شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-14)

00:00
00:00
تحميل
113

المتن

[44/55] غزوة مؤتة من أرض الشام

 ●         [3981] حدثنا أحمد، قال: حدثنا ابن وهب، عن عمرو، عن ابن أبي هلال قال: وأخبرني نافع، أن ابن عمر أخبره، أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددتُّ به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره.

 ●         [3982] حدثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثنا مغيرة بن عبدالرحمن، عن عبدالله ابن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة»، قال عبدالله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية.

 ●         [3983] حدثنا أحمد بن واقد، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابنَ رواحةَ للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفرٌ فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم».

 ●         [3984] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر ابن أبي طالب جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الْحُزْن؛ قالت عائشة: وأنا أطلع من صائر الباب - تعني: من شق الباب - فأتاه رجل فقال: أي: رسول الله، إن نساء جعفر قالت... فذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن، قالت: فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن، وذكر أنه لم يطعنه، قال: فأمر أيضا فذهب ثم أتى، فقال: والله لقد غلبننا، فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاحث في أفواههن من التراب»، قالت عائشة: فقلت: أرغم الله أنفك، فوالله ما أنت تفعل، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء.

 ●         [3985] حدثني محمد بن أبي بكر، قال: حدثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.

 ●         [3986] حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.

 ●         [3987] حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل، قال: حدثني قيس، قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دُقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية.

 ●         [3988] حدثني عمران بن ميسرة، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر، عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبدالله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا؛ تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: آنت كذاك؟

 ●         [3989] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عَبْثَر، عن حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبدالله... بهذا، فلما مات لم تبك عليه.

الشرح

هذه الترجمة في «غزوة مؤتة من أرض الشام» وكانت في السنة الثامنة من الهجرة، ويقال: مُوتة بضم الميم وسكون الواو بغير همز.

وأما الموتة التي ورد الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز.

وهذه الغزوة فيها من العجائب أمران:

الأمر الأول: أن المسلمين كانوا ثلاثة آلاف فقط، وقابلوا عدوًّا كثير العدد والعدة يبلغ مائة ألف! ([1])

الأمر الثاني: أن المسلمين انتصروا انتصارًا باهرًا ولم يقتل منهم إلا اثنا عشر رجلًا، منهم الأمراء الثلاثة الذين أمَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم: زيد وجعفر وعبدالله بن رواحة.

وهذا من آيات الله العظيمة من نصره لحزبه وأوليائه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.

 ●         [3981] قوله: «وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل» يعني: وقف على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مؤتة.

وقوله: «فعددتُّ به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره»، يعني: أن الخمسين طعنة التي عدها ابن عمر م لم تكن فيها طعنة واحدة في ظهر جعفر رضي الله عنه؛ فإن جعفرًا رضي الله عنه كان مقبلًا غير مدبر، مما دل على شجاعته، فكل هذه الطعنات من الأمام مقابل العدو ولو كان جبانًا لأصبح الطعن من الخلف في ظهره.

 ●         [3982] قوله: «أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة» فيه: جواز تعليق الإمارة بشرط.


وفيه: جواز اصطلاح المسلمين على أمير إذا قتل الأمير؛ لأن هؤلاء الثلاثة كلهم قتلوا؛ فاصطلح المسلمون فأمروا عليهم خالد بن الوليد فنصره الله وفتح الله على يده.

قال الحافظ ابن حجر /: «وفي حديث عبد الله بن جعفر المذكور: «فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر»([2]). ونحوه في مرسل عروة عند ابن إسحاق، وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبي داود من طريقه، عن رجل من بني مرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل»([3]).

فكان رضي الله عنه شجاعًا. وقوله: «عقرها»، يعني: خوفًا من أن يأخذها الأعداء فيستفيدون منها.

وجاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بزيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر»، قال: فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيدًا([4])، وفي رواية: ما كنت أن تفعل ذلك. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أميرًا على جعفر وهو مولى، إما لإزالة اعتقاد الجاهلية أو لأمر آخر.

 ●         [3983] قوله: «عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم»، يعني: قبل أن يأتي الخبر من جهة البريد؛ لأن البريد كان لا يأتي سريعًا؛ فقد يستغرق ثلاثة أيام على الفرس، لكن الوحي جاء بالخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بموتهم، وفي ذلك علم من أعلام النبوة.


وفيه: جواز الإعلان بموت الميت والإخبار به، كما نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي لما مات([5])، وأن هذا ليس من النعي المنهي عنه، فالنعي المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الطواف في القبائل، والإخبار بموت ميتهم، ويقولون: مات فلان، مات فلان، مات فلان؛ وذلك بقصد الشهرة والمباهاة، أما إخبار من حوله من الجيران والأقارب والإخوان حتى يصلوا على الميت ويدفنوه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموت الأمراء الثلاثة فهو نعي جائز.

قوله: «وعيناه تذرفان»، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر وعيناه تذرفان؛ ففيه: جواز البكاء على الميت بدمع العين بدون صوت أو نياحة أو ندب، أما الصوت والنياحة والندب فحرام.


وفيه: أن ظهور الحزن على الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابرًا راضيًا، ذلك إذا كان قلبه مطمئنًا راضيًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الناس وأرضى الناس عن الله ومع ذلك لما بلغه خبر الأمراء الثلاثة جلس على المنبر يرى فيه الحزن ويظهر على وجهه، فهذه طبيعة الإنسان وجبلته.

قوله: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» ذلك فيه: دليل على جواز التأمر في الحرب بغير تأمير؛ فإن خالدًا تأمر لما قتل الأمراء الثلاثة واصطلح الصحابة عليه.
وفيه: جواز الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3984] قولها: «يعرف فيه الحزن» فيه: دليل على أن ظهور الحزن لا ينافي الصبر ولا الرضا.

وقولها: «وأنا أطلع من صائر الباب» فيه: جواز النظر من شق الباب لمن يجوز له النظر ممن شأنه الاحتجاب.


وفيه: أن هذا الرجل جاء فقال: إن نساء جعفر يبكين عليه، «فأمره أن ينهاهن»، ثم جاء في الثانية فقال: ما انتهين، «فأمره أن ينهاهن»، ثم قال في الثالثة: «فاحث في أفواههن من التراب»، فقالت عائشة لهذا الرجل: «أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء»، يعني: أتعبت الرسول صلى الله عليه وسلم ولن تفعل ما يقوله.

 ●         [3985] قوله: «يا ابن ذي الجناحين» هما جناحان حقيقيان، والله أعلم بكيفيتهما.

وأما قول السهيلي –فيما نقله الحافظ ابن حجر /: «المراد بالجناحية صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر» فهذا تأويل خلاف الظاهر والحقيقة فلا يعول عليه.

 ●         [3986] قوله: «لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف» هذا قول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذا يدل على شجاعته رضي الله عنه، فهو سيف الله المسلول - سماه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم([6]) - وانكسار تسعة الأسياف في الحرب ممكن؛ لأن السيف يضرب في الآدميين والدروع التي عليهم والبيضة التي على الرؤوس فيدق فينكسر.

 ●         [3987] قوله: «وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية» فباقي السيوف تقطعت كلها وتكسرت.

 ●         [3988] مناسبة هذا الحديث للترجمة أن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه لم يمت في ذلك المرض، وإنما قتل يوم مؤتة أميرًا.

وهذا الحديث فيه النهي عن ندب الميت والبكاء عليه والنياحة عليه؛ ولهذا ورد أن «الميت يعذب ببكاء أهله عليه»([7]). والصواب أن هذا مستثنى من قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]. والحكمة في ذلك -والله أعلم- ليعتني الميت بالأمر وينهى من خلفه من أهله وولده عن البكاء عليه، فإذا لم ينههم ورضي بذلك أو أمر به فإنه يعذب، والله أعلم بكيفية هذا العذاب، هل هو بتوبيخه وتقريعه أو بغير ذلك؟ لذلك لما أفاق عبدالله بن رواحة رضي الله عنه من إغمائه قال لأخته لما ندبته وناحت عليه: «ما قلت شيئاً إلا قيل لي: آنت كذاك؟»، يعني: أأنت كما تقول أختك؟! توبيخًا له رضي الله عنه.

 ●         [3989] قوله: «فلما مات لم تبكِ عليه»، أي: لما قتل في مؤتة لم تبك عليه أخته، فقد استفادت من النصيحة.

المتن

[45/55] بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة

 ●         [3990] حدثني عمرو بن محمد، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، قال: أخبرنا أبو ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولَحِقْتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!»، قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

 ●         [3991] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الأكوع يقول: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة علينا أسامة.

وقال عمر بن حفص: حدثنا أبي، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: سمعت سلمة يقول: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة.

 ●         [3992] حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وغزوت مع ابن حارثة فاستعمله علينا.

 ●         [3993] حدثنا محمد بن عبدالله، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن يزيد، عن سلمة: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات: فذكر خيبر، والحديبية، ويوم حنين، ويوم القرد. وقال يزيد: ونسيت بقيتهم.

الشرح

هذه الترجمة في «بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة»، فصبح القوم وهزمهم.

 ●         [3990] قوله: «ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم»، يعني: من الكفار.

قوله: «فلما غشيناه»، يعني: وصلوا إليه، قال هذا الرجل: «لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه»، يعني: امتنع عنه، وأما أسامة فإنه لم يكف نفسه، بل طعنه برمحه حتى قتله.

قوله: «فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قلت: كان متعوذا» يعني: لم يقل كلمة التوحيد عن صدق بل قالها لأجل أن يدفع السيف عن نفسه.

قوله: «فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»، أي: شدد النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة رضي الله عنه حتى ندم أسامة رضي الله عنه عن فعله هذا، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات في مسلم: «أشققت عن قلبه؟»([8])، وفي لفظ آخر: «كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»([9]).

وقد استفاد أسامة رضي الله عنه من هذه النصيحة، فلما وقع القتال بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه كف نفسه عن القتال مع أحدهما، ولم يشارك لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

وهذا الحديث فيه وجوب الكف في الحرب عن الكافر المحارب إذا قال للمسلمين: لا إله إلا الله، ويحكم بإسلامه، ثم ينظر بعد ذلك فإن التزم فهو مسلم حقيقي، وإن عمل بما ينقضها فيحكم عليه بالردة فيقتل.

ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة رضي الله عنه دية ولا كفارة؛ لأن له شبهة، وهي: أنه اعتقد أن ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله - قالها متعوذًا لما غشيه وأهوى عليه بالسيف.

ومثله خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل بني جذيمة لما قالوا: «صبأنا صبأنا» يريدون: أسلمنا أسلمنا، فلم يتضح ذلك لخالد رضي الله عنه فقتلهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك شدد عليه ورفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»([10]). ووداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه حتى ودى إناء الكلب ودفعه؛ لأنهم قتلوا قتل خطأ، ولم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالداً رضي الله عنه؛ لأنه كان متأولًا.

 ●         [3991] هذا الحديث فيه أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرج في البعوث تسع غزوات مرة يكون الأمير أبا بكر رضي الله عنه، ومرة أسامة رضي الله عنه؛ مما دل على شجاعة سلمة رضي الله عنه.

 ●         [3992] قوله: «وغزوت مع ابن حارثة»، يعني: زيد بن حارثة أو أسامة بن زيد بن حارثة.

 ●         [3993] هذا الحديث ذكر فيه بعض الغزوات التي غزا فيها سلمة بن الأكوع رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: «خيبر والحديبية ويوم حنين ويوم القرد».

«ويوم القرد» يقال له أيضًا: يوم ذي قرد، وهو يوم أغارت فيه غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فتبعهم سلمة رضي الله عنه سائر اليوم بمفرده يرميهم بالنبل ويستخلصها، وأخذ منهم ما ألقوه.

قوله: «وقال يزيد»، يعني: ابن عبيد «ونسيت بقيتهم»، يعني: باقي غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه.

والحديث فيه فضل سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأنه حضر بعض الغزوات والسرايا، وأنه من الشجعان رضي الله عنه.

* * *

المتن

[46/55] غزوة الفتح وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة
يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم

 ●         [3994] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، قال: أخبرني الحسن بن محمد، أنه سمع عبيدالله بن أبي رافع يقول: سمعت عليًّا يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خَاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها»، قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لتُلْقِنَّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا حاطب، ما هذا؟!»، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي؛ إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش - يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فأنزل الله عز وجل السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1].

الشرح

هذه الترجمة ذكر فيها قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة فقال: «وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم» وسيذكر غزوة الفتح بعد هذا الباب في الجزء الثامن.

 ●         [3994] هذا الحديث فيه ذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كتب كتابًا لقريش يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على غزوهم.

قال الحافظ ابن حجر /: «وذكر بعض أهل المغازي -وهو في «تفسير يحيى بن سلام»: أن لفظ الكتاب: أما بعد، يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام».

لكن هذا فيه نظر وقوله: «والسلام»؛ هذا ذكره أهل المغازي، والصواب أنه لا يسلم على الكفار.

فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي أن حاطبًا كتب كتابًا وأعطاه لامرأة توصله، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير والمقداد.

وقوله: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ» خاخ: اسم مكان.

وقوله: «فإن بها ظعينة» الظعينة: هي المرأة التي على البعير.

وقوله: «فانطلقنا تعادى بنا خيلنا» فهم فرسان شباب أقوياء.

وقوله: «حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة»، أي: بالمرأة.

وقوله: «قلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي كتاب»، أي: فأنكرت، «فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقن الثياب»، وفي لفظ آخر: «والله ما كذبنا ولا كذبنا»([11])، أي: ما كذبنا عليك ولا كذب علينا النبي صلى الله عليه وسلم فإما تخرجن الكتاب وإلا لنجردنك من الثياب؛ فلما رأت الجد وأنه لابد من أن تفتش، استجابت، «فأخرجته من عقاصها»، يعني: من شعرها.

قوله: «لا تعجل علي؛ إني كنت امرءا ملصقاً في قريش»، يعني: كنت حليفًا لهم، وليست لي قبيلة تدافع عن قرابتي وأهلي بمكة، فأردت أن أتخذ هذا يدًا حتى يحمي الله بها قرابتي؛ ولهذا قال: «ولم أكن من أنفسها»، يعني: لست قرشيًّا من قريش نفسها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقكم»، يعني: صدَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم، «فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق» فيه: دليل على أن من رمى إنسانًا بالنفاق غيرة لله عزوجل لا للهوى، ولا الشهوة، لا يلام، ولا يدخل في حديث: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»([12])؛ لأن هذا الوعيد إنما هو لمن رمى إنسانًا بالكفر أو بالنفاق من باب الهوى والتشهي.

ومثال ذلك: ما قاله أسيد بن حضير لسعد بن عبادة في قصة الإفك: «إنك منافق تجادل عن المنافقين»([13])، فهذا معذور ومتأول في هذه الحالة.

قوله: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فأنزل الله عز وجل السورة» يعني: سورة الممتحنة، وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[الممتحنة: 1].

فما فعله حاطب هو من موالاة الكفار؛ ولهذا أنزل الله عز وجل فيه أول سورة الممتحنة، فقد أخطأ حاطب رضي الله عنه وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فلا يجوز إخبار الكفار بأسرار المسلمين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد صدق فيما قاله وعذره؛ لكونه شهد بدرًا.


وفيه: دليل على أن الرجل العظيم قد يخطئ الخطأ العظيم، وأن الصحابة ليسوا معصومين من الكبائر وإنما العصمة للأنبياء، فالأنبياء هم المعصومون عن الشرك، وعن الكبائر، وعن الخطأ فيما يبلغون عن الله عز وجل.

أما الصحابة فليسوا معصومين؛ ولهذا وقع حاطب رضي الله عنه في كبيرة، ووقع حسان بن ثابت رضي الله عنه، ومسطح بن أثاثة رضي الله عنه، وحمنة بنت جحش ل في الإفك، وهي كبيرة من كبائر الذنوب وجلدهم النبي صلى الله عليه وسلم الحد.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ليس هذا إذنًا في المعاصي، بل المعنى: أنهم مسددون وموفقون وأنهم إذا صدرت منهم الذنوب يوفقون لما يمحوها، إما من توبة، أو حسنات، أو مصائب، أو تغفر لهم بسابقتهم وجهادهم، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أولى بها من غيرهم.

والصواب: أن الجاسوس يقتل.

وذكر ابن القيم في «زاد المعاد»([14]) أن ظاهر الأدلة أن الجاسوس يكفر، وهذا يحتاج إلى تأمل.

وكان المانع من قتل حاطب أمرين:

الأول: التأويل الذي ذكره، وأنه قد صدق فيما قال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه شهد بدرًا.

أما من تجسس بعده فإنه لا يكون له هذان الأمران، فيجب قتله في أحد أصح قولي العلماء، وقال بعض العلماء: لا يقتل.

والذي دل على أن فعل حاطب رضي الله عنه ليس كفرًا أن الله عز وجل ناداه باسم الإيمان، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ)[الممتحنة: 1]. فما فعله حاطب رضي الله عنه من موالاة الكفار، وهي معصية كبيرة.

أما تولي الكفار، بمعنى محبتهم ونصرتهم ومساعدتهم، فهذا كفر نسأل الله السلامة والعافية منه - فالموالاة غير التولي - فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)[المائدة: 51].

* * *


 

 

المتن

[47/55] غزوة الفتح في رمضان

● [3995] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلمغزا غزوة الفتح في رمضان.

قال: وسمعت ابن المسيب يقول مثل ذلك.

● [3996] وعن عبيدالله بن عبدالله، أخبره أن ابن عباس قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر.

 ●         [3997] حدثني محمود، قال: أخبرنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف؛ وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار مَن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد - وهو ماء بين عسفان وقديد - أفطر وأفطروا.

قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر.

 ●         [3998] حدثنا عياش بن الوليد، قال: حدثنا عبدالأعلى، قال: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حُنيْنٍ والناس مختلفون؛ فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء، فوضعه على راحته - أو راحلته - ثم نظر الناس فقال المفطرون للصُّوَّم: أفطروا.

وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح.

وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [3999] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، قال: وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر.

الشرح

قوله: «غزوة الفتح في رمضان» هكذا جزم المؤلف أنها كانت في رمضان، وهذا بالاتفاق، وكذلك غزوة بدر كانت في رمضان، وكذلك أشهر غزوات المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت في رمضان، فرمضان شهر الانتصارات.

وذكر المؤلف حديث ابن عباس م من طرق متعددة:

 ●         [3995] هذه الطريق الأولى الحديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان»، أي: في السنة الثامنة من الهجرة.

قوله: «قال: وسمعت ابن المسيب يقول مثل ذلك» قائل هذا هو الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور.

 ●         [3996] قوله: «وعن عبيدالله بن عبدالله» هذا أيضاً موصول بالإسناد المذكور.

وقوله: «حتى إذا بلغ الكديد» فسر الكديد بأنه: «الماء الذي بين قديد وعسفان».

قوله: «أفطر، فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر» وكذلك أيضا لم يزل يقصر الصلاة حتى انسلخ الشهر فظل تسعة عشر يوما يقصر الصلاة ويفطر في رمضان.

 ●         [3997] هذه الطريق الثانية لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف»، أي: متجها إلى مكة لفتحها.

قوله: «وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة» هذا وهم، والصواب سبع سنين ونصف كما نبه عليه الشارح /؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هذه الغزوة في السنة الثامنة من الهجرة.

قوله: «قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر» يعني: الآخر من أمره أنه أفطر صلى الله عليه وسلم في السفر، فدل على مشروعية الفطر في السفر.

 ●         [3998] هذه الطريق الثالثة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين والناس مختلفون» واستشكل قوله: «إلى حنين»، فقال بعضهم: لعلها وهم والصواب: خرج إلى مكة في رمضان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا حنينا بعد فتح مكة في شوال وليس في رمضان.

وقال بعضهم: «إلى حنين»، يعني: التي وقعت بعد الفتح.

وقال بعضهم: إنه يجوز أنه يكون خرج إلى حنين في بقية رمضان وهذا بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في رمضان وبقي في مكة بقية رمضان يقصر الصلاة ولم يخرج إلى حنين إلا بعد رمضان فهو إما أن يقال: إنه وهم، أو يقال: إلى حنين يعني: التي وقعت عقب الفتح.

 ●         [3999] هذه الطريق الرابعة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة» وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفطر ليتقووا على العدو فقال: «إنكم مصبحو عدوكم والفطر أعون لكم فأفطروا»، فكانت رخصة، ثم نزل منزلا آخر فأمرهم أن يفطروا أيضا،ً قال: «فأفطروا إنكم مصبحو عدوكم»([15])، ثم بلغه أن أناساً صاموا بعد ذلك، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة أولئك العصاة»([16])، فدل على وجوب الفطر في جهاد العدو ليتقووا على ملاقاته فهو أعون لهم.

وأما من سافر في غير الجهاد فهو مخير بين الفطر وبين الصيام كما قال ابن عباس: «فمن شاء صام، ومن شاء أفطر».

وللمسافر أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون مسافرًا للجهاد فيجب عليه الفطر؛ لأن صومه يضعفه عن الجهاد، والفطر أقوى له وأعون على العدو فيجب عليه الإفطار، وإذا صام فهو آثم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة أولئك العصاة أولئك العصاة».

الحالة الثانية: أن يكون السفر لغير الجهاد ولكن يكون معه مشقة كأن يكون الوقت حارا، ففي هذه الحالة يستحب له الفطر، ويكره في حقه الصيام لما ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى رجلاً قد ظلل عليه، يعني: سقط من شدة الحر، فقال: من هذا؟ فقالوا: رجل صائم فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصيام في السفر»([17]).

الحالة الثالثة: أن يكون السفر لغير الجهاد والصوم غير شاق عليه، ففي هذه الحالة يخير بين الصيام وبين الفطر، فله أن يصوم وله أن يفطر لحديث ابن عباس: «فمن شاء صام، ومن شاء أفطر»، ولما ثبت أنه في كثير من أسفار النبي صلى الله عليه وسلم كان من الصحابة الصائم والمفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا يعيب المفطر على الصائم([18]).

واختلف العلماء في أيهما أفضل؟ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الصوم أفضل؛ لأنه أسرع في براءة الذمة، ولأنه في رمضان أعون له إذا صام مع الناس، ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض الأحاديث: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وإن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة([19]).

القول الثاني: أن الفطر أفضل؛ لأن فيه قبولًا للرخصة،
وفي الحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»([20]).

القول الثالث: أن الفطر والصيام على حد سواء.

وقالت طائفة من أهل العلم: إن الصيام لا يصح، وهذا قول ضعيف مرجوح.

أما إذا سافر في أثناء اليوم في رمضان فقال بعض العلماء: لا يجوز له أن يفطر وإنما يتم ذلك اليوم.

والصواب أنه يجوز له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في أثناء اليوم([21]).

وكذلك يجوز له أن يفطر إذا سافر في أثناء رمضان خلافاً لبعض العلماء القائلين بأنه لا يجوز له أن يفطر إلا إذا أدركه رمضان في السفر.

وقول الزهري: «وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر»، ظاهره أنه يرى أن الفطر أفضل؛ لأنه هو الآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

المتن

[48/55] أين رَكَزَ النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح

 ●         [4000] حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا - خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم ابن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: «احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين»، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال يا عباس: من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هُدَيْم فقال مثل ذلك، ثم مرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال: سعد بن عبادة: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار! ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: «ما قال؟» قال: كذا وكذا، فقال: كذب سعد؛ ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون.

 ●         [4001] قال عروة: فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبدالله، هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاء، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كُدًا فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلين: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.

 ●         [4002] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، قال: سمعت عبدالله بن مغفل يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع.

 ●         [4003] حدثنا سليمان بن عبدالرحمن، قال: حدثنا سعدان بن يحيى، قال: حدثني محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين ننزل غدًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «و هل ترك لنا عَقِيلٌ من منزل؟»، ثم قال: «لا يرث الكافر المؤمن، ولا يرث المؤمن الكافر».

قيل للزهري: من ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب.

قال معمر، عن الزهري: «أين ننزل غدا؟» في حجته.

ولم يقل يونس: حجته، ولا: زمن الفتح.

 ●         [4004] حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منزلنا إن شاء الله - إذا فتح الله - الخيف، حيث تقاسموا على الكفر».

 ●         [4005] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين أراد حُنَيْنَ: «منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر».

 ●         [4006] حدثنا يحيى بن قزَعة، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتله».

قال مالك: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما نرى والله أعلم - يومئذ محرمًا.

 ●         [4007] حدثنا صدقة بن الفضل، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبدالله قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) [الإسراء: 81]، (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 49]».

 ●         [4008] حدثني إسحاق، قال: حدثنا عبدالصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت
وفيه: الآلهة، فأمر بها فأُخرجت، وأُخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام، فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قط»، ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل فيه.

تابعه معمر، عن أيوب، وقال وهيب: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح

 ●         [4000] ذكر قصة مجيء جيش النبي صلى الله عليه وسلم وغزوه مكة وأنه بغتهم في بلدهم؛ لأنهم نقضوا العهد.

وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يبغتهم في مكة، وجعل له عيونا يمنعون وصول الخبر إلى قريش([22]).

وبلغ قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، ولكنهم لم يبلغهم الخبر بلوغاً واضحاً، لذلك «خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقة يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» وهم لا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم عندهم وقريب منهم، فبغتهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: «فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران» وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل وكانوا في الليل «فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة»، يعني: كأنها نيران أهل الموسم في الحج.

قوله: «فقال أبو سفيان: ما هذه؟»، يقول ذلك لحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء «لكأنها نيران عرفة، فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو»، أي: هذه نيران بني عمرو، «فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك» وكان في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حرس «فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم»، يعني: أخذوا أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء.

قوله: «فأتوا بهم رسول الله ،صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان» وفي بعض الروايات: «أنهم أسلموا جميعًا ورجع صاحباه» وفي بعضها: «أن العباس أخذ أبا سفيان» وفيها أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال له: «أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: وتشهد أن محمداً رسول الله»، قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه ففي النفس منها شيء، قال العباس: ويحك، أسلم قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق وأسلم([23]).

قوله: «عند حطم الخيل»، أي: مرورها وازدحامها، وفي رواية: «عند خطم الجبل»([24]) بالخاء المعجمة أي: أنف الجبل.

قوله: «حتى ينظر إلى المسلمين»، يعني: ينظر إلى الكتائب حتى يتقوى إيمانه؛ لأنه حديث الإسلام فلا يزال فيه بقية جاهلية.

قوله: «فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ تمر كتيبة كتيبة» الكتيبة: قطعة من الجيش. فكان أبو سفيان كلما مرت كتيبة سأل العباس فيخبره «فمرت كتيبة فقال يا عباس: من هذه؟ قال: هذه غفار قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هديم فقال مثل ذلك، ثم مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها» يعني: كتيبة عظيمة.

قوله: «اليوم يوم الملحمة»، يعني: اليوم يوم المقتلة العظمى «اليوم تستحل الكعبة» عند ذلك تأثر أبو سفيان فقال: «يا عباس، حبذا يوم الذمار»، يعني: يوم الهلاك.

قوله: «كذا وكذا»، يقصد قول سعد بن عبادة رضي الله عنه : «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة».

قوله: «كذب سعد»، أي: أخطأ، ففيه: إطلاق الكذب على الإخبار بغير ما سيقع ولو كان القائل بناه على غلبة الظن منه، كما في الحديث: «صدق الله وكذب بطن أخيك»([25])، يعني: أخطأ.

قوله: «قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون»، أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تؤخذ الراية من سعد وتعطى لابنه عقوبة وتأديبًا له لما قاله، وهذا هو شاهد الترجمة.

 ●         [4001] جاء في هذا الحديث قوله: «وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة» وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ودخل من أعلاها وخرج من أسفلها»([26]). ولعله حصل انقلاب على الراوي، فدخل خالد من أسفل مكة، من كدًا بالضم والقصر، وأما كداء، فبالفتح والمد، وهناك مكان آخر يقال له: كدي، بالضم والتصغير.

ولهذا قال العلماء: يستحب لمن قدم مكة في الحج والعمرة أن يدخل من كداء وأن يخرج من كدى؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.


وفي الحديث: دليل على أن مكة فتحت عنوة، وهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم، ولهذا جاء عن خالد بن الوليد: أوبشت قريش أوباشاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت أحداً فاحصدهم حصداً حتى تلقاني على الصفا»([27]). وذهب الإمام الشافعي([28]) إلى أنها فتحت صلحاً. ومن العلماء من قال: إن الأمر موهم، قال الحافظ ابن حجر /: «وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة»، وهذا هو قول الجمهور وهو الصواب.

القول الثاني في المسألة : أنها فتحت صلى وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد قال الحافظ : « لما وقع هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها»، فهذه حجة الإمام الشافعي([29]) أنها فتحت صلحا، لما وقع أن الرسول أمنهم وقال لهم: «من أغلق بابه فهو آمن»([30]). ولأن الدور أضيفت إلى أهلها، ولأنها لم تقسم بين الغانمين ولأن الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لو كانت فتحت عنوة لجاز إخلاء الدور من أهلها؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين ولا تؤجر ولا تباع.

قال الحافظ ابن حجر /: «وحجة الأولين ما وقع من التصريح من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد رضي الله عنه وبتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أحلت ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها ويترك لهم دورهم وغنائمهم».

يعني: لا يلزم من كونها فتحت عنوة أن تقسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهلها وترك لهم دورهم وغنائمهم.

قال الحافظ ابن حجر /: «لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها بل الخلاف ثابت عن الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان م مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعى اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والباد. وأما قول النووي: احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه: نظر».

والإمام النووي شافعي المذهب، وكذلك الحافظ شافعي المذهب، لكن النووي عنده تعصب للمذهب، وكثيرًا ما يستدل للشافعي، أما الحافظ فأقل تعصباً منه، فقول النووي: «احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة» فيه: نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء لفتح مكة فكيف يصالحهم؟!

قال الحافظ ابن حجر /: «لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»([31])، كما تقدم، وكذا: «من دخل المسجد»([32]) كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال. والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشاً لم تلتزم ذلك؛ لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم «أن قريشاً وبشت أوباشاً لها وأتباعاً فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطيناه الذي سئلنا»([33])،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون أوباش قريش» ثم قال بإحدى يديه على الأخرى، أي: احصدوهم حصدا «حتى توافوني بالصفا» قال: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحداً إلا قتلناه([34])، وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به فهذا لم ينقل ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول
وفيه: ما ذكرته».

فالحافظ يرد على النووي فيما احتج به للشافعي([35]) بأنها فتحت صلحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران.

القول الثالث في المسألة: أن الأمر مبهم، يحتمل أن يكون صلحاً ويحتمل أن يكون عنوة.

قال الحافظ ابن حجر /: « وتمسك أيضًا من قال: إنه مبهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح

فقال العباس: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة» .الحطابة: الذين يحتطبون.

قال الحافظ ابن حجر /: «ثم قال في القصة بعد قصة أبي سفيان: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»(2). فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وعند موسى بن عقبة في المغازي وهي أصح ما صنف في ذلك عند الجماعة ما نصه: أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله كنت حقيقاً أن تجعل عدتك وكيدك بهوازن فإنهم أبعد رحماً وأشد عداوة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما إني لأرجو أن يجمعهما الله لي فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم» فقال أبو سفيان وحكيم: فادع الناس بالأمان. أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم؟ قال: «من كف يده وأغلق داره فهو آمن» قالوا: فابعثنا نؤذن بذلك فيهم، قال: «انطلقوا فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن» ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله قال: «أفعل» فذكر القصة([36]). وفي ذلك تصريح بعموم التأمين فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة، ولم يكن فتحها عنوة والأمان كالصلح. وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان، وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة.

ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين علق بشرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال لما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور، لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد وهو مما يؤيد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة وهو عند أبي داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا)).

القول الرابع في المسألة: أن بعضها فتحت عنوة وبعضها فتحت صلحا.

قال الحافظ ابن حجر /: « وجنحت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة وقرر ذلك الحاكم في الإكليل والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان. ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحاً.

أما أولا: فلأن الإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها.

وأما ثانيا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال فتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض عموما لهم كما قال الله تعالى: (ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) الآية [المائدة: 21]. وقال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) الآية [الأعراف: 137]. والمسألة مشهورة فلا نطيل فيها هنا. وقد تقدم كثير من مباحث دور مكة في «باب توريث دور مكة» من «كتاب الحج»».

وأشكلت هذه المسألة على كثير من العلماء، وممن أشكل عليهم فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين /. فلما سئل هل يجوز بيع دور مكة؟

قال: «المسألة مشكلة علي وأنا أذكر لكم الخلاف والأقوال فيها»، ثم ذكر ما فيها من أقوال ثم قال: « ما ظهر لي - يعني: الأمر - ومن كان عنده أموال فلا ينبغي له أن يشتري عقارات في مكة وإنما يشتريها في غير مكة؛ لأن الأمر فيه شبهة».

والصواب أنها فتحت عنوة وليس في الأمر إشكال؛ لأن الإمام مخير بين قسمتها وبين وقفها ولأن مكة لها خصوصية خاصة وهي أن الله تعالى جعلها دار النسك ومتعبد الخلق وحرمًا آمنًا سواء العاكف فيه والباد.

    [4002] قوله: «وهو يقرأ سورة الفتح يرجع» قال العلماء: الترجيع هو ترديد القارئ الحرف في الحلق، ومثل بعض العلماء بأن تقول: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح: 1].

قوله: «لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع» هو قول معاوية بن قرة، والمعنى: لرجعت كما رجع عبدالله بن مغفل عندما كان يحكي ترجيع النبي صلى الله عليه وسلم للآية: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

وقال سماحة شيخنا الترجيع هو: التكرار بخشوع وتدبر ولم أر أحداً قال هذا فقد ذكر الشراح أن الترجيع: ترديد الحرف في الحلق وكأن المقصود منه التخشع والتدبر.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يردد آية حتى الصباح([37])، وهي قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) [المائدة: 118].

    [4003] في هذا الحديث - حديث أسامة بن زيد - أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له زمن الفتح: «يا رسول الله، أين ننزل غدًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عقيل من منزل؟» أي: لم يترك عقيل لنا شيئًا.


وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الكفار على ما بأيديهم من الأموال والعقارات ولم يرد على المسلمين يوم فتح مكة أموالهم ولا دورهم ورباعهم؛ وذلك أن أبا طالب كان قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان شقيقه فلما مات أبو طالب ورثه عقيل وطالب؛ لأنهما كافران ولم يرثه علي؛ لأنه مسلم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث الكافر المؤمن، ولا يرث المؤمن الكافر».

قوله: «قيل للزهري: من ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب»؛ ذلك لأنهما كافران ثم أسلم عقيل بعد ذلك ومات طالب على دين قومه قبل بدر.

قال الحافظ ابن حجر /: «وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبد المطلب فلما مات أبو طالب ووقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب، ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل، فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل، فأشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ذلك، وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلاً على ما يخصه هو فقيل: ترك له ذلك تفضلاً عليه، وقيل: استمالة له وتأليفا، وقيل: تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم».

والأقرب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما كانوا عليه؛ تصحيحًا لتملك أهل الجاهلية وتصرفاتهم، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على ممتلكاتهم وأنكحتهم، فلما أسلموا لم يفسخ لهم عقد ملكية أو عقد زواج، وحتى لم يجدد لهم العقد فأقرهم على ما كانوا عليه.

ثم قال /: «وفي قوله: «وهل ترك لنا عقيل من دار»، إشارة إلى أنه لو تركها بغير بيع لنزل فيها
وفيه: تعقب على الخطابي حيث قال: إنما لم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ لأنها دور هجروها في الله تعالى بالهجرة، فلم يرد أن يرجع في شيء تركه لله تعالى، وفي كلامه نظر لا يخفى، والأظهر ما قدمته وأن الذي يختص بالترك إنما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها كما تقدم تقريره في أبواب الهجرة لا مجرد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدة المأذون له فيها، وهي أيام النسك وثلاثة أيام بعده، والله أعلم».

    [4004] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف» الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء، يعني: الوادي؛ ومعنى الكلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن ينزل بالخيف.

قوله: «حيث تقاسموا على الكفر»، يعني: المكان الذي تقاسمت فيه قريش وتحالفت وتعاقدت على أن يحاصروا بني هاشم ولا يبايعونهم ولا يآكلونهم ولا يشاربونهم ولا يناكحونهم حتى يسلِّموا النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فحصرت بنو هاشم ودخل معهم بنو عبد المطلب في الشعب مؤمنهم وكافرهم ثلاث سنين حتى أصابتهم شدة في هذا الوادي، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الوادي الذي أقاموا فيه شعائر الكفر نريد أن ننزل فيه ونظهر فيه شعائر الإسلام.

    [4005] عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين أراد حنين» لعل ذكر حنين وهم من بعض الرواة؛ والصواب: حين أراد فتح مكة.

قوله: «منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» تقاسموا يعني: تحالفوا، ويقصد المكان الذي تقاسمت قريش وتحالفت فيه على الكفر وعلى القطيعة حيث حصروا بني هاشم حصاراً اقتصادياً حتى يسلموا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا المكان الذي تقاسموا فيه وأظهروا فيه شعائر الكفر سننزل فيه غداً إن شاء الله لنظهر فيه شعائر الإسلام.

 

([1])انظر: ابن هشام (4/ 26 - 30 )، ابن سعد (2/ 128 – 129)؛ الواقدي (2/ 756- 761)

([2]) أحمد (1/204).

([3]) أبو داود (2573).

([4]) أحمد (5/299).

([5]) أحمد (2/280)، والبخاري (1245)، ومسلم (951).

([6]) أحمد (1/8)، والبخاري (3757).

([7]) أحمد (1/36)، والبخاري (1288)، ومسلم (927).

([8]) مسلم (96).

([9]) مسلم (97).

([10]) أحمد (2/150)، البخاري (4339).

([11]) «المعجم الأوسط» (6/343).

([12]) أحمد (2/18)، والبخاري (6104)، ومسلم (60).

([13]) أحمد (6/194)، والبخاري (2661)، ومسلم (2770).

([14]) انظر «زاد المعاد» (3/114، 115).

([15]) أحمد (3/35)، ومسلم (1120).

([16]) مسلم (1114).

([17]) أحمد (3/319)، والبخاري (1946)، ومسلم (1115).

([18]) أحمد (3/24)، والبخاري (1947)، ومسلم (1118).

([19]) أحمد (5/194)، والبخاري (1945)، ومسلم (1122).

([20]) أحمد (2/108).

([21]) أحمد (1/334)، والبخاري (1944)، ومسلم (1113).

([22]) «السنن الكبرى» للبيهقي (9/233).

([23]) «المعجم الكبير» (8/9 - 12)، و«سيرة ابن هشام» (5/58 - 60).

([24]) الطبراني في «الكبير» (8/9)، والبيهقي في «الكبرى» (9/119).

([25]) أحمد (3/19)، والبخاري (5684)، ومسلم (2217).

([26]) أحمد (6/40)، والبخاري (1577)، ومسلم (1258).

([27]) «فتح الباري» (8/12)، و«تفسير القرطبي» (2/352).

([28]) انظر «مغني المحتاج» (6/50).

([29]) انظر «مغني المحتاج» (6/51).

([30]) أحمد (2/538)، ومسلم (1780).

([31]) أحمد (2/538)، ومسلم (1780).

([32]) أبو داود (3022).

([33]) مسلم (1780).

([34]) أحمد (2/538)، ومسلم (1780).

([35]) انظر «مغني المحتاج» (6/50، 51).

([36]) البيهقي في «دلائل النبوة» (5/39).

([37]) أحمد (5/149)، والنسائي (1010)، وابن ماجه (1350).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد