● [3851] قوله: «إن الألى رغبوا علينا»، يعني: إن الذين بغوا علينا، وهم الكفرة.
وقوله: «وإن أرادونا على فتنة أبينا»، أي: وإن أرادوا فتنة لنا عن ديننا أبينا عليهم ومنعناهم وقاتلناهم.
وهذا الحديث فيه: دليل على أنه لا بأس بالرجز والاستشهاد بالأبيات عند العمل؛ لأن فيه النشاط، ولهذا تجد العمال وهم يقومون بالأعمال تجدهم يرتجزون بكلمات يقولونها تساعدهم وتنشطهم على العمل، فإذا كانت كلمة طيبة فهي مقبولة مثل التسبيح أو التهليل أو التكبير أو أبيات رجز فيها حث لهم على الشجاعة أو بيان محاسن الإسلام أو فيها حث لهم على الإقدام على الكفرة، فكل ذلك مقبول.
أما الاستشهاد بالرجز في خطبة الجمعة فهو مفيد، فلا بأس أبدًا في ذلك.
● [3852] جاء في هذا الحديث ما يبين أن أول خروج ابن عمر للجهاد كان في غزوة الخندق فقال: «أول يوم شهدته يوم الخندق»، وذلك لأنه كان يوم أحد صغير السن وأراد أن يجاهد، فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم فرده النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه([1])، أما في يوم الخندق فإنه بلغ مبلغ الرجال، فقد بلغ خمسة عشر سنة فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، وسمح له بأن يشارك المجاهدين.
ويبين هذا الحديث أن الذي يجاهد لا بد له أن يكون بالغًا، أما إذا لم يبلغ فلا يسمح له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع الصبيان الذين لم يبلغوا من الجهاد، أما إذا بلغ الصبي مبلغ الرجال وتحمل السلاح أذن له.
● [3853] هذه القصة حدثت في الوقت الذي كانت فيه الحرب بين علي ومعاوية في حرب صفين ثم اتفقوا على التحكيم على أن يحكموا اثنين منهما وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ثم بعد ذلك اختلف الحكمان وتفرق الناس.
قوله: «دخلت على حفصة»، هي أم المؤمنين أخته م قال: «ونسواتها تنطف»، وفي الرواية الأخرى قال: «ونوساتها»، والصواب: أنها نوساتها، وليس نسواتها، وإنما هو انقلاب على الراوي كما قال الخطابي فيما حكاه ابن حجر، يعني: أن الراوي أراد أن يقول: ونوساتها فقال: ونسواتها، فقدم السين على الواو، والمراد بالنوسات: ذوائب الشعر، والنوسات جمع نوسة، فدخل عليها والنوسات تنطف، يعني: تقطر وتتحرك وتضطرب، كأنها قد اغتسلت. والناس في حرب بين أهل الشام وأهل العراق في معركة صفين، فلما وقفت الحرب دخل ابن عمر على حفصة يشاورها.
وقوله: «قد كان من أمر الناس ما ترين»، يعني: الاختلاف بين علي ومعاوية، فإن عليًّا رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد يقاتل معاوية؛ لأنه امتنع عن البيعة، ومعاوية يطالب بدم عثمان، ففي صفين وقع القتال بين علي ومعاوية م ، واجتمع الناس على الحكم بينهم ثم اختلفوا بعد ذلك، وهذا ما جعل عبدالله رضي الله عنه يقول: «فلم يجعل لي من الأمر شيء»، أي: لم يجعل الاختلاف لي من الأمر شيئًا، يعني: من الإمارة.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء»، مراده بذلك ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صفين يوم اجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه، فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما، وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك، فشاور ابن عمر أخته في التوجه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة».
فقالت له أخته حفصة ل: «الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة»، فحثته على الذهاب إليهم، خشية أنه إذا تأخر تحدث فرقة بين المسلمين، فقالت: اذهب إليهم، قال: «فلم تدعه حتى ذهب».
قوله: «فلما تفرق الناس خطب معاوية»، أي: بعدما اختلف الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص خطب معاوية وقال: «من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه»، يعني: من تكلم في الخلافة فليرنا وجهه، «فلنحن أحق به منه ومن أبيه؟!».
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «فلما تفرق الناس»، أي: بعد أن اختلف الحكمان وهما أبو موسى الأشعري، وكان من قبل علي، وعمرو بن العاص، وكان من قبل معاوية، ووقع في رواية عبدالرزاق عن معمر في هذا الحديث: «فلما تفرق الحكمان»([2])، وهو يفسر المراد ويعين أن القصة كانت بصفين. وجوز بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، ورواية عبدالرزاق ترده، وعلى هذا تقدير الكلام: فلم تدعه حتى ذهب إليهم في المكان الذي فيه الحكمان فحضر معهم، فلما تفرقوا خطب معاوية... إلخ، وأبعد من ذلك قول ابن الجوزي في «كشف المشكل»: أشار بذلك إلى جعل عمر الخلافة شورى في ستة ولم يجعل له من الأمر شيئًا فأمرته باللحاق، قال: وهذا حكاية الحال التي جرت قبل، وأما قوله: «فلما تفرق الناس خطب معاوية» كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. كذا قال ولم يأت له بمستند، والمعتمد ما صرح به في رواية عبدالرزاق، ثم وجدت في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدومة الجندل قالت حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد وأنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر، بن الخطاب، قال: فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم...».
والبختي والجمع بخاتي هو البعير الذي له سنامان بينهما محل الراكب، وأما الإبل العراب فليس لها إلا سنام واحد.
قال الحافظ ابن حجر /: «فقال: من يطمع في هذا الأمر أو يرجوه أو يمد إليه عنقه. الحديث أخرجه الطبراني»، يعني: الخلافة.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «أن يتكلم في هذا الأمر»، أي: الخلافة.
قوله: «فليطلع لنا قرنه»، بفتح القاف، قال ابن التين: يحتمل أن يريد بدعته كما جاء في الخبر الآخر: «كلما نجم قرن»، أي: طلع قرن. ويحتمل أن يكون المعنى: فليبد لنا صفحة وجهه، والقرن من شأنه أن يكون في الوجه، والمعنى: فليظهر لنا نفسه ولا يخفيها، قيل: أراد عليًّا، وعرض بالحسن والحسين. وقيل: أراد عمر، وعرض بابنه عبدالله،
وفيه: بعد؛ لأن معاوية كان يبالغ في تعظيم عمر».
وأما قوله: «فهلا أجبته؟» فذلك قاله حبيب بن مسلمة لعبد الله بن عمر.
وقوله: «فحللت حبوتي»، يعني: أنه كان محتبيًا، والمحتبي هو الذي يجلس على أليتيه ويضم فخذيه وينصب ساقيه ويربطهما بثوب.
وقوله: «وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك»، يعني: همّ أن يقول لمعاوية رضي الله عنه: أحق بالخلافة منك «من قاتلك وأباك على الإسلام»، يعني: عمر وعبدالله بن عمر، وهذا هو الشاهد من الحديث على الترجمة ودخوله في «غزوة الخندق»، فوجه إدخال هذه القصة في غزوة الخندق أن عبدالله بن عمر م قاتل هو وأبوه معاوية وأباه يوم الخندق، ففي ذلك الوقت لم يكن معاوية وأبوه أبو سفيان قد أسلما، وكان أبو سفيان قائد جيش المشركين، فيريد ابن عمر م أن يقول لمعاوية رضي الله عنه: أحق بالخلافة منك من قاتلك وأباك يوم الخندق على الإسلام، لكنه خشي أن يقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل ذلك عنه.
وهذا من دقة استنباط البخاري، فقد أتى بهذه القصة من أجل قوله: «من قاتلك وأباك على الإسلام»؛ ولهذا جاءت استنباطات البخاري في تراجمه دقيقة جدًّا حيرت العلماء.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «من قاتلك وأباك على الإسلام»، يعني: يوم أحد([3])ويوم الخندق ويدخل في هذه المقاتلة علي وجميع من شهدها من المهاجرين ومنهم عبدالله بن عمر، ومن هنا تظهر مناسبة إدخال هذه القصة في «غزوة الخندق»؛ لأن أبا سفيان والد معاوية كان رأس الأحزاب يومئذ، ووقع في رواية حبيب بن أبي ثابت أيضًا: قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، أردت أن أقول له: يطمع فيه من قاتلك وأباك على الإسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة فأعرضت عنه. وكان رأي: معاوية في الخلافة تقديم الفاضل([4])في القوة والرأي: والمعرفة على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين والعبادة، فلهذا أطلق أنه أحق ورأي: ابن عمر بخلاف ذلك وأنه لا يبايع المفضول إلا إذا خشي الفتنة، ولهذا بايع بعد ذلك معاوية ثم ابنه يزيد، ونهى بنيه عن نقض بيعته كما سيأتي في «الفتن»، وبايع بعد ذلك لعبد الملك بن مروان».
والمقصود أن سبب سياق المؤلف لهذه القصة قوله: «من قاتلك وأباك على الإسلام».
وقوله: «فذكرت ما أعد الله في الجنان» يعني: أنه سكت وتذكر ما أعد الله عز وجل في الجنان لمن صبر وآثر الآخرة على الدنيا، فقال له حبيب: «حفظت، وعصمت» يعني: حفظك الله وعصمك، ولم تتكلم بهذه الكلمة. وعزف عبدالله بن عمر آنذاك عن الخلافة ولم يطلبها، ولهذا اعتزل الفتنة ولم يشارك في القتال، ولم يبايع وقت الفتنة أحدًا هو وأولاده، ثم بعد ذلك لما اجتمع الناس على معاوية بايعه هو وأولاده، وكذلك بايع عبد الملك بن مروان لما استقر الأمر.
● [3854] هذا الحديث فيه بيان أنه ما غزي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب.
قوله: «نغزوهم ولا يغزونا» ذلك لأن المشركين في يوم أحد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغزوه في المدينة وكذلك يوم الأحزاب، لكن بعدها لم يُغز النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي غزاهم وفتح مكة.
● [3855] في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال «حين أجلي الأحزاب عنه: الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم» فكانت الأحزاب آخر ما غُزي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُغز بعدها بل هو الذي غزا المشركين، كما في خيبر وحنين وفتح مكة وغيرها.
● [3856] هذا الحديث فيه جواز سب المشركين، وكذلك الدعاء عليهم، لاسيما إذا آذوا أو تسببوا في الإيذاء، فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس!».
وفيه: دليل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ فإنه قال: «شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» ويؤيد هذا قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238]. وفي بعض القراءات: «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، وكان لعائشة مصحف فأملت على القارئ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) «وهي صلاة العصر» وهذه القراءة تحمل على أنها تفسير.
وقيل: سميت بالصلاة الوسطى؛ لأنها بين صلاتين نهاريتين وبين صلاتين ليليتين، فقبلها الفجر والظهر وهما صلاتان نهاريتان، وبعدها المغرب والعشاء وهما صلاتان ليليتان، فذلك من التوسط.
وقيل: إنها الصلاة الوسطى؛ لأنها من الوسط، وهي الصلاة الفاضلة، ولهذا جاء في الحديث الوعيد الشديد على من بايع رجلا بعد العصر ثم حلف أنه باع بكذا وهو كاذب([5])، يعني: أنه قال هذا بعد الصلاة الفاضلة وختم نهاره بالحلف الكاذب فله الوعيد الشديد.
وقال بعض العلماء: إن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر، وقيل: صلاة المغرب، وقيل: صلاة الظهر، والصواب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لأنه نص عليها في هذا الحديث فقال: «كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس»، فعلمنا أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
● [3857] هذا الحديث فيه أن عمر رضي الله عنه «جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، جعل يسب كفار قريش»، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فدل على جواز سب المشركين والدعاء عليهم إذا آذوا المسلمين.
وقوله: «يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب!» يعني: أنه نسيها وانشغل عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها»، يعني: حتى الآن.
وقوله: «بطحان» هو اسم وادٍ، قال: «فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها» أي: الصلاة، قال: «فصلى» أي: النبي صلى الله عليه وسلم «العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب».
وروى النسائي في «سننه»: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم العصر ثم المغرب بعد غروب الشمس([6]) وهذه ثلاث صلوات فتوضأ وصلى الظهر ثم صلى العصر ثم صلى المغرب وجاء عند النسائي أنه صلى أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء([7]) وهذا لا بأس بسنده، ويحمل على أن غزوة الخندق كانت في أيام متعددة، فإنه في يوم صلى العصر والمغرب، وفي يوم صلى الظهر والعصر والمغرب.
وأخذ العلماء من هذا أن المسلمين المجاهدين إذا لم يتمكنوا من أداء الصلاة في وقتها لكونهم مختلطين بالعدو أو لكون الوقت وقت مسايفة وقتل بالسيوف أو كان الوقت وقت فتح حصن من الحصون فيجوز تأخير الصلاة في ذلك الوقت، كما حصل للصحابة حينما فتحوا تستر وقت طلوع الفجر، فقد طلع الفجر وكانوا متفرقين، فبعضهم فوق الحصن على الأسوار، وبعضهم على الأبواب، ولو نزلوا يصلون ما تم الفتح؛ فأخروا الصلاة حتى تم الفتح وانتهى، وفتحت الأبواب والأسوار ثم صلوا الفجر ضحى، فقال أنس: ما يسرني أن لي بها الدنيا. يعني: ما يسرني أن لي بدلها الدنيا، وذلك لأنا أخرناها في الله وجهادًا في سبيله، فلو صلوا لوقتها لسيطر عليهم العدو أو كر عليهم وما استطاعوا أن يسيطروا عليه، فدل هذا على أنه لا بأس بتأخير الصلاة عن وقتها في مثل هذه الحالة.
ويقاس على هذا إذا دعت الحالة أو الضرورة مثل رجال الإطفاء إذا كانوا وقت الصلاة مشغولين بالإطفاء، فلو ذهبوا يصلون لصار في ذلك خطر بسبب اشتعال النار، فلو حصل خطر على المسلمين من النار المشتعلة فإنهم يطفئونها أولًا ثم يصلون ولو بعد خروج الوقت وهم في ذلك معذورون قياسًا على المجاهدين؛ وهذا هو اختيار البخاري /، واختيار جماعة من السلف وجمع من المحققين، وهو اختيار سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز /.
أما جمهور العلماء فأجابوا بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تأخير الصلاة إلى بعد المغرب، كان قبل أن تشرع صلاة الخوف، فصلاة الخوف شرعت بعد الخندق في غزوة ذات الرقاع، وبعدما شرعت صلاة الخوف لا يجوز أن تؤخر الصلاة.
والصواب أن تأخير الصلاة عن وقتها للضرورة - ولو بعد مشروعية صلاة الخوف -جائز؛ لأنه قد لا يتمكن من أداء صلاة الخوف لكونها في وقت مسايفة أو في وقت فتح حصن أو بلد فيفوت ذلك عليهم لو فعلوا الصلاة في وقتها، ويؤيد هذا ما سبق أن الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحوا تستر أخروا الصلاة عن وقتها إلى الضحى، فدل على أنه لا بأس بذلك.
● [3858] هذا الحديث في يوم الأحزاب وكان الوقت باردًا ووقت فتنة وشدة والأحزاب والكفرة متجمعون، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم؟» يعني: من يقدر أن يكون عينًا لنا فيدخل في صفوف الكفار وفي وسطهم ويأتينا بأخبارهم؟ فسكت الناس كلهم، «فقال الزبير: أنا»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا» مما يدل على شجاعته وقوته النادرة رضي الله عنه، وقد مر قبل ذلك ما فيه بيان شجاعته ودخوله في صفوف الكفار وخروجه رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًّا» والحواري الناصر والمؤيد مثل حواري عيسى، قال تعالى: (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)[آل عمران: 52]. فالحواريون هم الأصحاب والناصرون والمؤيدون.
وفي قوله: «إن لكل نبي حواريًّا وحواري الزبير»، منقبة للزبير رضي الله عنه.
وفي الحديث: بيان إقدام الزبير رضي الله عنه وشجاعته.
وقد استغرقت غزوة الأحزاب أيامًا كثيرة، وفي يوم آخر من أيام الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم؟» أي: قاله مرة في مجلس ليس فيه الزبير، فسكت الناس؛ لأن الوقت في شدة البرد وفي الليل والوقت وقت فتنة وتعرض للخطر، فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟» فسكت الناس، فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟» فسكت الناس، فقال: «قم يا حذيفة» قال: فلم أجد بدًّا من الذهاب، وقال لحذيفة: «لا تذعرهم»، فذهب ودخل في جموع المشركين. قال: فدخلت في وسط الكفار فرأيت أبا سفيان قائد الجيوش يصطلي، أي: أخرج ظهره يصطلي بالنار، قال: فأردت أن أرميه فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذعرهم»([8]) فأمسكت ثم قال أبو سفيان: كل يسأل من بجواره حتى لا يدخل معكم أحد قال: فبادرت فسألت من بجواري: ما اسمك؟ من أنت؟ خشية أن يسبقه، ثم أتاه بخبرهم ورجع([9])، وقال حذيفة: إني لما ذهبت في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم ذهب عني البرد. فكان كأنه يمشي في حمام حتى رجع، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه البرد واشتد عليه فجعل ينتفض من البرد والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في آخر الليل فجعل عليه عباءة واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته حتى سمع صوت حذيفة فقال له: «قم يا نومان»(1).
ودخول حذيفة والزبير م في صفوف الأحزاب يدل على شجاعتهما وقوتهما النادرة؛ لأن الوقت كان وقت برد شديد، وكان في ذلك خطر عظيم، فالخروج من الخندق إلى الكفار في ذلك الوقت إن دل فإنما يدل على قوة الإيمان.
● [3859] الشاهد لإتيان المصنف بهذا الحديث في «غزوة الخندق» قوله: «وغلب الأحزاب وحده» والأحزاب هم الكفرة، وقد غلبهم سبحانه وتعالى وحده، وأرسل عليهم ريحًا وجنودًا، فالريح تقلع خيامهم وتكفأ قدورهم، والجنود لم يروها ولكن تزلزلهم وتقذف الرعب في قلوبهم حتى غلبوا وانهزموا.
● [3860] قوله: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب» الأحزاب هم الكفرة الذين تحزبوا وجاءوا وأحاطوا بالمدينة؛ فسميت بغزوة الأحزاب.
وفيه: التوسل في الدعاء؛ فإنه قال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب!» فتوسل بإنزاله الكتاب؛ لأن الله سبحانه هو منزل الكتاب وسريع الحساب.
وفي الحديث: جواز الدعاء على الكفار إذا آذوا المسلمين.
● [3861] هذا الحديث فيه مشروعية هذا الذكر عند الرجوع، فإذا رجع الإنسان من سفر إلى بلده سواء كان هذا السفر للحج أو العمرة أو الغزو أو الجهاد «يكبر ثلاث مرات» فيقول: الله أكبر، الله أكبر الله أكبر ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وقوله: «آيبون»، يعني: راجعون.
وقوله: «تائبون»، يعني: من ذنوبنا.
وقوله: «عابدون»، يعني: لربنا نعبد.
وقوله: «وهزم الأحزاب وحده» هذا هو الشاهد الذي جعل المصنف يأتي بهذا الحديث هنا في غزوة الأحزاب.
* * *
المتن
[30/55] باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب
ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم
● [3862] حدثني عبدالله بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعناه! اخرج إليهم، قال: «فإلى أين؟» قال: هاهنا، وأشار إلى بني قريظة؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
● [3863] حدثنا موسى، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلى الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة.
● [3864] حدثنا عبدالله بن محمد بن أسماء، قال: حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم.
● [3865] حدثني ابن أبي الأسود، قال: حدثنا معتمر. ح و حدثني خليفة، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي، عن أنس قال: كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وأن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذين كانوا أعطوه أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي تقول: كلا والذي لا إله إلا هو، لا نعطيكم وقد أعطانيها! - أو كما قالت - والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لك كذا»، وتقول: كلا والله، حتى أعطاها - حسبت أنه قال: عشرة أمثاله، أو كما قال.
● [3866] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن سعد، قال: سمعت أبا أمامة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد؛ فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: «قوموا إلى سيدكم - أو أخيركم»، فقال: «هؤلاء نزلوا على حكمك»، فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال: «قضيت بحكم الله»، وربما قال: «بحكم الملك».
● [3867] حدثني زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا عبدالله بن نمير، قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العَرِقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم عليه خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعته! اخرج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة؛ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: فأخبرني أبي، عن عائشة، أن سعدًا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك! وإن كنت وضعت الحرب فافجرها! واجعل موتتي فيها! فانفجرت لَبَّته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟! فإذا سعد يغذو جرحه دمًا، فمات منها رحمة الله عليه!
● [3868] حدثنا حجاج بن منهال، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرني عدي، أنه سمع البراء، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: «اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك».
وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: «اهج المشركين، فإن جبريل معك».
الشرح
أول حديث في الباب فيه بيان أن حصار بني قريظة كان بعد غزوة الأحزاب، فلهذا بوب المؤلف فقال: «باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم».
● [3862] هذا الحديث دليل على أن الملائكة شاركت في غزوة الخندق، وأن الله أرسلهم إلى الأحزاب يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب مع الريح كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب: 9].
● [3863] هذا الحديث يدل على أن الملائكة شاركت في غزوة الأحزاب وفي غزو بني قريظة، ويتضح هذا في قوله: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلى الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة» فوضح الحديث أن موكب جبريل عليه السلام ظهر غباره وهو ذاهب إلى بني قريظة، وكان مكانها قريبًا من المدينة، فذهب إليهم الصحابة وكانت المدينة في ذلك الوقت بقعة صغيرة حول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، خلاف ما هي عليه الآن، فمكان قريظة صار الآن وسط المدينة وصار البناء فيه مشيدًا، وكانت الإبل وقتها وسيلة المواصلات، فكانوا يمشون مسافة طويلة من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة.
● [3864] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الصحابة على الخروج إلى بني قريظة وقال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، وفي لفظ آخر قال: «من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة»([10])؛ فأسرع الصحابة ي وركبوا دوابهم إلى بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في أثناء الطريق، فاختلفوا، فصلى بعضهم في الطريق ثم واصل السير، ولم يصل بعضهم حتى وصل إلى بني قريظة، وصلاها بعد غروب الشمس، وإنما هذا اجتهاد منهم.
ففي الحديث دليل على وجود الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة لما أدركتهم صلاة العصر في أثناء الطريق قال بعضهم: لا نصلي حتى نأتي بني قريظة؛ عملًا بالنص الخاص في هذه القضية: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» وقال بعضهم: بل نصلي ثم نواصل السير؛ عملًا بالنصوص العامة في أداء الصلاة في وقتها، وتأولوا النص الخاص بأن المراد به الحث على الإسراع، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا من الفريقين، وأقر هؤلاء وأقر هؤلاء؛ لأنها مسائل نظرية اجتهادية يشتبه أمرها، وكل له اجتهاده.
وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث والتفقه في النص فقال: إن الذين صلوا في الطريق هؤلاء هم أهل المعاني وهم الجمهور وسلف أهل القياس، والذين لم يصلوا في الطريق هم سلف أهل الظاهر فقد تمسكوا بظاهر النص، ولم يتفقهوا فيه([11]). بل إن ابن حزم قال: لو كنت معهم لم أصلّ إلا في بني قريظة([12])؛ لأنه من أهل الظاهر، والمصيبون -والله أعلم- هم الذين صلوا في أثناء الطريق؛ لأنهم تفقهوا في النص وجمعوا بين النصوص، والذين لم يصلوا في الطريق لهم اجتهادهم، ولكن أولئك هم المصيبون.
قال الحافظ ابن حجر /: «قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه،
وفيه: أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صوابًا في حق إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد».
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وقال ابن القيم في «الهدي» ما حاصله: كل من الفريقين مأجور بقصده إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت، لاسيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأن من فاتته حبط عمله، وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر، لكنهم لم يَصِلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى، وأما من احتج لمن أخر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق وكان ذلك قبل صلاة الخوف - فليس بواضح؛ لاحتمال أن يكون التأخير في الخندق كان عن نسيان».
وقد ذكر الحافظ عن ابن المنير أن الذين صلوا العصر صلوا على الدواب، وأنه قال: الذين لم يصلوا عملوا بالدليل الخاص، والذين صلوا جمعوا بين الدليلين: وجوب الصلاة ووجوب الإسراع؛ فصلوا ركبانًا.
● [3865] هذا الحديث فيه أنه قبل أن تفتح خيبر كان الأنصار يعطون المهاجرين نخلات يأكلون ثمرها هبة يمنحونهم إياها، ثم لما فتحت خيبر أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين، وأمرهم أن يردوا النخلات على الأنصار، وكان أنس صغيرًا فأرسله أهله يطلبون النخلات التي كانوا أعطوها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بردها، فجاء أنس أم أيمن ل فامتنعت وجعلت الثوب في عنق أنس رضي الله عنه وقالت: لا يمكن أن أعطيك النخلات وقد أعطانيها النبي صلى الله عليه وسلم، وأم أيمن ل هي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وهي والدة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وابنها أيمن له صحبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلطف بها لأنها بمنزلة أمه صلى الله عليه وسلم، وهي تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ملكها المنفعة، فظل النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها بدلها حتى أعطاها عشرة أمثال ما كان قد أعطاها من قبل، فسمحت نفسها.
● [3866] قوله: «قوموا إلى سيدكم» فيه: دليل : على أنه لا بأس أن يقال: سيدكم بالإضافة، وإنما النهي أن يقال: السيد.
وفيه: دليل على أن القيام لاستقبال الإنسان والسلام عليه لا بأس به؛ لأن القيام للشخص له حالات:
الحالة الأولى: أن يقام له لاستقباله والسلام عليه، وهذا لا بأس به.
الحالة الثانية: القيام له لتوديعه والمشي معه، وهذا أيضًا لا بأس به.
الحالة الثالثة: القيام عليه وهو جالس إكرامًا له، وهذا لا يجوز،
وفي الحديث: «من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار»([13])، ومنه قيام التلاميذ للمدرس إذا دخل فهذا ممنوع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كدتم أن تفعلوا كما تفعل الأعاجم يقومون على رؤوس ملوكهم وهم جلوس»([14]).
ويستثنى من هذا قيام الحارس للمحروس؛ فهذا قيام له للاحترام، وهذا أقل أحواله الكراهة، أما القيام له وهو جالس بدون سبب فهذا هو الممنوع.
قوله: «هؤلاء نزلوا على حكمك»؛ أي: فقال له: احكم فيهم يا سعد؛ فإنهم ردوا الحكم إليك.
● [3867] ذكر قصة موت سعد بن معاذ رضي الله عنه وحكمه في بني قريظة.
قوله: «أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة، رماه في الأكحل»، أي: إن سعدًا رضي الله عنه رمي في الأكحل وهو عرق في وسط الذراع، وقد رماه حبان بن العرقة فمرض، قال: «فضرب النبي صلى الله عليه وسلم عليه خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل» أي: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح عدة الحرب والقتال، قال: «فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعته! اخرج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأين؟» فأشار إلى بني قريظة» أي: اذهب إلى بني قريظة.
وقوله: «فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد»، أي: إن بني قريظة لما نقضوا العهد حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاصرهم قالوا: لا يحكم فينا إلا سعد؛ وذلك أنهم ظنوا أنه سيخفف عنهم؛ لأنهم كانوا في الجاهلية موالين له، فقد كان كل حي من أحياء المدينة وكل قبيلة توالي الأوس أو الخزرج، فظنوا أنه سيواليهم كما فعل عبدالله بن أبي مع بني النضير، فقد كانوا مواليه في الجاهلية، فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم جاء عبدالله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشدد عليه وقال: اتركهم لي موالي([15])، فكذلك ظن بنو قريظة في سعد أنه سيفعل مثلما فعل عبدالله بن أبي، فرد النبي صلى الله عليه وسلم الحكم إلى سعد فقال: «فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة»، أي: الرجال، «وأن تسبى النساء والذرية».
فلما أقبل سعد حكم عليهم ثم تمنى الشهادة رضي الله عنه فقال: «اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك! وإن كنت وضعت الحرب فافجرها»، يعني: فافجر الجرح، وهذا ليس من تمني الموت، وإنما هو سؤال الله الشهادة، فاستجاب الله دعاءه فانفجر جرحه من لبته فلم يشعر.
وقوله: «فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟! فإذا سعد يغذو جرحه دمًا، فمات منها رحمة الله عليه!» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»([16]).
● [3868] أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان أن يهجوهم فقال صلى الله عليه وسلم: «اهج المشركين فإن جبريل معك»، وفي لفظ: «وروح القدس يؤيدك»([17]).
وكانت العرب تتأثر من الشعر، ولهذا قال حسان رضي الله عنه عن لسانه: والله لو وضعته على صخر لفلقه أو على شعر لحلقه([18]). وذلك من قوة تأثيره، فكان يسب المشركين ويؤثر فيهم.
ودل هذا الحديث على أنه لا بأس بهجاء المشركين وسبهم وذمهم وعيبهم حتى يكون سببًا في تخذيلهم والفت في عضدهم، ولاسيما في الحروب.
* * *
المتن
[31/55] غزوة ذات الرِّقاع
وهي غزوة مُحارِب خَصَفَةَ من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا،
وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر
قال أبو عبدالله: وقال عبدالله بن رجاء: أخبرنا عمران القطان، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع.
وقال ابن عباس: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الخوف بذي قَرَدٍ.
وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع، عن أبي موسى، أن جابرًا حدثهم: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم محارب وثعلبة.
وقال ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان، قال: سمعت جابرًا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخلَ، فلقي جمعًا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناسُ بعضهم بعضًا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الخوف.
وقال يزيد، عن سلمة: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القَرَدِ.
● [3869] حدثني محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بُرَيْد بن عبدالله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنَقِبَت أقدامنا، ونقبت قدمايَ، وسقطت أظفاري، فكنا نلُفُّ على أرجلنا الْخِرَقَ، فسُمِّيتْ غزوةَ ذات الرِّقاع؛ لما كنا نُعَصِّبُ من الخرق على أرجلنا. وحدَّث أبو موسى بهذا، ثم كره ذاك قال: ما كنت أصنع بأن أذكره؟! كأنه كره أن يكون شيءٌ من عمله أفشاه.
● [3870] حدثنا قتيبة، عن مالك، عن يزيد بن رُومَان، عن صالح بن خَوَّاتٍ، عمَن شهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صفت معه، وطائفة وُجاهَ العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وُجاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، و أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.
وقال معاذ: حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل... فذكر صلاة الخوف.
تابعه الليث، عن هشام، عن زيد بن أسلم، أن القاسم بن محمد حدَّثه: صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمارٍ.
● [3871] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن يحيى، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة، ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة، فله ثنتان، ثم يركعون و يسجدون سجدتين.
● [3872] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
● [3873] حدثني محمد بن عبيدالله، قال: حدثني ابن أبي حازم، عن يحيى، سمع القاسم، قال: أخبرني صالح بن خوات، عن سهل حدثه قوله.
● [3874] حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سالم، أن ابن عمر قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم.
● [3875] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأحَدِ الطائفتين والطائفة الأخرى مُواجهةُ العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أصحابهم أولئك، فجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم.
حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سنان وأبو سلمة، أن جابرًا أخبر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه قِبَل نَجْدٍ.
● [3876] وحدثنا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدُّؤَلي، عن جابر بن عبدالله، أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا؛ فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاًَ، فقال لي: من يمنعك مني؟! قلت: الله! فها هو ذا جالس»، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه، فقال: تخافني؟! قال: «لا!» قال: فمن يمنعك مني؟! قال: «الله!» فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان.
وقال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَثُ بن الحارث، وقاتل فيها محاربَ خصَفة.
وقال أبو الزبير، عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل فصلى الخوف.
وقال أبو هريرة: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوةَ نجد صلاة الخوف.
وإنما جاء أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيام خيبر.
الشرح
قال المؤلف /: «غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة» فقد أوضح المؤلف أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب خصفة، وجمهور أهل المغازي على ذلك وأنهما غزوة واحدة، وجزم بذلك ابن إسحاق، أما الواقدي فقال: هما غزوتان مختلفتان فذات الرقاع غزوة، ومحارب خصفة غزوة أخرى.
وقوله: «وهي غزوة محارب خصفة» فأضاف محارب إلى خصفة تمييزًا له عن غيره من المحاربين؛ لأن قبيلة محارب تسمى بها كثير، فكأنه قال: محارب الذين ينسبون إلى خصفة لا الذين ينسبون إلى فهر ولا غيرهم.
وقوله: «فنزل نخلًا» يعني: نزل النبي صلى الله عليه وسلم نخلًا، وهو مكان على نحو يومين من المدينة.
وقوله: «وهي بعد خيبر»، يعني: أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد غزوة خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى رضي الله عنه جاء بعد خيبر.
وقد ذكر الشارح الخلاف في هذا، وأن الصواب أنها قبل خيبر كما ذهب لهذا أكثر أهل المغازي، ورغم قول المؤلف إن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر إلا أنه قدمها في الذكر على خيبر مثل الكثير.
وذكر الشارح أنه لا يدري هل تعمد البخاري ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أو أنها كانت قبلها أو أن ذلك من الرواة فقدموها أو إشارة إلى احتمال أن تكون غزوة ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين وهذه الغزوة اختلف فيها: هل هي قبل خيبر أو بعدها؟
فقال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «باب غزوة ذات الرقاع» هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت؟ واختلف في سبب تسميتها بذلك، وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك في هذا الباب بأمور سيأتي الكلام عليها مفصلًا، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدري هل تعمد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها كما سيأتي أو أن ذلك من الرواة عنه أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي -مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر- مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني: من سنته - وغزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلًا وهي غزوة ذات الرقاع، وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس، وأما أبو معشر فجزم بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع المصنف»، يعني: إن ابن إسحاق يقول: إنها لسنة أربع، وابن سعد يقول: لسنة خمس؛ فتكون قبل خيبر.
قال الحافظ ابن حجر /: «وقد تقدم أن غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس فتكون ذات الرقاع في آخر السنة وأول التي تليها، وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردد في وقتها فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها، وهذا التردد لا حاصل له بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فدل على تأخرها بعد الخندق».
وبهذا يتبين أن في المسألة خلافًا حول غزوة ذات الرقاع هل هي سنة أربع أو سنة خمس؟ وعلى هذا تكون قبل خيبر، وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم غزوة ذات الرقاع لكنه تردد في وقتها، وذهب المؤلف إلى أنها بعد خيبر، واستدل بأن أبا موسى جاء بعد خيبر لكن مجيء أبي موسى بعد خيبر لا يحتم أن تكون غزوة ذات الرقاع بعدها.
قوله: «في غزوة السابعة» فقيل: المراد الغزوة السابعة وقيل: المراد السنة السابعة، فالغزوات كما ورد: بدر وأحد والخندق وقريظة والمريسيع وخيبر، وعلى هذا تكون ذات الرقاع بعد خيبر.
قوله: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم الخوف بذي قرد»، أي: صلاة الخوف، وذو قرد موضع على نحو يوم من المدينة مما يلي البلد إلى غطفان.
قوله: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم محارب وثعلبة» فعلى هذا تكون صلاة الخوف شرعت في غزوة ذات الرقاع، وغزوة ذات الرقاع بعد الخندق؛ فيكون تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات يوم الخندق قبل شرعية صلاة الخوف، ولذلك ذهب الجمهور إلى أن تأخير الصلاة لا يجوز بعد شرعية صلاة الخوف، وإنما تُصلى صلاة الخوف، وقد وقع الخلاف بين العلماء في ذلك، والتحقيق أنه إذا دعت الحاجة إلى التأخير فلا بأس.
قوله: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل» هو موضع من نجد من أراضي غطفان.
● [3869] هذا حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه»، يعني: نركبه عقبة عقبة، وهو أن يركب الرجل قليلًا ثم ينزل ويركب الآخر بالنوبة، فيتناوبون على البعير واحدًا بعد واحد، وإذا كانوا اثنين فواحد يمشي، وإذا كانوا أربعة فيمشي ثلاثة، ثم بعد ذلك إذا مشى البعير وقتًا نزل الراكب وركب أحد المشاة، وهكذا.
وقوله: «فنقبت أقدامنا»، يعني: رقت جلودها وتأثرت من المشي.
وقوله: «وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا»، يعني: أن هذا هو سبب تسميتها غزوة ذات الرقاع.
لكن قال بعض العلماء: إن تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع كان لأسباب أخرى، وقد ذكرها الشارح /.
وقوله: «وحدث أبو موسى بهذا»، أي: بهذا الحديث، «ثم كره ذاك»، فقد قصد رضي الله عنه الإخبار بالواقع وبالحال، ثم كره بعد ذلك وخاف من تزكية نفسه فأشار إلى خوفه من ذلك فقال: «ما كنت أصنع بأن أذكره؟!» قال الراوي: «كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه»، وجاء عند الإسماعيلي في رواية منقطعة قال: «والله يجزي به»([19])، فلا ينبغي للإنسان أن يذكر شيئًا من عمله؛ لأن هذا قد يكون من الرياء، وكتمان العمل الصالح أفضل من إظهاره إلا لمصلحة راجحة فلا بأس به كمن يكون ممن يقتدى به أو لمصلحة تقتضي ذلك مثلما حصل لعثمان رضي الله عنه لما أحاط به الثوار لقتله فاطلع على الناس وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة»، فاشتريتها ([20]). وجعل يذكر شيئًا مما عمله؛ لأنه مظلوم، ويريد توضيح أن هؤلاء الثوار ليسوا على حق.
قال الحافظ ابن حجر /: «استدل على التعدد أيضًا بقول أبي موسى رضي الله عنه إنها سميت ذات الرقاع لما لفوا في أرجلهم من الخرق، وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أمورًا غير هذا، قال ابن هشام وغيره: سميت بذلك؛ لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر بذلك الموضع يقال له: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان، وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان ويكون قد تصحف جبل بخيل».
وهذا المقصود من تسمية ذات الرقاع، فقد اختلفوا في تسميتها، فأبو موسى رضي الله عنه رأى أنها سميت ذات الرقاع؛ لأنهم كانو ا يعصبون على أرجلهم الخرق، وقيل: إنها سميت بذلك لاسم الجبل، وقيل: للسببين معًا.
● [3870] ذكر في هذا الحديث صفة من صفات صلاة الخوف، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس فجعلهم طائفتين، فذكر «أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو»، بضم الواو وكسرها، أي: طائفة متجهة تحرس في مواجهة العدو.
فصفّ النبي صلى الله عليه وسلم بهم وصلى بالطائفة التي معه ركعة، قال: «ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم» أي: ركعة «ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، و أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف».
فهذه صفة من صفات صلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ستة أوجه أو سبعة وكلها جائزة كما قال الإمام أحمد /: صحت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة أوجه أو سبعة كلها جائزة([21]). وكان أحمد يعجبه هذه الصفة التي كانت في ذات الرقاع، وأنا أختار صلاة ذات الرقاع التي اختارها الإمام أحمد([22]).
وهذه إحدى الكيفيات الواردة في صلاة الخوف، والظاهر هنا أن العدو في غير جهة القبلة؛ ولهذا ذكر «أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو» فالتي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلت جهة القبلة، والتي لم تصل كانت في مواجهة العدو الذي لم يكن في نفس جهة القبلة، وسيأتي في صفة أخرى أنهم يصلون وجاه العدو وأنه ليس من شرطها استقبال القبلة.
قوله: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل» هو موضع من نجد من أراضي غطفان.
ذكر «أن القاسم بن محمد حدثه: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار» وديار بني أنمار تقرب من ديار بني ثعلب، وسيأتي بعد أن بني أنمار في قبائل منهم بطن من غطفان.
● [3871]، [3872]، [3873]، [3874] هذه الأحاديث جاءت بنفس الصفة السابقة لصلاة الخوف لكن من طرق أخرى، فطائفة تجاه العدو وطائفة تصلي معه ركعة، ثم يثبت قائمًا، ثم يتمون لأنفسهم ركعة، ثم ينصرفون ويقفون وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه الركعة التي بقيت من صلاته، ويثبت جالسًا، فيصلون ركعة لأنفسهم، ثم يسلم بهم.
● [3875] هذا حديث عبدالله بن عمر، وهو وجه آخر من وجوه صلاة الخوف، وجاء فيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأحد الطائفتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أصحابهم أولئك»، أي: ولم يقضوا الركعة، قال: «فجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم» أي: سلم بهم، «ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم».
وهذه الصفة لصلاة الخوف غير الصفة السابقة، فالصفة السابقة هم الذين يقضون لأنفسهم قبل أن يسلم الإمام أما هنا فقضوا لأنفسهم بعد أن سلم الإمام يعني: قسمهم قسمين قسم وجاه العدو وقسم صلى بهم ركعة فقط فلما صلوا ركعة ذهبوا وانصرفوا وجاه العدو قبل أن يقضوا فكان عليهم ركعة، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة فلما صلى بهم الركعة سلم فقامت الطائفة هذه تقضي الركعة التي بقيت وقامت الطائفة الأولى في مكانها تقضي التي بقيت.
ونقول: إنه إذا تعددت الصفات يختار ما يناسبه منها، فكما قال الإمام أحمد: كل هذه الصفات لصلاة الخوف جائزة([23])، وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة أو من سبعة أوجه، وأنا أختار صلاة ذات الرقاع([24]). فيختار ما هو أسهل عليه.
والمسلمون في صلاة الخوف يصلون على حالهم بالإيماء، أو يصلون فرادى، أو يصلون جماعات، فيصلي بهم الإمام إحدى صلاتي الخوف، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعة وثبت وأتموا لأنفسهم ثم جاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة، ثم ثبت وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وفي بعض صفاتها أنه صلى بهؤلاء ركعتين، وهؤلاء ركعتين فالأولى له فريضة، والثانية له نافلة.
● [3876] هذا الحديث حديث جابر
وفيه: بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركته لأصحابه في الشدائد والملمات،وهذا دليل على أن القائد ينبغي أن يشارك الجيش ويكون في مقدمتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتقدمهم في غزوة حنين نحو العدو، ويسمي نفسه فيقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»([25]) وكذلك في غزوة أحد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقدم الصحابة حتى قال له أبو طلحة: لا تشرف بأبي أنت وأمي؛ كي لا يأتيك سهم([26])، فكان يخشى على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دليل على أن الصحابة تفرقوا وكل واحد منهم أخذ يبحث عن شجرة ليستظل بها، فعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم إلا أنهم كانوا يبحثون عن الظل، ونام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أعرابي قائم - وكان كافرًا - فاخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك.
ففي إحدى الروايات أن الأعرابي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «تخافني؟! قال: لا! قال: فمن يمنعك مني؟! قال: الله! فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم».
وجاء في مسلم في قصة الأعرابي روايتان إحداهما: أن الأعرابي لما أخذ السيف وقال للنبي صلى الله عليه وسلم من يمنعك مني؟ قال: «الله» فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن يمنعك مني؟!»([27]) قال الأعرابي: كن خير آخذ وأعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع من يقاتلك.
وفي الرواية الثانية: أنه لما سقط من يد الأعرابي وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم قال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وفي الحديث: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يصيبه ما يصيب البشر من الخوف والتهديد، فهذا الأعرابي أخذ سيفه وهدده؛ فدل على أنه صلى الله عليه وسلم ليس إلهًا يعبد ولكنه نبي كريم يطاع ويتبع وهو بشر يصيبه ما يصيب الناس.
وفي حديث جابر هنا صفة ثالثة لصلاة الخوف في قوله: «وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان» يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الأولى ركعتين وهذه هي الفريضة، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين وهما له نفل ولهم فريضة، وبهذا الوجه الآخر من أوجه صلاة الخوف يكون المؤلف قد ذكر ثلاثة أوجه لصلاة الخوف.
وهذه الصفة من أدلة القائلين بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل، وهو الصواب، ولهم أدلة أخرى كصلاة معاذ رضي الله عنه العشاء بأصحابه بعد أن يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهي له نافلة ولهم فريضة، وكصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر يوم النحر في منى وهي له نافلة ولهم فريضة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد صلى الظهر يوم النحر في حجة الوداع في مكة، فلما أدركته الصلاة في مكة صلى بها الظهر، ثم لما رجع إلى منى وجد أصحابه مجتمعين فصلى بهم تلك الصلاة، فهي له نافلة ولهم فريضة، وهذا هو الجمع بين الحديثين حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمنى([28]) وحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة([29]).
ذكر المؤلف أن هذا الرجل الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم اسمه غورث بن الحارث.
وقد ذكر الحديث وله طرق متعددة، وتحول الإسناد للجمع بين الطرق.
قول المؤلف /: «وقال أبو هريرة: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة نجد صلاة الخوف» ومراده بذلك أن شرعية صلاة الخوف كانت بعد الخندق لقوله: «وإنما جاء أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيام خيبر»، وكانت خيبر - وهي وقت إسلام أبي هريرة رضي الله عنه - بعد الخندق، فأسلم في السنة السابعة، وعليه فيكون تأخير الصلاة عن وقتها أيام الأحزاب منسوخ بشرعية صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، ولكن الإمام البخاري وجماعة ذهبوا إلى أنه لا نسخ، وأنه إذا لم يُتمكن من صلاة الخوف في وقتها جاز تأخير الصلاة، وهذا هو الصواب، وهو ما فعله الصحابة لما فتحوا تستر عند صلاة الفجر أخروا الصلاة حتى تم الفتح وصلوها ضحى.
ويؤيد هذا القول أن فيه الجمع بين الأحاديث والعمل بها كلها، والجمع بين الأحاديث مقدم على القول بالنسخ؛ فإنه لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع.
([1]) انظر العيون لابن سيد الناس (2/7)؛ والواقدى (1/216)؛ وابن هشام (3/96) – بدوي إسناد.
([2]) عبد الرزاق في «المصنف» (5/483).
([3]) ولكن ابن عمر لم يشارك في القتال يوم أحد...
([4]) يبدو – والله أعلم – أن هناك تصحيف لقول معاوية رضي الله عنه، لأن الظاهر أن كلمة المفضول هي المقصودة هنا وليس الفاضل .
([5]) البخاري (2358)، ومسلم (108).
([6]) النسائي في «الكبرى» (1/505).
([7]) الترمذي (179)، والنسائي (622).
([8]) مسلم (1788).
([9]) أحمد (5/392).
([10]) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (4/192).
([11]) «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (1/155، 156).
([12]) «الإحكام في أصول الأحكام» (3/291).
([13]) أبو داود (5229)، والترمذي (2755).
([14]) البخاري في «الأدب المفرد» (ص327).
([15]) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (4/198).
([16]) البخاري (3803)، ومسلم (2466).
([17]) مسلم (2490).
([18]) «العقد الفريد» (5/278).
([19]) مسلم (1816).
([20]) الترمذي (3703)، والنسائي (3608).
([21]) «مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق» للمروزي (2/732-734)، «الأوسط» لابن المنذر (5/43).
([22]) انظر «الإنصاف» (2/351).
([23]) انظر «الإنصاف» (2/347)، و«مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق» للمروزي (2/732 - 734)، و+«الأوسط» لابن المنذر (5/43).
([24]) انظر «الإنصاف» (2/351).
([25]) البخاري (2864)، ومسلم (1776).
([26]) البخاري (3811)، ومسلم (1810).
([27]) البخاري (4137)، ومسلم (843).
([28]) مسلم (1218).
([29]) البخاري (492).