● [3884] حدثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه: ذهبتُ أَسُبُّ حسان عند عائشة، فقالت: لا تسبه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة: استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين، قال: «كيف بنسبي؟» قال: لأَسُلَّنَّك منهم كما تُسَلُّ الشَّعَرة من العجين.
وقال محمد بن عقبة: حدثنا عثمان بن فرقد، قال: سمعت هشامًا، عن أبيه قال: سببتُ حسانَ، وكان مِمَّن كثَّر عليها.
● [3885] حدثني بشر بن خالد، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلنا على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرًا يشبب بأبيات له:
حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ برِيبَةٍ وتُصبِح غَرْثَى مِن لُحُوم الغَوافِلِ
فقالت له عائشة: لكنك لستَ كذلك، قال مسروق: فقلت لها: لِمَ تَأذَني له أن يدخل عليكِ وقد قال الله عز وجل: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11]؟! قالت: وأي: عذاب أشد من العمى! فقالت: إنَّه كان يُنافح -أو يُهاجي- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرح
قوله: «حديث الإفك» الإفك والأفك لغتان بمنزلة النِّجْس والنَّجَس في الضبط.
يقال: «(إِفْكُهُمْ) [الأحقاف:28]، وأفْكُهم، و أَفَكَهم»، و «أَفَكَهم» كما قال: «صرفهم عن الإيمان وكذّبهم»، وقال تعالى: (يُؤْفَكُ عَنْهُ) [الذاريات: 9]. وهو - كما قال المصنف: «يصرف عنه من صرف»، فهو من الأضداد، فالإفك: الكذب، والأفك: الصرف.
● [3880] ينقل هذا الخبر الإمام المحدث الكبير ابن شهاب الزهري فيقول: حدثني عروة وسعيد وعلقمة وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن عائشة ل «حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصًا» أي: كلهم حدثني طائفة، وقد وعيت عنهم ما قالوا، وبعضهم أثبت وأضبط لحديثها من بعض.
قولها: «من جزع أظفار»؛ في نسخة: «من جزع ظفار»([1])؛ هو: نوع من الأحجار الكريمة.
وقوله: «من يعذرني»، من باب ضرب يضْرِب؛ أي: ينصفني.
وأما قوله عن عائشة: «فقلت: والله، لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله»، فذلك لأنها ل مظلومة، وكانت تود أن يبرأها النبي صلى الله عليه وسلم وأبواها.
وهذه القصة التي ساقها المؤلف بطولها فيها من الفضائل والأحكام ما يلي:
الفائدة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي الصالحين، فهذا من الابتلاء لهذه المرأة الصالحة، وهي الصديقة بنت الصديق زوج نبي الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، وجلس الناس شهرًا يخوضون في حديث الإفك، ولا شك أن هذا البلاء أمر عظيم؛ ليرفع الله به درجتها، وليعلي مكانتها، وحصلت من الأجر ما لم تبلغه بعملها رضي الله عنها وأرضاها، فبعد البلاء تكون العاقبة للأخيار، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق ابتلي بهؤلاء المنافقين الذين خاضوا في الإفك، ومنهم عبدالله بن أبي الذي تكلم في عرضه، واغتر بهم بعض المؤمنين الذين طهرهم الله بالحد، فإذا كان هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بما بعده؟! فالمنافقون يسعون في الأرض فسادًا.
فالمنافقون في كل زمان هم الواسطة بين أعداء الله الكفرة، فهم الذين يجلبون البلاء على الأمة؛ لأنهم عدو يعيش بين المسلمين، وهم أشد ضررًا من الكفار ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الكافر الظاهر تأخذ حذرك منه، بخلاف العدو الذي يعيش بينك، فهم زادوا على الكفر بالخداع والمكر وتدبير المكائد للإضرار بالإسلام والمسلمين، نسأل الله أن يذل الكفرة ويخزيهم وأن يكبتهم ويمحقهم ويقطع دابرهم.
الفائدة الثانية: أن من له زوجتان فأكثر وأراد السفر بواحدة منهن فإنه يقرع بينهن، فمن خرج سهمها خرجت معه؛ لقول عائشة ل: «أقرع بين أزواجه»، ولا يقضي لضراتها عدد أيام السفر، ولو تكرر السفر ووقعت القرعة على واحدة فالحكم واحد، ولأن بعضهن قد تستحيي، وتقول: لا أريد السفر فيكون في القرعة عدل.
الفائدة الثالثة: في هذا الحديث إثبات الحجاب؛ لأن عائشة قالت: «فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب»، وهذا فيه الرد على من أنكره من دعاة السفور والتبرج والاختلاط.
وقالت عائشة عن صفوان بن المعطل: «فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني - وكان رآني قبل الحجاب - فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي»، ومع ذلك فإن بعض دعاة السفور والتبرج والاختلاط لا علم عنده ولا دين، وبعضهم يتعلق بأخبار ضعيفة، وبعضهم يتعلق بأقوال قيلت، ولكن النصوص في ذلك الأمر صريحة وواضحة لا لبس فيها.
فقولها: «فخمرت وجهي بجلبابي» صريح في أن المرأة تخمر وجهها، أي: تغطيه، وأن الحجاب لا بد فيه من تغطية الوجه وجميع الجسد، ولا يكون كما يزعم بعض الناس أن المرأة تغطي شعرها ورأسها ويبقى الوجه والكفان مكشوفين، ويسمون التي تحجب رأسها وشعرها المرأة المتحجبة، فهذا ليس المقصود بالحجاب؛ لأن الحجاب لا بد فيه من تغطية الوجه واليدين والشعر والظفر وكل بدن المرأة.
فمن الخطأ أن تخرج المرأة يديها أو رجليها أو أصابعها أو ساعديها أمام أقارب زوجها، أو أبناء عمها، أو زوج أختها، أو السائق، أو في الطريق؛ فيجب عليها ستر يديها إما بالقفازين، أو بالعباءة، أو بالثوب؛ وكذلك تستر الرجلين.
ومن أدلة الكتاب كذلك على الحجاب بعض الآيات الكريمة:
الأولى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] ، فإن الحجاب هو الذي يحجب المرأة عن الرجل سواء كان جدارًا أو بابًا أو جلبابًا أوغطاء.
الثانية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) [الأحزاب: 59].
الفائدة الرابعة: أن هذه الغزوة وحادثة الإفك بعدما أنزل الحجاب؛ لأن هذه غزوة المريسيع وقد كانت سنة خمس، و الحجاب بعد الخندق فكان في سنة أربع، أو في أول سنة خمس.
الفائدة الخامسة: في الحديث دليل على أن المرأة ينبغي أن تكون بعيدة عن الرجال ولا تختلط بهم؛ لقول السيدة عائشة ل في هذا الحديث: «فكنت أحمل في هودج» كان لها هودج تحمل فيه على البعير، وقالت: «فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه»، أي: حين حمل الذين وكل إليهم الهودج لم يستنكروا عدم وجودها؛ لأنها كانت خفيفة اللحم.
الفائدة السادسة: في الحديث دليل على أنه لا بأس أن يعتني المرء بماله، وأن يبحث عما فقده؛ لقول عائشة ل: «فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع؛ فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه» والمال كما يقال: عصب الحياة، قال الله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)[النساء: 5].
الفائدة السابعة: في الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في أول الهجرة من قلة ذات اليد، ومن قلة الطعام والشراب؛ لقولها: «وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلقة من الطعام».
الفائدة الثامنة: فيه أنه لابد للإنسان إذا كان مع رفقة أن ينبههم إذا ذهب مذهبًا حتى لا يتخلف عنهم؛ لأن عائشة ل لما ذهبت تبحث عن عقدها نودي بالرحيل؛ فارتحل الجيش وتركوها.
الفائدة التاسعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لوجد العقد؛ لقولها: «فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش»، ولو كان يعلم الغيب لعلم حال عائشة أيضًا قبل أن يوحى إليه.
الفائدة العاشرة: بَيَّن الحديث ما كان عليه صفوان بن المعطل من الورع؛ فإنه لم يكلم عائشة؛ لقولها: «ووالله ما تكلمنا بكلمة»، وفي رواية: «والله ما كلمني كلمة»([2])، قالت: «ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة»، أي: قمت فركبت الراحلة، وهو يمشي.
الفائدة الحادية عشرة: فيه أن الذي تولى كبر الإفك هو: عبدالله بن أبي ابن سلول كما قالت عائشة، وليس كما في حديث آخر أنها قالت: الذي تولى كبره حسان، و قد قال الله تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور: 11] فهو عبدالله بن أبي رئيس المنافقين، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يثبت عليه شيء، فقد كان يستوشيه ويجمعه وينشره.
الفائدة الثانية عشرة: فيه إقامة حد القذف، وأن من قذف رجلًا أو امرأة بالزنا أو باللواط، ولم يأت بأربعة شهود - فإنه يقام عليه الحد، فيجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته ويفسق، إلا إذا تاب؛ كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4] ، فإذا تاب تاب الله عليه؛ لقول الله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا) [النور: 5]، فقد سمى عروة أهل الإفك كحسان ابن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وأناس آخرين، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حد القذف، والحد طهارة.
الفائدة الثالثة عشرة: فيه أن إقامة الحد كفارة لمن وقع منه الذنب.
الفائدة الرابعة عشرة: فيه فضل عائشة ل، وأنها تكره أن يسب حسان وتقول: «إنه الذي قال:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء»
فإن عائشة عرفت الفضل لأهله وعفت عنه، ورأت أن الحد كفارة.
الفائدة الخامسة عشرة: فيه تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»([3]). فالنبي صلى الله عليه وسلم ابتلي في عرضه الطاهر، وكذلك عائشة الصديقة ابتليت بهذا البلاء؛ ولهذا قالت: «فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك» والابتلاء قد يكون مرضًا، أو مصيبة من المصائب في الأهل أو الولد أو العرض أوالمال أو في غير ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بكل هذا البلاء، وابتلي بالكفار والمنافقين و اليهود.
الفائدة السادسة عشرة: فيه أن المدينة كانت صغيرة وما كان الناس يتخذون الكنف -جمع كنيف- وهو محل قضاء الحاجة؛ لأنهم يتأذون بها، فكانوا يخرجون إلى الصحراء -وكانت قريبة منهم؛ ليقضوا حوائجهم، وكانت النساء تخرج من ليل إلى ليل؛ لأن أكلهم وشربهم قليل.
الفائدة السابعة عشرة: فيه إثبات أن مسطحًا من أهل بدر؛ لقول عائشة ل: «أتسبين رجلا شهد بدراً؟!».
الفائدة الثامنة عشرة: فيه أن أهل بدر غير معصومين من كبائر الذنوب ولا من صغائرها، فإن مسطح بن أثاثة ممن شهد بدرًا ووقعت منه كبيرة، و حاطب بن أبي بلتعة وقعت منه كبيرة في كتابته للمشركين، وأنزل الله فيه صدر سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)[الممتحنة: 1]. فهم ليسوا معصومين، ولكنهم مسددون وموفقون، فهم يوفقون للتوبة النصوح، أو يوفقون لتكفير هذه السيئة التي وقعوا فيها، إما بإقامة الحد عليهم أو بالتوبة أو بحسنات ماحية، أو بمصائب يصابون بها، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أولى بها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في شأن حاطب: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([4]).
الفائدة التاسعة عشرة: بَيَّن الحديث مشروعية الاستشارة، فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس في فراق أهله، «قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي»، أي: حين تأخر الوحي فلم يأت، قالت: «يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله» وقال في الحديث الآخر: «أشيروا علي أيها الناس»([5])، فأشار عليه أسامة فقال: «أهلك ولا نعلم إلا خيرًا»، وقال علي: «يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك» الجارية: بريرة؛ فسألها: «أي: بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟» يعني: من عائشة، «قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرًا قط أغمصه»، أي: أنتقده، «أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله» وفي نسخة: «فتأتي الداجن فتأكله»، لأنها صغيرة في السن، والنبي صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، فهي صغيرة تعجن العجين ثم تنام، فتأتي الداجن -وهي: الشاة التي تألف البيوت- فتأكل العجين.
الفائدة العشرون: بَيَّن الحديث مبلغ أذى عبدالله بن أبي بن سلول المنافق للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا استعذر النبي صلى الله عليه وسلم منه على المنبر، وقال: «من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا».
الفائدة الواحدة والعشرون: بَيَّن الحديث أن من رمى شخصًا بالنفاق أو الكفر متأولًا فليس عليه الوعيد الشديد؛ لأنه معذور، فإنه لما تشاجر الحيان الأوس والخزرج وقال سعد ابن عبادة لسعد بن معاذ الأنصاري: «كذبت لعمر الله! لا تقتله ولا تقدر على قتله!»، قال: «فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد»ابن معاذ وقال: «لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله! لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين!»، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن حاطب، فقال: «دعني أضرب عنق هذا المنافق»([6])، ولم ينكر عليه؛ لأنه متأول و ما قاله عن هوى أو شهوة، بل غيرة لله عزوجل.
أما من رمى أحدًا بالكفر أو النفاق عن هوى وشهوة ولأجل الدنيا فهذا هو الذي عليه الوعيد الشديد كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال رجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»([7])، وفي الرواية الثانية: «إن كان كذلك وإلا رجعت على الذي قالها»([8]).
الفائدة الثانية والعشرون: أن عائشة ل ابتليت فازداد مرضها لما سمعت أهل الإفك، وجعلت تبكي ليل نهار، وكان لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم؛ حتى قالت: «حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي».
الفائدة الثالثة والعشرون: من الابتلاء أن الله تعالى لم ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم الوحي شهرًا، والناس يخوضون في حديث الإفك ابتلاء وامتحانًا (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [الأنفال: 42].
الفائدة الرابعة والعشرون: في الحديث مشروعية الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة قبل الكلام، وقبل الموعظة، وقبل الخطبة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: أما بعد.
الفائدة الخامسة والعشرون: قوله: «أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه» فيه: أن التوبة تجب ما قبلها، حتى الكفر.
الفائدة السادسة والعشرون: بين الحديث شدة ما أصاب عائشة ل من الهم والغم والوجد؛ ولهذا قالت: «فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة»؛ وكذلك من شدة ما أصابها أنها لما أرادت أن تتكلم نسيت اسم سيدنا يعقوب عليه السلام فقالت: «فوالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]»؛ وفي رواية قالت: فالتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه([9])، وفي اللفظ الآخر قالت: «ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف»([10]).
الفائدة السابعة والعشرون: أوضح الحديث تواضع عائشة لوإزراءها بنفسها، وهي الصديقة بنت الصديق ل؛ لقولها: «والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكنْ والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها».
الفائدة الثامنة والعشرون: بين الحديث ثقل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما نزل عليه الوحي تأثر صلى الله عليه وسلم «فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه» والجمان: اللؤلؤ، و«يتحدر» أي: ينزل منه العرق كأنه حبات اللؤلؤ.
الفائدة التاسعة والعشرون: فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر عائشة لما نزلت براءتها.
الفائدة الثلاثون: بين الحديث فرح النبي صلى الله عليه وسلم وسروره ببراءة أهله؛ ولهذا قالت: «فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة، أما الله فقد برأك»؛ ثم قرأ ما أنزل الله من الآيات.
الفائدة الحادية والثلاثون: في الحديث فضل عائشة الصديقة، وأن الله برأها من فوق سبع سموات، وأنزل فيها قرآنًا يتلى.
الفائدة الثانية والثلاثون: بين الحديث أن من رمى عائشة بالإفك بعد أن برأها الله فهو كافر؛ لأنه بذلك مكذب لله.
الفائدة الثالثة والثلاثون: أوضح الحديث كفر الرافضة الذين يرمون عائشة بالإفك؛ لأنهم مكذبون للقرآن، وقد برأها الله تعالى من فوق سبع سموات، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ). الإفك: هو أسوأ الكذب؛ (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11] إلى آخر الآيات، فنزلت فيها عشر آيات، أو ثلاث عشرة آية تتلى إلى يوم القيامة.
ومن أسباب كفر الروافض بالإضافة إلى ذلك: أنهم يكفرون الصحابة، وهو تكذيب لله تعالى، فهوالذي زكاهم وعدلهم ووعدهم الحسنى والجنة.
كما أنهم يكذبون الله في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ، فقالوا: إن القرآن غير محفوظ، وإنه حذف منه الثلثان ولم يبق إلا الثلث، وقالوا: إن هناك مصحفًا ينسب إلى فاطمة يعدل المصحف الذي بين أيدي أهل السنة ثلاث مرات.
كما أنهم يعبدون آل البيت ويشركون بالله، فهذه أربعة أنواع من الكفر، نسأل الله العافية.
الفائدة الرابعة والثلاثون: في الحديث مشروعية الحنث في الحلف، إذا كان البر هو الحنث بها، وأن اليمين لا تمنع الإنسان من فعل الخير، بل المشروع للإنسان أن يكفر عن يمينه ويفعل البر؛ فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حلف ألا ينفق على مسطح؛ لما تكلم في الإفك، وكان مسطح من فقراء المهاجرين وقريبًا لأبي بكر فهو ابن خالته، فأنزل الله تعالى في أبي بكر: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النور: 22] (وَلا يَأْتَلِ)، أي: ولا يحلف، فهذا هو وصفه: قريب ومسكين ومهاجر، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]. فقال أبو بكر رضي الله عنه: «بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي»؛ فعاود النفقة التي كان ينفق على مسطح وكفر عن يمينه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»([11])، وفي لفظ: «إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها»([12]).
الفائدة الخامسة والثلاثون: فيه ورع زينب بنت جحش ل، فإنها سلمت من الكلام في الإفك؛ ولهذا لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري! والله ما علمت إلا خيرًا! قالت عائشة: وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع» وأما أختها حمنة فإنها وقعت في الإفك تحارب عن أختها؛ ولهذا قالت: «وطفقت أختها حمنة تحازب لها- وفي نسخة: تحارب لها - فهلكت فيمن هلك»، أي: وقعت في الإفك، وأقيم عليها الحد.
الفائدة السادسة والثلاثون: بين الحديث أن صفوان بن المعطل - وهو الذي جاء يقود البعير بعائشة - سليم الصدر، قيل: وليس له أرب بالنساء؛ فلما بلغه أن الناس تكلموا فيه قال: «سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط»، قالت عائشة: «ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله».
الفائدة السابعة والثلاثون: فيه مشروعية التسبيح عند الإنكار واستعظام الأمر؛ ولهذا لما قيل لصفوان ما قيل قال: «سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط».
● [3881] هذه القصة فيها أن الوليد قال للزهري: «أبلغك أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟» فقال الزهري: «قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك»، وقد ذكرهما في الحديث، قال: «أبو سلمة بن عبدالرحمن، و أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث».
قال الحافظ ابن حجر /: «ولابن مردويه من وجه آخر عن الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيًا، فلما بلغ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) حتى بلغ: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) [النور: 11] ، جلس ثم قال: يا أبا بكر، من تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ قال: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ لئن قلت: لا، لقد خشيت أن ألقى منه شرًّا. ولئن قلت: نعم، لقد جئت بأمر عظيم. قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيرًا. قلت: لا. قال: فضرب بقضيبه على السرير ثم قال: فمن؟! فمن؟! حتى ردد ذلك مرارًا، قلت: عبد الله بن أبي.
قوله: «ولكن قد أخبرني رجلان من قومك»، أي: من قريش؛ لأن أبا بكر بن عبدالرحمن بن الحارث مخزومي وأبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف زهري».
وذكر البخاري «أن عائشة قالت لهما: كان عليٌّ مُسَلِّمًا في شأنها»، هكذا بكسر اللام الثقيلة في «صحيح البخاري»، وفي رواية الحموي: «مُسَلَّمًا»، بفتح اللام. ورواية الفتح تقتضي سلامته من ذلك، ورواية الكسر تقتضي تسليمه لذلك، أفاده ابن حجر، وروي أيضًا أنه كان: «مسيئًا»([13]).قال ابن التين:
وفيه: بعد، أي: يقول هذه الرواية فيها بعد، ولكن قال الحافظ ابن حجر /: «بل هو الأقوى من حيث نقل الرواية»، يعني: كان مسيئًا في ذلك، وإنما نسبته إلى الإساءة؛ لأنه لم يقل كما قال أسامة: «أهلك ولا نعلم إلا خيرًا»، بل قال: «لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير»؛ فصار في نفسها شيء عليه.
وذكر الحافظ أن بعض الناصبة كان يتقرب إلى بني أمية بهذه الكلمة ويحرف قول عائشة إلى غير وجهه؛ لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها حتى بين الزهري لهشام بن عبدالملك أن الحق خلاف ذلك،فقد أخرج يعقوب بن شيبة في «مسنده» عن الحسن بن علي الحلواني عن الشافعي قال: حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبدالله بن أبي،قال: كذبت هو علي. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول. فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب، من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أبي، قال: كذبت، هو علي، فقال: أنا أكذب لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت: حدثني عروة وسعيد وعبيدالله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبدالله بن أبي.
وهذا دليل على أن خلفاء بني أمية عندهم شيء في أنفسهم على علي رضي الله عنه،
وفيه: قوة الزهري رضي الله عنه، فقد رد على هشام بن عبد الملك ردًّا قويًّا،بينما سليمان بن يسار قال: أمير المؤمنين أعلم.
قوله: «مسلمًا بلا شك فيه وعليه، وكان في أصل العتيق كذلك» لعل المراد أن في أصل نسخة البخاري أنه قال: مسلمًا بلا شك.
● [3882] قوله عن أم رومان في شأن عائشة: «فخرت مغشيًّا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض» فيه: أن عائشة ل لما سمعت الإفك وبلغها أن الناس تتكلم فيها خرت مغشيًّا عليها، فما أفاقت إلا وقد أصابتها الحمى برعدة ورجفة شديدة؛ وذلك لأنها مظلومة ل فاشتد عليها الأمر، ولا شك أن الظلم وقعه شديد على النفوس.
قولها: «فطرحت عليها ثيابها فغطيتها»، أي: غطتها من شدة البرد حين أصابتها الحمى النافض، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنها فقال: «ما شأن هذه؟»، قالت أم رومان: «أخذتها الحمى بنافض».
قوله: «فلعل في حديث تحدث؟»؛ هو حديث الإفك، فقالت أم رومان: نعم يا رسول الله؛ فقالت عائشة لما سألوها: «والله لئن حلفت لا تصدقوني، ولئن قلت لا تعذروني» وضربت المثل فقالت: «مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه»، أي: حينما قال: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]. فلما أنزل الله براءتها قالت: «بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك»، أي: لما قيل لها: قومي إليه واحمديه قالت تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، فهو الذي أنزل براءتي.
وهذا لا يؤثر على مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم وحبها له، لكنها تعترف بالفضل لأهله فتقول:الله هو الذي يحمد على ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب.
وقد جاء في قصة الأسير الذي أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب لمحمد - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرف الحق لأهله»([14])؛ فهذا الرجل نسب الفضل لأهله.
● [3883] قوله: «إذ تلِقُونه بألسنتكم» الولق: الكذب، من ولَق بالفتح يلِق ولقًا، وهي قراءة، فكانت عائشة تقرأ: «إذ تلِقُونه بألسنتكم»، أي: تكذبونه. وأما قراءة حفص عن عاصم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)[النور: 15] ، يعني: الإفك.
قوله: «قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم من غيرها بذلك؛ لأنه نزل فيها»، أي: لأن هذه الآية نزلت فيها، فكان لها علم بهذه القراءة.
● [3884] كانت عائشة تكره أن يسب حسان رضي الله عنه شاعر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لعروة: «لا تسبه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، قال عروة: «وقالت عائشة: استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين، قال: «كيف بنسبي؟» قال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين» فهذا اعتراف من عائشة بفضل حسان، وإن كان قد تكلم في الإفك، لكن الله طهره بالحد الذي أقيم عليه.
قال العيني /: «قوله: «وكان ممن كثر» - بتشديد الثاء المثلثة من التكثير- «عليها»، أي: على عائشة رضي الله تعالى عنها في ذكر قضية الإفك؛ فلذلك كان عروة يسبه».
● [3885] قوله: «حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل»
هذا مدح من حسان لعائشة م ، فهو يعتذر إليها لأنه وقع في الإفك وطهره الله بالحد فيقول: «حصان» يعني: أن عائشة حصينة، «رزان»، أي: رزينة كاملة العقل، «ما تزن بريبة»، يعني: لا يمكن أن تلصق بها ريبة أو تهمة أو نقيصة، «وتصبح غرثى من لحوم الغوافل»، أي: خلت بطنها من لحوم المؤمنات الغافلات، فلم تغتب أحدًا، وهذه كلها صفات حميدة.
وقوله: «فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك»، أي: إن في نفسها بعض الشيء.
وقوله: «قال مسروق: فقلت لها: لم تأذني له أن يدخل عليك؟»، هذا من باب التعجب والاندهاش، «وقد قال الله عز وجل: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11]؟! قالت: وأي: عذاب أشد من العمى!» ، أي: إنه أصيب فجاءته العقوبة،
وفيه: أن حسان عمي في آخر حياته.
وعائشة تقرر هنا أن الذي تولى كبره هو حسان، ويحتمل أن عائشة قالت ذلك أولًا ورجعت عنه، والصواب كما سبق في الحديث الطويل أن عائشة قالت: «وكان الذي تولى كبر الإفك هو عبدالله بن أبي»، وليس حسانًا رضي الله عنه.
قالت: «إنه كان ينافح -أو يهاجي- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» فيه: فضل حسان رضي الله عنه.
* * *
المتن
[35/55] باب غزوة الحديبية
وقول الله عز وجل:
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ) الآية [الفتح: 18]
● [3886] حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن عبيدالله بن عبدالله، عن زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: «قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي: فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا وكذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي».
● [3887] حدثنا هدبة بن خالد، قال: حدثنا همام، عن قتادة، أن أنسًا أخبره قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
● [3888] حدثنا سعيد بن الربيع، قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبدالله بن أبي قتادة، أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه، ولم أحرم.
● [3889] حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
● [3890] حدثني فضل بن يعقوب، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين أبو علي الحراني، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: أنبأنا البراء بن عازب، أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى البئر، وقعد على شفيرها، ثم قال: «ائتوني بدلو من مائها»؛ فأتي به، فبسق فدعا ثم قال: «دعوها ساعة»، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا.
● [3891] حدثنا يوسف بن عيسى، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم؟» قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
● [3892] حدثني الصلت بن محمد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبدالله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة، فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
تابعه أبو داود قال: حدثنا قرة، عن قتادة.
● [3893] حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض» وكنا ألفًا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
تابعه الأعمش، سمع سالِمًا، سمع جابرًا: ألفًا وأربعمائة.
وقال عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: حدثني عبدالله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفًا وثلاثمائة، وكانت أسْلَم ثُمُن
المهاجرين. تابعه محمد بن بشار قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة.
● [3894] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عيسى، عن إسماعيل، عن قيس، أنه سمع مِرْداسَ الأسلميَّ يقول - وكان من أصحاب الشجرة: يُقبض الصالحون الأوَّلَ فالأوَّل، وتبقى حُفَالة كحفالة التمر والشعير، لا يعبأ الله بهم شيئًا.
● [3895] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان و المسور بن مخرمة قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.
لا أحصي كم سمعته من سفيان، حتى سمعته يقول: لا أحفظ من الزهري الإشعار والتقليد، فلا أدري يعني: موضع الإشعار والتقليد أو الحديث كله.
● [3896] حدثني الحسن بن خلف، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن أبي بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقملُه تسقط على وجهه، فقال: «أتؤذيك هوامُّك؟»، قال: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية، لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله عز وجل الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فَرَقًا بين ستة مساكين، أو يُهديَ شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.
● [3897] حدثنا إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خَفاف بن إِيماءَ الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها، فقال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سُهمانَهُما فيه.
● [3898] حدثني محمد بن رافع، قال: حدثنا شبابة بن سوار أبو عمرو الفزاري، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها.
● [3899] حدثنا محمود، قال: حدثنا عبيدالله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبدالرحمن قال: انطلقت حاجًّا فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل أُنْسِيتُها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم؟! فأنتم أعلم.
● [3900] حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه كان ممن بايع تحت الشجرة، فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
● [3901] حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن طارق، ذكرت عند سعيد بن المسيب الشجرة فضحك، فقال: أخبرني أبي وكان شهدها.
● [3902] حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبدالله بن أبي أوفى - وكان من أصحاب الشجرة - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
● [3903] حدثنا إسماعيل، عن أخيه، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الْحَرَّة والناس يبايعون لعبدالله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابنَ حنظلة الناسُ؟ قيل له: على الموت، قال: لا أبايع على ذلك أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان شهد معه الحديبية.
● [3904] حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، قال حدثني أبي - وكان من أصحاب الشجرة - قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه.
● [3905] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي: شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت.
● [3906] حدثني أحمد بن إشكاب، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.
● [3907] حدثني إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا معاوية، هو: ابن سلام، عن يحيى، عن أبي قلابة، أن ثابت بن الضحاك أخبره أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة.
● [3908] حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1] قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ) [الفتح: 5].
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت فذكرت له، فقال: أما (إِنَّا فَتَحْنَا) فعن أنس، وأما هنيئًا مريئًا فعن عكرمة.
● [3909] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه -وكان ممن شهد الشجرة- قال: إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر.
● [3910] وعن مجزأة، عن رجل منهم من أصحاب الشجرة اسمه أهبان بن أوس، وكان اشتكى ركبته، فكان إذا سجد جعل تحت ركبته وسادة.
● [3911] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن يحيى ابن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سويد بن النعمان - وكان من أصحاب الشجرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بسويق فلاكوه.
تابعه معاذ، عن شعبة.
● [3912] حدثني محمد بن حاتم بن بزيع، قال: حدثنا شاذان، عن شعبة، عن أبي جمرة، سألت عائذًا - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحاب الشجرة: هل ينقض الوتر؟ قال: إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره.
● [3913] حدثني عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلًا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر: ثكلتك أمك عُمر، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون قد نزل بي قرآن، وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت، فقال: «لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»، ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1].
● [3914] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة و مروان بن الحكم - يزيد أحدهما على صاحبه - قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشًا جمعوا لك جموعا؛ وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال: «أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراريِّ هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين»، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله».
● [3915] حدثني إسحاق، قال: أخبرنا يعقوب، قال: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنه سمع مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة يخبران خبرًا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، فكان فيما أخبرني عروة عنهما أنه لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة، وكان فيما اشترط سهيل بن عمرو: أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك، فكره المؤمنون ذلك واتَّعظوا، فتكلموا فيه، فلما أبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة - وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات؛ فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل.
● [3916] قال ابن شهاب: وأخبرني عروة، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ) [الممتحنة: 12] مهاجرات([15]).
وعن عمه قال: بلغنا حين أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلى المشركين ما أنفقوا مَن هاجر من أزواجهم، وبلغنا أن أبا بصير... فذكره بطوله.
● [3917] حدثنا قتيبة، عن مالك، عن نافع، أن عبدالله بن عمر حين خرج معتمرًا في الفتنة قال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل بعمرة؛ من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أهل بعمرة عام الحديبية.
● [3918] حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر أنه أهل، وقال: إن حيل بيني وبينه لفعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين حالت كفار قريش بينه، وتلا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الممتحنة: 6].
● [3919] حدثنا عبدالله بن محمد بن أسماء، قال: حدثنا جويرية، عن نافع، أن عبيدالله بن عبدالله و سالم بن عبدالله أخبراه، أنهما كلما عبدالله بن عمر ح. حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية، عن نافع، أن بعض بني عبدالله قال له: لو أقمت العام؛ فإني أخاف أن لا تصل إلى البيت، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه، وحلق وقصر أصحابه، أشهدكم أني أوجبت عمرة، فإن خلي بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبين البيت صنعت كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، فسار ساعة ثم قال: ما أرى شأنهما إلا واحدًا، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي، فطاف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، حتى حل منهما جميعًا.
● [3920] حدثني شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، قال: حدثنا صخر، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبدالله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبدالله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
● [3921] وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عمر بن محمد العمري، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عبدالله، انظر ما شأنُ الناس؟ قال: أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدهم يبايعون فبايع، ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
● [3922] حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا يعلى، قال: حدثنا إسماعيل، قال: سمعت عبدالله بن أبي أوفى: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتمر، فطاف فطفنا معه، وصلى وصلينا معه، وسعى بين الصفا والمروة، فكنا نستره من أهل مكة؛ لا يصيبه أحد بشيء.
● [3923] حدثني الحسن بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن سابق، قال: حدثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يُفْضِعُنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصمًا إلا انفجر علينا خُصْمًا ما ندري كيف نأتي له.
● [3924] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية والقمل يتناثر على وجهي، قال: «أتؤذيك هوام رأسك؟»، قلت: نعم، قال: «فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة».
قال أيوب: لا أدري بأي: هذا بدأ.
● [3925] حدثني محمد بن هشام أبو عبدالله، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، قال: وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تَسَّاقَط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتؤذيك هوام رأسك؟»، قلت: نعم، قال: وأنزلت هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196].
الشرح
قال في هذا الباب: «باب غزوة الحديبية» وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: «باب عمرة الحديبية» بدل «غزوة الحديبية»؛ لأن هذه ليست غزوة، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرًا ولم يخرج للقتال و «الحديبية» بالتخفيف والتثقيل: مكان على حدود الحرم من جهة جدة، ويسمى الآن الشميسي، وقد نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما صده المشركون عن العمرة على حدود الحرم، ويقال: إنه كان إذا جاء وقت الصلاة دخل حدود الحرم وصلى ثم رجع إلى مكانه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خيم على حدود الحرم.
● [3886] هذا الحديث حديث زيد بن خالد.
قوله: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح»، أي: في تلك الليلة جاءهم مطر، ومعنى «فصلى لنا» أي: فصلى بنا، فاللام بمعنى الباء.
وقوله: «ثم أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟» فيه: إلقاء العالم المسألة على أصحابه بطريقة الاستفهام؛ ليختبر ما عندهم، وليكون أدعى إلى انتباههم.
وقوله: «قلنا: الله ورسوله أعلم» فيه: أنه يقال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: الله ورسوله أعلم؛ لأنه ينزل عليه الوحي، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيقال: الله أعلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم أحوال أمته.
وقوله: «فقال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي» فهذا حديث قدسي من كلام الله لفظًا ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكامًا تختلف عن القرآن، فالقرآن يتعبد بتلاوته ولا يمسه إلا متوضئ وهو معجز، وأما الحديث القدسي فلا يتعبد بتلاوته ولا يتوضأ لمسه وليس معجزًا.
وقوله: «فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا وكذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي» فيه: مشروعية هذا الذكر عند نزول المطر وهو: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله، وفي لفظ: «مطرنا بفضل الله ورحمته»([16]).
وفيه: أن من قال: مطرنا بنجم كذا فهو كافر، والكفر - كما يفهم من قواعد الشريعة - كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، فمن قال: مطرنا بنجم كذا، أو بنوء كذا، معتقدًا أن للنجم تأثيرًا في إنزال المطر، فهذا كفر أكبر؛ لأنه أشرك في الربوبية، واعتقد أن النجم له أثر في نزول المطر؛ وإن اعتقد أن منزل المطر هو الله، وأن النجم سبب، وأن طلوعه ينزل به المطر عادة، فهو كفر أصغر؛ لأن الله لم يجعله سببًا؛ فالأمر دائر بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.
أما إذا أخبر عن وقت نزول المطر فقال: مطرنا في نجم كذا، وأتى بكلمة في بدل الباء فليس من هذا الباب؛ لأنه إخبار عن الظرف والوقت، كما يقول الإنسان: في وقت طلوع الوسم ينزل الله المطر، وفي باطن الوسم ينبت الله الكمأة، فهذا يقع إخبارًا عن الوقت والحال، فأتى بكلمة في بدل الباء فلا ينبغي للإنسان أن يأتي بالباء ويقول: مطرنا بنجم كذا ولو على سبيل العادة، وإنما يأتي بكلمة في.
● [3887] في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر وكلها في ذي القعدة: فعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء بعدها في السنة السابعة كانت أيضًا في ذي القعدة، وعمرته من الجعرانة في السنة الثامنة كانت أيضًا في ذي القعدة، والعمرة التي مع حجته كذلك، فكلها في ذي القعدة، ولهذا قارن ابن القيم في «زاد المعاد» بين العمرة في رمضان والعمرة في ذي القعدة وقال: إن الله لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل. فاختار أن العمرة في ذي القعدة أفضل([17])، والصواب أن العمرة في رمضان أفضل - لأن القول مقدم على الفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تقضي حجة»([18]) أما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد وقع في ذي القعدة، ولا شك أن الأشهر الحرم وأشهر الحج لها فضل، والمعلوم أن القول كاف ومقدم على الفعل.
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة للعمرة صبيحة الرابع من ذي الحجة، وهذا صحيح، ولكنه صلى الله عليه وسلم أحرم بها يوم خمس وعشرين من ذي القعدة، فقيل: يوم السبت خمس وعشرين من ذي القعدة على الصحيح، وقيل: يوم الخميس. والصواب أن الإحرام بها كان يوم السبت، وأما وصوله إلى مكة فكان في رابع ذي الحجة، والعمرة والحج متداخلان ليسا منفصلين؛ لأنه حَجَّ قارنًا صلى الله عليه وسلم.
● [3888] في هذا الحديث أن بعض الصحابة في الحديبية لم يحرم فلم يحتج إلى التحلل من العمرة؛ ولهذا اصطاد أبو قتادة حمارًا وحشيًّا وكان أصحابه محرمين، فتحرج بعضهم من الأكل من الصيد حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «هل منكم أحد أعانه أو أشار إليه أو ساعده؟» فقالوا: لا، قال: «كلوا»([19]). فدل على أن المحرم له أن يأكل مما صاده الحلال بشرط ألَّا يكون صاده لأجله وألَّا يكون أعانه أو ساعده أو أشار إليه.
● [3889] هذا الحديث حديث البراء،
وفيه: أنه قال: «تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا»، أي: ذكر البراء لمن جاء بعده أنهم يعتبرون فتح مكة هو الفتح الأعظم والنصر المبين، ولكن البراء أعلمهم بأن الفتح الأعظم كان قبل فتح مكة.
قال البراء: «ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية»؛ لأن الله أنزل فيها صدر سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)[الفتح: 1، 2]. فسمى الله صلح الحديبية فتحًا مبينًا؛ لما يعقبه من النصر؛ لأنه بهذا الصلح وضعت الحرب أوزارها عشر سنين، واختلط الكفار بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة وسمعوا القرآن، وأسلم جم غفير، فقد أسلم في سنتي سريان الهدنه أكثر من الذين أسلموا من قبل، فأسلم خالد بن الوليد وجماعة، وصار من يريد أن يأتي من المشركين إلى المدينة يأتي، ومن يريد أن يأتي من المدينة إلى مكة يأتي، فجاء عدد كبير من المشركين واختلطوا بالمسلمين وسمعوا القرآن فأسلموا، ولهذا سماه الله فتحًا، فقال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)، وهو صلح الحديبية، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أوفتح هو؟ قال: «نعم»([20]).
وكذلك سمى الله فتح مكة فتحًا فقال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1]، وسمى أيضًا فتح حصون خيبر فتحًا فقال: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) [الفتح: 18، 19].
قال البراء: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة»، يعني: ألفًا وأربعمائة، قال: «والحديبية بئر»، وقد سمي باسمها المكان.
قال: «فنزحناها فلم نترك فيها قطرة»، أي: إن هذا الجيش وهذا العدد أتى على ماء البئر فشربوه كله حتى لم يبق لهم ماء.
قال: «فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا»، يعني: لما نزل الجيش بالحديبية شربوا ماء البئر، فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها فجاش الماء فأصدرتهم وركابهم، وأسقتهم - وهم ألف وأربعمائة - وإبلهم وملؤوا كل إناء، وهذا من آيات الله العظيمة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، وهذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقًّا حيث كثَّر الله الماء على يديه وجعله آية وعلامة من علامات النبوة.
● [3890] ذكر في هذا الحديث آية من آيات الله العظيمة، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم وبسق في البئر، قال: «ثم قال: «دعوها ساعة»، فأرووا أنفسهم وركابهم» الركاب: الإبل، فجيش من ألف وأربعمائة ليس معهم ماء أرواهم وركابهم فملؤوا قربهم وأرووا إبلهم «حتى ارتحلوا».
● [3891] ذكر هذا الحديث وما فيه من المعجزات ودلائل النبوة.
قوله: «ركوة»، هي سقاء من جلد فيه شيء قليل من الماء.
وقد عطش الناس وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لكم؟» قال: «قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك»، أي: ما عندنا ماء إلا ما في هذه الركوة.
قوله: «فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة؛ فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا»، أي: الماء عيون تجري من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا من معجزاته الحسية صلى الله عليه وسلم - حتى شرب القوم وتوضؤوا.
قوله: «فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» في اللفظ الآخر -كما في الحديث الآتي - : «وكنا ألفًا وأربعمائة»، والجمع بينهما أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة وكسرًا، فمن قال: «وكنا ألفًا وأربعمائة» حذف الكسر، ومن قال: كنا ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، على عادة العرب في حذف الكسر أو جبره.
● [3892]، [3893] قوله: «أنتم خير أهل الأرض» فيه: فضل أهل بيعة الرضوان، قال الحافظ ابن حجر /: «وروى مسلم أيضًا من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة»([21])».
وأصحاب الشجرة هم أهل بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم تحت الشجرة، وهذا فيه فضل من حضر بيعة الرضوان، أي: إنهم بعد العشرة المبشرين بالجنة، فالعشرة المبشرون بالجنة ثم أهل بيعة الرضوان ثم أهل بدر، وقيل: إن أهل بدر قبلهم، فأهل بيعة الرضوان لهم فضل عظيم، قال الله فيهم: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)[الفتح: 18].
وقوله: «أنتم خير أهل الأرض»، استدل به بعض الشيعة وبعض الرافضة على تفضيل علي على عثمان، واستدل به كذلك بعضهم على أن الخضر ليس بحي.
قال الحافظ ابن حجر /: «تمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي على عثمان م لأن عليًّا رضي الله عنهكان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان رضي الله عنه حينئذ غائبًا، كما تقدم في «المناقب» من حديث ابن عمر، لكن تقدم في حديث ابن عمر المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض».
فمن تعصب الشيعة أنهم يقولون: علي أفضل من عثمان؛ لأن عليًّا بايعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وعثمان لم يبايعه، وعثمان هو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وبايع عنه، فضرب بيده اليمنى فوق اليسرى وقال: «هذه عن عثمان»([22]).
فهذا من جهل الشيعة وتعصبهم، والمراد بالشيعة الرافضة.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «واستدل به أيضًا على أن الخضر عليه السلام ليس بحي؛ لأنه لو كان حيًّا مع ثبوت كونه نبيًّا للزم تفضيل غير النبي على النبي، وهو باطل؛ فدل على أنه ليس بحي حينئذ.
وأجاب من زعم أنه حي باحتمال أن يكون حينئذ حاضرًا معهم ولم يقصد إلى تفضيل بعضهم على بعض، أو لم يكن على وجه الأرض بل كان في البحر، والثاني جواب ساقط».
يعني: كيف يكون حاضرًا معهم وهم لا يرونه أو أنه لم يكن على وجه الأرض بل على البحر؟!
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قولين كما في «مجموع الفتاوى»:
أحدهما: أن الخضر مات([23]).
القول الثاني: أنه حي لكنه في البحر، ولا ينافي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تأتي المائة ويبقى على ظهرها منها أحد»([24])، فقال: هو ليس على وجه الأرض بل هو في البحر([25]).
والأقرب أن القول الأول هو الصواب، وأن القول بأنه في البحر قد رجع عنه، ولا يمكن أن يكون الخضر نبيًّا أو رجلًا صالحًا ولا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويصدقه.
- و الجمهور على أنه رجل صالح وليس بنبي، والقول الثاني أنه نبي، وهو الصواب، وإن كان خلاف قول الجمهور.
وقول جابر: «ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة»، ذلك لأن جابرًا قد عمي لما كبر وتقدمت به السن.
قوله: «كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة» هذا القول من عبدالله بن أبي أوفى حسب علمه، وهي رواية مرجوحة، وقد سبق ما يفيد أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة وزيادة، ومن قال: كانوا ألفًا وأربعمائة حذف الزيادة ومن قال: كانوا ألفًا وخمسمائة جبر الكسر.
وأما قوله: «وكانت أسلم ثمن المهاجرين»، فلينظر عددهم، وأسلم هي قبيلة عبدالله ابن أبي أوفى.
● [3894] قوله: «سمع مرداس الأسلمي يقول وكان من أصحاب الشجرة»، أي: كان مرداس الأسلمي من أصحاب الشجرة، يعني: من أهل بيعة الرضوان، وهذا هو الشاهد من الحديث.
وفيه: أن الصالحين الأخيار يُقبضون واحدًا بعد واحد، قال: «وتبقى حفالة كحفالة التمر والشعير، لا يعبأ الله بهم شيئا»، أي: لا يبقى في آخر الزمان إلا حفالة كحفالة التمر والشعير، لا يعبأ الله بهم، وفي لفظ: «لا يبقى إلا حثالة»([26]) وهذا لا ينافي وجود الفرقة الناجية فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى»([27])، فهؤلاء هم الفرقة الناجية، يقلون ويكثرون، ففي بعض الأزمنة يقلون حتى يكثر الحفالة، وفي آخر الزمان إذا قبضت أرواح المؤمنين لا يبقى إلا الكفرة الذين يعبدون الأصنام والأوثان فعليهم تقوم الساعة، نسأل الله السلامة والعافية.
● [3895] قوله: «في بضع عشرة مائة» البضع من ثلاثة إلى عشرة، يعني: من ثلاث عشرة مائة إلى تسع عشرة مائة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنهم كانوا أربع عشرة مائة وكسرًا.
وقوله: «فلما كان بذي الحليفة»، هي ميقات أهل المدينة، وكان ذلك عام الحديبية.
وقوله: «قلد الهدي وأشعر وأحرم منها» فيه: مشروعية سوق الهدي في الحج أو في العمرة سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، فقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم الهدي معه فقلده وأشعره وأحرم من ذي الحليفة.
ويجوز سوق الأنعام ولو من الطريق، فإذا ساقها من الحل ولو من الطريق يعتبر سوقًا؛ لأنه يشترط في سوق الهدي أن يكون من خارج الحرم، أما القارن فيقرن ولو لم يسق الهدي.
قال العلماء: فإن كان في الحج فإنه يذبحها في منى، وإن كان في العمرة فإنه يذبحها على المروة.
وكان هذا عند قلة الناس ولكن الآن لا يمكن ذبحها عند المروة، ولكن يذبحونها في الأماكن المحددة والمجازر المعدة.
والتقليد سنة في الحج وفي العمرة، ومعنى التقليد: وضع قلادة في رقبة البعير أو الغنم، وقد تكون هذه القلادة من العهن أي: الصوف، وقد تكون نعالًا يربطها ويعلقها.
والإشعار خاص بالإبل، وهو شق سنام البعير حتى يخرج الدم ثم يصرفه عن يمينه وعن شماله، وهذا يكون علامة على أنه مهدى للبيت، فإذا رآه أحد عرف أنه هدية للبيت، فهذا سنة في الإبل التي يسوقها.
وفي الإبل التقليد أيضًا، فالإشعار خاص بالإبل، والتقليد يكون في الإبل والبقر والغنم.
قوله: «حتى سمعته يقول: لا أحفظ من الزهري الإشعار والتقليد، فلا أدري يعني: موضع الإشعار والتقليد أو الحديث كله»، أي: لا أدري هل قوله: «لا أحفظ من الزهري الإشعار والتقليد»، أي: أنه لم يحفظ موضع الإشعار والتقليد، أو لم يحفظ الحديث كله؟
● [3896] هذا الحديث في قصة كعب بن عجرة وحصلت له هذه القضية في الحديبية، فقد كان محرمًا وكان يؤذيه هوام رأسه.
ذكر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله تسقط على وجهه»، وفي لفظ: «حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي»([28]).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتؤذيك هوامك؟» يعني: القمل، «قال: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية» يعني: يحلق رأسه، قال: «لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة»، أي: ولم يظنوا أنهم سيمنعون فهم محرِمون، قال: «فأنزل الله عز وجل الفدية»، يعني: قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)[البقرة: 196]. قال: «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فَرَقًا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام»، أي: فسر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بأنه صيام ثلاثة أيام، وفسر الصدقة بأنها إطعام ستة مساكين، وفسر النسك بأن يهدي شاة؛ فأمر صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة أن يحلق رأسه من أجل القمل، وقوله: «أن يطعم فرَقًا»، ويقال: فرْقًا بالتسكين، والفرَق بفتح الراء: مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهو يعادل ثلاثة آصع، فيطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أي: الصاع بين اثنين، والصاع ثلاث كيلوات، فكل واحد كيلو ونصف.
وهذه تسمى عند أهل العلم فدية الأذى، وهذه الآية وهذا الحديث هما الأصل في فدية الأذى. قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)، يعني: فحلق، (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)[البقرة: 196] ، أي: فعليه فدية، وهذه الفدية فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
وإذا احتاج المحرم في حج أو عمرة إلى أن يفعل محذورًا فله أن يفعله ويخرج الفدية، فإذا كان في رأسه جرح وهو محرم ومحتاج إلى أن يداوي الجرح فله أن يحلق رأسه ويخرج الفدية فيطعم ستة مساكين أو يذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام، والإطعام أو الذبح يكون في مكة، والصيام في أي: مكان.
وقاس العلماء عليها جميع محظورات الإحرام كتغطية الرأس ولبس المخيط ومس الطيب وتقليم الأظفار وحلق الشعر، فهذه خمسة أشياء فيها فدية الأذى والحكم واحد، فإذا فعل واحدًا منها ناسيًا أو جاهلًا فلا شيء عليه، وإن فعلها عالما ذاكرًا ففيه: تفصيل:
أولًا: إن كان فعلها عالمًا ذاكرًا لحاجة فليس عليه إثم وعليه فدية، وذلك كأن يحتاج المحرم إلى أن يغطي رأسه؛ لأنه مريض، أو لأنه لا يتحمل البرد فيحتاج أن يلبس ثوبًا أو احتاج إلى أن يحلق شعر رأسه ويداوي الجروح فله أن يفعل كل هذا وعليه الفدية ولا إثم عليه.
ثانيًا: أما إذا فعل محظورًا بدون حاجة فعليه الإثم وعليه الفدية وعليه التوبة مما فعل.
أما عقد النكاح وهو الأمر السادس فليس فيه شيء، وأما الجماع قبل أن يتحلل فهو يفسد الحج، وبعد تحلله الأول يوجب شاة، وأما المباشرة فالصحيح أنها لا تفسد الحج وعليه فدية. هذه هي محظورات الإحرام.
● [3897] هذا الحديث فيه بيان عطف عمر رضي الله عنه ورحمته بالمساكين، فهذه المرأة الشابة التي مات زوجها أتته وقالت كلامًا مؤثرًا، قالت: «هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع» الضبع: يطلق على الحيوان ويطلق على السنة والجدب، فيكون مشتركًا بينهما، فيحتمل أن يكون المراد الجدب والقحط فشبهت السنة والجدب بالضبع؛ لجمع الإهلاك في الكل.
وقولها: «وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم» هذا هو الشاهد: أن أباها وهو: خفاف - بفتح الخاء - ابن إيماء - بكسر الهمزة - ابن رحضة - بفتحات - الغفاري قد شهد الحديبية.
فرحمها عمر، «ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وحمل بينهما نفقة وثيابًا»، أي: وحمل على بعير غرارتين ملأهما طعامًا، وبينهما نفقة، وقال: «اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير»، فقيل له: «يا أمير المؤمنين، أكثرت لها»، يعني: هذا كثير بالنسبة لهذه المرأة التي كانت تطمع في أقل من هذا.
قوله: «ثكلتك أمك»، يعني: فقدتك أمك، وهي كلمة تقولها العرب للإنكار ولا تريد حقيقتها، ثم قال: «والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه»، يعني: غنمنا بسبب محاصرتهم لهذا الحصن، فقسمت الغنيمة علينا، فكيف تستكثر عليها أن أعطيها هذا؟!
● [3898] قوله: «لقد رأيت الشجرة» المراد: الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيعة الرضوان تحتها.
وقوله: «ثم أتيتها بعد فلم أعرفها»، لأنه لو قال: أنسيتها لم يحتج لأن يقول: «فلم أعرفها».
● [3899] في هذا الحديث أن طارق بن عبدالرحمن انطلق حاجًّا فرأى قومًا يصلون فقال: «ما هذا المسجد؟»، أي: ما هذا المكان الذي تصلون فيه؟! يعني: أنكر عليهم أنهم يصلون في أرض ما عهد أن أحدًا صلى فيها أو اتخذها مسجدًا أو مصلى.
قال: «قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان» فأتى سعيد بن المسيب فأخبره، فقال سعيد بن المسيب نقلًا عن أبيه: إن الشجرة علمناها ثم نسيناها من العام القادم، ثم أنكر سعيد على الذين يصلون: ما أدراكم أن هذا مكان الشجرة؟ فإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسوا مكانها، فهل أنتم تعلمون مكانها؟! «فأنتم أعلم» فهذا إنكار عليهم.
● [3900] قوله: «فعميت علينا» يعني: أبهمت فلم نعرفها.
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه هو الذي قطع الشجرة، ويجمع بين هذا وبين قول ابن المسيب: نسيناها، أو «فعميت علينا» أن ابن المسيب نسيها أو خفيت عليه، فلا يلزم من كونها خفيت عليه أن تخفى على غيره فقد علمها بعض الصحابة ثم بعد ذلك قطعها عمر رضي الله عنه؛ لأنه خشي أن يشرك الناس بسببها وأن يتبركوا بها.
● [3901] قوله: «ذكرت عند سعيد بن المسيب الشجرة فضحك» المراد: الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيعة الرضوان تحتها.
● [3902] هذا الحديث في «غزوة الحديبية»، أو في صلح الحديبية، وهو حديث عبدالله بن أبي أوفى.
قوله: «وكان من أصحاب الشجرة» هذا هو الشاهد، يعني: كان من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكان هذا في صلح الحديبية.
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم بصدقة فصلى عليهم فقال: «اللهم صل عليهم»، وهذا في صدقة الفريضة؛ لأنها التي يأخذها الإمام، أما صدقة النفل فلا تدفع إلى الإمام بل يدفعها صاحبها إلى الفقير بنفسه، ولما أتاه ابن أبي أوفى بصدقته صلى عليه فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» ففيه: مشروعية الصلاة على من دفع الزكاة المفروضة بأن تقول: اللهم صل عليه. اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة تكون على النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا صُلي على غيره في بعض الأحيان فلا حرج، فإذا صُلي على بعض الصحابة في بعض الأحيان فلا حرج، وكذلك الترضي يكون على الصحابة، وإذا ترضي على غيرهم في بعض الأحيان فلا حرج.
● [3903] هذا الحديث فيه إثبات وقعة الحرة بالسند الصحيح، قال: «حدثنا إسماعيل، عن أخيه، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبدالله بن حنظلة فقال ابن زيد...» إلخ، وابن زيد هو: عبدالله بن زيد بن عاصم الصحابي، ففي الحديث أن الحرة وقعت،
وفيه: الرد على من أنكر وقوعها من المتأخرين فمنهم من يقول: إنها لم تثبت، حتى قال بعضهم: أرجو ألا تثبت وقعة الحرة؛ لأنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، ولكن كذا جرى.
ففي هذا أنه لما كان يوم الحرة بايع الناس من أهل المدينة لعبدالله بن حنظلة وهو صحابي صغير، وخلعوا الخليفة يزيد بن معاوية؛ فجهز الخليفة يزيد الجيوش وأرسلها من الشام إلى المدينة لقتالهم وإخضاعهم؛ لأنهم خلعوه فأخضعهم، وجرت فتنة عظيمة واستباحت الجيوش المدينة ثلاثة أيام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا هو السبب في كون النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج على ولاة الأمور؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب مفاسد عظيمة، ولكن يجب الصبر على جور الولاة وظلمهم؛ لأن جورهم مفسدة، لكنها مفسدة صغرى،؛ أما الخروج عليهم فمفسدة كبرى يترتب عليها إراقة الدماء، والإخلال بالأمن، وتدخل الأعداء، واختلاف أمر الناس، واختلال أمورهم في معاشهم وفي جميع الأحوال في الاقتصاد وفي السياسة وفي التعليم وفي الزراعة وفي التجارة وفي كل شيء، بل اختلال أمرهم في صلواتهم: في جمعهم وجماعاتهم إلى غير ذلك من المفاسد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية»([29]). وهذا يدل على أن الخروج على ولاة الأمور من كبائر الذنوب،
وفي الحديث: الآخر أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان»([30])، فلا يجوز الخروج إلا بهذه القيود:
الأول: أن يفعل ولي الأمر كفرًا وليس فسقًا أو معصية.
الثاني: أن هذا الكفر يكون بواحًا، أي: صريحًا لا لبس فيه ولا شبهة.
الثالث: أن يكون على هذا الكفر دليل واضح من الكتاب والسنة.
الرابع: وجود البديل المسلم الذي يحل محله.
الخامس: القدرة إذا وجدت.
فهذه خمسة شروط لجواز الخروج على ولاة الأمور، أما إذا لم يقدر الناس فلا يجوز الخروج، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وقد أنكر ابن عمر وغيره على أهل المدينة خروجهم على الخليفة، فلما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبدالله بن حنظلة قال عبدالله بن زيد بن عاصم عم عباد بن تميم: «على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟ قيل له: على الموت»، أي: على قتال الخليفة حتى الموت فقال: «لا أبايع على ذلك أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، لأنه ليس لأحد العصمة مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يكون مخطئًا في اجتهاده؛ لذا عزف عن البيعة.
وقوله: «وكان شهد معه الحديبية» هذا هو الشاهد من الحديث، وهو أن عبدالله بن زيد بن عاصم شهد معه الحديبية.
ويمكن تعداد أهل الحديبية من الأحاديث التي ذكرها المؤلف /.
● [3904] هذا حديث سلمة بن الأكوع.
قوله: «وكان من أصحاب الشجرة» هذا هو الشاهد وهو أن سلمة بن الأكوع من أهل الحديبية الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة.
وقوله: «كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه» فيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة الجمعة حين الزوال، فيصلون معه صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون إلى بيوتهم وأعمالهم وليس للحيطان ظل يستظل به، يعني: من تبكيره صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل به بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة قبل الزوال، وهذه رواية عن الإمام أحمد([31])، وقال به جماعة من العلماء، فيكون وقتها مثل وقت صلاة الضحى أي: إن وقت الجمعة يبدأ من دخول وقت الضحى عندهم.
والجمهور على أن الجمعة لا تكون إلا بعد الزوال، وقد جزم البخاري في ترجمته بأن الجمعة بعد الزوال فقال: «باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس»، وكان أبو بكر وعمر وعثمان كلهم لا يصلون إلا بعد الزوال. والأحوط للخطيب ألا يدخل إلا بعد الزوال فيجعل أذان الجمعة هو أذان الظهر العادي؛ لأن أكثر العلماء يرون أنها لا تصح قبل الزوال.
● [3905] قوله: «على أي: شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت»، أي: بايعهم على ألا يفروا حتى الموت.
● [3906] قوله: «وبايعته تحت الشجرة» هذا هو الشاهد من الحديث وهو أن البراء بن عازب ممن بايع تحت الشجرة.
وقوله: «إنك لا تدري ما أحدثنا بعده» هذا القول للبراء من باب التواضع والإزراء بالنفس وهضمها، فسعيد بن المسيب التابعي غبط الصحابي؛ لكونه صحب النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه تحت الشجرة، وهو مما يغبط به، لكن سلك الصحابي معه -في جوابه- مسلك التواضع.
● [3907] قوله: «عن أبي قلابة، أن ثابت بن الضحاك أخبره أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة» هذا هو الشاهد من الحديث وهو أن ثابت بن الضحاك من أهل الحديبية من أهل بيعة الرضوان.
● [3908] الشاهد من هذا الحديث أن صدر سورة الفتح نزل في صلح الحديبية قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1]. قال أنس: «الحديبية» يعني: أن الفتح هو صلح الحديبية؛ لأنه وقع بين المسلمين وبين المشركين، ولما وقع الصلح وضعت الحرب أوزارها؛ فاختلط المشركون بالمسلمين، وسمعوا القرآن، وأسلم جم غفير خلال سنتي سريان الصلح، وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للفتوح ففتحت خيبر، إلى غير ذلك من الأحكام؛ ولهذا سماه الله فتحًا، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أوفتح هو؟ فقال: «نعم»([32]).
وقوله: «قال أصحابه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟» أي: قال الصحابة: هنيئًا مريئًا لك يا رسول الله! هذا لك فما لنا؟ قال: «فأنزل الله عز وجل: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)» وتتمة الآية: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)[الفتح: 5].
● [3909] قوله: «وكان ممن شهد الشجرة» هذا هو الشاهد، وهو أن الصحابي زاهرًا الأسلمي ممن شهد الشجرة يوم الحديبية.
وقوله: «إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر» هذا كان في خيبر.
وقوله: «إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر» وفي اللفظ الآخر: فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا: «إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس»([33])، فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم.
وذلك أنهم أصابهم مخمصة وهم محاصرون بعض حصون خيبر فأخذوا الحمر وذبحوها فطبخوها وجعلت تفور في القدور، أي: تغلي، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها رجس لنجاستها و خبثها، وقال بعض العلماء: الحكمة في النهي عنها أنهم أخذوها من الغنيمة ولم تخمس. وقال بعضهم: لأنها حمولة الناس فخشي أن تفنى، وكل هذا مرجوح، والصواب ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم «إنها رجس»(1).
● [3910] قوله: «عن رجل منهم من أصحاب الشجرة اسمه أهبان بن أوس» هذا هو الشاهد، وهو أن أهبان بن أوس من أهل بيعة الرضوان من أصحاب الشجرة.
وقد اهتم البخاري بذكر من سمي من أهل الحديبية من أصحاب الشجرة، واهتم بالبدريين كذلك، فسرد البدريين إلى آخرهم، وأما أهل الحديبية فما سردهم، وإنما سرد الأحاديث التي فيها أسماؤهم؛ لكثرتهم وعدم ورود أحاديث تذكر أسماءهم جميعًا؛ فاكتفى البخاري بذكر من ورد منهم في الأحاديث.
وقوله: «وكان اشتكى ركبته، فكان إذا سجد جعل تحت ركبته وسادة» فيه: أنه لا بأس بوضع وسادة تحت الركبة في الصلاة عند الحاجة.
● [3911] قوله: «وكان من أصحاب الشجرة» هذا هو الشاهد، وهو أن سويد بن النعمان كان من أصحاب الشجرة.
وقوله: «أتوا بسويق فلاكوه»، يعني: أكلوه، وفي لفظ آخر: «فقاموا للصلاة ولم يتوضؤوا»([34]) فدل على عدم وجوب الوضوء مما مست النار.
● [3912] قوله: «سألت عائذًا وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحاب الشجرة»؛ وفي نسخة أخرى: «سألت عائذ بن عمرو.» وهذا هو الشاهد، وهو أن عائذ بن عمرو كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحاب الشجرة.
قوله: «هل ينقض الوتر؟ قال: إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره» ذهب بعض الصحابة وبعض العلماء إلى أنه ينقض الوتر، فإذا قام في آخر الليل صلى ركعة ينوي بها أن تشفع وتره الذي أوتره في أول الليل، ثم يصلي ثم يوتر آخر الليل، وهذا ضعيف، وليس بجيد؛ لأنه بهذه الحالة يكون قد أوتر ثلاث مرات: أوتر أول الليل، وأوتر عندما قام، وأوتر آخر الليل. والصواب أنه إذا صلى في أول الليل وأوتر ثم يسر الله له القيام في آخر الليل فإنه يصلي بدون الوتر، فيصلي ما شاء ركعتين ركعتين ويسلم من كل ركعتين، ويكتفي بالوتر الأول، ولا ينقض، وهذا قول الشافعي([35]) والمالكية([36])، كما ذهب إليه الصحابي الجليل عائذ بن عمرو. فهذه مسألة فقهية وفائدة ضمن هذا الحديث.
● [3913] هذا الحديث فيه فضل عمر رضي الله عنه وورعه وأنه من أهل بيعة الرضوان عند الحديبية؛ لأن ذلك كان عند مرجعهم منها.
ذكر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره»، وكان هذا السفر في غزوة الحديبية؛ لأن سورة الفتح نزلت بعد انقضاء الصلح.
وقد سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يجبه، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه إما لأنه كان مشغولًا بشيء، أو لأسباب تقتضي أنه لا يجيبه، أو لأنه متهيئ للوحي، أو غير ذلك من الأسباب؛ فخشي عمر رضي الله عنه أن ينزل فيه القرآن، وهذا من ورعه، وظن أنه حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله في وقت غير مناسب.
قوله: «ثكلتك أمك عمر»، هي كلمة تقولها العرب ولا تريد بها معناها، بل تريد بها الزجر.
وقوله: «نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك» النزر: هو الإلحاح، قال ذلك محدثًا نفسه بما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين»، أي: فحرك عمر بعيره وتقدم إلى الأمام خشية أن ينزل فيه قرآن بسببه أو بسبب سؤاله، قال: «فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي»، أي: فما لبث أن جاءه منادي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: ««لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1]»، وهذا كان بعد صلح الحديبية، وهذا هو الشاهد، وقد سمى الله صلح الحديبية فتحًا، وسمى كذلك فتح خيبر فتحًا، وسمى فتح مكة فتحًا، وكلها فتوح من عند الله عزوجل .
● [3914] هذه القصة كانت في صلح الحديبية، وهذا هو الشاهد منها.
قوله: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة» البضع من ثلاثة إلى تسعة، وسبق أن ذكرنا أن أهل الحديبية كانوا ألفًا و أربعمائة وكسرًا، أي: وزيادة، وأن من قال من الصحابة: كانوا ألفًا وأربعمائة حذف الكسر، ومن قال: كانوا ألفًا وخمسمائة جبر الكسر على عادة العرب في حذف الكسر وجبره.
وقوله: «فلما أتى ذا الحليفة»، هي ميقات أهل المدينة.
وقوله: «قلد الهدي» يعني: علق القلادة في عنقه، والقلادة تكون من العهن أو تكون من النعال أو غيرها.
وقوله: «وأشعره» الإشعار خاص بالإبل، وهو شق سنامها بالسكين حتى يخرج الدم ثم يسلت الدم يمينًا وشمالًا؛ ليعلم أنها مهداة للبيت.
وقوله: «وأحرم منها بعمرة»، أي: كان هذا مقصد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن قصده القتال، وكان سبب خروجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرًا هو رؤيا رآها صلى الله عليه وسلم في منامه، ورؤيا الأنبياء حق ووحي من الله عزوجل ، فكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يمتثل أمر الله عزوجل، ولكن الوقت كان وقت قتال بينه وبين أهل مكة فحدث صلح الحديبية.
وقوله: «وبعث عينًا له من خزاعة»، يعني: جاسوسًا، وكانت خزاعة في حلف مع النبي صلى الله عليه وسلم ضد قريش.
وقوله: «وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط»، مكان قرب مكة.
وقوله: «أتاه عينه»، أي: الجاسوس الذي يأتي بالأخبار، وقال: «إن قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك» فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم صحابته: «فقال: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فإن يأتونا كان الله قد قطع عينًا من المشركين»، يعني: أهلك شيئًا من ذراريهم ونسائهم، قال: «وإلا تركناهم محروبين» يعني: مسلوبي الأهل والأولاد والأموال، فأشار عليه الصديق بألَّا يفعل فقال: «يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له»، يعني: فامض لما أردت، فكان هذا هو الرأي: والمشورة، وكان هذا الرأي: من أبي بكر هو الرأي: المبارك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه عملًا بقول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]، وهذا إذا لم يكن في المسألة وحي، فإن كان وحي فلا رأي: ولا مشورة.
● [3915] هذه قصة كتابة صلح الحديبية، وذلك أن الذي تولى كتابة الصلح يوم الحديبية هو سهيل بن عمرو، فكانت مدة الصلح عشر سنين تضع الحرب أوزارها، واشترط سهيل شروطًا قاسية: «وكان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه» قال: «لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه» وفي المقابل: من جاء من المسلمين لا يرده المشركون إلى المسلمين، فيقول: من جاءكم منا مسلمًا تردوه إلينا، ومن جاء منكم إلينا لا نرده إليكم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهره فيه جور
وفيه: غضاضة ومشقة على المسلمين، حتى إن عمر رضي الله عنه لم يصبر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: ألسنا على الحق؟ قال: «بلى» قال: أليسوا هم على الباطل؟ قال: «بلى» قال: لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لماذا لم نناجزهم؟ فقال له: «إني رسول الله، ولن يضيعني»([37]). ثم لم يصبر عمر وجاء إلى أبي بكر، وقال يا أبا بكر: ألسنا على الحق؟ قال: بلى قال: أليسوا هم على الباطل؟ قال: بلى قال: لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ -ولم يكن أبو بكر حاضًرا عندما سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم- فقال مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنه رسول الله ولن يضيعه، وزاد: فاستمسك بغرزه.
وقوله: «فكره المؤمنون ذلك واتعظوا، فتكلموا فيه»؛ وفي لفظ: «وامتعظوا»؛ وفي آخر: «وامتعضوا»، يعني: شق عليهم هذا الشرط، فمن الابتلاء والامتحان أن الصحابة كانوا يرون هذه الشروط وما فيها من غضاضة وسلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وألزموا أنفسهم السمع والطاعة.
ثم بعد ذلك تبين أن هذا الصلح أمره عظيم وعاقبته حميدة حتى سماه الله فتحًا، ولم تمض إلا سنتان وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في عقر دارهم؛ لأنهم قد أخلوا بالصلح وأخلّوا بالعقد، وأعانوا على من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل، ثم بعد ذلك ندم عمر وقال: فعملت لذلك أعمالًا، يعني: لعلها تكفِّر اعتراضي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الصحابي كما في الحديث الآخر: «اتهموا الرأي».
ومن الابتلاء والامتحان أنه جاء أبو جندل بن سهيل أثناء كتابة الكتاب، فجاء مسلمًا يرسف في قيوده في الحديد، ورمى بنفسه بين المسلمين وقال: يا أيها الناس! أنقذوني، انظروا ماذا يفعل بي المشركون؟! أي: إنهم يعذبونني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هب لي هذا»، قال سهيل: لا، أول الشروط أن ترد علي هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كتبنا كتابًا الآن»([38]). قال سهيل: لا، وإلا فلا صلح. فرده النبي صلى الله عليه وسلم عليه وهو يصيح بين المسلمين: يا أيها الناس انظروا ماذا يفعل بي المشركون؟ قال: «فلما أبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل» الذي يرسف في قيوده «يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو؛ ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال»- يعني: مسلمًا- «إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً» تنفيذًا للشرط؛ ولكن صارت العاقبة حميدة، فدعا أبو جندل الله أن يجعل له مخرجًا. وتجمع هو ومن أسلم وجعلوا يقفون في طريق تجارة قريش ويقطعونها، ويؤذونهم حتى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اقبلهم.
وأما النساء فكان لهن شأن آخر قال: «وجاءت المؤمنات مهاجرات؛ فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق»، أي: جاءته وهي شابة مسلمة، والعاتق قيل: التي بلغت فاستحقت التزويج ولم تدخل في السن. وقيل: هي الشابة. وقيل: هي التي استحقت التخدير. وقيل: هي بين البالغ والعانس. قال: «فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم» حسب الشرط، لكن الله أنزل في المؤمنات آيات، ولذا قال: «حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل»، يعني: من استثنائهن من مقتضى الصلح على رد من جاء منهم مسلمًا، فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)[الممتحنة: 10]. فلم يردهن النبي صلى الله عليه وسلم.
● [3916] قوله عن عائشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ) [الممتحنة: 12] مهاجرات([39])» هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن المهاجرات المؤمنات بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة: 12]. فهذه هي البيعة، فكان الرجال يبايعهم باليد مصافحة، وأما النساء فكان يبايعهن بالكلام، ويقول: «بايعتكن بالكلام»، ولم تمس يده يد النساء، ولهذا قالت عائشة ل: والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ،إنما كان يبايعهن بالكلام عليه الصلاة والسلام([40]).
وأنزل الله في المهاجرات المؤمنات أن يرد المسلمون إلى المشركين ما أنفقوا عليهن من المهر، قال تعالى: (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)[الممتحنة: 10]. وبهذه الآية حرم الله على المشركين نكاح المؤمنات؛ ثم قال تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا) [الممتحنة: 11] ، يعني: أعطوا المشركين النفقة التي أنفقوها على النساء التي جاءت إلى المؤمنين، وإذا فات المؤمنين أحد من نسائهم إلى الكفار فإن الله أمر بأن يعطوا ما أنفقوا فيعطون من أول غنيمة.
والمؤمنة ينفسخ نكاحها من الكافر بدخولها في الإسلام إن آثرت الفسخ، يعني: إذا خرجت من العدة وهو لم يسلم بانت منه، وإن أسلم وهي في العدة فهي زوجته، كما حدث لزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فقد جلست تنتظر زوجها أبا العاص بن الربيع سنتين، فردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول،
وفيه: خلاف، ذكره في «البلوغ»([41]) فقال: فردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول([42])، وهذا هو الصواب. وقيل: بل ردها بعقد جديد([43]).
وهذا في المؤمنة الحرة، وأما المسبية فينفسخ عقدها بوقوعها في السبي، وتستبرأ بحيضة.
● [3917] هذا الحديث فيه أن عبدالله بن عمر كان كثير الحج والعمرة، فخرج معتمرًا في الفتنة التي كانت بين عبدالله بن الزبير وبين عبدالملك بن مروان مع وجود الحرب والقتال، فقال له بعض ولده: لو لم تحج هذا العام؛ نخشى أن تصد عن البيت؛ لأن الناس بينهم قتال؛ فقال: «إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم»، أي: لما صد عن البيت في الحديبية قال: «فأهل بعمرة».
وقوله: «من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أهل بعمرة عام الحديبية» هذا هو الشاهد، وهو أن ابن عمر من أهل الحديبية.
● [3918] قوله: «إن حيل بيني وبينه لفعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم»، أي: إن تمكنت أديت العمرة وإن لم أتمكن ذبحت وتحللت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فإنه ذبح هديه وحلق رأسه وتحلل، وفعل الصحابة ذلك، فهذا الذي يفعله المحصر، أي: الذي منع عن البيت، فإن لم يكن معه هدي اشترى شاة فذبحها، ثم حلق رأسه ثم تحلل.
والشاهد في هذا الحديث أن ابن عمر حضر الحديبية.
● [3919] كان ابن عمر كثير الحج والعمرة، فكان يحج كل عام، فكلمه بعض ولده عبيدالله بن عبدالله وسالم بن عبدالله فقالا له: «لو أقمت العام»، أي: ولم تحج، والمقصود العام الذي نزل فيه الحجاج، وكان يبعث فيه الجيوش إلى مكة من أجل ابن الزبير، «فإني أخاف أن لا تصل إلى البيت»، أي: تمنع، فقال ابن عمر: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه، وحلق وقصر أصحابه»، أي: حلق هو وقصر أصحابه.
وقوله: «أشهدكم أني أوجبت عمرة»، أي: أعتمر بعمرة، قال: «فإن خلي بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبين البيت صنعت كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم»، أي: ذبحت وحلقت وتحللت، قال: «فسار ساعة ثم قال: ما أرى شأنهما إلا واحدا»، أي: الحج والعمرة، «أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي»، فأدخل الحج على العمرة لبيان جواز القران.
وقوله: «فطاف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا»، أي: طاف لهما طوافًا واحدًا، وسعى لهما سعيًا واحدًا «حتى حل منهما جميعًا»، وهذا فيه: دليل على أن القارن ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»([44]).
([1]) البخاري (4141)، ومسلم (2770).
([2]) البخاري (4750).
([3]) الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023).
([4]) البخاري (3007)، ومسلم (2494).
([5]) مسلم (2770)، وعلقه البخاري (كتاب التفسير/باب: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) [النور:19]).
([6]) البخاري (3007)، ومسلم (2494).
([7]) البخاري (6104)، ومسلم (60).
([8]) أحمد (2/44).
([9]) الترمذي (3180)، وعلقه البخاري (كتاب التفسير/باب: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) [النور:19]).
([10]) البخاري (2661)، ومسلم (2770).
([11]) البخاري (6623)، ومسلم (1649).
([12]) البخاري (3133)، ومسلم (1649).
([13]) «دلائل النبوة» للبيهقي (4/125).
([14]) أحمد (3/435).
([15]) كذا كتبت في نسخة أبي ذر، والذي في المصحف: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ) [الممتحنة:12].
([16]) البخاري (846)، ومسلم (1038).
([17]) «زاد المعاد» (2/95 - 96)، وقال: «وهذا مما نستخير الله فيه، فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه».
([18]) البخاري (1863).
([19]) البخاري (1824)، ومسلم (1196).
([20]) البخاري (3182)، ومسلم (1785).
([21]) مسلم (2496).
([22]) البخاري (3698).
([23]) «مجموع الفتاوى» (27/18).
([24]) البخاري (601)، ومسلم (2537).
([25]) «مجموع الفتاوى» (4/339، 340).
([26]) ابن حبان (15/265).
([27]) البخاري (3641)، ومسلم (1037).
([28]) البخاري (1816)، ومسلم (1201).
([29]) البخاري (7054)، ومسلم (1849).
([30]) البخاري (7056)، ومسلم (1709).
([31]) انظر «كشاف القناع» (2/21).
([32]) البخاري (3182)، ومسلم (1785).
([33]) البخاري (5528)، ومسلم (1940).
([34]) البخاري (5455).
([35]) انظر «أسنى المطالب» (1/203).
([36]) انظر «شرح مختصر خليل» للخرشي (2/10).
([37]) البخاري (3182)، ومسلم (1785).
([38]) البخاري (2734).
([39]) كذا كتبت في نسخة أبي ذر، والذي في المصحف: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ).
([40]) البخاري (5288)، ومسلم (1866).
([41]) «بلوغ المرام من أدلة الأحكام» (ص216).
([42]) أبو داود (2240)، والترمذي (1143).
([43]) الترمذي (1142)، وابن ماجه (2010).
([44]) أبو داود (1790)، والترمذي (932).