، في لفظ: «ألا إن هذا صاحبكما»([34])، يعني: أبا جهل رأس الكفر.
قوله: «فشدَّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه»، أي: بسيفيهما حتى برد، وقوله: «الصقرين» تثنية صقر، والصقر من سباع الطير، وهو أحد الجوارح الأربعة، وهي: الصقر، والبازي والشاهين، والعقاب؛ وشبههما بالصقر لما اشتهر عن الصقر من الشجاعة والشهامة والإقدام على الصيد؛ فهذان الفتيان ما إن أشار إليهما حتى ابتدراه كالصقرين بسيفيهما فضرباه جميعًا م .
● [3738] هذا الحديث في قصة عاصم بن ثابت وأصحابه، أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم عينًا يأتون بالأخبار،
وفيه: مشروعية بعث الإمام العيون على الأعداء للتجسس ومعرفة الأخبار.
قوله: «حتى إذا كانوا بالهدة»، مكان بين عسفان ومكة على بعد حوالي سبعين كيلو مترات من مكة، «ذكروا لحي من هذيل»، يعني: مشركين، «يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام»، أي: عشرة أضعافهم ممن يحسنون الرماية.
قوله: «فاقتصوا آثارهم»، أي: جعلوا يتتبعون آثارهم «حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه»، فقالوا: «تمر يثرب»، أي: هذا تمر المدينة «فاتبعوا آثارهم» حتى وصلوا إليهم.
قوله: «فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع»، في رواية أخرى: «لجؤوا إلى فَدْفَد»([35]). والفدفد هو المكان الغليظ المرتفع، أي: صعدوا جبلًا «فأحاط بهم القوم فقالوا: انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدًا» هؤلاء المشركون قالوا لعاصم وأصحابه التسعة: انزلوا من الجبل ونعاهدكم ألا نقتل منكم أحدًا.
«فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر»؛ ورفض أن ينزل ثم قال: «اللهم أخبر عنا نبيك! فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا»، أي: لما رفضوا أن ينزلوا صاروا يرمونهم بالنبل، وهذا اجتهاد من عاصم رضي الله عنه، أي: كونه لم ينزل، وإلا فيجوز أن ينزل ويأسرونه كما فعل خبيب وزيد بن الدثنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم ولم ينكر عليهم، وكلهم قتلوا شهداء.
قوله: «ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق»، كأن الباقي قتلوا، وبقي ثلاثة فنزلوا من الجبل على العهد والميثاق ألا يقتل منهم أحد «منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها» لما نزل الثلاثة وتمكنوا منهم حلوا أوتار القسي وقيدوهم بها «قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء إسوة، يريد القتلى فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم»، أي: رفض أن يمشي معهم فحاولوا معه وكانوا يريدون أن يبيعوه فسحبوه، فلما استيأسوا منه قتلوه فصار هو الثامن.
وبقي خبيب وزيد بن الدثنة وطاوعا معهم فأخذوهما «حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا» ابتاع يعني: اشترى «وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر» هذا هو الشاهد من الحديث، أن خبيبًا حضر بدرًا.
قوله: «فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله»، أي: أبقوه مدة في الأسر حتى عزموا على قتله، «فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها» ليزيل بها شعر العانة،
وفيه: دليل على الحرص على فعل السنة والاستحداد ولو عند الموت، «فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب»، أي: خافت أن يقتله؛ لأنهم يأسرونه وسوف يقتلونه - ومثله يريد أن ينتقم - وقد تمكن من ولدها والموسى بيده «فقال: أتخشي أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل قطفًا من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة» هذا من كراماته رضي الله عنه، فالله سبحانه يؤيد أولياءه، مثلما حصل لمريم تأتيها فاكهة الشتاء في فصل الصيف وفاكهة الصيف في زمن الشتاء كما قال الله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37]، «وكانت تقول» يعني: بعض بنات الحارث: «إنه لرزق رزقه الله خبيبًا»، لكن مع ذلك بعدما رأوا هذه الكرامة والخيرية ورأوا معاملته وأنه لم ينتقم - لم ينتفعوا من ذلك بل قتلوه، ولما أرادوا قتله «خرجوا به من الحرم»، أي: في عرفة مثلًا أو خارج التنعيم؛ لأنهم يعظمون الحرم، وهم يشركون بالله ويقتلون المؤمنين ويصدون عن سبيل الله، وقد أخرجوا المؤمنين وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وهذا أعظم، فالله تعالى يقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ) [البقرة: 217].
قوله: «دعوني أصلي ركعتين»، طلب منهم خبيب أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، «فتركوه فركع ركعتين» هذا فيه: دليل مشروعية صلاة ركعتين لمن قتل صبرًا، ودليل المشروعية ليس فعل خبيب، لكن الدليل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان غير مشروع لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم على خبيب ولو بعد موته، فلما أقره النبي صلى الله عليه وسلم دل على أنه سنة، ولأنه عمل صالح فهو من الخاتمة الحسنة.
ثم قال لهم: «والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت»، أي: كنت سأصلي أكثر من ركعتين أو أطلت فيهما، ثم قال: «اللهم أحصهم عددًا! واقتلهم بددًا! ولا تبق منهم أحدًا!» دعا عليهم ثم أنشد يقول:
«فلست أبالي حين أقتل مسلمًا |
على أي: جنب كان لله مصرعي» |
أي: يقول: ما دمت قد مت على الإسلام فتكفيني هذه النعمة العظيمة فلا أبالي بعد ذلك.
«وذلك في ذات الإله وإن يشأ |
يبارك في أوصال شلو ممزع» |
فيه إثبات الذات لله عز وجل والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره عليه، فيقال: لله ذات لا تشبه الذوات، ولكن هذا من باب الخبر ولا يقال: من صفات الله الذات. لا، بل يقال: لله ذات موصوفة بصفات الكمال، وجاء أيضًا إثبات الذات في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة لما جاء الناس إبراهيم وطلبوا منه الشفاعة، ذكر أن له كذبات ثلاثًا، قال في الحديث: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله»([36])، يعني: لما كسر الأصنام وقال: هذا الذي فعله كبيرهم، ولما نظر إليهم وقال: إني سقيم ليوهمهم، فهي في ذات الله وليست كذبات، هي في الظاهر كذبة، وفي الواقع يجادل بها عن دينه في ذات الله.
قوله: «ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله»، ذلك قبل أن يسلم، ثم أسلم بعد ذلك، «وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرًا الصلاة» معنى قتل صبرًا أي: قتل بدون مدافعة؛ لأنه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه؛ لأنه أسير.
قوله: «وأخبر أصحابه يوم أصيب خبرهم»، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف؛ وكان قتل رجلًا من عظمائهم»، أي: بعثوا إليه بعثًا - وهو مقتول فوق الجبل - حتى يقطعوا من جسده قطعة حتى يتشفوا؛ لأنه قتل أحد كبرائهم، «فبعث الله عز وجل لعاصم مثل الظلة من الدبر»، أي: مجموعة من النحل مثل الخيمة ظللته فمن اقترب منه لسعته؛ فما استطاعوا أن يقطعوا منه شيئًا ورجعوا خائبين، وهذا من حماية الله لأوليائه.
قوله: «وقال كعب بن مالك: ذكروا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا» هذا أثر مقطوع، ذكره البخاري لأجل ذلك وهو أن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية من الذين شهدوا بدرًا.
([1]) أحمد (1/393)، والبخاري (240)، ومسلم (1794).
([2]) البخاري (4096)، ومسلم (677).
([3]) البخاري (2937)، ومسلم (2524).
([4]) انظر «المبسوط» (1/183).
([5]) الحربي في «غريب الحديث» (1/306)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/86).
([6]) انظر «الإنصاف» (4/147).
([7]) أبو داود (2665).
([8]) البخاري (2301).
([9]) البخاري (1370) من حديث ابن عمر م ، ومسلم (2873)، واللفظ له من حديث عمر t.
([10]) البخاري (1338)، ومسلم (2870).
([11]) أبو داود (2041).
([12]) مسلم (932).
([13]) البخاري (3979)، ومسلم (932).
([14]) البخاري (1804)، ومسلم (1927).
([15]) البخاري (2809).
([16]) أبو داود (4649)، والترمذي (3747)، وابن ماجه (133).
([17]) الترمذي (3768)، وابن ماجه (118).
([18]) البخاري (3813)، ومسلم (2484).
([19]) البخاري (3613)، ومسلم (119).
([20]) «الروض الأنف» للسهيلي (4/150).
([21]) البخاري (3007)، ومسلم (2494).
([22]) أحمد (1/79)، والبخاري (3007)، ومسلم (2494).
([23]) أحمد (6/194)، والبخاري (2661)، ومسلم (2770).
([24]) البخاري (6104)، ومسلم (60).
([25]) البخاري (3007)، ومسلم (2494).
([26]) البخاري (3983).
([27]) أبو داود (4654)، وأحمد (2/295)، وابن أبي شيبة (6/398).
([28]) أحمد (6/285).
([29]) البيهقي في «السنن الكبرى» (8/315).
([30]) «سيرة ابن هشام» (3/173).
([31]) مسلم (2272).
([32]) البخاري (3141)، ومسلم (1752).
([33]) أحمد (1/192)، والبخاري (3141)، ومسلم (1752).
([34]) البخاري (3141)، ومسلم (1752).
([35]) البخاري (3045).
([36]) البخاري (3358)، ومسلم (2371).