المتن
[26/55] من قتل من المسلمين يوم أحد
منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير
● [3822] حدثني عمرو بن علي، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة قال: ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا أَغَرَّ يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك، أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، قال: وكان بئر معونة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر، يومَ مسيلمة الكذاب.
● [3823] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن ابن كعب بن مالك، أن جابر بن عبدالله أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن»، فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.
وقال أبو الوليد: عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابر بن عبد الله قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يَنْهَوْني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَبْكِه - أو ما يُبكِيه -! ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع!».
● [3824] حدثني محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى - أرى - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت في رؤيأي: أني هززت سيفًا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد».
● [3825] حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن خباب قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجليه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه، واجعلوا - أو قال: ألقوا - على رجليه من الإذخر»، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدِبها.
الشرح
قوله: «من قتل من المسلمين يوم أحد منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب ابن عمير»، أي: هذه الترجمة فيمن قتل من المسلمين يوم أحد منهم: حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، ومنهم اليمان والد حذيفة قتله المسلمون خطأ عندما اشتبكوا واختلطوا هم والكفار، فالتبس الأمر عليهم فظنوه من المشركين، فجعل حذيفة يقول: أبي، أبي، فقتلوه فقال حذيفة: غفر الله لكم([1]).
وكذلك قتل فيها أنس بن النضر ومصعب بن عمير.
● [3822] قوله: «ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا أغر يوم القيامة من الأنصار» هذا كحديث: «يأتي قوم من أمتي غرًّا محجلين من أثر الوضوء»([2])، فالغرة: البياض في جبهة الفرس، والتحجيل: البياض في قوائمه. وفي رواية: «أعز»، من العزة.
وقوله: «قتل منهم يوم أحد سبعون» يعني: من الأنصار، وقتل من غير الأنصار حمزة وغيره.
وقوله: «ويوم بئر معونة سبعون»، كان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا جميعًا من القراء.
وقوله: «ويوم اليمامة سبعون» كان على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في حرب مسيلمة.
● [3823] قوله: «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن. فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد» فاللحد هو الحفرة والشق الذي يكون في قبلة القبر، فيحفر القبر ثم يحفر حفرة أخرى في القبلة تسمى اللحد، وسميت لحدًا لكونها مائلة في الأرض، ومنه الملحد سمي ملحدًا لأنه مائل عن الحق وعن الصواب، فالإلحاد هو الميل عن الصواب وعن الحق إلى الباطل، فأخذ من هذا المعنى معنى اللحد؛ لأنه مائل، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدفن اثنين أو ثلاثة كان يقدم أكثرهم أخذًا للقرآن، ثم إذا كان ثالث كذلك، وهذا للضرورة، أما إذا كان هناك سعة فلا ينبغي أن يدفن اثنان أو ثلاثة في قبر واحد، بل كل واحد يدفن وحده.
فهذا الحديث فيه: دليل على أنه لا بأس بدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد إذا كثر القتلى للضرورة، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاثنين والثلاثة في قبر واحد يوم أحد؛ لأن القتلى كثيرون، فقد قُتل سبعون، ولا يستطيعون أن يحفروا قبورهم كلها في وقت واحد؛ فلهذا كان يجمع بين الاثنين والثلاثة في قبر واحد؛ لكن إذا أراد أن يدفن الاثنين سأل أيهم أكثر أخذًا للقرآن، فيقدمه في اللحد.
وقوله: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا»، فهذا صريح في أن الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه، بل يدفن في دمه وثيابه.
قوله: «لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه» فيه: جواز كشف الثوب عن وجه الميت وتقبيله فذلك لا بأس به، فقد ثبت أن الصديق رضي الله عنه لما علم بموت النبي صلى الله عليه وسلم جاء وكشف عن وجهه وقبَّله وقال: طبت حيًّا وميتًا، أما الموتة التي كتبها الله عليك قد متها.
وقوله: «لا تبكه»؛ في لفظ لما كانت أخته تبكي قال: «لا تبكيه أو ما تبكيه»([3])، يعني: إن الأمر سيان.
وقوله: «ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع» في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر رضي الله عنه: «أما علمت ما قال الله لأبيك، إن الله كلمه كفاحًا وقال له: تمن، قال: رب أتمنى أن أرد إلى الدنيا فأقتل، فقال: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون»([4]). فهذه منقبة لعبدالله بن حرام رضي الله عنه أن الله كلمه وأظلته الملائكة.
وهذا الحديث فيه جواز البكاء على الميت بدمع العين مع الرضا بقضاء الله وقدره، في غير سخط أو قنوط.
وإنما المنهي عنه هو النياحة، أي: رفع الصوت بالبكاء والعويل والصراخ وتعداد محاسن الميت، فهي من كبائر الذنوب؛ أما البكاء بدمع العين فهذا لا بأس، لأنه رحمة؛ وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب إنما يعذب بهذا أو يرحم» وأشار إلى لسانه([5]) ولما مات ابنه إبراهيم وهو صغير قال: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([6]).
ولما جاء نعي الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة: جعفر، وعبدالله بن رواحة، وزيد بن حارثة ، جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر يعرف في وجهه الحزن([7]).
● [3824] هذا الحديث في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الأنبياء وحي وحق، فقد قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام لما قال لابنه: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات: 102] فلما فعل ما أمر به قال الله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 105].
ومن ذلك ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد قال: «رأيت في رؤيأي: أني هززت سيفًا فانقطع صدره» فأوله فقال: «فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد» فالقتلى هم صدر السيف الذي انقطع.
وقوله: «ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين»، يعني: بعد أحد.
وقوله: «ورأيت فيها بقرًا والله خير» في لفظ: «بقرًا تنحر»([8])، ثم قال: «فإذا هم المؤمنون يوم أحد» والتشبيه بالبقر؛ لكثرة خيرها، لأنها تحرث الأرض وتثيرها، وتسقي الحرث، وفيها اللبن، فَتُشْبِهُ المؤمنين في كثرة الخير؛ ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم البقر تنحر أولها بالقتل لصحابته ي.
● [3825] قال خباب: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله» شرط صحة العمل أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون موافقًا للشرع.
قوله: «فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا»، يعني: من أجر الإيمان والجهاد، أي: منا من مات قبل أن تفتح الدنيا.
وفيه: فضل الصحابة رضوان الله عليهم وخوفهم العظيم من أن ينقص من أجرهم شيء.
وقوله: «كان منهم مصعب بن عمي،ر قتل يوم أحد» فالشاهد أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك كفنًا يكفيه، ما وجد له إلا قطعة قماش لا تكفي لستر جسده. قال: «فلم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجليه خرج رأسه فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه»، يعني: استروا الجسد والرأس؛ لأن الرأس أشرف.
وقوله: «واجعلوا - أو قال: ألقوا - على رجليه من الإذخر» فالإذخر: نبت مثل الخوص يجعل في الخلل بين السقوف وبين الخشب، فجعلوا على رجليه شيئًا من الحشائش.
وقوله: «ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها» يعني: منا من تأخرت وفاته حتى فتحت الدنيا وتوسعت عليه، فخشي خباب أن يكون استعجل شيئًا من ثوابه، وخشي أن ينقص ما فتح عليهم من الدنيا من أجر إيمانهم وجهادهم، ولكن يرجى لهم الخير، فمن مات فهو على خير، ومن بقي فهو على خير، من مات فقد تقدم وصبر على الشدة، ومن تأخر فإنه أيضًا حصل من الحسنات بنصر دين الله وتعليم الناس والدعوة إلى الله وتبليغ السنة؛ لكن من شدة الخوف خشي خباب أن يكون خير الدنيا سببًا في نقص ثوابه في الآخرة.
* * *
المتن
[27/55] باب «أحد يحبنا»
قاله عباس بن سهل، عن أبي حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم
● [3826] حدثني نصر بن علي، قال: أخبرني أبي، عن قرة بن خالد، عن قتادة، سمعت أنسًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه!».
● [3827] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد، فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه! اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت ما بين لابتيها!».
● [3828] حدثني عمرو بن خالد: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها».
الشرح
● [3826]، [3827] قوله: «هذا جبل يحبنا ونحبه» هذا فيه بيان أن أحدًا جعل الله فيه إحساسًا، فكان يحب المؤمنين ويحبونه، والله تعالى على كل شيء قدير، فهو سبحانه يجعل في الجبال إحساسًا ويجعلها تحب. قال الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74] فمنها ما يهبط من خشية الله. قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]، وهذا أمر حقيقي؛ ليس مجازًا، فليس كما يقول البعض: إن هذا ليس محبة، وليس حقيقة، وإنما هو مجاز. فالصواب أنه حقيقة والله قادر على أن يجعل فيه إحساسًا. قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن»([9])، وكذلك فإن الطعام يسبح، فقد قال تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [الجمعة: 1]، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الإسراء: 44]، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع ثم وضع له منبر آخر وتركه صاح الجذع وسمع الناس له صوتًا كصوت العشار فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يهدئه كما يهدأ الصبي، أي: شيئًا فشيئًا حتى سكت([10]). فهذا على حقيقته، وهذا ظاهر.
وقد ورد ما يدل على أن أحدًا جبل من جبال الجنة، ففي الخبر: «أحد يحبنا و نحبه، جبل من جبال الجنة»([11])؛ وقد أشار إليه الشارح.
وقوله: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة» فالمراد إظهار تحريمها، فالذي حرم مكة هو الله. كما في حديث آخر: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض»([12]). فالله هو الذي حرمها، وإبراهيم عليه السلام أظهر التحريم.
وقوله: «وإني حرمت ما بين لابتيها» فالمقصود: المدينة، فقوله: «لابتيها»، هما الحرتان، ويعني: إني أظهر تحريمها، وإلا فالله هو المحرم وهو المشرع.
● [3828] في هذا الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت» وهذا صريح في بيان أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أهل أحد هي صلاته على الميت، وهذا يقوي أن المراد به الصلاة، والمشهور عند العلماء أن صلاته على أهل أحد دعاء واستغفار لهم وليس مثل الصلاة المعهودة، وقال بعض العلماء: إنه صلى عليهم الصلاة المعهودة، ويكون هذا خاصًّا بشهداء أحد.
وقال أصحاب القول الأول: إن الأحاديث دلت على أن المراد بصلاته الدعاء لهم يعني: الصلاة بمعناها اللغوي، وذلك في آخر حياته، فقد ودع الأهل والأموات، فذهب إلى أهل أحد ودعا لهم واستغفر. لكن هذا الحديث الذي معنا يقوي قول من قال: إنه صلى عليهم صلاته على الميت.
وقوله: «ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم»، أي: يخاطب الأحياء، والفرط: هو الذي يتقدم القوم، ويهيئ لهم المكان، فيستنبط الماء لهم، ويجعلها في الحياض حتى إذا نزلوا تكون مهيأة لهم.
وقوله: «وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر إلى حوضي الآن» فقد كشف الله له صلى الله عليه وسلم الحوض وجعل ينظر إليه، وهذه الأمور من علامات النبوة.
وقوله: «وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض» فهذه أيضًا من علامات النبوة.
وقوله: «وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» فهذا خاص بالصحابة، أي: لا يخاف عليهم الشرك لما جعل الله في قلوبهم من ثبات الإيمان واستقراره، حيث إنهم شاهدوا التنزيل وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الوحي، فلا يخاف عليهم الشرك الأكبر؛ إذ أعطاهم الله من الإيمان والبصيرة، ولكن خشي عليهم الدنيا والتنافس فيها؛ وأما من بعد الصحابة فإنه يخشى عليهم الشرك الأكبر والأصغر، والكبائر من باب أولى.
ولا يدل هذا القول على أن هذه الأمة مطهرة من الشرك، وأنه لا يقع الشرك في هذه الأمة، فهناك أحاديث كثيرة دلت على أن الشرك واقع في هذه الأمة.
* * *
المتن
[28/55] غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة
وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه
قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر أنها بعد أحد.
● [3829] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت - وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كان بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلًا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة؛ فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق، إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا، فقال: عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك! فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر! فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل؛ فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل - وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى، فقال: أتَحسِبينَ أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله! وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب! لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ تَمرةٌ وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، وقال: اللهم أحصهم عددًا!
مـا إن أبالـي حين أقتـل مسلمًا على أي: شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه - وكان قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليهم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رُسْلِهمْ؛ فلم يقدروا منه على شيء.
● [3830] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابرًا يقول: الذي قتل خبيبًا هو أبو سَرْوعَةَ.
● [3831] حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا -لحاجة- يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا عليهم في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت. قال عبدالعزيز: وسأل رجل أنسًا عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ فقال: لا، بل عند فراغٍ من القراءة.
● [3832] حدثنا مسلم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا قتادة، عن أنس قال: قنت النبي صلى الله عليه شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب.
● [3833] حدثني عبدالأعلى بن حماد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رعلًا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو؛ فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يَحطِبُون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم، وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من العرب: على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان؛ قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا».
● [3834] وعن قتادة، عن أنس حدثه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا في صلاة الصبح يدعو على أحياء من أحياء العرب: على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان.
زاد خليفة قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس: أن أولئك السبعين من الأنصار قتلوا ببئر معونة قرآنًا كتابًا... نحوه.
● [3835] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خاله أخٌ لأم سليم في سبعين راكبًا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، خير بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل بني فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم - وهو رجل أعرج - ورجل من بني فلان قال: كونا قريبًا حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يحدثهم، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه - قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح - قال: الله أكبر! فزت ورب الكعبة! فلَحِق الرَّجُلَ فقتلوا كلهم غير الأعرج، كان في رأس جبل، فأنزل الله عز وجل علينا ثم كان من المنسوخ: «إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا»، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثلاثين صباحًا: على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وعصية الذين عصوا الله ورسوله.
● [3836] حدثنا حبان، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا معمر، قال: وحدثني ثمامة ابن عبدالله بن أنس، أنه سمع أنس بن مالك يقول: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة!
● [3837] حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الخروج حين اشتد عليه الأذى، فقال له: «أقم»، فقال: يا رسول الله، أتطمع أن يؤذن لك؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأرجو ذلك»، قالت: فانتظره أبو بكر، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ظهرًا، فناداه فقال: «اخرُجْ أخرج من عندك»، فقال أبو بكر: إنما هما ابنتاي، فقال: «أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟» فقال: يا رسول الله الصحبة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصحبة!» قال: يا رسول الله، عندي ناقتان قد كنت أعددتهما للخروج، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما وهي الجدعاء، فركبا فانطلقا حتى أتيا الغار، وهو بثور، فتواريا فيه، فكان عامر بن فهيرة غلامًا لعبدالله بن الطفيل بن سخبرة أخو عائشة لأمها، وكانت لأبي بكر منحة فكان يروح بها ويغدو عليهم، ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح، فلا يفطن به أحد من الرعاء، فلما خرجا خرج معهما يعقبانه حتى قدما المدينة، فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة.
● [3838] وعن أبي أسامة، قال: قال هشام بن عروة: فأخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمْري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل- فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع، وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبرُهم، فنعاهم فقال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا»، فأخبرهم عنهم، وأصيب يومئذ فيهم عروة ابن أسماء بن الصلت، فسُمِّي عروة به، ومنذر بن عمْرو سُمِّيَ به منذرًا.
● [3839] حدثني محمد، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس قال: قنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو على رعل وذكوان، ويقول: «عصية عصت الله ورسوله».
● [3840] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا ببئر معونة ثلاثين صباحًا حتى يدعو على رِعْلٍ ولَحْيَانَ وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: فأنزل الله عز وجل لنبيه في الذين قتلوا أصحاب بئر معونة قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد: «بلغوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه».
● [3841] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبدالواحد، قال: حدثنا عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، فقال: نعم، فقلت: كان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: بعده، قال: كذب! إنما قنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، إنه كان بعث ناسًا يقال لهم: القراء - وهم سبعون رجلًا - إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم.
الشرح
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «باب غزوة الرجيع»، سقط لفظ «باب» لأبي ذر، و«الرجيع» بفتح الراء وكسر الجيم: هو في الأصل اسم للروث سمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بقرب منه فسميت به.
قوله: «ورعل وذكوان»، أي: وغزوة رعل وذكوان، فأما رعل فبكسر الراء وسكون المهملة: بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة ابن سليم، وأما ذكوان فبطن من بني سليم أيضًا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم فنسبت الغزوة إليهما.
قوله: «وبئر معونة» بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون: موضع في بلاد هذيل بين مكة وعسفان وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين.
قوله: «وحديث عضل والقارة» أما عضل فبفتح المهملة ثم المعجمة بعدها لام: بطن من بني الهول بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش بن محكم. وأما القارة فبالقاف وتخفيف الراء: بطن من الهول أيضًا ينسبون إلى الديش المذكور. وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي. وقال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها .....................
وقصة العضل والقارة كانت في غزوة الرجيع لا في سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق فذكر غزوة الرجيع في أواخر سنة ثلاث وبئر معونة في أوائل سنة أربع، ولم يقع ذكر عضل والقارة عند المصنف صريحًا، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق فإنه بعد أن استوفى قصة أحد قال: ذكر يوم الرجيع».
فالمقصود أن «غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة» كلها في وقت واحد، وجمع بينهم المؤلف /.
وذكر «أنها بعد أحد» يعني: غزوة الرجيع كانت بعد غزوة أحد.
● [3829] ذكر قصة عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره على عشرة ليكونوا عينًا له.
قوله: «حتى إذا أجمعوا قتله»، يعني: صمموا وعزموا على قتله.
وقوله: «استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها»، أي: طلب منهم موسى ليزيل شعر العانة الذي حول الفرج، وهو يعلم أنهم أجمعوا على قتله ففي اللحظات الأخيرة يطلب موسى ليستحد بها، وهذا يبين حرص المؤمن على السنة ولو عند الموت.
وقوله: «فخرجوا به من الحرم ليقتلوه»، أي: قتله الكفار في الحل تعظيمًا للحرم، ولا يعلمون أن دم المؤمن المقتول - بغير حق - أعظم حرمة عند الله!
وقوله: «ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله»، أي: قتل عقبة بن الحارث - وكنيته أبو سروعة - خبيبًا رضي الله عنه، وقد أسلم عقبة بعد ذلك.
وقوله: «وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده»، أي: ليقطعوا شيئًا من جسده. قال: «و كان قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر»، فحماه الله منهم، قال: «فبعث الله عليهم مثل الظلة»، يعني: مثل السحابة «من الدبر» الدبر ذكور النحل، فجعل يظلل عليه عدد كبير من الزنابير كأنها سحابة، فكلما قرب منه أحد لُدغ، فما استطاعوا المساس به، فرجعوا خائبين ولم يقتطعوا شيئًا من جسده، وهذا من حماية الله لأوليائه، حماه الله أن يمثل بجسده، لكن قد يقال: لم حماه الله من أن يقطع من جسده وما منعهم من قتله؟ والجواب أن قتله شهادة، والشهادة خير له.
وفي هذه القصة عدة فوائد:
الأولى: بعث الإمام السرايا والعيون على الأعداء، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث هؤلاء العشرة عينًا يتتبعون الأخبار، ويأتون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والعين يسمى الجاسوس، فلا بأس أن يتجسس المسلمون على الكفار؛ ليعدوا العدة لهم، وليتأهبوا للقائهم.
الثانية: مقاتلة العدد القليل للكثير؛ فعشرة قابلوا مائة رامٍ من هذيل، وهذا ليس من قبيل إلقاء النفس في التهلكة بل لما فيه من القوة والشجاعة والتعرض للشهادة، ولأن العدد القليل يعقبه العدد الكثير، ولما في بعث القليل من الحركة والقوة والنشاط، ولما في القعود من الخلود والركون إلى الدنيا وترك الجهاد.
الثالثة: جواز النزول على ذمتهم وعهدهم؛ لأن عاصمًا رضي الله عنه ومن معه رفضوا أن ينزلوا على ذمتهم فقابلوهم وقاتلوهم حتى قتلوا، وكان عددهم ستة رجال مع عاصم ي، وثلاثة نزلوا على العهد؛ فدل على جواز الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم ولم ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء، فدل على جواز مقاتلة القليل للكثير، وجواز النزول على ذمتهم وعهدهم.
الرابعة: أن الكفار لا يوثق في عهودهم وأمانتهم وأنهم يغدرون، فهؤلاء أعطوهم العهد والميثاق لما جاءوا لهم «إلى فدفد»، أي: جبل صعدوا فيه فقالوا: انزلوا، «لكم العهد والميثاق»، فغدروا بهم.
الخامسة: فضل خبيب رضي الله عنه وصبره، وأنه لما درج إليه هذا الصبي لم يقتله - وقد خشيت أمه ذلك - مما دل على أخلاقه الرفيعة ورحمته.
وقد ذكر الشارح بعض الآثار مثل: هل أمكن الله منكم؟ فطلبت منه أن يتركه فلم يفعل، فقال لها: إني كنت أمزح معكم.
لكن ما في «الصحيحين» مقدم «فقال: أتحسبين أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله» وفي الرواية الأخرى: «فقال: أتخشين».
السادسة: إثبات كرامة الأولياء؛ لأن خبيبًا رضي الله عنه كان عنده قطف من عنب يأكل منه وهو موثق في الحديد وليس في مكة عنب، وهذا يشبه ما حصل لمريم لكان يوجد عندها فاكهة الشتاء في زمن الصيف، وفاكهة الصيف في زمن الشتاء، فكان زكريا عليه السلام يقول لها: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ)[آل عمران: 37]، فكانت ابنة الحارث تقول عن خبيب: «وما كان إلا رزق رزقه الله»، ومع هذا ما استفاد الكفار من هذه الكرامة التي أعطاها الله خبيبًا رضي الله عنه.
السابعة: مشروعية صلاة ركعتين قبل القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر خبيبًا رضي الله عنه، ولم ينكر عليه، وكان أول من سن الركعتين عند القتل.
الثامنة: أنه لا بأس بالاستشهاد بالنظم والشعر إذا كان مفيدًا ولو عند الموت.
التاسعة: إثبات الذات لله عزوجل قال: «وذلك في ذات الإله» وهذا من باب الخبر كما جاء في الحديث: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل»([13]) فجاء إثبات الذات في قصة إبراهيم عليه السلام، وهنا أيضًا في قصة خبيب رضي الله عنه.
العاشرة: تعظيم المشركين للحرم حيث خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، فخرجوا به إلى التنعيم وقتلوه.
● [3830] قوله: «الذي قتل خبيبًا هو أبو سروعة»، أي: إن الذي قتل خبيبًا رضي الله عنه هو عقبة بن الحارث، وكنيته أبو سروعة، وقد أسلم عقبة بعد ذلك، وهو الذي تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت له ولزوجته: لقد أرضعتكما، فقال: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال يا رسول الله: إن هذه المرأة السوداء قالت: إني قد أرضعتك وزوجتك ولم تخبرني ولم أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف وقد قيل؟!»([14]) يعني: هذه شبهة؛ ففارقها عقبة.
● [3831] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين رجلًا يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان فقتلوهم.
قوله: «فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا عليهم في صلاة الغداة»، يعني: صلاة الفجر.
وقوله: «وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت»، يعني: قبل ذلك.
وقوله: «وسأل رجل أنسًا عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ فقال: لا، بل عند فراغ من القراءة» كذا جاء في هذا الحديث، لكن أكثر الروايات عن أنس أن القنوت بعد الركوع، فهذه الرواية تحتمل أمرين:
تحتمل جواز أن يكون القنوت قبل الركوع أو بعده.
وتحتمل أيضًا أنه وهم من بعض الرواة؛ لأن أكثر الروايات على أن القنوت يكون بعد الركوع.
وهذا الحديث فيه مشروعية القنوت عند النوازل.
● [3832] قوله: «قنت النبي صلى الله عليه»، فيه: دليل على مشروعية القنوت.
وقوله: «شهرًا بعد الركوع»، أي: إن القنوت لا يكون مستمرًّا لكنه يستمر باستمرار النازلة، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا فقط، وفي رواية أخرى: «أربعين صباحًا»([15]) ثم تركه.
● [3833] هذا الحديث فيه: دليل على مشروعية القنوت كما سبق.
وفيه: دليل على أن الله أنزل فيهم قرآنًا ثم نسخ.
وفيه: جواز النسخ والرد على اليهود في إنكارهم النسخ، فقد أنزل الله فيهم قرآنًا وهو: «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا»، فقد كانت آية ثم نسخها الله، وقد قال الله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 106]. وفي هذا رد على اليهود الذين أنكروا النسخ ويقولون: إذا جاز النسخ على الله جازت البداءة عليه أيضًا، أي: إذا كان يبدو له شيء كان جاهلًا به. وهذا من جهلهم وضلالهم فإن للنسخ فوائد، وله سبحانه الحجة البالغة.
● [3834] هذا الحديث فيه: دليل على مشروعية القنوت في النوازل كما سبق.
قوله: «قتلوا ببئر معونة قرآنًا كتابًا... نحوه»، يعني: أنه قرآن، فالكتاب بدل من القرآن؛ لأن القرآن كتاب الله فيطلق عليه الكتاب والقرآن.
● [3835] هذه القصة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هؤلاء ومعهم خال أنس وهو أخ لأم سليم في سبعين راكبًا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خَيَّر النبي صلى الله عليه وسلم «بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر»، يعني: نقتسم نحن الاثنين: فلي أهل المدر، يعني: البيوت الطينية، ولك أهل السهل، أي: البوادي؛ فيكون لك مثلًا البوادي، ويكون لي القرى أو العكس.
وقوله: «أو أكون خليفتك»، يعني: من بعدك.
وقوله: «أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف»، فهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على ذلك الكبر وحب الرياسة والمنصب.
وقوله: «فطعن عامر»، يعني: أصابه الطاعون عقوبة له على كبره وعتيه.
وقوله: «غدة كغدة البكر»، أي: ورم كغدة البعير.
وقوله: «ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه» بسبب الطاعون.
وقوله: «فانطلق حرام أخو أم سليم - وهو رجل أعرج - ورجل من بني فلان» وقع في رواية عثمان بن سعيد: «فانطلق حرام ورجلان معه، رجل أعرج ورجل من بني فلان»([16])، أي: كانوا ثلاثة، وهذا هو الصواب.
وقوله: «كونا قريبًا حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم»، أي: قال لهم: كونوا قريبًا مني. فقال لهم: «أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم» فكأنهم قالوا له: نعم. «فجعل يحدثهم»، أي: يبلغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فغدروا به «وأومأوا إلى رجل» أن يقتله، قال: «فأتاه من خلفه فطعنه - قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح - قال: الله أكبر! فزت ورب الكعبة!» يعني: فزت بالشهادة.
فأنزل الله فيهم: «إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا»، وكانت تقرأ.
وقوله: «فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثلاثين صباحًا» فيه: مشروعية القنوت.
● [3836] قوله: «قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه»، أي: وهو في حال الضربة حين طعن فيكون عنده قوة ونشاط قبل أن يحس بالألم، لكن بعد ذلك إذا تمكنت الضربة يموت، فنضح عند ذلك على وجهه ورأسه.
وفيه: إطلاق القول على الفعل فإنه سمى فعل هذا النضح قولًا.
وقوله: «ثم قال: فزت ورب الكعبة!» فذلك لما عنده من اليقين؛ لعلمه ما أعد الله للشهيد من الثواب والأجر الكبير، ولهذا أخذ الدم ونضحه على وجهه ورأسه.
● [3837] هذا الحديث في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الخروج»، يعني: إلى المدينة مهاجرًا لما اشتد عليه الأذى؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أقم. فقال: يا رسول الله، أتطمع أن يؤذن لك؟»، يعني: في الهجرة فقال: «إني لأرجو ذلك»، فانتظره أبو بكر، ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الظهيرة.
وقوله: «أخرج من عندك»؛ فلأن الأمر مهم، فقال أبو بكر الصديق: «إنما هما ابنتاي»، فأخبره وقال: «أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟»، يعني: إلى المدينة «فقال: يا رسول الله الصحبة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الصحبة!» وكان أبوبكر قد أعد ناقتين قال: «فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما وهي الجدعاء» ثم أتيا الغار وتواريا فيه فكان عامر بن فهيرة معهما.
وقوله: «وكانت لأبي بكر منحة فكان يروح بها ويغدو عليهم»، يعني: منحة من الغنم.
وقوله: «ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح، فلا يفطن به أحد من الرعاء» يعني: أنه في الليل يأتي لهم بالحليب من الغنم ثم في آخر الليل ينزل ولا يفطن به أحد.
وقوله: «خرج معهما يعقبانه» يعني: في الركوب، وذلك بالنوبة- هذا مرة وهذا مرة-.
وقوله: «فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة» هو الشاهد من هذا الحديث، فهو ينبه على أن عامر بن فهيرة رضي الله عنه من السابقين.
● [3838] هذا الحديث حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه «قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ - وأشار إلى قتيل-» يعني: لما أسر عمرو بن أمية قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟- فأشار إلى قتيل قال: «فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة».
وقوله: «فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع» فهذه كرامة لعامر بن فهيرة، رفع إلى السماء ثم وضع.
وقوله: «وأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، فنعاهم»، يعني: نعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر الناس، وقال: «وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا»؛ فأنزل الله عز وجل الآية وأخبرهم.
● [3839]، [3840] هذان الحديثان فيهما: مشروعية القنوت في النوازل، وأنه لا يستمر.
وفيهما: جواز النسخ، والرد على اليهود.
وفيهما: بيان الآية التي نُسخت، فهي: «بلغوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه».
● [3841] فيه أن أنسًا رضي الله عنه سئل: هل كان القنوت «قبل الركوع أو بعده؟» فقال: «قبله» والمحفوظ من رواية أنس وغيره أن القنوت بعد الركوع، وأما القنوت قبل الركوع فحمله ابن القيم في «زاد المعاد في هدي خير العباد» على طول القيام([17])، ولكن سياق الحديث يأبى ذلك، والأرجح أن يقال: لعل هذا الحديث فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان، أو أنه وهم من بعض الرواة.
وأما قوله: «كذب!» ، فالمعنى: أخطأ، كقوله في الحديث الآخر: «كذب أبو السنابل»([18])، وقوله: «كذبت بطن أخيك»([19])، فليس المراد أنه تعمد الكذب، ولكن المراد أنه أخطأ، فالذي يخطئ يقال له: كذب، ولو لم يتعمد.
وقوله: «فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا»، أي: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا ثم تركه، وما عداه فإنه قبل الركوع، وعلى كل حال فإن قول أنس: إنه قنت قبل الركوع فيه إشكال يحتاج إلى مزيد بحث.
* * *
المتن
[29/55] غزوة الخندق وهي الأحزاب
قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع.
● [3842] حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيدالله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
● [3843] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكبادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار!».
● [3844] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، قال: سمعت أنسًا يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع فقال:
«اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة»
فقالوا مجيبين له:
نحـن الذيـن بايعــوا محمــدًا على الجهـاد ما بقينـا أبدًا
● [3845] حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبدالوارث، عن عبدالعزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون:
نحــن الذيـن بايعـــوا محمــدًا على الإسـلام مـا بقينـا أبـدا
قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم:
«اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة»
قال: يؤتون بملء كَفَّيْ من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.
● [3846] حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا عبدالواحد بن أيمن، عن أبيه قال: أتيت جابراً فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كَيْدةٌ شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كَيْدة عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل»، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب؛ فعاد كثيبًا أهيل - أو أهيم - فقلت يا رسول الله: ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فَذََبحْتُ العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقال: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له قال: «كثير طيب»، قال: «قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي» قال: «قوموا»؛ فقام المهاجرون، فلما دخل على امرأته قال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا»، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية قال: «كلي هذا وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة».
● [3847] حدثني عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: أخبرنا سعيد بن ميناء، قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا؛ فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا؛ فأخرجت إلي جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجئت فساررته فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك؛ فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ فحي أهلًا بكم»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلن برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجيء»، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت له عجينًا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق فيه وبارك، ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها»، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه! وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو!
● [3848] حدثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ) [الأحزاب: 10] قالت: كان ذاك يوم الخندق.
● [3849] حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه - أو اغبر بطنه - يقول:
«والله لولا الله ما اهتدينـا ولا تصـدقنا ولا صلينا
فأنزلـن سكينـة علينـــا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُولَى قد بغوا علينـا إذا أرادوا فتنــة أبينــا»
ورفع بها صوته: «أبينا أبينا».
● [3850] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور».
● [3851] حدثني أحمد بن عثمان، قال: حدثنا شريح بن مسلمة، قال: حدثني إبراهيم بن يوسف، قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة - وهو ينقل من التراب - يقول:
«اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصــدقنـا ولا صلينـا
فأنزلــن سكينـــة علينـــا وثبـت الأقـدام إن لاقينـا
إن الأُلـــى رَغِبُــوا علينــا وإن أرادونا على فتنة أبينا»
قال: ثم يمد صوته بآخرها.
● [3852] حدثني عبدة بن عبدالله، قال: حدثنا عبدالصمد، عن عبدالرحمن، هو: ابن عبدالله بن دينار، عن أبيه، أن ابن عمر قال: أول يوم شهدته يومُ الخندق.
● [3853] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ح قال: وأخبرني ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسواتها تَنطُفُ، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء! فقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية، قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه؟! قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبدالله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجميع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: حفظت، وعصمت!
قال محمود، عن عبدالرزاق: ونَوَسَاتُها.
● [3854] حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «نغزوهم ولا يغزونا».
● [3855] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت سليمان بن صرد يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلي الأحزاب عنه: «الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم».
● [3856] حدثني إسحاق، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يوم الخندق: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس!».
● [3857] حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبدالله، أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب! قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها»، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
● [3858] حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابرًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «من يأتينا بخبر القوم؟» فقال الزبير: أنا، ثم قال: «من يأتينا بخبر القوم؟» فقال الزبير: أنا، ثم قال: «من يأتينا بخبر القوم؟» فقال الزبير: أنا، قال: «إن لكل نبي حَوَارِيًّا، وحَوَارِيَّ الزبير».
● [3859] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
● [3860] حدثني محمد، أخبرنا الفزاري و عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سمعت عبدالله بن أبي أوفى يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب! اللهم اهزمهم وزلزلهم!».
● [3861] حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا موسى بن عقبة، عن سالم و نافع، عن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو أو الحج أو العمرة يبدأ فيكبر ثلاث مرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
الشرح
قوله: «غزوة الخندق وهي الأحزاب» يعني: أن لها اسمين فتسمى غزوة الخندق؛ لأنه حُفر فيها خندق حول المدينة، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه حتى لا تقتحم خيل المشركين المدينة، وجُعل للدخول في المدينة أبواب فيها حراس.
وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، جمع حزب؛ لأن الكفار تحزبوا وتجمعوا وجاءوا لحرب المسلمين، فجاءت قريش وغطفان وكذلك اليهود من بني قريظة وبني النضير وغيرهم ممن نقضوا العهد، فسميت لذلك غزوة الأحزاب.
وقوله: «قال موسى بن عقبة»، وهو مؤرخ، «كانت في شوال سنة أربع»، وذكر ابن إسحاق أنها سنة خمس.
وقد حقق الشارح الحافظ أن غزوة الخندق كانت في سنة خمس من الهجرة، فقال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع» هكذا رويناه في «مغازيه» قلت: وتابع موسى على ذلك مالك وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. وبذلك جزم غيره من أهل المغازي، ومال المصنف إلى قول موسى بن عقبة وقواه بما أخرجه أول أحاديث الباب من قول ابن عمر أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة ويوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فيكون بينهما سنة واحدة. وأحد كانت سنة ثلاث فيكون الخندق سنة أربع ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان في أول ما طعن في الرابعة عشر»، يعني: أن ابن عمر في غزوة أحد كان في الرابعة عشر من عمره وكان في الخندق في السادسة عشر.
قال الحافظ ابن حجر /: «وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي. ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ، وقال لقومه: إنما يصلح الغزو في سنة الخصب فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها([20]).
ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف».
وعلى كل حال فالأمر في هذا سهل، فقد مال موسى بن عقبة إلى أنها سنة أربع واختاره البخاري، أما الشارح فمال إلى قول ابن إسحاق: إنها سنة خمس.
● [3842] ذكر المصنف هناحديث ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وفي لفظ آخر: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني»([21]).
وكان يوم أحد سنة ثلاث من الهجرة، ويوم الخندق سنة خمس، فيكون يوم أحد في آخر سنة ثلاث من الهجرة، وعليه يكون قد أكمل يوم الخندق خمس عشرة سنة ودخل في السادسة عشر من عمره.
● [3843] هذا الحديث، حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنهم كانوا يحفرون الخندق وينقلون التراب، قال: «ونحن ننقل التراب على أكبادنا»، وفي رواية: «على أكتادنا»([22])، يعني: على أكتافهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار!» ، وهذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر هذا القول.
● [3844] في هذا الحديث - وهو حديث أنس - أنهم كانوا «يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم»، أي: ليس لهم خدم قال: «فلما رأى ما بهم من النصب والجوع فقال:
اللهم إن العيش عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجرة»
وفي اللفظ الأول:
«فاغفر للمهاجرين والأنصار!»
وقوله: «فاغفر»، الهمزة هنا همزة وصل. قال: «فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمداً |
على الجهاد ما بقينا أبداً» |
● [3845] في هذا الحديث - وهو حديث أنس - قال: «جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدًا |
على الإسلام ما بقينا أبداً» |
ويجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا:
«اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة |
فبارك في الأنصار والمهاجرة» |
وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كرر هذا القول؛ فقال مرة:
«فاغفر للمهاجرين والأنصار!»
وقال مرة:
«...................... |
فاغفر للأنصار والمهاجره» |
وقال مرة:
«...................... |
فبارك في الأنصار والمهاجره» |
لأن مدة حفر الخندق أيام، فيتكرر هذا القول مع بعض التغيير في العبارة.
وقد اجتمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة ي تعب وبرد وجوع ونصب، فقد كان ذلك في الشتاء في شدة البرد حتى إنهم مرت عليهم ثلاث ليال وما أكلوا شيئًا كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه وهم أفضل الناس، وما زوى الله عز وجل عنهم الدنيا لهوانهم عليه ولكن ليكرمهم وليعظم لهم الأجر، ولأن الدنيا ما تزن عنده عز وجل جناح بعوضة، فالدنيا يعطيها الله لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب،
وفي الحديث: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافرًا منها شربة ماء»([23]). فهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولذلك زواها الله عنهم؛ لحكمة بالغة، وقد وسع الله عليهم بعد ذلك ففتحت خيبر وتوالت الفتوحات.
وقوله: «يؤتون بملء كفي من الشعير» فكان الشعير يطحن ولا ينخل.
وقوله: «فيصنع لهم بإهالة سنخة»، أي: شحم متغير الرائحة.
وقوله: «توضع بين يدي القوم»، أي: شعير عليه شحمة منتنة لها رائحة كريهة.
وقوله: «والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق»، أي: ما كانوا يستسيغونها في الحلق ولها ريح منتن، لكن يأكلون من شدة الحاجة رضي الله عنهم وأرضاهم، وما ضرهم هذا، فقد صبروا على الجهاد وتبليغ دين الله فأفلحوا.
قال الحافظ ابن حجر /: «وعند موسى أنهم أقاموا في عمله قريبًا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعًا وعشرين، وفي «الروضة» للنووي: خمسة عشر يومًا، وفي «الهدي» لابن القيم: أقاموا شهرًا».
وعلى أي: حال فإن مدة الخندق طويلة قريبة من العشرين يومًا أو من الشهر.
● [3846] هذه القصة ذكرها المؤلف من طريقين وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يحفرون الخندق فعرضت لهم «كيدة» وفي رواية: «كدية» والمعنى واحد، يعني: القطعة الشديدة الصلبة من الأرض.
وقوله: «فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كيدة عرضت في الخندق»، أي: جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه الكيدة أعيتنا ولا نستطيع إكمال الحفر منها.
وقوله: «فقال: أنا نازل. ثم قام وبطنه معصوب بحجر»، أي: ربط النبي صلى الله عليه وسلم بطنه بحجر بسبب الجوع الشديد، وهو أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً» فما أكلوا شيئًا، فليس هناك طعام، والجو بارد، والعمل متواصل في حفر الخندق؛ لأن العدو قادم.
وقوله: «فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب»، يعني: أخذ الفأس فضرب الكدية «فعادت كثيبًا أهيل - أو أهيم»، يعني: عادت رملًا سائلًا منهالًا.
وللحديث روايات في غير «الصحيح» فقد ذكر الشارح أنه: «وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فأخذ المعول فقال: «باسم الله»، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: «الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة» ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: «الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض» ثم ضرب الثالثة وقال: «باسم الله»، فقطع بقية الحجر فقال: «الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة».
يعني: في وقت شدة ووقت عصيب والكفار محيطون به عليه الصلاة والسلام ومتحزبون عليه وهم يحفرون الخندق، وما أكلوا منذ ثلاثة أيام، ومع ذلك يقول: «أعطيت مفاتيح الشام»، أي: وأنا أراها الآن، «أعطيت مفاتيح فارس»، أي: أعطيت مفاتيح كسرى، «أعطيت مفاتيح اليمن»([24]).
وهذه دول عظيمة في ذلك الوقت. فدولتا الفرس والروم أقوى الدول، ويقول: أعطيت مفاتيحها، فأخبر أنها ستفتح، فكشف له عن المستقبل فكان يبصر في الضربة الأولى قصور الشام، قصور ملوك الروم؛ ويبصر في الضربة الثانية قصور فارس؛ ويبصر في الضربة الثالثة صنعاء، وصنعاء لم تفتح في ذلك الوقت، وكل هذا من علامات النبوة، فكل هذه الممالك الثلاث ما فتحت إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عدا اليمن فإنها فتحت في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأرسل صلى الله عليه وسلم إليها معاذًا وأبا موسى م ، ثم أرسل صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بعد ذلك.
وقوله: «فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما في ذلك صبر»، يعني: رأى علامات الجوع والشدة، وهذا أشق شيء على نفسي.
وقوله: «فعندك شيء؟» يعني: أعندك شيء؟ أو هل عندك شيء؟ على حذف حرف الاستفهام، والمعنى: هل عندك طعام أقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم؟
وقوله: «قالت: عندي شعير وعناق»؛ جاء في رواية أخرى: «عندي صاع من شعير»([25])،والعناق: أنثى المعز التي مضى لها أربعة أشهر أو ستة أشهر.
وقوله: «فذبحت العناق وطحنت الشعير»، يعني: هو ذبح العناق وهي طحنت الشعير، فانتهيا جميعًا، ثم طبخت هذه العناق، قال: «حتى جعلنا اللحم في البرمة»، أي: في القدر.
وقوله: «ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي»، يعني: بين الحجارة التي تحت القدر «قد كادت أن تنضج».
قال جابر: «طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان»، يعني: إن الطعام شيء قليل، فهي عنز صغيرة وصاع من شعير يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه رجل أو رجلان.
قوله: «قال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيب. قال: قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، قال: قوموا»، يعني: قال للمهاجرين والأنصار، فقاموا. «فلما دخل على امرأته قال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار»، وهم ألف نفر، فماذا نقدم لهم؟ أصاع شعير وعناق؟!
وقوله: «قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا»، يعني: لا تزدحموا.
وقوله: «فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه»، يعني: يغرف ويغطي القدر والتنور إذا أخذ.
وقوله: «ويقرب إلى أصحابه»، وفي لفظ آخر: «ويدخل عشرة عشرة» حتى يسعهم البيت، فيدخل عشرة فيأكلون ثم يخرجون ثم يدخل جماعة فيأكلون ثم يدخل آخرون وهكذا، حتى انتهى العدد وهم ألف «فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: كلي هذا وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة».
● [3847] ذكر في هذا الحديث أن جابرًا رضي الله عنه رأى بالنبي صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا.
قوله: «فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدًا»، أي: جوعًا شديدًا.
وقوله: «بهيمة داجن»، أي: في البيت لا تسرح.
وقوله: «وطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها»، يعني: هو يذبح وهي تطحن الشعير، وانتهيا جميعًا فقطعها في البرمة، قال: «ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي: لأدعوه.
وقوله: «فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه»، فليس عندي شيء يكفيهم.
وقوله: «فجئت فساررته»، أي: دعوته سرًّا «فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك؛ فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا» السؤر هو الصنيع بالحبشية، والمعنى: أعد طعامًا يسيرًا.
وقوله: «فحي أهلًا بكم» وفي رواية: «فحي هلا بكم»([26])؛ وهي كلمة استدعاء فيها حث، يعني: هلموا مسرعين.
وقوله: «لا تنزلن برمتكم ولا يخبزن عجينكم حتى أجيء»، يعني: لا تنزل القدر عن النار، ولا تخبز العجين حتى آتيكم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس جاء جابر رضي الله عنه إلى امرأته فقالت: «بك وبك!» يعني: فضحتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «قد فعلت الذي قلت»، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فعل هذا، فالله أعلم بما يريد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «فأخرجت له عجينًا فبسق فيه وبارك»، يعني: عمد إلى القدر ثم تفل فيه ودعا بالبركة.
وأما قوله: «ادع خابزة فلتخبز معي»، فهذا تصحيف والصواب «معك»، فهذا ما في الشرح من رواية سعيد، وهو الذي يناسب السياق؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لن يخبز معها، وإنما جارتها هي التي تقوم بذلك، وقد أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تحضر معها خابزة؛ لأنها لا تستطيع خبز صاع الشعير وحدها وذلك بعد أن أنزل الله فيه البركة، فجاءت بخابزة فصارتا تخبزان، ولم تستطيعا أن تقوما بهذه المهمة، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها» قال: «وهم ألف» واقد حي :أي: اغرفي.
وقوله: «فأقسم بالله لأكلوا»، يعني: أن جابرًا هو الذي أقسم.
وقوله: «حتى تركوه وانحرفوا»، أي: حتى مالوا عن الطعام وانحرفوا بعدما طعموا «وإن برمتنا لتغط كما هي»، يعني: تغلي وتفور.
وقوله: «وإن عجيننا ليخبز كما هو» هذا من آيات ودلائل قدرة الله عز وجل، وأنه على كل شيء قدير (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]. فصاع من شعير وعناق صغيرة كفت ألفًا، فشبعوا وبقي الطعام كما هو فالخبز كما هو واللحم كما هو، وأمره أن يوزع على الناس، وقد كان الناس أصابتهم مجاعة. وهذا أيضًا من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقًّا حيث بارك الله في الطعام لما نفث فيه ودعا فقبل الله دعاءه وبارك في هذا الطعام في الحال، فمن دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم تكثير الله الطعام له صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم مرات([27]).
● [3848] الشاهد هنا أن هذه الآية جاءت في قصة يوم الخندق، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً)[الأحزاب: 9].
وفيه: دليل على أن الملائكة شاركت في غزوة الخندق فقوله: (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا)، هم الملائكة يثبتون المؤمنين ويزلزلون الكفار، ويلقون الرعب في قلوبهم، وكانت الريح أيضًا تقلع خيامهم وتنسف قدورهم، فلم يقر لهم قرار حتى رجعوا خائبين.
وقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ)، يعني: الأحزاب وهم الكفرة الذين تحزبوا (مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)، أي: تجمعوا من كل مكان (مِنْ فَوْقِكُمْ)، يعني: كفار مكة وغطفان ومن وراءهم من قبائل، والذين في المدينة أيضًا نقضوا العهد وتحزبوا معهم.
وهنا ظهر النفاق وتكلم المنافقون. فمن الحكم والأسرار أنه عند الأزمات والشدائد والمحن يظهر الصادق من المنافق، ولهذا نجم النفاق، ويوضح ذلك قول الله تعالى: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)، يعني: من المنافقين (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً) فنزلت في المنافقين، قال: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا)، يعني: من أقطار المدينة، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا)، يعني: المنافقين، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً) [الأحزاب: 11 - 14].
ووصف الله تعالى المنافقين في كتابه الكريم بقوله عز وجل: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً) [الأحزاب: 15].
وقوله تعالى: (يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ)، يعني: الذين تحزبوا (يَوَدُّوا)، يعني: المنافقين، (لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ) [الأحزاب: 20] ، أي: يتمنون أنهم في نواحي المدينة يتسمعون الأخبار ويعرفون ماذا حصل؟ من شدة هلعهم وخوفهم.
وقوله عز وجل: (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 20]. فقد جلى الله تعالى أوصاف المنافقين في هذه الغزوة.
● [3849] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشاركهم في الحفر وينقل التراب، قال: «حتى أغمر بطنه - أو اغبر بطنه»، يعني: حتى غطى التراب بطنه، ويتمثل بهذه الأبيات «يقول:
والله لولا الله ما اهتدينـا ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلـن سكينـة علينــا وثبت الأقـدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنــة أبينـــا»
وكانت هذه الأبيات لعبدالله بن رواحة رضي الله عنه، وقد تمثل بها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
وقوله: «إن الأولى» وفي الرواية الثانية: «إن الألى» فالألى: اسم موصول بمعنى الذين، ويقصد المشركين، وأما «الأولى» فاسم إشارة.
وقوله: «قد بغوا علينا»، أي: بغوا على المسلمين ويريدون فتنتهم.
وقوله: «ورفع بها صوته» يعني: في الشطر الأخير: «إذا أرادوا فتنة أبينا»، يعني: إذا أرادوا أن يفتنونا عن ديننا لا نطيعهم بل نقاتلهم.
● [3850] قوله: «نصرت بالصبا» الصبا: هي الريح الشرقية.
وقوله: «وأهلكت عاد بالدبور» الدبور هي الريح الغربية، وهي الريح الصرصر العاتية.
فالريح قد تكون نصرًا كالريح الشرقية التي نصر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون عذابًا كالريح الغربية التي أهلكت بها عاد.
([1]) البخاري (6883).
([2]) البخاري (136)، ومسلم (246).
([3]) البخاري (4080).
([4]) الترمذي (3010)، وابن ماجه (2800).
([5]) البخاري (1304)، ومسلم (924).
([6]) البخاري (1303)، ومسلم (2315).
([7]) البخاري (1299).
([8]) النسائي في «الكبرى» (4/389).
([9]) مسلم (2277).
([10]) البخاري (3585).
([11]) الطبراني في «الكبير» (17/18).
([12]) البخاري (4313)، ومسلم (1353).
([13]) البخاري (3358)، ومسلم (2371).
([14]) البخاري (88).
([15]) البخاري (2801).
([16]) البيهقي في «دلائل النبوة» (3/345).
([17]) انظر «زاد المعاد في هدي خير العباد» (1/282).
([18]) أحمد (1/447).
([19]) البخاري (5684)، ومسلم (2217).
([20]) ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2/60).
([21]) البخاري (2664)، ومسلم (1868).
([22]) البخاري (3797).
([23]) الترمذي (2320)، وابن ماجه (4110).
([24]) النسائي في «الكبرى» (5/269).
([25]) الدارمي (1/33).
([26]) البخاري (3070)، ومسلم (2039).
([27]) البخاري (169)، ومسلم (2279).