شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-9)

00:00
00:00
تحميل
147

المتن

[32/55] غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريْسِيع

قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست.

وقال موسى بن عقبة: سنة أربع.

وقال النعمان بن راشد، عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع.

 ●         [3877] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن ابن مُحَيْريزٍ أنه قال: دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء فاشتدَّت علينا العُزبَةُ، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألناه عن ذلك فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة».

 ●         [3878] حدثني محمود، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العِضَاه فنزل تحت شجرة، واستظل بها، وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجئنا فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال: «إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتا، قال: من يمنعك مني؟! قلت: الله! فشامه، ثم قعد فهو هذا»، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرح

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «باب» هكذا وقع هنا وذكر ما يتعلق بها ثم أورد حديث أبي سعيد في العزل، ثم قال بعد ذلك: «حدثني محمود»، يعني: ابن غيلان «حدثنا عبد الرزاق...» فذكر حديث جابر في غزوة نجد،
وفيه: قصة الأعرابي وهذا محله في «غزوة ذات الرقاع»، وقد وقع في رواية أبي ذر عن المستملي في «غزوة ذات الرقاع»، وهو أنسب».

وهذا الباب «غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع» المصطلق لقب، واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة، بطن من بني خزاعة».

وفي شيب الغزوة اختلاف في الرويات ، فالذي في الصحيحين من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تستقي على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم...([1]) ، وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع قريبًا من الساحل، فزاحف الناس، واقتتلوا فهزمهم الله وقتل منهم، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم.

والجمع بينهما كما قال ابن حجر : «فيحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلًا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء ثبتوا وتصافوا ووقع القتال بين الطائفتين ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم، وقد ذكر هذه القصة ابن سعد نحو ما ذكر ابن إسحاق، وأن الحارث كان جمع جموعًا وأرسل عينًا تأتيه بخبر المسلمين فظفروا به فقتلوه، فلما بلغه ذلك هلع وتفرق الجمع وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الماء وهو المريسيع فصف أصحابه للقتال، ورموهم بالنبل ثم حملوا عليهم حملة واحدة، فما أفلت منهم إنسان بل قتل منهم عشرة وأسر الباقون رجالًا ونساء، وساق ذلك اليعمري في «عيون الأثر»، ثم ذكر حديث ابن عمر، ثم قال: أشار ابن سعد إلى حديث ابن عمر ثم قال: الأول أثبت، قلت: آخر كلام ابن سعد والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في «الصحيح» مردود، ولاسيما مع إمكان الجمع، والله أعلم».

وقال الحافظ ابن حجر /: «والغرض منه هنا ذكر غزوة بني المصطلق في الجملة وقد أشرت إلى قصتها مجملًا، ولله الحمد».

وفي قصة بني المصطلق دليل على أنه يجوز قتال من بلغته الدعوة وهو غافل بدون إعادة الدعوة مرة أخرى، وفي قصة أهل خيبر لما أرسل إليهم عليًّا أمره أن يدعوهم مرة أخرى، حيث قال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم تدعوهم إلى الإسلام»([2]). فدلت هذه النصوص على أن المسلمين مخيرون في الإغارة بدون إعادة الدعوة - ووجه ذلك أن يتمكن منهم قبل أن يجمعوا له - وبين إعادة الدعوة لعلهم يقبلون ويسلمون؛ فيسلمون من شرهم، وهذا عمل بالنصوص جميعًا، فالذين بلغتهم الدعوة يجوز أن ندعوهم مرة أخرى من باب الاستحباب ويجوز أن نغير عليهم، أما من لم تبلغه الدعوة فلابد من إبلاغه.

قوله: «قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست»، يعني: أن غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع كانت سنة ست، وسيأتي كلام ابن حجر في هذا.

قوله: «وقال موسى بن عقبة» هو من أهل المغازي: «سنة أربع».

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «وقال: موسى بن عقبة سنة أربع»، كذا ذكره البخاري وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع. والذي في «مغازي موسى بن عقبة» من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في «الدلائل» وغيرهم سنة خمس، ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب: ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، ويؤيده ما أخرجه البخاري في «الجهاد» عن ابن عمر أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان سنة أربع ولم يؤذن له في القتال([3])؛ لأنه إنما أذن له فيه في الخندق كما تقدم وهي بعد شعبان سواء قلنا: إنها كانت سنة خمس أو سنة أربع، وقال الحاكم في «الإكليل»: قول عروة وغيره: إنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق».

قوله: «وقال النعمان بن راشد، عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع» الإفك: هو أسوأ الكذب، والمقصود الكلام بالإفك في أم المؤمنين عائشة ل.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «وقال النعمان بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع» وصله الجوزقي والبيهقي في «الدلائل» من طريق حماد بن زيد عن النعمان بن راشد ومعمر عن الزهري عن عائشة فذكر قصة الإفك في غزوة المريسيع».

وقال الحافظ ابن حجر /: «قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك كما سيأتي، فلو كان المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في «الصحيح» من ذكر سعد بن معاذ غلطًا؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل: سنة أربع - فهي أشد؛ فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان؛ لتكون قد وقعت قبل الخندق؛ لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا فتكون بعدها فيكون سعد بن معاذ موجودًا في المريسيع، ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق، ومات من جراحته في قريظة، وسأذكر ما وقع لعياض من ذلك في أثناء الكلام على حديث الإفك إن شاء الله تعالى، ويؤيده أيضًا أن حديث الإفك كان سنة خمس إذ الحديث فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب، والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المريسيع بعد ذلك فيرجح أنها سنة خمس، أما قول الواقدي: إن الحجاب كان في ذي القعدة سنة خمس فمردود، وقد جزم خليفة وأبو عبيدة وغير واحد بأنه كان سنة ثلاث فحصلنا في الحجاب على ثلاثة أقوال، أشهرها سنة أربع. والله أعلم».

 ●         [3877] ذكر حديث ابن محيريز «أنه قال: دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا»، أي: نساء مسبيات، يعني: أنهم لما غزوا غزوة بني المصطلق غنموا منهم نساء، ونساء المشركين إذا غُنمت تقسم على الجيش، ومن صارت امرأة في نصيبه فله أن يتسراها، وله أن يزوجها؛ وله أن يبيعها، وينفسخ نكاحها من زوجها الكافر بوقوعها في السبي؛ لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، لكن لابد أن يستبرئ الرحم بحيضة قبل أن يطأها، بخلاف المطلقة من الحرائر فتُستبرأ بثلاثة قروء، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض.


وفيه: دليل على جواز سبي العرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء، و أصاب جويرية بنت الحارث ([4]).

وقوله: «فاشتهينا النساء فاشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل» العزل يعني: أنه إذا جامع، وأحس بخروج المني - أخرج ذكره؛ لينزل خارج الفرج حتى لا تحمل المرأة.

والعزل للأمة جائز بدون استئذانها؛ لأن سيدها يريد أن يستمتع بها بغير حمل، وحتى لا يبيع عند ذلك أولاده إذا أراد بيعها.

و أما الحرة فلابد من استئذانها، فإن اتفقا على العزل -إذا كان الحمل يضر بصحة المرأة، أو لأن فيه تتابعًا للأولاد، أو لغير ذلك - فلا بأس.

قال جابر رضي الله عنه: «كنا نعزل والقرآن ينزل لو كان ينهى عنه شيء لنهى عنه القرآن»([5]).

قوله: «فأردنا أن نعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا»، أي: لا بأس أن تفعلوا.

قوله: «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة»، في لفظ آخر: «لو أراد الله أن يخلقه»، أي: الولد «ما استطعت أن تصرفه»([6]). فإذا أراد الله أن يخلق شيئًا سبق الرجل الماء، وإذا أراد الله أن تحمل حملت، وفي لفظ آخر أن رجلًا قال: يا رسول الله، عندي جارية وإني أعزل، وإني أكره أن تحمل قال: «سيأتيها ما قدر لها»، أي: ولو كان يعزل، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن جاريتي قد حملت، فقال له: «ألم أقل لك: سيأتيها ما قدر لها»([7]). فإذا أراد الله أن تحمل سبقه الماء.

 ●         [3878] قوله: «فشامه»، أي: أغمد السيف، وتأتي بمعنى سله أيضًا، فهو من الأضداد.

وهذه القصة قد سبقت، وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم لا ينتقم لنفسه، ولو كان من الملوك لقطع رقبته في الحال.

* * *

المتن

[33/55] غزوة أنمار

 ●         [3879] حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا عثمان بن عبدالله بن سراقة، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته متوجها قبل المشرق متطوعاً.

الشرح

قال الحافظ ابن حجر /: «ترجمة «غزوة أنمار»، ذكر فيها حديث جابر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته» وهذا الحديث قد تقدم في «باب قصر الصلاة» وكان محل هذا قبل «غزوة بني المصطلق»، لأنه عقبه بترجمة «حديث الإفك»، والإفك كان في غزوة بني المصطلق فلا معنى لإدخال غزوة أنمار، بينهما بل غزوة أنمار يشبه أن تكون هي غزوة محارب وبني ثعلبة؛ لما تقدم من قول أبي عبيد: إن الماء لبني أشجع وأنمار وغيرهما من قيس، والذي يظهر أن التقديم والتأخير في ذلك من النساخ، والله أعلم. ولم يذكر أهل المغازي غزوة أنمار، وذكر مغلطأي: أنها غزوة أمر بفتح الهمزة وكسر الميم، فقد ذكر ابن إسحاق أنها كانت في صفر، وعند ابن سعد: قدم قادم بجلب فأخبر أن أنمار وثعلبة قد جمعوا لهم فخرج لعشر خلون من المحرم، فأتى محلهم بذات الرقاع، وقيل: إن غزوة أنمار وقعت في أثناء غزوة بني المصطلق لما روى أبو الزبير عن جابر: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعير...([8]) الحديث، ويؤيده رواية الليث عن القاسم بن محمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في غزوة بني أنمار صلاة الخوف([9]). ويحتمل أن رواية جابر لصلاته صلى الله عليه وسلم تعددت».

 ●         [3879] جاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان «يصلي على راحلته متوجها قبل المشرق متطوعًا».

فيه جواز صلاة التطوع على الراحلة أو الدابة أو في السيارة أو في الطائرة، ولو لغير القبلة؛ لأن النافلة يتسامح فيها ما لم يتسامح في الفريضة، و إنما يصلي الراكب على الدابة في السفر خاصة.

وجاء في «سنن أبي داود» أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوجه إلى القبلة عند تكبيرة الإحرام([10])، ولم يأت هذا في الأحاديث الصحيحة الأخرى في صلاته النافلة في السفر، ويستحب أن يكبر أول ما يكبر جهة القبلة ثم ينحرف إلى جهة السير ويصلي صلاة التطوع.

أما الفريضة فيجب عليه أن ينزل ويصلي على الأرض مستقبلًا القبلة. وإذا كان راكبًا يدور مع القبلة حيث دارت، فإن كان خائفًا أو كان على الأرض مطر أو دحض صلى على الراحلة أو في السيارة.

* * *

المتن

[34/55] حديث الإفك
والإفك بمنزلة النِّجْس والنَّجَس، يقول: (إِفْكُهُمْ) [الأحقاف: 28]
وأَفْكُهم وأَفَكَهم، مَن قال: أَفَكَهم يقول: صَرَفَهم عن الإيمان وكذَّبَهم،
كما قال: (يُؤْفَكُ عَنْهُ) [الذاريات: 9]: يُصرَفُ عنه مَن صُرِف

 ●         [3880] حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير و سعيد بن المسيب و علقمة بن وقاص و وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكلُّهم حدثني طائفةً من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصًا، وقد وَعَيْتُ عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضًا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، قالوا: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، وأيُّهُنَّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي؛ فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب، فكنت أُحْمَلُ في هودجٍ وأُنزَلُ فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفارٍ قد انقطع؛ فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحَلُون بي فاحتملوا هودجي، فَرَحَلُوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدُوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي ثم الذَّكْواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني - وكان رآني قبل الحجاب - فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهَوَى حتى أناخ راحلته فوطِئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كِبْرَ الإفك عبدُالله بن أُبَيٍّ ابنُ سلولَ - قال عروة: أُخبرت أنه كان يُشاع ويُتحدث به عنده فيُقِرُّه ويستمعُه ويستَوْشِيه، وقال عروة: لم يسم من أهل الإفك أيضًا إلا حسَّانُ بن ثابت ومِسْطحُ بن أُثاثة وحَمنَةُ بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله عز وجل، وأن كِبْر ذلك يقال: عبدُالله بن أبيٍّ بنُ سلولَ، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسَبَّ عندها حسان وتقول إنه الذي قال:

فإنَّ أبي ووالدَه وعِرْضِي  لِعِرْضِ محمدٍ مِنكم وِقاءُ

قالت عائشة: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناسُ يُفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَريبُني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللَّطَفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: «كيف تِيكُم؟» ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشَّرِّ، حتى خرجت حين نقَهت، فخرجت معي أمُّ مسطح قِبَلَ المناصِع، وكان مُتبرَّزَنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبْلَ أن نتخذ الكُنُف قريبًا من بيوتنا، وأمرُنا أمرُ العرب الأُوَل في البَرِّيَّة قِبَل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بن الْمُطَّلِب بن عبد مناف، وأمها بنتُ صخر بن عامر خالة أبي بكر الصِّديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلتُ أنا وأم مسطح قبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرتْ أمُّ مسطحٍ في مِرطها؛ فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئسَ ما قلتِ! أتَسُبِّين رجلًا شهد بدرًا؟! فقالت: أي: هَنْتاهُ، ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: وما قال؟! فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتِيَ أبويَّ؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قِبَلِهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أُمَّتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوِّني عليك! فوالله لَقَلَّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلت: سبحان الله! أَوَلَقد تحدَّث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فِراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أَهْلَك! ولا نعلم إلا خيرا! وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسَلِ الجاريةَ تصدقْك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أي: بريرة، هل رأيت من شيءٍ يَريبُكِ؟» قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرًا قطُّ أغمِصُه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فيأتي الداجنُ فيأكُلُه، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبدالله بن أبي وهو على المنبر، فقال: «يا معشر المسلمين مَن يَعْذِرُني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي»، قالت: فقام سعد أخو بني عبدالأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: وقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعدٍ: كذبت لعَمرُ الله! لا تقتله ولا تقدر على قتله! ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل؛ فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبتَ لعَمر لله! لنقتلنَّه فإنك منافق تجادل عن المنافقين! قالت: فثار الحيَّان الأوسُ والخزرجُ حتى هَمُّوا أن يقتتلوا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهم حتى سكتوا وسكتَ، قالت: فبكيت يومي ذلك كلَّه لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبوأي: عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، حتى إني لأظن أن البكاء فالقٌ كبدي، فبينا أبوأي: جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنتْ عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فسلم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعدُ، يا عائشةُ إنه بلغني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسَيُبَرِّئُكِ الله، وإن كنتِ ألممْتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه»، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتَه قَلَص دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال أبي: والله ما أدري ما أقولُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأ من القرآن كبيرًا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئِن قلتُ لكم: إني بريئةٌ لا تُصَدِّقوني، ولئِنِ اعترفتُ لكم بأمر - واللهُ يعلمُ أنِّي منه بريئةٌ - لَتُصَدِّقُنِّي، فوالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ فاضطجعْتُ على فراشي، واللهُ يعلمُ أنِّي حينئذ بريئةٌ، وأن الله مُبَرِّئِي ببراءتي، ولكنْ والله ما كنتُ أظنُّ أن الله مُنزِل في شأني وحيًا يُتلَى، لَشَأْنِي في نفسي كان أحقر من أن يتكلَّم الله فيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يَرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يُبَرِّئُني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسَه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه، فأخذَه ما كان يأخذُه من البُرَحاء حتى إنَّه لَيتَحَدَّرُ منه من العرقِ مثلُ الْجُمانِ وهو في يوم شاتٍ من ثِقَلِ القول الذي أُنزل عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أولَ كلمةٍ تكلَّم بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا الله فقد بَرَّأكِ!» قالت: فقالت أمي لي: قومي إليه، فقلت: والله، لا أقومُ إليه، فإني لا أحمدُ إلا اللهَ، قالت: وأنزل الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)[النور: 11] ، العشر الآيات؛ ثم أنزَل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقرِه: والله، لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال! فأنزل الله عز وجل (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) إلى قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، قال أبو بكر الصديق: بلى والله، إني لأُحبُّ أن يغفر الله لي! فرجَع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، قال: والله لا أنزعُها منه أبدًا! قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: «ماذا علمت - أو رأيت؟»، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري! والله ما علمت إلا خيرًا! قالت عائشة: وهي التي تُسامِيني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقَتْ أختُها حمنةُ تُحازبُ لها، فهلكت فيمن هلك.

قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط.

ثم قال عروة: قالت عائشة: والله، إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفتُ مِن كنَف أُنثَى قط! قالت: ثم قُتِل بعد ذلك في سبيل الله.

 ●         [3881] حدثنا عبدالله بن محمد، قال: أملى علي هشام بن يوسف من حفظه، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبدالملك: أَبلَغك أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، أن عائشة قالت لهما: كان عليٌّ مُسَلِّمًا في شأنها.

فراجعوه فلم يرجع، وقال: مُسَلَّمًا بلا شكٍّ فيه وعليه، وكان في أصل العتيق كذلك.

 ●         [3882] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن أبي وائل، قال: حدثني مسروق بن الأجدع، قال: حدثتني أم رومان، وهي: أم عائشة، قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل، فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم؛ فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما شأن هذه؟» قلت: يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض، قال: «فلعل في حديث تحدث؟» قالت: نعم، فقعدت عائشة فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، قالت: فانصرف ولم يقل شيئًا، فأنزل الله عز وجل عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك.

 ●         [3883] حدثني يحيى، قال: حدثنا وكيع، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: كانت تقرأ: «إذ تَلِقُونَه بألسنتكم»، وتقول: الوَلْقُ: الكذبُ.

قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم من غيرها بذلك؛ لأنَّه نزل فيها.

 

([1]) البخاري (2541)، ومسلم (1730).

([2]) البخاري (3009)، ومسلم (2406).

([3]) البخاري (4097).

([4]) البخاري (5241)، ومسلم (1730).

([5]) البخاري (5209)، ومسلم (1440).

([6]) أبو داود (2171).

([7]) مسلم (1439).

([8]) مسلم (540).

([9]) البخاري (4131).

([10]) أبو داود (1225).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد