شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-6)

00:00
00:00
تحميل
123

● [3788] قوله: «اصطبح الخمر يوم أحد ناس ثم قتلوا شهداء» أي: شربوا الخمر في الصباح قبل المعركة؛ لأنها حلال ثم قتلوا في أثناء النهار شهداء، وحدث ذلك قبل أن تحرم، فإنها لم يحرمها الله إلا بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك ضير؛ لأنها كانت حلالًا لما شربوها، فلا يضرهم، ولهذا لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة: كيف حال إخواننا الذين قتلوا شهداء وهي في بطونهم، فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائد ة: 93] ، أي: ليس عليهم جناح؛ لأن الخمر لم تكن حرمت.

وسماهم الله شهداء فقال: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140] ، وهم شهداء أيضًا في أحكام الدنيا، وسيأتي في البخاري «باب: لا يقال: فلان شهيد»، فهم يقال لهم شهداء في أحكام الدنيا، فلا يغسلون ولا يصلى عليهم ولا يقال: شهداء في أحكام الآخرة إلا ما شهدت له النصوص؛ لأنه لا يعلم النيات إلا الله. ولا شك أن هؤلاء الصحابة الذين ماتوا في أحد كلهم شهداء؛ لأنهم شهد الله لهم بذلك فقال: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)آل عمران: 140].

 ●         [3789] هذا فيه فضل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهوهو من السابقين الأولين ومن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه.

ذكر: «أن عبدالرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا»، وهذا بعد مدة، أي: بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بسطت الدنيا وفتحت على الناس؛ فتذكر عبدالرحمن رضي الله عنه حال الصحابة يوم أحد فقال: «قتل مصعب بن عمير»، يعني: يوم أحد، وهذا هو الشاهد «وهو خير مني»، يعني: وليس عنده شيء من الدنيا، قال: «كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه»، أي: ليس عنده كفن، والبردة قطعة من القماش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه»؛ لأنها أشرف مع العورة «واجعلوا – أو قال: ألقوا – على رجله من الإذخر»، أي: من الحشائش، وما ضرهم أنهم ما عندهم شيء وأنهم ما وجدوا شيئًا، ثم تذكر عبد الرحمن وقال: «وقتل حمزة وهو خير مني»، ثم قال: «ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط»، يعني: بسط لهم بعد أن فتح الله الفتوحات على المسلمين وبسطت الدنيا عليهم فقال: قتل مصعب وهو فقير فما وجدنا له ما يكفنه، وقتل حمزة وكان فقيرًا، وأما الآن فقد فتحت لنا الدنيا وبسطت، وكان صائمًا فجعل يبكي عند الإفطار حتى ترك الطعام رضي الله عنه وأرضاه وقال: «وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا»، فتذكر حال الصحابة الذين قتلوا والدنيا قد زويت عنهم، ولم يجدوا شيئًا يقتاتون به، ولم يجدوا شيئًا يكفنون فيه.

قال الحافظ ابن حجر /: «وفي الحديث: فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا؛ لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبدالرحمن بقوله: «خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت».

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قال ابن بطال:
وفيه: أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها، قال: وكان بكاء عبدالرحمن شفقًا ألا يلحق بمن تقدمه».

 ●         [3790] هذا الحديث فيه شهادة لهذا الرجل أنه في الجنة،
وفيه: دليل على أن الشهيد في الجنة.

 ●         [3791] الحديث قبل الماضي رواه عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وهذا الحديث رواه خباب ابن الأرت رضي الله عنه فيقول: «هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم»، يعني: من مكة إلى المدينة، قال: «نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى - أو ذهب - لم يأكل من أجره شيئًا»، يعني: منا من مات قبل أن تفتح الدنيا ولم يأكل من أجره شيئًا، فما تعجل من ثوابه وحسناته شيئًا، قال: «كان منهم مصعب بن عمير»، فقد مات فقيرًا وما وجد له كفن عندما قتل يوم أحد، وهذا هو الشاهد للترجمة وهو قوله: «قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة»، وهي قطعة قماش مخططة قال: «كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه»، يعني: مع العورة، «و اجعلوا - أو قال: ألقوا - على رجله من الإذخر»، والإذخر نبت من النبات ثم قال خباب: «ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها»، وقصده من هذا أنه فتحت عليه الدنيا فجعل يتوسع فيها فصار «يهدبها» يعني: يأخذ شيئًا من حسناته السابقة، وهذا من باب الورع و الازدراء بالنفس، وإلا يرجى لهم أن الله تعالى يوفي لهم أجرهم كاملًا ولا يَضيع شيء من حسناتهم، فهم على خير، فمن تقدم وهو شهيد تقدم إلى الله، ومن تأخر فتح الله عليه الفتوح، ونشر دين الله، وعلم الناس وطالت حياته في الخير، فخباب رضي الله عنه خشي أن يكون - لما فتحت عليه الدنيا - تعجل شيئًا من ثوابه وأن فتح الدنيا عليهم والتوسع فيها يُضيع شيئًا من حسناتهم.

 ●         [3792] هذا الصحابي رضي الله عنه هو الذي نزل فيه قول الله تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب: 2 3].

وكما جاء في الحديث أنه أسف على تخلفه عن غزوة بدر، فقال: «غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله تعالى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أجد»، أي: فاتتني غزوة بدر، ولئن أشهدني الله مشهدًا ليرين الله ما أصنع كما في اللفظ الآخر؛ فلم يستطع أن يقول غيرها.

قوله: «ما أجد»، يعني: من الجد ومن النشاط. وذكر الحافظ ابن حجر أنه: بضم أوله وكسر الجيم من أجد في الشيء يجد إذا بالغ فيه، ويقال: أجد يجد إذا اجتهد في الأمر.

وفي اللفظ الآخر: «ليرين الله ما أصنع»([1])، أي: من القوة والنشاط والإقدام على القتال، فلما كان يوم أحد وحصلت النكسة على المسلمين أقدم رضي الله عنه وقال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: المسلمين!» ، أي: أعتذر إليك مما صنع إخواني، «وأبرأ إليك مما جاء به المشركون!» أي: وأبرأ إليك مما جاء به الكافرون، ثم أقدم ودخل في المشركين فجاءته الضربات من هنا وهناك، جاءته ضربات الرماح والسهام والسيوف حتى صار بجسده بضع وثمانون، أي: فوق الثمانين ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم حتى تمزع جسمه واختلطت به الدماء فلا يعرف وجهه ولا تعرف يداه، ولم يعرفه أحد سوى أخته، عرفته من بنانه وهو أصبعه.


وفي الحديث: الآخر أن الله تعالى أنزل فيه: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 2 3].

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «إني أجد ريح الجنة دون أحد»، يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوسًا عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يؤول بصاحبه إلى الجنة».

أي: إن البعض قال: إنه ريح حقيقي حسي، وقال آخرون: إنه ريح معنوي.

والأصل الحقيقة؛ فالصواب الأول وأنه ريح حقيقي حسي.

وذكر الشارح رحمه الله أن فيه عددًا من الفوائد:

الأولى: جواز الأخذ بالشدة.

الثانية: بذل النفس في الجهاد.

الثالثة: فضل الوفاء بالعهد.

 ●         [3793] هذا الحديث فيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عهد إلى زيد بن ثابت مع شباب من قريش أن يجمعوا المصحف، فالمصحف جمع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مجموعًا في عهده صلى الله عليه وسلم في شيء واحد؛ لأن القرآن كان ينزل منجمًا، فلما كانت خلافة أبي بكر انقطع الوحي فجمعه في نسخة واحدة، فعهد أبو بكر رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت وجماعة من الشباب أن يجمعوا المصحف، وقال: إنك شاب كتبت الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتهمك فاجمع المصحف قال زيد: فلو كلفوني بنقل جبل ما كان أثقل علي([2])، أي: لو كلفوني بنقل جبل كان أسهل علي، فكان رضي الله عنه وعن الصحابة يكتبون الآية في مصحف، ولا يكتبونها إلا إذا توفر فيها شرطان:

الشرط الأول: أن تكون محفوظة في الصدور.

الشرط الثاني: أن توجد مكتوبة.

فإذا وجدت آية فهي بين أمرين: محفوظة في الصدور أو مكتوبة في أي: شيء من الأدوات الموجودة عندهم في ذلك الوقت : كاللخاف - أي: الحجارة - والعسب ونحوها، فكانوا يكتبون على الحجارة إذا كانت ملساء، فإذا وجدوها مكتوبة ومحفوظة ألحقوها بالمصحف، فأشكلت عليهم آية: «( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)[الأحزاب: 23]» وأرادوها مكتوبة حتى وجدوها مكتوبة مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه فاجتمع فيها الشرطان: الكتابة والحفظ، قال: «فألحقناها في سورتها في المصحف» وهذا من حفظ الله عز وجل للقرآن- فقد تكفل بحفظه - قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].

 ●         [3794] لما رجع عبدالله بن أبي بثلث الجيش، ثم رجع الصحابة من الغزوة؛ اختلفوا في الحكم عليهم؛ فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فمنهم من قال: «نقاتلهم» لأنهم منافقون، ومنهم من قال: «لا نقاتلهم»؛ فنزلت هذه الآية: «( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)[النساء: 88]» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة تنفي الذنوب»، وفي اللفظ الآخر أنها: «تنفي الخبث»([3])، أي: تنفي خبثها وتنفي الذنوب، وتقدم في حديث أنها: «تنفي الرجال»([4]). وهذا فيه فضل المدينة.

قوله: «طيبة» اسم للمدينة المنورة، فاسمها طيبة وطابا والمدينة، فكل هذه أسماء لها.

المتن

[17/55] (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) [آل عمران: 122]

 ●         [3795] حدثنا محمد بن يوسف، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر قال: نزلت فينا هذه الآية (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا): بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).

 ●         [3796] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل نكحت يا جابر؟» قلت: نعم، قال: «ماذا؟ أبكرًا أم ثيبًا؟» قلت: لا، بل ثيبًا، قال: «فهلا جارية تلاعبك» قلت: يا رسول الله، إن أبي قتل يوم أحد، وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، قال: «أصبت».

 ●         [3797] حدثني أحمد بن أبي سريج، قال: أخبرنا عبيدالله بن موسى، حدثنا شيبان، عن فراس، عن الشعبي قال: حدثني جابر بن عبدالله، أن أباه استشهد يوم أحد، وترك عليه دينًا، وترك ست بنات، فلما حضر جَزازُ النخل قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أحد، وترك دينًا كثيرًا، وإني أحب أن يراك الغرماء، فقال: «اذهب فبيدر كل تمر على ناحية»، ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدرًا ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: «ادع لك أصحابك»، فما زال يكيل لهم حتى أدى الله عز وجل عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها وحتى إني أنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص تمرة واحدة.

 ●         [3798] حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.

 ●         [3799] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا هاشم ابن هاشم السعدي، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي النبي صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، فقال: «ارم فداك أبي وأمي».

 ●         [3800] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعدًا يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد.

 ●         [3801] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ليث، عن يحيى، عن ابن المسيب، أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبويه كلاهما - يريد حين قال: «فداك أبي وأمي» وهو يقاتل.

 ●         [3802] حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن سعد، عن ابن شداد، قال: سمعت عليًّا يقول: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد.

 ●         [3803] حدثنا يسرة بن صفوان، قال: حدثنا إبراهيم، عن أبيه، عن عبدالله بن شداد، عن علي قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعدِ بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد، ارم فداك أبي وأمي».

 ●         [3804] حدثنا موسى بن إسماعيل، عن معتمر، عن أبيه قال: زعم أبو عثمان أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام الذي يقاتل فيهن غير طلحة و سعد، عن حديثهما.

 ●         [3805] حدثنا عبدالله بن أبي الأسود، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن يوسف قال: سمعت السائب بن يزيد قال: صحبت عبدالرحمن بن عوف وطلحة ابن عبيدالله والمقداد وسعدًا، فما سمعت أحدًا منهم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.

 ●         [3806] حدثني عبدالله بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

 ●         [3807] حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، حدثنا عبدالعزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مُجَوِّبٌ عليه بحَجَفَةٍ له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثةً، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: «انثرها لأبي طلحة»، قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبُك سهم من سهام القوم! نحري دون نحرك! ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب -وقال غيره: تنقلان القرب- على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يَدَي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاث.

 ●         [3808] حدثني عبيدالله بن سعيد، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون؛ فصرخ إبليس: أي: عباد الله أخراكم! فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي: عباد الله، أبي! أبي! قال: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم! قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله.

الشرح

هذه الترجمة على هذه الآية: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 122].

 ●         [3795] نزلت هذه الآية في هاتين الطائفتين من الأنصار بني سلمة وبني حارثة، فبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة أقاربهم من الأوس، يقول جابر: «وما أحب أنها لم تنزل» وذلك لأن الله قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)[آل عمران: 122] يعني: أن قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ليس دليلًا على أنهم كفروا بسبب هذا بل هو نقص عليهم، لكن الله سبحانه وتعالى قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) فهذه منقبة لهم، أي: إن النقص الذي حصل لهم قد انجبر في قول الله تعالى: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).

وقوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) فيه: أن الأخيار قد يحصل منهم بعض النقص، والصحابة هم خيار الناس ومع ذلك همت طائفتان أن تفشلا، فعلى الإنسان أن يعرف قدر نفسه، ومن ادعى أنه أفضل من الصحابة فهو كاذب؛ لأن هؤلاء الصحابة هم خيار الناس، ومع ذلك حصل لهم بعض النقص، فقد همت طائفتان منهم أن تفشلا.

 ●         [3796] هذا الحديث فيه: دليل على استحباب نكاح البكر وأنه أفضل من نكاح الثيب، إلا إذا وجدت مصلحة تقتضي نكاح الثيب فهو أفضل كما حصل لجابر فإنه بدل أن يتزوج بكرًا تزوج ثيبًا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «فهلا جارية تلاعبك»، وفي اللفظ الآخر: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك»([5])؛ فدل على أن الجارية أفضل، وهي البكر؛ فبين جابر السبب وقال: «إن أبي قتل يوم أحد» وهذا هو الشاهد للترجمة أن أباه قتل يوم أحد «وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن»، أي: يقول: لو كانت بكرًا صارت مثلهن تلعب معهن مثل البنات ولا يستفدن منها، لكن تزوجت امرأة كبيرة، قد تقدمت في السن وجربت الدنيا وعركتها الحياة، فتقوم عليهن وتمشطهن وتصلح أحوالهن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت» وهذا دليل على أن الإنسان قد يترك مصلحة نفسه لمصلحة بناته وأخواته حيث تقتضي المصلحة ذلك.


وفيه: دليل على فضل جابر رضي الله عنه، حيث ترك مصلحة نفسه لمصلحة أخواته.

 ●         [3797] هذا الحديث فيه آية من آيات الله، ودلالة من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لو كان اليهود يعقلون، ولكنهم قوم حسدة ما يزدادون بالآيات إلا معصية وعنادًا كما قال الله تعالى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) [المائدة: 68]؛ والعياذ بالله؛ فالوحي الذي هو هداية للقلوب ما يزداد منه الكفار واليهود إلا عتوًّا، وطغيانًا، وكبرًا، وكفرًا، وعنادًا، وحسدًا؛ نعوذ بالله.

والشاهد من الحديث: «أن أباه استشهد يوم أحد».

وقوله: «وترك ست بنات» لعله وهم من بعض الرواة؛ فالمعروف أنهن تسع بنات، وإما أن ثلاثًا منهن كن متزوجات والست ما تزوجن، فصار الجميع تسعًا، هكذا جمع الحافظ بين اللفظين.

وحين قتل عبدالله بن حرام - والد جابر - يوم أحد ترك دينًا وكان غرماؤه من اليهود، واشتدوا على جابر، فقالوا: أدِّ لنا الدين، فجاء جابر وقال لهم: خذوا التمر كله الذي في البستان، فقالوا: ما يكفينا، إنه قليل لا بد أن تزن بالميزان، فقال: خذوه كله عن دينكم، فقالوا: لا نأخذه؛ لأن التمر الذي في بستانك لا يكفي، إن ديننا أكثر، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوهم وقال: يا رسول الله لقد اشتد الغرماء علي! وقال: «وإني أحب أن يراك الغرماء» - وكان قد استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فما قبلوا الشفاعة - فقال: «اذهب فبيدر كل تمر على ناحية» وفي لفظ «على حدة»([6])، أي: اجعله في بيدر على حدة، والبيدر: المكان الذي يوضع فيه التمر، فكل تمر على ناحية؛ لأن التمر أنواع فالسكري نوع، والساج نوع، والعجوة نوع، وتمر الرطب نوع، وكان التمر في المدينة أنواعًا أيضًا، ففعل جابر وجعل كل نوع بيدرًا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يطوف بها وبرك ودعا فيها، وفي اللفظ الآخر أنه قال له: «أخبر ذلك ابن الخطاب»([7])، فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال له عمر لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله فيها؛ لأن الله تعالى أنزل فيها البركة، قال: «فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي»، يعني: فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم اشتدوا علي وغلظوا وقالوا: أعطنا حقنا، قال: «فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدرًا ثلاث مرات»، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يبرك، «ثم جلس عليه، ثم قال: ادع لك أصحابك»؛ فجاء الغرماء، فجعل يدعو ويكيل لهم حتى استوفوا حقهم، وبقيت البيادر على حالها ما تحركت.

يقول جابر: «وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة» أي: كنت أتمنى أن الله يوفي الدين عن والدي وإن لم يبق لي ولو تمرة واحدة ولو لم أرجع إلى أخواتي بتمرة واحدة، قال: «فسلم الله البيادر كلها وحتى إني أنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص تمرة واحدة»، يعني: لكن الله سلم البيادر كلها فأنزل الله فيها البركة وأعطى الناس ما لهم والبيادر على حالها ما تحركت، وأبقى الله أوساقًا عظيمة.

فهذا من آيات الله العظيمة وقدرته (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82] ، وهو من دلائل النبوة كما سبق ذكرة.

 ●         [3798] قوله: «ومعه رجلان يقاتلان»، هما: جبريل وميكائيل، وهذا مدد من الملائكة.

وهذا الحديث فيه: دليل على أن الملائكة قاتلت يوم أحد كما قاتلت يوم بدر، ولكن المدد في أحد كان قليلًا ليس كيوم بدر، وهذا صريح في قوله: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد».

 ●         [3799] قوله: «نثل لي النبي صلى الله عليه وسلم كنانته»؛ فالكنانة جعبة من الجلود، ونثلها يعني: استخرج ما فيها من السهام، أي: ليقاتل؛ لأنه شجاع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارم فداك أبي وأمي»، أي: أفديك بأبي وأمي، وهذه منقبة لسعد بن أبي وقاص، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم له أبويه بالتفدية، وقد مات أبواه صلى الله عليه وسلم على دين الجاهلية.

وهل يفدي الإنسان بأبويه أحدًا من الناس بعد أن فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: فداك أبي وأمي؟

الجواب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُفدى فيقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، وأما غيره فهذا موضع نظر. وقد يقال: إن التفدية هنا من باب التزكية ولا يراد بها الحقيقة، بل هذا مما يجري على اللسان، ولكن -على كل حال- إذا كان أبواه مسلمين فلا يفدي بهما أحدًا من الناس إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3800]، [3801] هذان الحديثان فيهما التفدية لسعد رضي الله عنه، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبيه وأمه، وهذه منقبة لسعد رضي الله عنه.

 ●         [3802] قوله: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد»، أي: قال له: أفديك بأبي وأمي، وهذه منقبة لسعد بن أبي وقاص فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم له أبويه بالتفدية.

 ●         [3803] هذا الحديث فيه منقبة لسعد رضي الله عنه، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه، يقول علي رضي الله عنه: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد»، وهذا على حسب علمه، وإلا فقد فدى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله عنه فقال له: «فداك أبي وأمي»([8]). فهذا سمعه وعلمه غير علي رضي الله عنه.

 ●         [3804] قوله: « لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام الذي يقاتل فيهن» يعني: في غزوة أحد.

وقوله: «غير طلحة وسعد»، هذا على حسب علمه، وإلا فقد بقي أبو بكر وبقي عمر، وفي اللفظ الآخر: «غير اثني عشر رجلا»([9])، فكل واحد يخبر بما علم.

وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم انكشف عنه الناس يوم أحد، فكان يومًا عصيبًا، وما بقي إلا عدد قليل يدافع عنه حتى رهقه المشركون، حتى إنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحدٍ في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فقاتل عنه السبعة وقتلوا جميعًا، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال للقرشييْن اللذين معه: «ما أنصفْنا أصحابَنا»([10])؛ لكون القرشييْن لم يخرجا للقتال، كما خرج الأنصار. وروي بفتح الفاء، والمراد على هذا: الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم.

 ●         [3805] قال العيني /: «مطابقته للترجمة في قوله: «يحدث عن يوم أحد».

 ●         [3806] هذا الحديث فيه منقبة لطلحة بن عبيدالله، أحد المبشرين بالجنة.

قوله: «شلاء» يعني: يبست من الضرب عليها، فقد كان يقي بها النبي صلى الله عليه وسلم، والسيوف والسهام تضرب فيها حتى يبست وشلت رضي الله عنه.

 ●         [3807] هذا الحديث فيه قصة أحد، قال أنس: «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة»، وهو زوج أم سليم، أي: زوج أم أنس، «بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحَجَفة»، والحجفة بفتحات بتقديم الحاء على الجيم: هي الترس الذي يتقي بها الفارس وقع النبال، يعني: أن أبا طلحة مجوب عليه بحجفة أي: كأنه مقوس على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالحجفة أمامه، وإذا جاء الضرب من أمامه صار في الحجفة، وإذا جاء الضرب من الخلف صار في أبي طلحة رضي الله عنه، وهذه منقبة لأبي طلحة.

وقوله: «وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل»، فالجعبة وعاء من الجلد تكون فيه السهام.

وقوله: «انثرها لأبي طلحة»، لأنه رأى أنه رام.

قال: «ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي» يعني: أفديك بهما فالرسول صلى الله عليه وسلم يفدى بالآباء والأمهات.

وقوله: «لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم!» ، أي: لا تطلع حتى لا يصيبك سهم من سهام القوم، وجاءت الرواية «يصيبك»، أي: مرفوعة، والتقدير: لا تشرف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يصيبك سهم من سهام القوم. وتصلح: لا تشرف يصبْك بالجزم في جواب الطلب.

وقوله: «نحري دون نحرك!» يعني: أجعل نحري وقاء لنحرك، أي: أفديك بنفسي.

قال أنس - وكان صغيرًا: «ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان»، أي: رافعتان عن ساقيهما.

وقوله: «وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما»، أي: ترفع الواحدة منهما الثوب وهي تحمل القربة على ظهرها؛ لأنه لو نزل الثوب قد تعثر به فتسقط، وقد رأى أنس خدم سوقهما أي: سوق أمه أم سليم وعائشة م .

وقوله: «تنقلان القرب على متونهما» فالقربة معروفة هي التي يحمل فيها الماء.

وقوله: «تفرغانه في أفواه القوم» ،يعني: أنهما تأتيان بالماء وتسقيان الجرحى، والجريح محتاج إلى الماء، وإذا لم يسعف به قد يموت، وكان هذا قبل الحجاب، وكان أنس صغيرًا، فالحجاب ما أنزل إلا في السنة السابعة من الهجرة أو قريبًا منها، فقد أنزل لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، وكانت أحد في السنة الثالثة من الهجرة أي: قبل نزول الحجاب، ثم إن هذا أيضًا في الحرب، والكل مشتغل.
وفيه: دليل على أن النساء إذا اشتركت لا تشارك في القتال إلا إذا كانت تدافع عن نفسها إذا جاء إليها أحد الأعداء، وإنما تشارك في سقي الجرحى ومداواة المرضى وصنع الطعام، فمهمة أم سليم وعائشة أنهما تأتيان بالقرب فتملآنها من الماء ثم تفرغانه في أفواه القوم وتسقيان الجرحى، فكانوا سبعين جريحًا كل واحد له أنين فإذا سقي الماء نعس وزال العطش، وإذا لم يسقَ الماء فقد يموت.

وقوله: «ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاث» فذلك من النعاس الذي ألقاه الله عليه أمنة، فالمسلمون مع هذه الشدة والكرب التي أصابتهم ألقى الله عليهم النعاس، والنعاس هنا يدل على الثبات والطمأنينة وعدم الاهتمام والمبالاة بما يصيبهم في سبيل الله، فلا يخافون على أنفسهم، فإن انتصروا فهم على الخير، وإن قتلوا فلهم الشهادة؛ أما المشركون والمنافقون فلا ينامون من الخوف والهلع والجبن، فهم يحرصون على الحياة، ولهذا قال تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)[آل عمران: 154] وطائفة أخرى يغشاهم النعاس (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال: 11] وفي الآية الأخرى: (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) [آل عمران: 154] ، وهم المؤمنون، (وَطَائِفَةٌ)، وهم المنافقون (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)، لا يأتيهم النعاس، بل أصيبوا بالهلع والجبن فليس عندهم إيمان ولا ثبات.

 ●         [3808] هذه القصة في غزوة أحد تقول عائشة: «هزم المشركون؛ فصرخ إبليس» لعنة الله عليه: «أي: عباد الله أخراكم»؛ فـ «أي»: حرف نداء، يعني: يا عباد الله عليكم بأخراكم.

وقوله: «فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم»، يعني: اجتلد المسلمون والمشركون، أي: اختلطوا، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان في وسط المشركين فقتله المسلمون خطأ ظنًّا منهم أنه من المشركين، فلما بصر حذيفة بأبيه تحت السيوف قال: «أي: عباد الله، أبي! أبي!»؛ يعني: انتبهوا إلى أبي فلا تقتلوه.

وقوله: «فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه» يعني: فلم يتركوه حتى قتلوه، قال: «فقال حذيفة: يغفر الله لكم»، فسامحهم؛ لأنهم قتلوه خطأ.

وقوله: «فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله»، حيث سامحهم ودعا لهم بالمغفرة، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدفع الدية من عنده فقال حذيفة: أسامحهم، فسامحهم في الدية أيضًا وعفا عنهم، وذلك أنهم قتلوه خطأ يظنون أنه من المشركين.

ويقول المؤلف - في قوله: «فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه» - كما في بعض النسخ: «بصرت: علمت، من البصيرة فى الأمر، وأبصرت من بصر العين، ويقال: بصرت وأبصرت واحد» أي: بصر من البصيرة، أما أبصر فمن بصر العين، فهذه فائدة لغوية من البخاري /، فهو حريص على إفادة طلبة العلم فيقول: أبصر الرباعي يبصر إذا كان بعينه كرأى، وأما الثلاثي بصر يبصر فمعناه علم وتيقن، من رؤية القلب، قال: «ويقال: بصرت وأبصرت واحد» فالقول الآخر أن معنييهما واحد، فيقال بصر وأبصر لنظر العين، ويقال للبصيرة أيضًا.

قال الحافظ في ابن حجر /: «وفي رواية ابن إسحاق «فقال حذيفة: قتلتم أبي! قالوا: والله ما عرفناه. وصدقوا، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه»([11])، يعني: يدفع ديته من بيت المال.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا.
وفيه: تعقب على ابن التين حيث قال: إن الراوي سكت في قتل اليمان عما يجب فيه من الدية والكفارة، فإما أن تكون لم تفرض يومئذ أو اكتفى بعلم السامع» وابن التين هذا من شراح «صحيح البخاري».

* * *

المتن

[18/55] (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [آل عمران: 155]

 ●         [3809] حدثنا عبدان، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قال: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم؛ فكبر، فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عز وجل عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه»، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكان بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان»، فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان» اذهب بهذا الآن معك.

الشرح

هذه الترجمة على قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)، يعني: في غزوة أحد يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين وجمع الكفار (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[آل عمران: 155] ، فإن كانت حصلت لهم وسوسة فهي من الشيطان.

قال ابن التين: «يقال: إن الشيطان ذكرهم خطاياهم فكرهوا القتال قبل التوبة، ولم يكرهوه معاندة ولا نفاقًا، فعفا الله عنهم، و يحتمل أن يكونوا فروا جبنًا ومحبة في الحياة لا عنادًا ولا نفاقًا».

فهم فروا وقد استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولكن الله عز وجل قال: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

 ●         [3809] قوله: «جاء رجل حج البيت فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قال: ابن عمر فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟» أي: إن رجلًا حج البيت وكأنه من الثوار الذين خرجوا على عثمان، فرأى قومًا جلوسًا فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ الذي يتصدر المجلس؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: نعم.

وأما قوله: «أنشدك بحرمة هذا البيت»، فلا بأس في سؤال المخلوق أن تسأله بحرمة هذا البيت، كما لو قال: أسألك بحق أبيك علي، أو بحق أخيك، أو بحقي عليك - فكل هذا لا بأس به، ومنه قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء: 1] ، كأن تقول: أسألك بالرحم التي بيننا، أسألك بما لي عليك من حق أن تعطيني كذا، فكل هذا لا بأس به؛ لأنه من سؤال المخلوق لمخلوق، فعبدالله بن جعفر لما أراد أن يؤكد على عمه عليٍّ إجابة سؤاله قال: أسألك بحق جعفر.

أما في سؤال الله فلا يجوز التوسل بمخلوق أو بحقه أو بحرمته، فلا يقول: أسألك بفلان ولا أسألك بحرمة فلان أو بجاه فلان، وإنما يتوسل بأسماء الله وصفاته كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]، أو يتوسل بالعمل الصالح كما في قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، فأحدهم توسل ببره لوالديه والثاني توسل بعفته عن الزنا والثالث توسل بأمانته([12])، فيشرع التوسل بالتوحيد والإيمان، ويجوز أن تقول: أسألك بتعظيمي هذا البيت؛ لأن تعظيمك إياه من العمل الصالح. فهذا الرجل قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، وهذا لا بأس به؛ لأنه من سؤال المخلوق، وسؤال المخلوق لا بأس بأن تتوسل إليه بحقك، لكن في سؤال الله لا يجوز أن تتوسل بحرمة هذا البيت ولا بفلان، فتتوسل بأسماء الله وصفاته أو بالعمل الصالح أو بالتوحيد أو بفقرك وحاجتك، فقال هذا الرجل لابن عمر: «أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم» فهذا الرجل من الثوار ويبحث عن أي: شيء من المعايب.

ثم قال: «فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم؛ فكبر»، أي: قال: الله أكبر ظنًّا منه أنه انتصر - لأنه من الثوار - وأن عثمان عُلم عنه هذه المثالب وأنه يستحق أن يخرج عليه.

وقوله: «تعال لأخبرك ولأبين لك»، يعني: أوضح لك هذه المسائل التي سألتني عنها.

وأما قوله: «أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عز وجل عفا عنه» فقد أخذ هذا الحكم من هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155]. وما دام الله قد عفا عنهم فكيف الآن تنتقد شيئًا عفا الله عنه؟! وبقوله: «فأشهد أن الله عز وجل عفا عنه» انتهت هذه المسألة.

وقوله: «وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه»، أي: إن تغيبه لأن بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت زوجته، وكانت مريضة، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: تخلف ولك أجر من شهد بدرًا وسهمه، فلم يتخلف عثمان عن بدر باختياره، ولكن تخلف بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم كمن حضر بدرًا وأسهم له.

وقوله: «وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكان بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان»، أي: إن تغيبه ذلك كان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال: فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة، من عثمان بن عفان لبعثه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بني أمية -وهم عشيرته- كثيرون بمكة وذلك أنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية معتمرًا أرسل عثمان ليبين لهم أنه ما جاء لقتال وإنما جاء للعمرة، فاحتبسوه؛ فلما احتبسوه شاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على قتال المشركين وعلى الموت، وبايعه كل واحد، وبايع هو لعثمان.

وقوله: «هذه يد عثمان»، فيه: منقبة لعثمان، فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه لنفسه عن عثمان، وقال: «هذه لعثمان»، فعثمان لم يتخلف في بيعة الرضوان وإنما كانت البيعة من أجله، وقد بين ابن عمر لهذا الرجل فقال: «اذهب بهذا الآن معك»، يعني: اذهب بهذه الأجوبة الآن معك، واعلم أنه لا حجة لكم في أي: من هذه الثلاثة للخروج على عثمان.

المتن

[19/55] باب (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ)
إلى (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153]

 ●         [3810] حدثني عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم.

الشرح

هذه الترجمة على هذه الآية (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) [آل عمران: 153] وقد بين الله حالتهم حيث قال: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). وتصعدون يعني: تصعدون الجبل وتذهبون إليه منهزمين، فتصعدون من أصعد وصعد وكل منهما لازم غير متعد.

 ●         [3810] قوله: «وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم» فلذلك أنزل الله: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) [آل عمران: 153].

* * *

المتن

[20/55] (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً)
إلى قوله: (بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154]

 ●         [3811] وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن يغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.

الشرح

ترجم المؤلف على هذه الآية: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ) [آل عمران: 154] ، يعني: الغم الذي أصابكم من بعد هذه النكسة (أَمَنَةً)، أي: أنزل الله عليهم النعاس يغشى طائفة منهم طمأنينة وثباتًا لهم (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)، أي: لا يأتيهم النعاس، (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) وجاء تفسير هذا الظن في هذا اليوم بأنهم يظنون أنها ستكون هي الفيصل، وبأنه سيقضى على المسلمين، وسيقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وسيقضى على الإسلام ولا تقوم له قائمة، فكان هذا ظنهم وهذا الظن كفر؛ فقد قال الله عز وجل: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ). وقال تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)، وهم المنافقون، وهذا يدل على أنه بقي في الجيش يوم أحد بعض المنافقين، وكان بعضهم قد رجع من الطريق مع رئيسهم عبدالله بن أبي، لكن بقيت منهم طائفة، فطائفة يأتيهم النعاس وهم المؤمنون، وطائفة لا يأتيهم النعاس بسبب الهلع والجبن وهم المنافقون، (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)؛ فما هي مقالتهم؟ (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) فكلمة «لو» تفتح عمل الشيطان، وهي كلمة تأتي للتحسر وللاعتراض على القضاء والقدر؛ ولهذا ترجم الإمام محمد بن عبدالوهاب في «كتاب التوحيد»: «باب ما جاء في اللو»([13])، وذكر هذه الآية (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا). و «لو» إذا كانت في التحسر على القضاء والقدر والاعتراض على قدر الله فهذا من النواهي، أما إذا كانت في تمني الخير فلا بأس بقولها كما قال صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي»([14])، أو كقولك: لو علمت أنَّ حلقة في المسجد لحضرتها، أو لو علمت حلقة درس لحضرتها أو لو علمت محاضرة في الأصول لحضرتها، فكلها في تمني الخير فلا بأس بها، أما في الاعتراض على القدر فهذا منهي عنه.

وأما قول المنافقين فقد كان اعتراضًا على القدر: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)، أي: لو كان لنا من الأمر شيء ولم نطع محمدًا ما قتلنا هاهنا، قال الله تعالى ردًّا عليهم: (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، فالأمر ليس لكم، لكن المنافقين كما قال الله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ). وقال الله ردًّا عليهم: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) فالقدر نافذ، فلو كنتم في البيوت وكتب عليكم الموت، فلا بد أن تبرزوا حتى تصلوا إلى المكان الذي تقتلون فيه، وحتى ينفذ فيكم قدر الله.

وقوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)، فيه: بيان للحكمة التي أرادها الله تعالى مما حدث للمسلمين من ابتلاء؛ وأن ذلك ليبتلي الله ما في صدورهم؛ ويمحص ما في قلوبهم، ويكفر السيئات، ويرفع الدرجات، ويتخذ منهم شهداء، ويتبين المنافق من الصادق (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154].

 ●         [3811] يقول أبو طلحة في هذا الحديث: «كنت فيمن يغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه»؛ فقد تغشاه النعاس؛ مما جعل السيف يسقط من يديه أكثر من مرة؛ وقد أذهب الله عنه الخوف والفزع، وهذا يدل على قوة إيمانه رضي الله عنه.

* * *

المتن

[21/55] (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران: 128]

قال حميد وثابت، عن أنس: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟!» فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ).

 ●         [3812] حدثنا يحيى بن عبدالله السلمي، قال: أخبرنا عبدالله، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: حدثني سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا!» ، بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد!» ، فأنزل الله عز وجل (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله: (ظَالِمُونَ).

 ●         [3813] وعن حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالم بن عبدالله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).

الشرح

 ●         [3812]، [3813] هؤلاء الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام - كلهم أسلموا يوم الفتح، وهذا يدل على جواز الدعاء في القنوت في النوازل على الكفار بأعيانهم ولعنهم، وذلك إذا اشتد أذاهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على هؤلاء الأشخاص في الفريضة بعدما يقول: سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن صفوان بن أمية، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن الحارث بن هشام»([15])؛ وكذلك الذين قتلوا القراء دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أربعين صباحًا بأعيانهم([16])؛ فدل على أنه لا بأس به، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في النوازل، ويدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار والعصاة.


وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئًا من الأمر؛ لأن الأمر ليس بيده، وأن هداية الكون ليست بيده؛ فعلى الرغم من دعائه صلى الله عليه وسلم عليهم إلا أنهم أسلموا، وأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران: 128]؛
وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعبد، ففي الحديث الأول شج وجهه صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟!» فهو صلى الله عليه وسلم تصيبه الأمراض والشدائد والموت ويأكل ويشرب فلا يصلح للعبادة، وهو نبي كريم يطاع ويتبع، لكن لا يعبد، فالعبادة حق الله، فالله تعالى لا يشبه أحدًا من خلقه، ولا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى أحد، وهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بشر - وإن كان أفضل الناس - لكنه تصيبه الأمراض والأسقام ويأكل ويشرب ويبول ويتغوط ويمرض ويسقم ويموت ويقتل، فالأنبياء أفضل الناس لكنهم لا يعبدون، فالعبادة حق الله؛ ولهذا أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)؛ فالأمر بيد الله، فهؤلاء مَنَّ الله عليهم بالإسلام وأسلموا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عليهم ويلعنهم كل صباح.

* * *

المتن

[22/55] باب ذكر أم سليط

 ●         [3814] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: وقال: ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: أم سليط أحق به - وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد.

الشرح

 ●         [3814] أتى المصنف بهذا الحديث هنا؛ لأن فيه خبرًا عن غزوة أحد، فذكر أن عمر في زمن خلافته أتته مروط، وهي نوع من الأقمشة والثياب، فوزعها على نساء من نساء أهل المدينة، ثم بقي منها مرط قماشه جيد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - وهي أم كلثوم بنت علي، بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجها علي لعمر ي - فقال: لا، سأعطيه من هو أحق به منها، سأعطيه أم سليط.

وفي هذا دليل على أن عمر رضي الله عنه كان يراعي من له تأثير في الإسلام والجهاد والفضائل؛ فيقول: لا أعطيه زوجتي، إنما أعطيه أم سليط؛ فإن لها تأثيرًا في الإسلام، قال: «فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد»، يعني: تنقل القرب، فكانت تنقلها على متنها يوم أحد، وتسقي المرضى والجرحى،فكساها عمر إياه.

أما أم كلثوم بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلها فضيلة خاصة أنها ابنة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي فاضلة، لكن التوزيع إنما يكون باعتبار من له تأثير في الإسلام، وكانت أم سليط زوجة لأبي سليط، فمات عنها قبل الهجرة فتزوجها مالك بن سنان الخدري؛ فولدت له أبا سعيد.

* * *

المتن

[23/55] قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

 ●         [3815] حدثني أبو جعفر محمد بن عبدالله، قال: حدثنا حجين بن المثنى، قال: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، قال: خرجت مع عبيدالله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص قال لي عبيدالله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه نَسِيرُ، فسلمنا فرد السلام، قال: وعبيدالله معتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيدالله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أم قتال بنت أبي العيص، فولدت غلاماً بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه، فناولتها إياه، فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيدالله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولأي: جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس عام عينين - وعينين: جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد - خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البُظُور، أتحاد الله ورسوله؟! قال: ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذلك العهد به فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا، وقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قال: «آنت وحشي؟» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟» قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.

 ●         [3816] قال عبدالله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار، أنه سمع عبدالله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت: واأمير المؤمنين! قتله العبد الأسود!

الشرح

 ●         [3815] هذا الحديث في قصة قتل حمزة بن عبد المطلب لأنه قتل يوم أحد، والمؤلف يذكر كل ما كان له صلة بالغزوة، فذكر هذه القصة وفيها أن عبيدالله بن عدي بن الخيار قال لجعفر بن عمرو بن أمية: «هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟» قال: نعم، فأتيا إليه وكان يسكن في حمص بالشام. وذلك لأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم انتقل الصحابة ي إلى الأمصار ينشرون دين الله ويبلغون الشريعة ويعلمون الناس، وسأل هؤلاء عن وحشي رضي الله عنه فقيل لهم: إنه يسكن في قصره «كأنه حميت»، يعني: كأنه زق، وهو السقاء أو القربة؛ والمراد أنه رجل أسود سمين.

قال: «فجئنا حتى وقفنا عليه نسير»، فسلمنا عليه فرد علينا السلام، ثم ذكر أنه عبيدالله ابن عدي بن الخيار - وكان معتجرًا بعمامته لا يرى منه شيئًا - سأله هل يعرفه؟ قال: لا أعرفك، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة فأتت بغلام قدماه تشبه قدميك، فلما كشف عن لثامه عرفه ثم سأله عن كيفية قتله لحمزة؛ فبين له أن حمزة رجل شجاع، وأنه رجل عظيم، لكن مولاه قال له: إن قتلت حمزة فأنت حر، فلما تقابل الصفان «خرج سباع»، وهو ابن عبد العزى الخزاعي، «فقال: هل من مبارز؟» وكانت العادة في الصفوف في مبدأ القتال إذا تقابل الصفان أن يكون بينهما مبارزة، فيخرج واحد من هذا الصف، ويخرج واحد من هذا الصف ويتقاتلان، ويكون هذا فيه شجاعة ونشاط للقاتل، ويكون هذا فيه فت عضد لجيش المقتول، فخرج سباع فقال: من يبارزني؟ هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة وقال له: «يا ابن أم أنمار مقطعة البظور» والبظور هي قطعة اللحم التي تقطع من فرج المرأة عند الختان، يعني: أمك التي تختن النساء، «أتحاد الله ورسوله؟!» فشد عليه.

وقوله: «فكان كأمس الذاهب»، يعني: قتله في الحال، فبمجرد ما ضربه أرداه صريعًا؛ لأن حمزة كان شجاعًا قويًّا نشيطًا، وكان لا يقف في وجهه أحد.

وقوله: «وكمنت لحمزة تحت صخرة»، يعني: اختفيت تحت صخرة، واختبأت له وهو لا يعلم، وكان أهل الحبشة يجيدون الرمي بالحراب، فلما كمن له تحت صخرة وقرب منه رماه بحربته ووضعها «في ثنته»، يعني: ما بين السرة والعانة، «حتى خرجت من بين وركيه».

وقوله: «فكان ذلك العهد به»، يعني: فكانت فيه وفاته، ثم بعد ذلك رجع وحشي مع الناس حتى انتشر الإسلام في مكة، ثم جاء مع رسل أهل الطائف، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول للرسل شيئًا ولا يهيجون، فلما رآه قال: «آنت وحشي؟»؛ والمد يفيد الاستفهام، فقال: «نعم»، قال: «أنت قتلت حمزة؟» فقال: نعم قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يراه وقد قتل عمه، وفي قتل حمزة رضي الله عنه عزاء للأنصار الذين قتل منهم شبابهم، وأما وحشي رضي الله عنه فأسلم وتاب، والإسلام يجب ما قبله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

ولكن وحشي رضي الله عنه بقي في نفسه شيء من قتل حمزة رضي الله عنه، فأراد أن يتعرض لمسيلمة الكذاب لما كثير من ارتدت العرب وبعث أبو بكر الجيوش إلى بني حنيفة لقتال مسيلمة فقال وحشي رضي الله عنه: لعلي أقتل مسيلمة فأكافئ به حمزة، فكما قتل خير الناس يقتل شر الناس.

وقوله: «فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه» وأهل الحبشة يجيدون الرمي بالحراب، قال: «ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته».

 ●         [3816] قوله: «فقالت جارية على ظهر البيت: واأمير المؤمنين! قتله العبد الأسود!» أي: لما ضرب وحشي رضي الله عنه مسيلمة بحربته قالت جارية صعدت ظهر بيت: واأمير المؤمنين قتله العبد الأسود تقصد وحشيًّا فهي تتوجع ويسمونه أمير المؤمنين؛ لأنه أميرهم وهم مرتدون.

ويصدق على حمزة ووحشي م الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة»([17]) فحمزة رضي الله عنه وهو سيد الشهداء أكرمه الله بالشهادة؛ ووحشي أسلم وتاب، فالكافر يقتل مسلمًا ثم يمن الله على القاتل بالإسلام فيسلم، فكلاهما يدخل الجنة، والشاهد من القصة بيان أن حمزة قتل في غزوة أحد.

* * *

المتن

[24/55] ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد

 ●         [3817] حدثني إسحاق بن نصر، قال: حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، سمع أبا هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه -يشير إلى رباعيته- اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله!».

 ●         [3818] حدثني مخلد بن مالك، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس م قال: اشتد غضب الله على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله! اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم!

 ●         [3819] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا يعقوب، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي، قال: كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها؛ فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.

 ●         [3820] حدثني عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اشتد غضب الله على من قتله نبي! واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم!

الشرح

هذا الباب في بيان «ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد».

 ●         [3817] قوله: «اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه»؛ فيه: إثبات الغضب لله عز وجل، وهو من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، وهو سبحانه يغضب إذا شاء ويرضى إذا شاء.


وفيه: الرد على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين نفوا صفة الغضب، ونفوا كذلك سائر الصفات مثل: الرضا، والاستواء، والعلو؛ ولم يثبت الأشاعرة إلا سبع صفات.

وقوله: «يشير إلى رباعيته»، أي: يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى رباعيته؛ والرباعية هي الأسنان التي تلي الثنايا؛ وللإنسان أربع رباعيات، اثنان من الأمام، واثنان من الخلف، ومع كل واحد أربع ثنايا، وهي الأسنان العريضة في الحنك الأعلى وفي الحنك الأسفل، وترتيبها: الثنايا، ثم يليها الرباعيات، ثم يليها الأنياب.

 ● [3818] قوله: «اشتد غضب الله على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله! اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم»، يعني: اشتد غضب الله على من قتله نبي الله، واشتد غضب الله على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم فدمى وجهه.

وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أبي بن خلف، فهذا الحديث يصدق عليه، إذ لما أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أقتله إن شاء الله»([18])، وكان ذلك في غزوة بدر.

 ●         [3819] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جرح حتى صار جرحه يسيل دمًا فأرادوا أن يعالجوه، فجعلت فاطمة ل تغسل الدم، وكان «علي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن»، وهو الذي يتقي به الفارس وقع النبال، فعلي أخذ الماء بالمجن يصب على فاطمة وفاطمة تغسل الجرح للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يتوقف الدم، فلما رأت فاطمة أن الغسل لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من الحصير فأحرقتها وألصقتها؛ فاستمسك الدم.

وفي هذا الحديث فوائد منها:

1- دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يصيبه ما يصيب البشر من الأمراض والأسقام والجراح فلا تصلح له العبادة، وأن العبادة حق الله، فالأنبياء يمرضون، ويقتلون و يجرحون، ويأكلون، ويشربون، و يبولون، ويتغوطون، فليسوا آلهة، ولكنهم أنبياء أكرمهم الله بالرسالة والنبوة، ليس لهم من العبادة شيء، فالعبادة هي حق الله، فالعبادة لا تصلح إلا للكامل الذي لا يحتاج إلى طعام ولا شراب، ولا يحتاج إلى أحد و لا يصيبه شيء ولا يضره أحد من خلقه، ويُطْعِم ولا يُطْعَم، خلاف المخلوق فإنه يتضرر؛ ولهذا رد الله تعالى على من عبد عيسى وأمه، فبين الله تعالى أنه لا يصلح للعبادة فقال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) [المائدة: 75] فالذي يأكل الطعام ويحتاج إليه لا يصلح أن يكون إلهًا.

2- تسلية للدعاة والعلماء من بعده صلى الله عليه وسلم، فإن عليهم أن يصبروا ويوطنوا أنفسهم على الصبر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم وأصيب بما أصيب.

3- رفع الدرجات للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أصيب بجراحات؛ ليضاعف الله له الأجر، وليرفع درجاته، وليكون قدوة وأسوة لغيره، وليعلم الناس أن محمدًا بشر لا يصلح للعبادة وأن العبادة حق الله.

4- مشروعية الطب، فالطب لا ينافي التوكل على الله، فالعلاج والدواء مستحب في أصح قولي العلماء، وقال بعض العلماء: إنه مباح أي: مستوي الطرفين، والصواب أنه مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا يفعل إلا المستحب؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «يا عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام»([19]). وهذا أمر، والأمر أقله الاستحباب، فالعلاج مستحب لكن ليس بواجب، و لا يجبر الإنسان عليه، وإذا تركه فلا إثم عليه، وإن ترك العلاج فلا ينبغي لأحد أن يلومه، فإذا احتسب الإنسان المرض ولا يريد أن يعالج فلا حرج ولا لوم عليه إذا كان عاقلًا، فلعله يريد أن يستمر له الأجر والثواب، وما يفعله بعض الناس من إجبار المريض على العلاج وهو لا يريد علاجًا -خطأ، وخاصة إذا كان المريض رشيدًا، فالعلاج - والحمد لله - ليس بلازم، أما إذا كان ليس له عقل أو في غيبوبة فينظر وليه الأصلح له، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد عليه المرض لدوه وصبوا الدواء في فمه فأشار إليهم لا أريد العلاج، قالوا: كراهية المريض الدواء - فالرسول صلى الله عليه وسلم مريض والمريض يكره الدواء، فصبوا، فلما ذهب ما يجد قال: «ألم أشر إليكم ألا تفعلوا»، قالوا يا رسول الله قلنا: كراهية المريض للدواء، فاقتص منهم فقال: «لا يبقى أحد منكم إلا لدّ غير العباس فإنه لم يشهدكم»([20])، فكل واحد فعل به مثل ذلك قصاصًا إلا العباس. وذلك ليؤدبهم، ويبين لهم أن الإنسان لا يجب أن يعالج، وهو كاره ما دام له عقل، فالعلاج ليس بواجب؛ أما إذا كان ليس له عقل فيجتهد وليه وينظر إلى الأصلح.

وكل هذه فوائد فيما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم به من الجراح.

 ●         [3820] قوله: «اشتد غضب الله على من قتله نبي! واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم!»، يعني: اشتد غضب الله على من قتله نبي الله أو آذى النبي صلى الله عليه وسلم فدمى وجهه.

* * *

المتن

[25/55] باب (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [آل عمران: 172]

 ●         [3821] حدثني محمد، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 172]. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم – الزبير - وأبو بكر، لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، فانصرف المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: «من يذهب في أَثَرهم؟» فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير.

الشرح

هذه الترجمة على هذه الآية قال: «باب: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، يعني: قوله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ)؛ والقرح: الجراح. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 172].

 ●         [3821] قول عائشة: «كان أبوك منهم- الزبير- وأبوبكر»؛ وفي رواية أخرى: «كان فيهم أبواك الزبير وأبوبكر»([21])؛ فالزبير أبو عروة، وأبو بكر جده لأمه؛ لأن الزبير تزوج أسماء بنت أبي بكر، فقالت عائشة ل: أبواك، مما يدل على تسمية الجد أبًا.

وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصابهم ما أصابهم يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: «من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلًا»، وعلى الرغم مما كان فيهم من الجراح والتعب إلا أنهم استجابوا لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فسمع أبوسفيان بخبرهم وكان يريد أن يرجع إليهم يستأصل من بقي، فلما سمع أنهم لحقوه قال: هؤلاء لا زال عندهم قوة؟! فقيل له: إنه جاءه مدد من المدينة، وإن من لم يحضر الغزوة ندم وإنهم يريدون أن يتبعوه؛ فانصرف، وأثناه ذلك عن قصده.

 

([1]) البخاري (2806)، ومسلم (1903).

([2]) البخاري (4679).

([3]) البخاري (4589)، ومسلم (1384).

([4]) البخاري (1884).

([5]) البخاري (2309)، ومسلم (715).

([6]) البخاري (2127).

([7]) البخاري (3296).

([8]) البخاري (3720)، ومسلم (2416).

([9]) البخاري (3039).

([10]) مسلم (1789).

([11]) «السيرة النبوية» لابن هشام (4/36).

([12]) البخاري (2215)، ومسلم (2743).

([13]) «كتاب التوحيد» (ص130).

([14]) البخاري (7229)، ومسلم (1211).

([15]) البخاري (4070).

([16]) أحمد (3/210)، والبخاري (2801).

([17]) البخاري (2826)، ومسلم (1890).

([18]) عبد الرزاق في «المصنف» (5/356).

([19]) أبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436).

([20]) البخاري (6897)، ومسلم (2213).

([21]) البخاري (4077).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد