شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-5)

00:00

00:00

تحميل
43

المتن

[14/55] قتل كعب بن الأشرف

 ●         [3782] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا سفيان، قال عمرو: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله»، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم»، قال: فأذن لي أن أقول شيئًا، قال: «قل»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضًا، والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي: شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين -و حدثنا غير مرة فلم يذكر وسقًا أو وسقين، فقلت له: فيه وسق أو وسقان؟ فقال: أرى فيه وِِِسقًا أو وسقين- فقال: نعم ارهنوني، قالوا: أي: شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا! ولكنا نرهنك اللأمة -قال سفيان: يعني: السلاح- فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة -وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة- وقال غير عمرو: قالت: وأسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم؟! قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب- قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه برجلين -قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم، قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعباد بن بشر، قال عمرو: جاء معه برجلين- فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمُّهُ، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه - وقال مرة: ثم أشمكم - فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا - أي: أطيب، وقال غير عمرو: قال عندي: أعطر سيِّدِ العرب وأكمل العرب - قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه.

الشرح

 ●         [3782] هذا الحديث في قصة قتل كعب بن الأشرف، وهو يهودي إلا أنه كان من يهود العرب، كان من بني نبهان: بطن من طيئ، وكان خبيثًا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويؤلب عليه الناس ويسبه؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه.

وقوله: «من لكعب بن الأشرف؟»، يعني: من يقتله.

وقوله: «فإنه قد آذى الله ورسوله» فيه: دليل على إثبات الأذى لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى في الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [الأحزاب: 57] وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب: 58].

ولكن لا يلزم من الأذى الضرر، فإن الله تعالى لا يضره أحد من خلقه كما في الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار»([1]).

وقوله: «فقام محمد بن مسلمة» أما محمد بن مسلمة فهو ابن أخت كعب بن الأشرف، وأما أبو نائلة فأخوه من أمه، وهما اللذان قتلاه.

وقوله: «فأذن لي أن أقول شيئًا»، يعني: ائذن لي أن أتكلم فيك حتى يأمن جانبنا، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم.

فأتى محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف فقال له: «إن هذا الرجل»، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: «قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا»، يعني: سألنا صدقة وأتعبنا، ففرح بذلك كعب.

ثم أكمل محمد بن مسلمة كلامه فقال: «وإني قد أتيتك أستسلفك»، يعني: أتيناك لتسلفنا شيئًا من التمر، فقال لهما كعب: «وأيضًا والله لتملنه»، أي: سيأتيكم وقت فتملونه.

وقوله: «إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي: شيء يصير شأنه»، يعني: نحن قد اتبعناه الآن، وما نريد أن نتركه حتى ننظر آخر أمره، وإنما قال له ذلك حتى يأمن جانبهما.

وقوله: «وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين» فالوسق: ستون صاعًا من التمر.

وقوله: «ارهنوني»، يعني: ادفعوا لي شيئًا يكون رهنًا على التمر الذي تريدونه، فقالوا له: «أي: شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم»، فردوا عليه فقالوا: «كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!» وفي بعض الروايات أنهم قالوا: «ولا نأمنك، وأي: امرأة تمتنع منك لجمالك؟!»([2])، فقال: إذن أعطوني أبناءكم، فردوا عليه: «كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين»، ولكن نعطيك السلاح -
وفيه: إشارة إلى أنهم سيقتلونه بالسلاح - واتفقوا على ذلك.

قوله: «فجاءه ليلًا ومعه أبو نائلة – وهو أخو كعب من الرضاعة - فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم» جاءوا في جوف الليل، قال: «فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟»، أي: ليس هذا وقت خروج، فقد كانت ذات نباهة وعقل، فقال لها: لا بأس فهذا محمد بن مسلمة ابن أختي وأبو نائلة أخي من الرضاعة، فلا خطر منهما، «قالت: وأسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم»، فذكرته امرأته لكنه لم يتذكر؛ لأن الله أراد هلاكه.

وقوله: «إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب» فيقصد أن هذا كرم منه، وإلا لكان سيئ الرد.

وبعد ذلك قال محمد بن مسلمة لمن معه: سأدعوه أولًا ثم أتكلم معه، وأقول له رائحتك طيبة - وكان حديث عهد بعرس - أتأذن لي أن أشم الرائحة؟ فأشم ثم أعطيكم تشمون، ثم أستأذن مرة ثانية، فإذا تمكنت من رأسه فاضربوا رقبته.

وقوله: «فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب» فالوشاح ثوب الليل، مثلما تقول: قميص الليل، يعني: نزل وعليه ثياب الليل، وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال له محمد بن مسلمة: «ما رأيت كاليوم ريحًا - أي: أطيب» فقال له: «عندي أعطر سيد العرب» وفي رواية: «عندي أعطرُ نساء العرب»([3]) أي: فلا بد أن يكون عندي رائحة طيبة، فقال: «أتأذن لي أن أشم رأسك؟» أي: أتأذن لي أن أشم الطيب، وفي بعض الروايات خارج «الصحيح»: «أتأذن لي أن أمسح به رأسي وعيني» قال: نعم، فشمه ثم قال لأصحابه: شموا، فأعطى لكل واحد رأسه فشموه، وذلك حتى يطمئن، فرفع رأسه، فقال له: أتأذن لي أن أشم مرة ثانية «قال: نعم، فلما استمكن منه» وأمسك رأسه بقوة قال: عليكم عدو الله، فضربوا رقبته بالسيف «فقتلوه»، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «باب: قتل كعب بن الأشرف»، أي: اليهودي، قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيًّا من بني نبهان وهم بطن من طيئ، وكان أبوه أصاب دمًا في الجاهلية، فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبًا، وكان طويلًا جسيمًا ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن وداعة السهمي والد المطلب، فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فطردته، فرجع كعب إلى المدينة وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم([4])، وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف كان شاعرًا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر، فلما أبى كعب أن ينزع عن أذاه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا ليقتلوه([5]). وذكر ابن سعد أن قتله كان في ربيع الأول من السنة الثالثة».

ومعنى يهجوهم: أي: يتكلم فيهم بالسوء.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قال السهيلي: في قصة كعب بن الأشرف قتل المعاهد إذا سب الشارع خلافًا لأبي حنيفة، قلت:
وفيه: نظر، وصنيع المصنف في «الجهاد» يعطي أن كعبًا كان محاربًا حيث ترجم لهذا الحديث: «الفتك بأهل الحرب».

وظاهره أنه محارب، ويحتمل أنه ذمي، لكنه نقض العهد.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وترجم له أيضًا: «الكذب في الحرب»،
وفيه: جواز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته».

وهذا حكم شرعي: يجوز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة قد بلغته، وإن بلغه مرة ثانية كان ذلك من باب الاستحباب، مثلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا لما بعثه إلى خيبر، فقد قال له: «ادعهم إلى الإسلام»([6])، أي: مرة ثانية، فدعاهم، وبعض المشركين لم يبلغهم مرة ثانية، فأغار على بني المصطلق وهم غارُّون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم([7])؛ لأنهم بلغتهم الدعوة ولم يؤمنوا، فالدعوة واجبة في أول الأمر، فإن أجابوا فالحمد لله، وإن لم يجيبوا قتلوا، فإن أعاد الدعوة مرة ثانية فهذا للاستحباب.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفيه: جواز الكلام الذي يحتاج إليه في الحرب ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته».

أي: مثلما قال محمد بن مسلمة: «إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنانا»، وإنه يريد كذا وكذا ... إلى آخر كلامه رضي الله عنه.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وقد تقدم البحث في ذلك مستوفى في «كتاب الجهاد»،
وفيه: دلالة على قوة فطنة امرأته المذكورة وصحة حديثها وبلاغتها في إطلاقها أن الصوت يقطر منه الدم».

ولا شك أن ذلك دل على فطنة هذه المرأة، لكن لم يستفد زوجها من فطنتها وفراستها.

* * *

المتن

[15/55] قتل أبي رافع عبدالله بن أبي الحقيق
ويقال: سلام بن أبي الحقيق كان بخيبر،
ويقال: في حصن له بأرض الحجاز

وقال الزهري: هو بعد كعب بن الأشرف.

 ●         [3783] حدثنا إسحاق بن نصر، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبدالله بن عتيك، بَيْتَه ليلًا وهو نائم، فقتله.

 ●         [3784] حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار، وأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبدالله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبدالله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل؛ فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقت علي من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دَهِش، فما أغنيت شيئًا، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل! إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضَبِيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا، حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أَُرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته، فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعَى أبا رافع تاجر أهل الحجاز! فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء فقد قتل الله أبا رافع! فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: «ابسط رجلك»، فبسطت رجلي فمسحها؛ فكأنها لم أشتكها قط.

 ●         [3785] حدثنا أحمد بن عثمان، قال: حدثنا شريح، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع عبدالله بن عتيك وعبدالله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبدالله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر، قال: فتلطفت أن أدخل الحصن، ففقدوا حمارًا لهم؛ فخرجوا بقبس يطلبونه، قال: فخشيت أن أعرف، قال: فغطيت رأسي، وجلست كأني أقضي حاجة، ثم نادى صاحب الباب: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهب ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته ففتحت به باب الحصن، قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فَغَلَّقْتُها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم، فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل؟ فقلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه، وصاح، فلم تغن شيئًا، قال: ثم جئت كأني أغيثه، فقلت: ما لك يا أبا رافع - وغيرت الصوت؟ فقال: ألا أعجبك! لأمك الويل! دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت له أيضًا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئًا، فصاح، وقام أهله، قال: ثم جئتُ وغيرت صوتي كهيئة المستغيث، وإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشًا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه، فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع! قال: فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فبشرته.

الشرح

هذا الباب وما فيه من أحاديث في قصة قتل أبي رافع عبدالله بن أبي الحقيق، فالأول أي: كعب بن الأشرف قد قتلته الأوس، وكان سيدًا مطاعًا، فلما سمعت الخزرج بما فعلته الأوس قالوا: نريد أيضًا الشرف. فقد كان الأوس والخزرج يتصاولان في الشرف أي: يتسابقان في الجود والكرم، فكل حي يقول عن الحي الآخر: لا يفوقنا في الخير والأجر، فقالوا: ما يمكن للأوس أن يسبقونا بهذا الشرف، فتساءلوا: من يكون سيدًا مؤذيًا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكروا أبا رافع، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم وأرسل رهطًا وأمر عليهم عبدالله بن عتيك.

 ●         [3783]، [3784]، [3785] ذكر المؤلف قصة قتل أبي رافع، وسببه أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، قوله: «وكان في حصن له بأرض الحجاز» فقد كان في حصن بأرض الحجاز بخيبر، وقد كان كلٌّ من كعب بن الأشرف وأبو رافع سيدًا مطاعًا في قومه، بل كان أخو أبي رافع زوج صفية ل قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وكما كان كعب بن الأشرف يسكن في شرفة مرتفعة أو حصن، فإن أبا رافع كان أيضًا في حصن يصعد إليه بالسلم، ويأتيه الناس فيتسامرون عنده، وكان عنده حرس وأتباع وأبواب داخل أبواب.

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رهطًا لقتل أبي رافع عبدالله بن أبي الحقيق، وأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وقد كانت المسافة بين المدينة وخيبر كبيرة فلما دنوا كانت الشمس قد غربت.

قوله: «وراح الناس بسرحهم»، أي: وقدم الرعاة الذين يرعون الغنم.

وقوله: «قال عبدالله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل»، فذلك لأن أبا رافع سيد شريف من ساداتهم، وله قصر كبير عليه حراسة، ويأتيه الناس ويتسامرون عنده إلى ساعات متأخرة من الليل ثم يذهبون، فقال عبدالله: إني منطلق وسأتلطف للبواب لعلي أدخل.

وقوله: «فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه»، يعني: تغطى به ليخفي شخصه لئلا يعرف، فكأنه يقضي حاجة.

وقوله: «فهتف به البواب: يا عبدالله» فهذا نداء للشخص الذي لا يعرف، فالناس كلهم عبيد لله. قال: «إن كنت تريد أن تدخل فادخل؛ فإني أريد أن أغلق الباب»، أي: إن كنت تريد الدخول فادخل فما بقي إلا أنت، فقال في نفسه: هذا ما أريد، والبواب لا يعرف أنه عبدالله بن عتيك، ولو كان يعرفه لما أدخله.

وقوله: «فدخلت فكمنت»، أي: دخل ولكن لم يدخل في المجلس لكنه اختفى في مكان مربط الفرس حتى يخرج الناس.

وقوله: «ثم علق الأغاليق»، فالأغاليق: جمع غلق، وهو ما يفتح به الأبواب، يعني: علق المفاتيح.

وقوله: «على ود»، أي: على وتد، والناس في ظلام الليل بعد أن غربت الشمس، وعبدالله مختف في مربط الفرس يراه ويبصره، ويشاهد المفاتيح ويراها.

وقوله: «فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده»، أي: كان له مجلس ويسمر عنده أصحابه، فكان الناس يدخلون على أبي رافع ليقضوا حوائجهم.

وقوله: «وكان في علالي له»، جمع علية وهي الغرفة المشرفة، وفي رواية ابن إسحاق([8]): «وكان في عُلية له إليها عَجلة»، وهي السلم، يعني: غرفة مرتفعة يصعد إليها بسلم.

وقوله: «فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه»، أي: فلما ذهب الناس وانتهى السمر وذهبوا إلى بيوتهم، وأغلق البواب الأبواب وذهب، جاء عبدالله وأخذ المفاتيح وصعد إليه.

وأما قوله: «فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقت علي من داخل»، فيدل على أنه حصن، وبه باب من ورائه باب ثم من ورائه باب، وغرفة بعدها غرفة ثم بعدها غرفة، حتى يأتي الدرج، فيصعد السلم إلى غرفته؛ فجعل كلما فتح بابًا أغلق عليه من الداخل حتى لا يدخل عليه أحد.

وقوله: «نذروا بي»، فبكسر الذال، يعني: علموا، أي: قال في نفسه: إن علم بي القوم فقد غلقت الأبواب واحتط لنفسي، وسوف أقتله قبل أن يفتحوها، فلن يصل إلي أحد حتى أقتله، وإذا قتلته فقد انتهت المهمة ولا أبالي حتى لو قتلت، وإن لم يعلموا كان في ذلك فائدة لي ومكسب.

وقوله: «فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله» فالأفصح أن يقال: وسط بإسكان السين؛ لأنها بمعنى بين، ويجوز فتحها، أي: وصل إليه عبدالله وهو في بيت مظلم وسط عياله، ولا يدري أين هو، فليس عنده كهرباء، وقد نام وأطفأ السراج، وصعد إليه الغرفة قال: «قلت: أبا رافع قال: من هذا؟»، أي: ظن أبو رافع أنه من ندمائه فقال: من هذا؟ قال: «فأهويت نحو الصوت»، أي: لأضربه، قال: «فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا»، أي: ضربه ضربة لكن ما تمكنت منه، قال: «وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد»، أي: مكثت غير بعيد، قال: «ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟»، أي: غيَّر صوته حتى لا يعرفه وكأنه شخص آخر يغيثه، فقال: «لأمك الويل! إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة» أي: ثانية «أثخنته ولم أقتله»، ثم رجع في المرة الثالثة كما تقول الرواية قال: «ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه»، يعني: ركز السيف في بطنه وتحامل عليه حتى سمع قرع العظم من ظهره، وعرف أنه قتله، وقال كما في الرواية الأخرى: «ثم خرجت دهشًا»([9])، أي: خرجت من البيت وأنا دهش، وجعل يفتح الأبواب بابًا بابًا، فالأبواب كثيرة باب من ورائه باب من ورائه باب، حتى انتهى إلى درجة له فوضع رجله وظن أنه قد انتهى، فسقط وانكسرت رجله فعصبها، وهو لا يحس بها من نشوة الفرح؛ لنجاح المهمة التي أسندت إليه، فهذا النجاح جعله لا يحس بجرحه وألمه، ثم جلس وقال لأصحابه: لا أذهب حتى أعلم أنه قتل، فجلس إلى الفجر فلما صاح الديك قام الناعي على السور ونادى بصوت: «أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز!» ، أي: يخبر بموته.

وقوله: «النجاء فقد قتل الله أبا رافع!» ، يعني: انجوا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فقال: «ابسط رجلك» فبسطت رجلي فمسحها؛ فكأنها لم أشتكها قط»، وهذا من علامات النبوة من باب قدرة الله وأن الله على كل شي قدير، فرجله مكسورة ومسحها النبي صلى الله عليه وسلم فأزيل الكسر في الحال، وما احتاج إلى عملية ولا إلى غير ذلك، وهذا يشبه رد النبي صلى الله عليه وسلم عين قتادة بن النعمان([10])، ويشبه تفله في عين علي رضي الله عنه وهو أرمد([11])، وهذا من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه، ويشبه كذلك تفل النبي صلى الله عليه وسلم على جرح الحارث بن أوس الذي شارك في قتل كعب بن الأشرف فبرأ([12])، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه: أصاب ذباب السيف الحارث بن أوس فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في فيه فبرأ.


وفي الحديث: التالي أنه قال: «ثم أتيت أصحابي أحجل»، أي: ذهب إلى أصحابه يحجل يعني: أصابه عرج فلما قتله جلس وقال: ما أذهب حتى أتأكد وحتى أسمع فلما جاء الصبح صعد الناعية على السور بصوت مرتفع «فقال: أنعى أبا رافع» وهو جالس، فلما سمع قال: «فقمت أمشي ما بي قلبة»، ما شعر بكسر رجله من نشوة الفرح وذهب مع أصحابه فبشر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق ويقال: سلام بن أبي الحقيق كان بخيبر»، والحقيق بمهملة وقاف مصغر، والذي سماه عبدالله هو عبدالله بن أنيس وذلك فيما أخرجه الحاكم في «الإكليل» من حديثه مطولًا وأوله: أن الرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي الحقيق ليقتلوه وهم عبدالله بن عتيك وعبدالله بن أنيس وأبو قتادة وحليف لهم ورجل من الأنصار وأنهم قدموا خيبر ليلًا فذكر الحديث، وقال ابن إسحاق: هو سلام أي: بتشديد اللام، قال: لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر فأذن لهم، قال: فحدثني الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلًا علينا وكذلك الأوس، فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف تذاكرت الخزرج: من رجل له من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لكعب؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر.

قوله: «في حصن له بأرض الحجاز»، وهو قول وقع في سياق الحديث الموصول في الباب، ويحتمل أن يكون حصنه كان قريبًا من خيبر في طرف أرض الحجاز، ووقع عند موسى بن عقبة: فطرقوا أبا رافع بن أبي الحقيق بخيبر فقتلوه في بيته، ولأبي رافع المذكور أخوان مشهوران من أهل خيبر أحدهما كنانة وكان زوج صفية بنت حيي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه الربيع بن أبي الحقيق وقتلهما النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا بعد فتح خيبر([13])».

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر».

فهذان مشركان بلغتهما الدعوة وأصرا على كفرهما كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق فجاز قتلهما؛ لأنهما آذيا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وقتل من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلب غرتهم والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة».

إبهام أو إيهام: يعني: أن عبدالله بن عتيك غير صوته لما ضربه المرة الأولى ثم جاء كأنه مغيث قال: «ما لك يا أبا رافع»، فغير صوته وفي المرة الثالثة غير صوته.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين».

فهؤلاء رهط تعرضوا للكثير؛ لأنهم لو علموا بهم قتلوهم؛ لأنهم أتوا إلى خيبر وخيبر عدد كبير من اليهود.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «والحكم بالدليل والعلامة؛ لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته».

أي: لما سمع صوته ضربه عملًا بالعلامة.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «واعتماده على صوت الناعي بموته، والله أعلم».

وكان هذا القتل بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد.

* * *

المتن

[16/55] غزوة أحد

وقول الله عز وجل: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) إلى قوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران: 121].

وقوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) إلى قوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران: 139-143].

وقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) تستأصلونهم قتلا (بِإِذْنِهِ) إلى قوله: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 152] وقوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً) [آل عمران: 169].

 ●         [3786] حدثنا محمد بن عبدالرحيم، قال: أخبرنا زكرياء بن عدي، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وأن موعدكم الحوض، وأني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها»، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3787] حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا من الرماة، وأمر عليهم عبدالله، وقال: «لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا»، فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة! الغنيمة! فقال عبدالله: عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا فلما أبوا صرف وجوههم؛ فأصيب سبعون قتيلًا، وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! أبقى الله لك ما يخزيك! قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل!»، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم!»، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني.

 ●         [3788] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: اصطبح الخمر يوم أحد ناس ثم قتلوا شهداء.

 ●         [3789] حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبدالله، قال: أخبرنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم، أن عبدالرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا! ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

 ●         [3790] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبدالله قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: «في الجنة»، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل.

 ●         [3791] حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى - أو ذهب - لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه، واجعلوا - أو قال: ألقوا - على رجله من الإذخر»، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدِبها.

 ●         [3792] حدثنا حسان بن حسان، قال: حدثنا محمد بن طلحة، قال: حدثنا حميد، عن أنس، أن عمه غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله تعالى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أَجِدُّ، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: المسلمين! وأبرأ إليك مما جاء به المشركون! فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعدُ؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة - أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم.

 ●         [3793] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا ابن شهاب، قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [الأحزاب: 23]، فألحقناها في سورتها في المصحف.

 ●         [3794] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، سمعت عبدالله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)[النساء: 88]، وقال: «إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة».

الشرح

قد اعتنى المؤلف بغزوة بدر وأطال فيها، فذكر كثيرًا من الآيات والأحاديث؛ لأن غزوة بدر نصر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم وأولياءه وحزبه المؤمنين، وفرق الله فيها بين الحق والباطل، واعتنى كذلك بغزوة أحد؛ لأن الغزوتين فيهما حكم وأسرار عظيمة وعجيبة.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «باب غزوة أحد»، سقط لفظ «باب» من رواية أبي ذر، و«أحد» بضم الهمزة والمهملة جبل معروف بينه وبين المدينة أقل من فرسخ، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «جبل يحبنا ونحبه»([14])، كما سيأتي في آخر باب من هذه الغزوة، مع مزيد فوائد فيما يتعلق به؛ ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجًا فمات هناك».

وهذا قول ضعيف لا وجه له؛ ولهذا ذكر الحافظ أن سنده ضعيف جدًّا.

وقد ذكر المؤلف غزوة أحد، فذكر النصوص من الآيات والأحاديث فهذه الآيات في غزوة أحد، قال: «غزوة أحد وقول الله عز وجل: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)» [آل عمران: 121] والغدو : الذهاب في أول النهار .

وكانت غزوة أحد بعد غزوة بدر بسنة فكانت في السنة الثالثة من الهجرة، في شهر شوال، قال الحافظ ابن حجر /: «وشذ من قال: سنة أربع، قال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان، وقيل: لتسع، وقيل: في نصفه، وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة،
وفيه: تجوز؛ لأن بدرًا كانت في رمضان باتفاق».

وقال الله تعالى: «( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)» [آل عمران: 139] ثم بين الله الحكم التي تترتب على ما يحصل للمسلمين من الهزيمة والقتل والشهادة فقال: «( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ)» [آل عمران: 40]، أي: جراح «( فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)» [آل عمران: 40]، أي: كما مسكم جراح فأيضًا قد مس الكفار جراح، ولكن لا تستوون، فأنتم على خير وهم على شر، فقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، ولكم الأجر والحسنات، فلكم ثواب في الدنيا وفي الآخرة، ولكم العاقبة الحميدة، وهم ليسوا كذلك.

وقوله: «(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)» [آل عمران: 40] أي: هذه حكمة وهي المداولة بين الناس فيوم لك ويوم عليك «(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)» [آل عمران: 40] والعلم هنا علم ظهور «(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)» [آل عمران: 140]، أي: من الحكم أيضًا أن يتخذ الله منكم شهداء «(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)» [آل عمران: 141] فهذه خمس فوائد ذكر الله أنها تحصل من هزيمة المؤمنين.

فقال تعالى: «(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)»، والشهادة فضلها عظيم وأجرها كبير، فلولا تسليط الله الكفار على المؤمنين ما حصلت الشهادة.

وقال تعالى: «(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)»، والتمحيص هو التكفير لسيئاتهم ورفع درجاتهم، فيمحصهم حتى يخرج الإنسان نقيًّا من الذنوب.

ثم قال سبحانه: «( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)» [آل عمران: 142]، أي: هذا من الحكم أيضًا، فدخول الجنة لا بد فيه من تمحيص حتى يعلم الله - علم ظهور - المؤمنين من غيرهم، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، لكن حتى تظهر آثاره على الأشخاص ليعلم الله الذين جاهدوا، أي: حتى يظهر المجاهد من غير المجاهد، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، أي: يعلم الصابر من الجزع، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران: 143]، ثم قال: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ) في غزوة أحد، (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)، أي: «تستأصلونهم قتلًا»، (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران: 152]. فبين الله سبب الهزيمة في هذه الغزوة، وأنه سبحانه امتحن فيها المؤمنين، وتحقق فيها أن الرسل تبتلى في أول أمرها ثم تكون لها العاقبة، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) فهذا الفشل والتنازع هو سبب الهزيمة، (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ).

وكان السبب مما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة، في غزوة أحد كما نقل ابن حجر رحمه الله ملخص أنه : لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: «رأيت البارحة في منامي بقرًا تذبح والله خير وأبقى، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته - أو قال: به فلول - فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشًا»، قالوا: وما أولتها؟ قال: «أولت البقر بقرًا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت»، فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم وأبى كثير من الناس إلا الخروج، فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي: منهم فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل»([15])، نزل فخرج بهم وهم ألف رجل، وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد ورجع عنه عبدالله بن أبي ابن سلول بثلث الجيش ثلاثمائة، وما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف أي: يقابل عددهم ثلاث مرات.

فلما رجع عبدالله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وصف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة وتعبَّوا للقتال، وعلى خيل المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد وليس مع المسلمين فرس، وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلًا، وعهد إليهم ألَّا يتركوا منازلهم، وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير، فبارز طلحة بن عثمان فقتله وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوهم، فرأى ذلك الرماة فتركوا مكانهم ودخل العسكر فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فحملوا على المسلمين في الخيل فمزقوهم، وصرخ صارخ: قتل محمد أخراكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضًا وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل، وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعدًا في الشعب ومعه طلحة والزبير وقيل: معه طائفة من الأنصار منهم: سهل بن بيضاء، والحارث بن الصمة، وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بآلهته: اعل هبل، فناداه عمر: الله أعلى وأجل! ورجع المشركون إلى أثقالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل فهم يريدون البيوت، وإن ركبوا الأثقال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع»، فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع فقال: رأيت الخيل مجنوبة؛ فطابت أنفس المسلمين، ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم، وبكى المسلمون على قتلاهم، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق([16])، فقالت اليهود لو كان نبياً ما ظهروا عليه، وقال المنافقون : لو أطاعونا ما أصابهم هذا.

وهذا ابتلاء وامتحان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيظهر النفاق عند الفتن والمحن، وما أشبه الليلة بالبارحة، فتجد الصحفيين الآن - وقد جاءت الفتن - يسبون أهل الخير والمؤسسات الدينية، ويقللون من شأنها، وذلك يظهر عند المحن.

 قال الحافظ ابن حجر /: قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كنت أرى أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت هذة الاية يوم أحد : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران: 152]. ثم قال سبحانه: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران: 169]. أخرج مسلم من طريق مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: «إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها»([17])، الحديث» فهذه من فوائد الفتن؛ (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران: 170].

ومن فوائد هذه الغزوة أن عرف المسلمون أعداءهم، فقد ظهر المنافقون في هذه الغزوة، فظهر عبدالله بن أبي، وكان المنافقون في الأول مختفين، لكنهم ظهروا عند الشدائد.

فقالت اليهود لو كان نبيًّا ما ظهروا عليه، وقال المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا، قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة، منها : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي».

أي: مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبرحوا مكانكم»([18])، لكنهم قالوا: نشارك في الغنيمة، فكانت هذه عاقبة المعصية وشؤم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان».

وهذه فائدة أخرى: تبتلى الرسل في أول أمرها ثم تكون العاقبة لها، وذلك كما قال هرقل ملك الروم؛ لأنه أخذها من الكتب السابقة، والحكمة في ذلك كما قال الحافظ/: « أنهم لو انتصروا دائمًا دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين؛ لتمييز الصادق من الكاذب».

ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس وكسرًا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون».

فلو كان المسلمون دائمًا ينتصرون صار عندهم عجب بأنفسهم، فلما حصلت الهزيمة صار ذلك كسرًا لهم وهضمًا لأنفسهم وتواضعًا.

«ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها».

يعني: أن المنازل والدرجات العالية في الجنة ما يصلها الإنسان إلا بالابتلاء والمحن.

«ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم».

أي: كذلك الشهادة فلولا أن قدر الله الهزيمة لما حدثت الشهادة وما نالوها.

«ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين».

وقوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً) الآية [آل عمران: 169].

في بعض نسخ الصحيح مسألة :هل شارك جبريل في غزوة بدر؟ عن عكرمة عن ابن عباس م قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».

وهذا الحديث فيه أن جبريل عليه السلام قاتل يوم أحد، وأن الملائكة قاتلت يوم أحد، كما أنها قاتلت يوم بدر، وهذا الحديث سبق في باب «شهود الملائكة بدرًا»([19]).

وهل شارك في غزوة أحد؟ أجاب الحافظ عن الثاني فقال: إن هذا وهم.

فقال الحافظ ابن حجر /: «تنبيه: وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي هنا قبل حديث عقبة بن عامر حديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه...» الحديث، وهو وهم من وجهين:

أحدهما: أن هذا الحديث تقدم بسنده ومتنه في «باب شهود الملائكة بدرًا»، ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم.

ثانيهما: أن المعروف في هذا المتن يوم بدر كما تقدم لا يوم أحد، والله المستعان».

فالملائكة قاتلت يوم بدر، ولا يمنع ذلك أن تكون قد قاتلت يوم أحد، بل إن الحديث دل على حدوث ذلك، وسيأتي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد([20]).

هذان الرجلان من الملائكة، وهما جبريل وميكائيل، فهذا دليل على أن الملائكة قاتلت يوم بدر وقاتلت يوم أحد أيضًا، ولكن كان المدد في أحد قليلًا، لكن الحافظ جزم بأنه وهم، ونقول: ما المانع أن الملائكة قاتلوا يوم أحد وقاتلوا يوم بدر، فكيف يقال: إنه وهم؟ فمحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»([21]) يوم بدر ويوم أحد؛ لأن الملائكة قاتلت يوم أحد، وقد ذكرنا حديث سعد بن أبي وقاص في ذلك.

 ●         [3786] هذا حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» وذلك أن غزوة أحد كانت في السنة الثانية من الهجرة وكانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، والمراد بالصلاة هنا - في أصح قولي العلماء: الدعاء والاستغفار لا صلاة الجنازة، كما قال الله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103] يعني: ادع لهم.

فقال بعض العلماء: إن معناها هنا الدعاء؛ لأن الشهيد لا يصلى عليه صلاة الجنازة بل يكفن ويدفن بدمائه وثيابه ولا يغسل.

وقوله: «إني بين أيديكم فرط» فالفرط: هو الذي يتقدم القوم ويهيئ لهم ويصلح لهم ما يحتاج إلى إصلاح.

وقوله: «وأنا شهيد عليكم» يعني: يشهد عليهم صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة، ونبيها صلى الله عليه وسلم يشهد عليها.

وقوله: «وأن موعدكم الحوض» يعني: أتقدمكم على الحوض، وحوضه صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة، فكأنه يقول: أنا أتقدمكم وأهيئ لكم وانتظركم على الحوض حتى تردوا عليَّ.

قوله عن الحوض: «وأني لأنظر إليه من مقامي هذا» فيدل على أنه كشف له صلى الله عليه وسلم في الدنيا أو صور له فصار ينظر إليه، وفي اللفظ الآخر: «وإن منبري على حوضي»([22]) أي: إن منبره يكون جزءًا من الحوض يوم القيامة.

 قوله: «وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها» هذا خاص بالصحابة فلا يخشى عليهم من الشرك؛ لما أعطاهم الله من الإيمان الراسخ في قلوبهم، ولكونهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدوه وجاهدوا معه وسمعوا القرآن، ولكن يخشى عليهم من الدنيا إذا فتحت عليهم أن يتنافسوها كما في اللفظ الآخر: «فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم»([23])، وأما من بعد الصحابة فيخشى عليهم من الدنيا ومن الشرك، وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث وأمثاله على أن هذه الأمة مطهرة من الشرك وأنها معصومة وليس فيها شرك فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا» واستدل لهم بحديث: «إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكن رضي بما تحتقرون من أعمالكم»([24]) وقالوا: هذا دليل على أن هذه الأمة مطهرة معصومة من الشرك، وقالوا: إن ما يفعله عباد القبور من الطواف بها والذبح لها هذا ليس بشرك؛ لأن الأمة مطهرة من الشرك. وهذا غلط منهم، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لست أخشى عليكم» المراد بهم: الصحابة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم، بخلاف الأعراب الذين أسلموا ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم ثم ارتدوا.

 وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم هذه»، وفي اللفظ الآخر: «أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»([25]) - فهذا أجاب عنه العلماء بأجوبة:

الجواب الأول: أن الشيطان لما رأى ظهور الإسلام وانتشاره يئس وظن أنه لا يعبد وأنه لا يوجد الشرك، والشيطان غير معصوم لا في اليأس ولا في الرجاء، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أيأسه وإنما هو الذي يئس.

الجواب الثاني: أن الشيطان يئس أن يعبده الصحابة، وذلك لما رسخ في قلوبهم من الإيمان ولما جعل الله في قلوبهم من الثبات حيث إنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاصروه وجاهدوا معه وسمعوا القرآن.

الجواب الثالث: أن يقال: إن الشيطان يئس أن تطبق الأمة على الشرك، فالأمة معصومة لا يمكن أن تكون كلها على الشرك، ولا تزال طائفة على الحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»([26]) لكنه لم ييأس من وقوع الشرك من أفراد ومن جماعات، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الشرك يقع في هذه الأمة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان»([27]) أي: جماعات كثيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى»([28]) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة»([29]) وذو الخلصة صنم، يعني: أن الشرك واقع في هذه الأمة، لكن الشيطان هو الذي يئس لما رأى ظهور الإسلام وانتشاره، أو أن العصمة من الشرك الواردة في الحديث خاصة بالصحابة، أو أن المراد يئس أن تطبق الأمة كلها على الشرك، فالأمة معصومة لا يمكن أن تكون كلها على ضلالة، فلا بد أن تبقى طائفة على الحق.

 ●    [3787] هذا الحديث في قصة غزوة أحد ساقها البراء رضي الله عنه فقال: «لقينا المشركين يومئذ» يعني: يوم أحد، «وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا من الرماة؛)) وفي رواية زهير: «وكانوا خمسين رجلًا» وهذا هو المعتمد، ووقع في «الهدي» أن الخمسين عدد الفرسان يومئذ، وهو غلط بين».

المراد بالهدي كتاب «زاد المعاد» لابن القيم، فهو يريد أن يرد على ابن القيم فيقول: إن ابن القيم قال: إن الخمسين عدد الفرسان وهو غلط، والحافظ يتحامل على شيخ الإسلام وابن القيم، وسبق أن تحامل على شيخ الإسلام في مسألة يوم الإخاء، حيث ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على ابن المطهر الرافضي أن الإخاء بين المهاجرين غلط، ولمّا رجعنا لكتاب «منهاج السنة» لشيخ الإسلام وجدناه ذكر آثارًا كثيرة قوية في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين المهاجرين([30])، والحافظ وعفا عنه تحامل عليه في هذه المسألة، ولا شك أن شيخ الإسلام وابن القيم أكثر تحقيقًا فيما يتعلق بالمعتقد من غيرهم، وهم من أهل الحديث، وهنا تحامل على ابن القيم عندما قال: «وقع في «الهدي» أن الخمسين عدد الفرسان يومئذ وهو غلط بين»، فلو رجعت إلى «زاد المعاد» تجد الأدلة والنصوص الكثيرة بل تجد سيلًا من الأدلة والتحقيق، فالحافظ عفا الله عنه هكذا ينقل كلمة ثم يتحامل بها، فيقول: «وهو غلط بين» والجزم بأنه غلط بين فيه نظر، فقد يكون صحيحًا ولا يكون غلطًا.

 ((وأمر عليهم عبدالله» أي: عبدالله بن جبير، وقد جاء هذا مصرعا في رواية زهير ،وكان الرماة على جبل صغير يقابل جبل أحد، أجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم خمسين من الرماة وأمر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم: «لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا)) في رواية زهير : (( حتى أرسل إليكم )) ثم قال صلى الله عليه وسلم : ((وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا» يعني: لا تتركوا هذا الجبل، فإن رأيتمونا انتصرنا عليهم اجلسوا مكانكم، وإن رأيتموهم انتصروا علينا فلا تعينونا، فلا تتحركوا من فوق الجبل سواء انتصرنا أو هزمنا، فالأمر واضح.

وعند ابن إسحاق أنه قال لهم: «انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا»([31]).

وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في الموضع، ثم قال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا»([32])».

وقوله: «فلما لقينا هربوا» يعني: المشركين هربوا وهزموا في أول الأمر.

وقوله: «حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل» أي: كل واحد من المشركين قد جاء بزوجته معه حتى تشد من عضده وتقويه كي لا يفر، فلما حصلت الهزيمة هربت النساء في الجبل.

وقوله: «رفعن عن سوقهن» فسوق: جمع ساق، «قد بدت خلاخلهن» يعني: أن نساء المشركين من شدة الخوف هربن بسرعة لدرجة أن الواحدة كانت ترفع ثوبها عن ساقها حتى يبدو الخلاخل؛ لأنها إذا تركت الثوب قد تعثر وتسقط فترفع ثوبها لتجري فيبدو الساق وعليه الخلاخل، والخلاخل نوع من الحلية تجعل في الرجل من ذهب أو فضة، وكانت النساء تضعها قديمًا، أما الآن فالنساء لا تضع في الأرجل شيئًا.

وكان قدر جاء رجال قريش غزوة أحد ومعهم نساؤهم، حتى تثبتهم فإنهم إن رأوا نساءهم لن يفروا ويتركوهن، فيحملهم ذلك على الثبات وعلى الحملة القوية ضد المسلمين،وسمى ابن إسحاق - كما نقل ابن حجر رحمه الله - النساء المذكورات وهن: هند بنت عتبة خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية وهي والدة ابن صفوان، وريطة بنت شيبة السهمية مع زوجها عمرو بن العاص، وهي والدة ابنه عبدالله، وسلافة بنت سعد مع زوجها طلحة بن أبي طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك والدة مصعب بن عمير، وعمرة بنت علقمة بن كنانة، وأوصلها بعضهم إلى خمس عشرة امرأة، فهؤلاء النساء خرجن مع أزواجهن يوم أحد ولما حصلت الهزيمة ما نفعهن الخروج، فهربن واشتددن في الجبل ورفعن عن سوقهن ليسرعن في الهرب.

وفي حديث الزبير بن العوام عند ابن إسحاق قال: «والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون إحداهن قليل ولا كثير. إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشف القوم عنه وخلوا ظهرنا للجبل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم حتى ما يدنو منهم أحد من القوم»([33])

وقوله: «فأخذوا يقولون: الغنيمة! الغنيمة!» يعني: أن أصحاب الجبل وهم الرماة، قالوا: الغنيمة الغنيمة أي: ننزل من الجبل ونشارك الناس في جمع الغنيمة، فقال عبدالله بن جبير أمير الرماة: «عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا» أي: ذكرهم وقال لهم: لا تبرحوا ولا تتحركوا، فأبوا وقالوا: لا والله لنشاركنهم فنزلوا وجعلوا يشاركونهم في جمع الغنائم.

وقوله: «فلما أبوا صرف وجوههم» يعني: لما لم يفعلوا ونزلوا وأخلوا المكان وامتنعوا عن عدم التحرك - جاءهم خالد بن الوليد على خيل المشركين قبل أن يسلم في ذلك الوقت فحصلت النكسة، قال: «فأصيب سبعون قتيلا» أي: من المسلمين.

قال الحافظ ابن حجر /: «وقال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل فرب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم ذكر قصة قتله كما سيأتي قريبًا، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل، فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم فقال له: «أنا رسول الله»([34])».

فقد اختلط المسلمون بالمشركين حتى أراد رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرميه بسهم وهو لا يعرفه ظنًّا منه أنه قتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه: «أنا رسول الله».

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «فلما سمعوا ذلك فرحوا به، واجتمعوا حوله وتراجع الناس، وسيأتي في باب مفرد ما يتعلق بمن شج وجهه عليه الصلاة و السلام».

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفي هذا الحديث من الفوائد منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما».

وهي السبب أن أبا سفيان قال: «أفي القوم محمد؟... أفي القوم ابن أبي قحافة؟... أفي القوم ابن الخطاب؟» ما سأل إلا عن هؤلاء الثلاثة.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما وأنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها».

هذه الأمور كلها من الفوائد:

أولها: منزلة أبي بكر وعمر وخصوصيتهما بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله عليه.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفيه: شؤم ارتكاب النهي وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25]».

يعني: أن من فوائد الحديث: شؤم ارتكاب النهي؛ فالرماة الذين كانوا مع عبدالله بن جبير ارتكبوا النهي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبرحوا» فخالفوا فعم الضرر وحصلت النكسة على الجميع، عليهم وعلى غيرهم؛ لأن المعصية تعم كما قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). فأثر المعصية يعم الصالح والطالح الفاعل وغير الفاعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه».

وهذا مأخوذ من قول الله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)[آل عمران: 152]، حتى قال بعض الصحابة: ما ظننت أن أحدًا منا يريد الدنيا حتى سمعت قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ).

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «واستفيد من هذه الكائنة أخذ الصحابة الحذر من العود إلى مثلها والمبالغة في الطاعة والتحرز من العدو الذين كانوا يظهرون أنهم منهم وليسوا منهم، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضًا: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، إلى أن قال: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 141]، وقال: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]» وهم المنافقون.

وقوله: «وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟» أي: لما انتهت المعركة أشرف أبو سفيان أمير الجيش على المشركين منتصرًا، وقال: أفي القوم محمد؟ ليتبين هل هو مقتول أو حي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» أي: اتركوه، ثم قال: «أفي القوم ابن أبي قحافة؟» يعني: أبا بكر رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه»، فقال: «أفي القوم ابن الخطاب؟» أي: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فهؤلاء هم الرؤساء، وهذا يدل على منزلة الصديق وعمر م ، فقد سأل عن الثلاثة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر م ؛ لأن هؤلاء إذا ذهبوا ذهب رءوس القوم، فلما سكتوا قال أبو سفيان: «إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! أبقى الله لك ما يخزيك!».

وقوله: «اعل هبل» فهبل صنم في مكة، وقالها أبو سفيان؛ لأنه منتصر للصنم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل!» ثم قال أبو سفيان: «لنا العزى ولا عزى لكم» والعزى: صنم، فهي شجرة كانت تعبدها قريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم!».

وقوله: «يوم بيوم بدر والحرب سجال» يعني: أنتم انتصرتم علينا يوم بدر ونحن انتصرنا عليكم يوم أحد، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك.

وقوله: «وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني» يعني: سوف تجدون في قتلاكم من مُثل به، ومعنى التمثيل هو أن يؤتى بالقتيل فتقطع منه الأطراف أي: تقطع أذنه وتقطع أنفه وتقطع أصابعه وتقطع خصيتاه، فقال: ما أمرتهم أن يمثلوا ولكن ما ساءتني المثلة، فأنا فيها على الحياد ما ساءتني لأنني أحب ما يسؤكم، ولم آمر بها كذلك، فأنا ساكت عنها.

وذكر ابن إسحاق أن هند والنسوة اللاتي معها من المشركين جعلوا يمثلن بالقتلة، يقطعن آذانهم وأصابعهم وأنوفهم حتى اتخذت هند من ذلك خدمًا وقلائد من جلود المسلمين يتشفين بها، وأعطت خدمها وقلائدها اللاتي كن عليها وحشيًّا وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، تتشفى في المسلمين.

وقد كان النصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، ثم حدثت النكسة آخر النهار.

 

([1]) البخاري (4826)، ومسلم (2246).

([2]) «الطبقات» لابن سعد (2/33).

([3]) البخاري (4037)، ومسلم (1801).

([4]) «سيرة ابن هشام» (2/57).

([5]) «سنن أبي داود» (3000).

([6]) البخاري (2942)، ومسلم (2406).

([7]) البخاري (2541)، ومسلم (1730).

([8]) «السيرة النبوية» لابن هشام (4/235).

([9]) البخاري (4040).

([10]) أبو يعلى في «مسنده» (3/120)، وأبو عوانة في «مسنده» (4/348).

([11]) البخاري (2942)، ومسلم (2406).

([12]) «السيرة النبوية» لابن هشام (3/324)، و«دلائل النبوة» للبيهقي (3/199)، و«معرفة الصحابة» لأبي نعيم (2/754).

([13]) أبو داود (3006).

([14]) البخاري (1482)، ومسلم (1392).

([15]) «السيرة النبوية» (4/9)، وأصله عند أحمد (3/351).

([16]) «السيرة النبوية» (2/93)، و«الروض الأنف» للسهيلي (3/280)، و«تاريخ الإسلام» للذهبي (1/209) بنحو ما أورد الحافظ.

([17]) مسلم (1887) دون قوله: «لما أصيب إخوانكم بأحد». وهي عند أبي داود (2520) من حديث ابن عباس م .

([18]) أبو داود (2662).

([19]) البخاري (4041).

([20]) البخاري (4054)، ومسلم (2306).

([21]) البخاري (3995، 4041).

([22]) أحمد (2/236)، والبخاري (1196)، ومسلم (1391).

([23]) البخاري (3158)، ومسلم (2961).

([24]) الترمذي (2159)، وابن ماجه (3055).

([25]) مسلم (2812).

([26]) البخاري (7311)، ومسلم (1920، 1921).

([27]) أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952).

([28]) مسلم (2907).

([29]) البخاري (7116)، ومسلم (2906).

([30]) «منهاج السنة النبوية» (7/256 - 259).

([31]) «السيرة النبوية» (4/12).

([32]) أحمد (1/287)، والطبراني في «الكبير» (10/301)، والحاكم (2/324).

([33]) «السيرة النبوية» (4/26).

([34]) «تفسير الطبري» (4/112).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد