● [4028]، [4029] الشاهد من الحديثين للترجمة أنه كان يوم الفتح، وجاء فيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح»، وفي اللفظ الآخر: «يوم افتتح مكة»([1]).
قوله: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» يعني: أن الله هو المحرم وجاء في الحديث الآخر: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»([2]) يعني: أن الله عز وجل هو المحرم والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر تحريم المدينة، وكذلك إبراهيم عليه السلام أظهر تحريم مكة، وهكذا نجمع بين الأحاديث.
وقوله: «فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة» فقطع الشجر وتنفير الصيد وقتله وأخذ اللقطة في مكة حرام بخلاف البلدان الأخرى فإنه حلال.
وقوله: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تَحْلَلْ لي قط إلا ساعة من الدهر»، يعني: أبيح القتال للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ساعة من الدهر، وفي اللفظ الآخر: «ساعة من النهار»([3]). وجاء بيان هذه الساعة أنها من الضحى إلى العصر، والمراد بالساعة جزء من الزمن يطول أو يقصر كما جاء في الحديث: «من راح في الساعة الأولى - يعني: يوم الجمعة - فكأنما قرب بدنة...»([4]) الحديث، وجعلها خمس ساعات طويلة ثم يدخل الإمام في الساعة السادسة، وتطول هذه الساعات في الصيف وتقصر في الشتاء.
وقوله: «لا ينفر صيدها» هذا مما حرمه الله في مكة، قال بعض السلف: معناه: لا تنفر الصيد من الظل وتجلس مكانه. وإذا كان تنفير الصيد حرام، فقتله حرام من باب أولى.
وقوله: «ولا يعضد شوكها»، يعني: لا يقطع الشوك.
وقوله: «ولا يختلى خلاها»، يعني: لا يحش الحشيش الأخضر، أما اليابس فلا بأس بحشه، وكذلك يختلى الشوك المؤذي، وكذلك ما استنبته الآدميون وما يزرعونه وما يبذرونه فلا بأس بقطعه، لكن الحشيش الذي ينبت في المطر والشجر بغير فعل الإنسان فلا يقطع.
وإذا كان الشجر يأمن والطير يأمن وله حرمة، فحرمة الآدمي أعظم عند الله من باب أولى، فلا يجوز إيذاء المؤمنين بترويعهم أو سرقتهم أو حبسهم أو ضربهم أو قتلهم بغير حق.
وكان أهل الجاهلية يحترمون الحرم وهم على شركهم فكان الواحد منهم إذا دخل مكة ولقي قاتل أبيه لا يعرض له بشيء حتى يخرج من الحرم فإذا خرج من الحرم قتله، ولما أراد المشركون قتل خبيب أخرجوه من الحرم ثم قتلوه تعظيما للحرم.
وقوله: «ولا تحل لقطتها إلا لمنشد»، يعني: اللقطة الضائعة لا تحل في مكة إلا لمعرف يعرفها مدى الدهر وإلا فلا يأخذها.
وقوله: «إلا الإذخر يا رسول الله»، يعني: استثن لنا الإذخر؛ فإننا نحتاجه. والإذخر نبت ضعيف يجعل مكان الخلل في الخشب وفي السقف.
قوله: «فإنه لابد منه للقين والبيوت» القين هو الحداد؛ فالإذخر وقود الحدادين فهو يشعل فيه النار لإحماء الذهب أو الحديد، وكذلك البيوت حين تسقف بالخشب تحتاج ما يسد به الخلل بين الخشب، وفي اللفظ الآخر: «فإنه لقينهم ولبيوتهم»([5]) وفي بناء القبور، يجعل أيضا بين اللبنات؛ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءه الوحي باستثنائه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر، فإنه حلال».
* * *
المتن
[54/55] قول الله عز وجل: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)
إلى قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 25-27]
● [4030] حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل، رأيت بيد ابن أبي أوفى ضربة، قال: ضربتها مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قلت: شهدت حنينًا؟ قال: قبل ذلك.
● [4031] حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء وجاءه رجل فقال: يا أبا عمارة، أتوليت يوم حنين؟ قال: أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول، ولكن عجل سرَعان القوم، فرشقتهم هوازن، وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء يقول: «أنا النبي لا كذبْ، أنا ابن عبد المطلب».
● [4032] حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قيل للبراء وأنا أسمع: أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال: أما النبي فلا، كانوا رماة، فقال: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب».
● [4033] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكِن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كان هوازنُ رماةً وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: «أنا النبي لا كذب».
قال إسرائيل وزهير: نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته.
● [4034] حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، ح. وحدثني إسحاق، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب، قال: محمد بن شهاب، وزعم عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما المال، وإما السبي، وقد كنت استأنيت بكم»، وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل»، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا، هذا الذي بلغني عن سبي هوازن.
● [4035] حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، أن عمر قال، يا رسول الله، ح. وحدثني محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكافٍ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه.
وقال بعضهم: حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
● [4036] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بسيف فقطعت الدرع، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال أمرُ الله، ثم رجعوا فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت فقال: «ما لك يا أبا قتادة؟»، فأخبرته، فقال رجل: صدق، وسلبه عندي فأرضه مني، فقال أبو بكر: لاهاءَ الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق، فأعطه»، فأعطانيه، فابتعت به مخرَفاً في بني سلمة، وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
وقال الليث، حدثني يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، أن أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني وأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، ثم ترك فتحلل، ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه»، فقمت لألتمس بينة على قتيلي فلم أر أحداً يشهد لي، فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكره عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلا، لا تعطه أضيبع من قريش، وتدعُ أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فقام رسول الله فأداه إلي، فاشتريت منه خرافاً، فكان أول مال تأثلته.
الشرح
هذه الترجمة عقدها المؤلف لغزوة حنين قال: «قول الله عز وجل: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)[التوبة: 25]» ووقع في رواية النسفي: «باب غزوة حنين وقول الله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)».
وحنين واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات ووقعت فيه غزوة حنين. قال الحافظ /: ((قال أبو عبيد البكري: سمي باسم حنين بن قابثة بن مهلائيل، قال أهل المغازي: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال وكان وصوله إليها في عاشره وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النصري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون وقصدوا محاربة المسلمين فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم.
ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير فجاء رجل فقال إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى»([6]).
وعند ابن إسحاق من حديث جابر رضي الله عنه ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه.
وقول الله عزوجل : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)، يعني: أصاب المسلمين العجب بسبب الكثرة؛ لأنهم بلغوا اثني عشر ألفا؛ لأنهم كانوا في غزوة الفتح عشرة آلاف، فلما أسلم أهل مكة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين تبعه ألفان من أهل مكة فصاروا اثني عشر ألفًا، فقال بعضهم لبعض: لن نغلب اليوم من قلة، فأصابتهم الهزيمة بسبب العجب.
فالعجب من أعمال القلوب السيئة، حيث يرى الإنسان أنه فوق الناس، فالواجب على العبد التواضع وازدراء النفس وعدم العجب؛ لأن نتيجة العجب كانت: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). ففي غزوة بدر نصر الله المسلمين وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان المشركون ألفاً -أي: ثلاثة أضعافهم- أما يوم حنين فكان المسلمون جمًّا غفيرًا، ولكن أعجبتهم أنفسهم فهزموا في أول الأمر. قال الحافظ رحمه الله)) روى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة. وقوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) إلى آخر الآيات».
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)، فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص.
قال الله عز وجل: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)[التوبة: 26]، أي: تدارك الله عز وجل برحمته المؤمنين بعد ذلك، فأنزل الله سكينته ونصرهم بجند من عنده فأمدهم الله بالملائكة وكان النصر لهم، ففي أول الأمر كانت الهزيمة والفرار ثم كروا على عدوهم، وكان النصر من عند الله، وسيأتي في الأحاديث سبب ذلك.
● [4030] قوله: «قبل ذلك»، يعني: شهدت ما قبل حنين، فهذا الحديث دليل على أن عبدالله بن أبي أوفى شهد حنينا وشهد ما قبلها.
● [4031] قوله: «يا أبا عمارة» هي كنية البراء بن عازب رضي الله عنه، حيث سئل أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: «أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول» وهذا فيه أدب البراء رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ منه أيضا أن الصحابة لم يفروا كلهم، فقد بقيت بقية منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم،
وفي الحديث: إظهار لشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أظهر نفسه للكافرين بعد أن فر أصحابه مدبرين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم على البغلة البيضاء ويقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان آخذاً بزمام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء يجرها حتى لا تتقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم يركضها لتتقدم تجاه العدو، وهذا من شجاعته صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ من مجموع هذه الأحاديث وهذه الطرق التي ذكرها البراء رضي الله عنه ومما ذكره الحافظ عدة فوائد:
أولا: أن الصحابة لم يفروا كلهم بل بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة قليلة لم تفر؛ ولهذا لما قيل للبراء أفررتم عن رسول الله؟ فقال: «أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن» قال الحافظ رحمه الله : (( هوازن قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة - بمعجمة ثم مهملة ثم فاء مفتوحات -ابن قيس بن عيلان بن إلياس بن مضر».
لعله قيس عيلان كما ذكر العيني بدون ابن.
ثانيا: أن الصحابة قد عادوا بعدما ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه - وكان جهوري الصوت - أن ينادي: يا أصحاب سورة البقرة، ويا أصحاب الشجرة، يا من بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقالوا: لبيك، وعطفوا عليه عطف البقر على أولادها وعادوا، إذن فهذا لا يعتبر فراراً، بل كالمتحيز إلى فئة لا يكون فاراً إلا إذا نوى الفرار واستمر فراره.
ثالثا: أن فرار الصحابة وانهزامهم كان له أسباب منها:
الأول: أن المسلمين حملوا على هوازن أولا فانكشفت هوازن وانهزمت فأكب المسلمون على الغنائم فلما أكبوا على الغنائم استقبلوا بالسهام فانهزموا.
الثاني: أن مالك بن عوف رئيس هوازن سبق بهم إلى وادي حنين فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي.
الثالث: أن العدو كان ضعف الصحابة في العدد وأكثر من الضعف.
الرابع: أن جمع هوازن وبني نصر - بالصاد المهملة - ما يكاد يخطئ لهم سهم فهم مهرة في الرمي، فرشقوا المسلمين بالنبل رشقا، وفي رواية لمسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق: «فرموهم برشق من نبل كأنها رِجل من جراد فانكشفوا»([7])، أي: رموهم برشق متتابع فانكشفوا.
قال الحافظ ابن حجر /: «والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك وقد بين شعبة في الرواية الثالثة السبب في الإسراع المذكور قال: كانت هوازن رماة».
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفي حديث أنس عند مسلم وغيره من رواية سليمان التيمي عن السميط عن أنس قال: «افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت صف الخيل ثم المقاتلة ثم النساء من وراء ذلك ثم الغنم ثم النعم، ونحن بشر، كثير وعلى ميمنة خيلنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس»([8]).
ذكر أن هوازن اصطفت صفوفاً أحسن ما تكون، فصف الخيل أولا، ثم صفوف المقاتلة، ثم النساء من ورائهم، ثم الغنم، ثم الإبل؛ فساقها الله كلها غنيمة للمسلمين، وفعلوا ذلك حتى لا يفروا من المعركة فيقولون: لا نستطيع الفرار فنساؤنا معنا إن فررنا ضاعت نساؤنا وأولادنا، فيجدوا في القتال، وقد أشار عليهم دريد بن الصمة - وكان كبير السن مجربا الحروب - بألا يفعلوا ذلك، وقال: لا تفعلوا هذا، فالمنهزم لا يبقي على شيء، فلم يطيعوه وكانت الهزيمة.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فثارت في وجوههم الخيل، فشدت عليهم فانكفؤوا منهزمين ثم تراجعوا بعد ذلك.
وقوله: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» فيه: جواز الانتساب إلى الجد، فأبو النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله وجده عبدالمطلب، فانتسب إلى جده، فالانتساب إلى الجد انتساب للأب، لأن الجد أب؛ ولهذا قال الله تعالى عن يوسف: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ)[يوسف: 38]. وهؤلاء أجداد له، فإبراهيم هو جده الأعلى، وإسحاق الذي بعده وأبوه يعقوب، ومع ذلك سماهم آباء، والسبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب إلى جده أن أباه صلى الله عليه وسلم وهو عبدالله ليس معروفا فقد مات شاباً بخلاف جده فإنه كان رئيسا لقريش، وكان معروفاً؛ مشهورا، ولهذا كان الرجل من الأعراب ينسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول «يا ابن عبد المطلب؟»([9])، كما قال ذلك ضمام بن ثعلبة، ولم يقل: ابن عبد الله لأن جده مشهور معروف.
قوله: «وأبو سفيان بن الحارث»، أي: ابن عبد المطلب بن هاشم، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامه قبل فتح مكة؛ لأنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة، فأسلم وحسن إسلامه، وخرج إلى غزوة حنين، فكان فيمن ثبت وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال: لما فر الناس يوم حنين...»([10]).
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفي الحديث: من الفوائد حسن الأدب في الخطاب والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب وذم الإعجاب،
وفيه: جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية».
ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب، ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها، وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله ولا يقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقنا للنصر لوعد الله تعالى له بذلك وهو حق لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته، وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استشهد في تلك الحالة أيمن ابن أم أيمن كما تقدمت الإشارة إليه في شعر العباس،
وفيه: ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي. وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات.
وفيه: شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو» فالنبي صلى الله عليه وسلم شهر نفسه على بغلته البيضاء وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».
● [4032]، [4033] سبق شرحهما في الحديث السابق.
● [4034] هذا الحديث فيه قصة سبي هوازن لما جاءوا تائبين، وذلك في غزوة حنين فقد كانت غزوة حنين بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبائل هوازن ومن اتبعهم من الثقفيين حينما قصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم عوف بن مالك النصري، وقد انتصر المسلمون في أول الأمر وأكبوا على الغنائم؛ فرشقتهم هوازن بالنبل فولوا مدبرين، ثم بعد ذلك عاد المسلمون وغنموا غنيمة عظيمة، فغنموا من الإبل أربعة وعشرين ألفاً، ومن الغنم أربعين ألف شاة، وغنموا أيضاً سبايا النساء والأطفال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قسمة الغنيمة بضع عشرة ليلة؛ رجاء أن يأتوا مسلمين حتى يرد إليهم سبيهم فلم يأتوا، فقسم الغنيمة؛ ثم أتوا بعد ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم فخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين أحد الأمرين : إما الأولاد والنساء، وإما الأموال، فاختاروا النساء، والأولاد.
ويروي هذا الحديث عروة بن الزبير عن مروان ومسور بن مخرمة أن وفد هوازن جاءوا مسلمين بعد بضع عشرة ليلة من هزيمتهم فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم - والمراد بالسبي النساء والأطفال - فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معي من ترون»، يعني: لست أنا الذي يختص بالغنيمة وحدي، فالغنيمة للمسلمين جميعا، والمسلمون عدد كثير وقد قسمت الغنيمة بينهم، «وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما المال وإما السبي»، أي: لما طلبوا الأمرين: السبي من النساء والأولاد والمال - أربعين ألف شاة وأربعة وعشرين ألف بعير - بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد عليهم الأمرين وإنما يرد عليهم أحدهما.
قوله: «وقد كنت استأنيت بكم»، يعني: تأخرت في قسمة الغنيمة؛ رجاء أن تأتوني مسلمين فلم تأتوا، ولذلك قال الراوي: «وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة» والبضع من ثلاث إلى تسع، وذلك حين قفل من الطائف.
قوله: «فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا»، أي: لا نعدل بالنساء والبنين والأولاد شيئاً؛ فالنساء والبنين أهم من المال.
قوله: «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» فهذه عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر خطب فيبدأ الخطبة بالثناء على الله عز وجل ثم يقول: «أما بعد» ثم يدخل في موضوع الخطبة.
قوله: «فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» يعني: من أحب أن يسمح لنا بِردّ السبي لهم مجانًا فليسلم ما بيده من النساء والبنين، وإن أحب أن يتمسك بحقه فله ذلك فيعطينا ما بيده ونعوضه عنه من أول فيء يأتيه الله لنا؛ وسيأتي في الحديث الآخر: «أنه أعطاهم عن الفريضة ست فرائض»([11]). فلو جاءه مثلا امرأة يأخذ ست نساء بدلها.
قوله: «فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»، يعني: تكلم الناس فقالوا: يا رسول الله سامحنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا نعرف من سامح ممن لم يسامح، فارجعوا حتى يبين ذلك لنا رؤساؤكم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا، وجاء في الحديث أن بعض الناس امتنعوا، ومنهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن الحصن، فبقوا على حظهم فسلموا ما بأيدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعوضهم عنها.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين»، ساق الزهري هذه القصة من هذا الوجه مختصرة، وقد ساقها موسى بن عقبة في المغازي مطولة، ولفظه: «ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوال إلى الجعرانة وبها السبي، يعني: سبي هوازن»([12])» يعني: أخر النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم السبي وجعله في الجعرانة وذهب ليحاصر الطائف، وبعد الطائف قسم الغنيمة؛ ولهذا طلب بعض الأعراب - الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم - حقهم ولم يصبروا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في القسمة، فقالوا، يا رسول الله، أعطنا حقنا.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: ««وبها السبي»، يعني: سبي هوازن. وقدمت عليه وفد هوازن مسلمين، فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام، فقال: «سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأي: الأمرين أحب إليكم آلسبى أم المال»([13]) قالوا خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير»، يعني: أولادنا ونساؤنا أحب إلينا من المال.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «فقال: «أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين»([14])، فكلموهم وأظهروا إسلامكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهاجرة قاموا فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين في رد سبيهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغوا فشفع لهم وحض المسلمين عليه وقال: «قد رددت الذي لبني هاشم عليهم»(2). فاستفيد من هذه القصة عدد الوفد وغير ذلك مما لا يخفى؛ وقد أغفل محمد بن سعد لما ذكر الوفود وفد هوازن هؤلاء مع أنه لم يجمع أحد في الوفود أكثر مما جمع؛ وممن سمي من وفد هوازن: زهير بن صرد كما سيأتي، وأبو مروان - ويقال: أبو ثروان أوله مثلثة بدل الميم، ويقال بموحدة وقاف - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ذكره ابن سعد - وفي رواية ابن إسحاق ((حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده)) تعيين الذي خطب لهم في ذلك، ولفظه: وأدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة قد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك. فامنن علينا من الله عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، وأنت خير مكفول؛ ثم أنشده الأبيات المشهورة أولها:
امنن علينا رسول الله في كرم |
فإنك المرء نرجوه وندخر |
يقول فيها:
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر» |
لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم ما رد عليهم سباياهم، لكن هذا تفضل منه صلى الله عليه وسلم، فقد استعطفوه، ورأى أن يرد عليهم سباياهم، فطلب من المسلمين ذلك، فمنهم من اقتدى به صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أبقى على حقه مثل : عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، وغيرهم من رؤساء القبائل الذين أسلموا حديثاً، فردوا ما بين أيديهم وعوضوا عنه بأكثر منها بما يعادل ست مرات.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «فقال الناس قد طيبنا ذلك» في رواية موسى ابن عقبة: «فأعطى الناس ما بأيديهم إلا قليلاً من الناس سألوا الفداء»([15]). وفي رواية عمرو بن شعيب المذكورة: «فقال المهاجرون ما كان لنا فهو لرسول الله. وقالت الأنصار كذلك»([16])،يعني: أن الأنصار والمهاجرين سمحوا بدون مقابل؛ فقد ثبت الإيمان في قلوبهم.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم فلا» هذا لأنهم أسلموا حديثا، فقد أسلموا يوم فتح مكة ثم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوازن؛ فغزوة حنين بعد فتح مكة مباشرة.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم» ([17]).
● [4035] هذا الحديث فيه وجوب الوفاء بما نذره المسلم في الجاهلية قبل إسلامه، فمن نذر نذراً في كفره ثم أسلم فإنه يفي بنذره في الإسلام لأنه نذر طاعة؛ فهذا عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية قبل الإسلام أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه.
ومثل ذلك ثمامة بن أثال لما أخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم وكان يريد العمرة، فعندما أطلق أداها، لكنه هنا لم يحرم بالعمرة.
● [4036] الشاهد لمجيء المصنف بهذا الحديث في هذه الترجمة أن هذه القصة كانت في غزوة حنين، وهذه القصة وقعت لأبي قتادة رضي الله عنه وهو رضي الله عنه كان فارساً شجاعاً من الشجعان.
قوله: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين»؛ يعني: يريد أن يقتله، فأتاه أبو قتادة، قال: «فضربته من ورائه على حبل عاتقه بسيف فقطعت الدرع» الذي عليه؛
وفي الحديث: الآخر: «أن هذا الرجل الذي ضربه ضخم وقوي»، فالتفت هذا الرجل المشرك وضم أبا قتادة ضمة شديدة حتى كاد أن يموت، فأدرك الموت هذا المشرك فتخلى عن أبي قتادة، فبعد أن ذهبت حرارة الضربة عن الرجل أحس بها، كما لو قطع أصبع أحد المحاربين، أو غير ذلك. ففي أول الأمر حرارة الجسم لا تجعله يحس بالألم لكنه بعد ذلك يزيد الإحساس بالألم عنده، فلما ضربه بالسيف لم يحس بالوجع فالتفت إليه فضمه يريد أن يقتله، حتى قال أبوقتادة: «وجدت منها ريح الموت»؛ ثم أدرك المشرك الموت فأرسله وتخلى عنه.
قوله: «فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟»، يعني: انهزموا وولوا مدبرين قال عمر: «أمر الله» عزوجل يعني: حكم الله وقضاؤه.
قوله: «ثم رجعوا» يعني: عاد الناس بعد ذلك كما سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى نداءين؛ قال: «يا معشر الأنصار»، عن يمينه وعن شماله، فقالوا: لبيك، فعطفوا عليه عطف البقر على أولادها، ونادى النداء الثاني فتراجعوا ثم هزموا المشركين([18]).
ثم بعد ذلك لما انتهت المعركة وجلس النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» هذا من باب التشجيع للمجاهدين، فالذي يقتل واحداً من المشركين ويأتي ببينة أنه قتله فله سلبه، والسلب ما يكون مع المشرك من سلاح ودرع وثياب يأخذها قاتله زيادة على حقه في الغنيمة.
فقام أبوقتادة وقال: «من يشهد لي؟»، فلم يقم أحد فجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه»، فقام أبو قتادة وقال: «من يشهد لي؟» فلم يقم أحد فجلس ثم أعاد النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة فقال: «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه»، فقام أبو قتادة فقال: «من يشهد لي؟».
قوله: «فقال رجل: صدق، وسلبه عندي فأرضه مني»، يعني: هو صادق فيما قال، وأنا رأيته قتل شخصا وسلبه عندي، فاترك لي سلبه.
وقوله: «لاهاءَ الله، إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله علية وسلم فيعطيك سلبه» لا:نافية، وهاء: حرف ينوب عن حرف القسم كأنه يقول: لا والله فحرف القسم يكون بالواو والباء والتاء والهاء والهمزة تقول والله وبالله وتالله وآلله وهاء الله فأبو بكر أقسم وقال: والله لا يعطيك سلبه.
وقوله: «أسد من أُسد الله» المفرد أسد - بفتح الهمزة والسين- والجمع أسد – بضم الهمزة وإسكان السين- يقال: أسد وأسود وكلاهما جمع.
وهذا الحديث فيه جواز كلام الرجل الوجيه عند العالم وعند ولي الأمر والإشارة فيما يرى فيه المصلحة. فقد تكلم أبوبكر مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن له مكانة، ويشير إلى ما يرى فيه المصلحة.
وهذه شهادة من أبي بكر لأبي قتادة، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها وقال: «صدق، فأعطه»، يعني: صدق أبو بكر فأعط أبا قتادة سلبه. فقام الرجل وأعطى أبا قتادة السلب.
قوله: «فابتعت به مخرفا» يعني: لما أخذ أبو قتادة السلب باعه واشترى به حديقة، وقوله: «فابتعت»، يعني: اشتريت، و«مخرفا»، يعني: بستاناً.
قوله: «في بني سلمة»، بني سلمة بطن من الأنصار، وهم قوم أبي قتادة، فاشترى بهذا السلب حديقة كاملة بين قومه.
قوله: «وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام»، يعني: أول مال جمعته في الإسلام.
قوله: «وقال الليث...» هذه القصة هي السابقة ساقها المؤلف هنا، ولكن بلفظ آخر، وفيها بعض الاختلاف؛ ففي القصة السابقة قال: «فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه»، وفي هذه القصة قال: «نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله».
في هذا الحديث أن أبا قتادة رضي الله عنه نظر إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين خلفه يريد أن يقتل المسلم، فجاءه أبو قتادة رضي الله عنه وأسرع إليه ليقتله فالتفت إليه المشرك ورفع يده ليضرب أبا قتادة، فضرب أبوقتادة رضي الله عنه يده فقطعها فأخذه المشرك فضمه ضماً شديداً. وكان المشرك قوياً حتى تخوف أبوقتادة رضي الله عنه الهلاك، ثم تركه المشرك فقتله أبوقتادة.
قوله: «ثم ترك»، يعني: تركني لما أدركه الموت وزالت عنه حرارة الحياة.
قوله: «وانهزم المسلمون وانهزمت معهم»، يعني: انهزم المسلمون في أول الأمر.
قوله: «أمر الله»، يعني: حكم الله وما قضى به، ثم تراجع الناس بعد ذلك لما ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لما انتهت المعركة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه» فقام أبوقتادة رضي الله عنه ليلتمس بينة على قتيله فلم ير أحداً يشهد له، فذكر أمره للنبي صلى الله عليه وسلم، «فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكره عندي، فأرضه منه. فقال أبو بكر: كلا، لا تعطه أضيبع من قريش» أضيبع: نوع من الطير، أو النبات الضعيف، وصفه أبوبكر رضي الله عنه بالضعف والمهانة يعني: أنت لا ترتقي إلى قدر أبي قتادة، فهو أسد من أسد الله، وأنت مثلك مثل الطير الضعيف أو مثل النبات الضعيف.
وقوله: «وتدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» هذه شهادة من أبي بكر رضي الله عنه لأبي قتادة رضي الله عنه، بأنه أسد من الأسود يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة رضي الله عنه سلب المشرك فاشترى به بستاناً.
* * *
المتن
[55/55] غزوة أوطاس
● [4037] حدثني محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبدالله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاسٍ، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته؛ رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عمِّ، مَن رماك؟ فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مُرَمَّلٍ وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر»، ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ومن الناس»، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: «اللهم اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً».
قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى.
الشرح
هذا الباب في «غزوة أوطاس» وغزوة أوطاس لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرسل سرية وعقد اللواء لأبي عامر ومعه أبو موسى الأشعري وقيل: إن وادي أوطاس هو وادي حنين، وقيل: إنه غيره، وهم بقية هوازن، فلما انهزموا انقسموا أقساما: طائفة ذهبت إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى وادي أوطاس، فالذين تجمعوا في وادي أوطاس أرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي عامر لقتالهم ولم يخرج معها صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب إلى الطائف لحصارها، فحاصرها النبي صلى الله عليه وسلم مدة حتى انسلخ ذو القعدة وهو يحاصرهم.
● [4037] قوله: «لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين»، يعني: لما فاتت غزوة حنين «بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاسٍ» وأبو عامر رضي الله عنه هو الأشعري وهو عم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على جيش إلى أوطاس.
قوله: «فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد» دريد بن الصمة رجل مشهور، كان يحمل بالهودج لكبر سنه، وكان عنده خبرة بالحرب، وله جولات وصولات، ويعرف الأرض؛ حتى إنه إذا أنزلوه في الأرض وهو أعمى يشمها ويخبرهم ما هذه الأرض، ويقول قد كان في يوم كذا وكذا حدث كذا وكذا، وهو الذي قال لهوازن: إن المنهزم لا يلوي على شيء قاتلوا وحدكم فإن انتصرتم فبها وإن لم تنتصروا تكونوا أحرزتم نساءكم وأبناءكم؛ ذلك لما جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم النساء والأموال حتى لا يفروا من المعركة، فقال قائد الجيش: لا، وعصاه فكانت النتيجة أن ساقهم الله سبياً للمسلمين.
ولهذا يقول العلماء: إن الشيخ الكبير الفاني لا يقتل في الحروب إلا إذا كان له رأي: وخبرة في الحرب وأمورها مثل دريد هذا.
وفي المعركة رمي أبو عامر بسهم في ركبته، رماه جشمي - وهو رجل من المشركين - بسهم فأثبته في ركبته، فجاء أبو موسى إلى عمه فقال: «يا عم من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته»، أي: هرب فخجله أبوموسى وقال له: «ألا تستحيي؟ ألا تثبت؟ فكف» فأبو موسى يريد قتله فصار يخجله ويقول له: أيها الجبان ألا تستحي؟ حتى وقف ثم اختلفا ضربتين فقتله أبو موسى رضي الله عنه.
ثم رجع إلى عمه وقال قتلت الذي قتلك فقال: «فانزع هذا السهم»، فنزعه أبو موسى فخرج منه الماء فعرف أنه ميت، فقال أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وقل له يدعو لي، واستخلف أبا موسىني على الناس، وبذلك صار أبوموسى الأمير على الجيش بدلا من عمه.
قوله: «فمكث يسيراً ثم مات»، وذلك لعدم وجود ما يوقف نزف الدم، وقد أوصى ابن أخيه فقال: «أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقل له استغفر لي».
فلما انتهت المعركة جاء أبو موسى رضي الله عنه ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم على فراش من سعف النخل قد أثرت رُمَال السرير بظهره وجنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «سرير مرمّل» تنطق بالتشديد والتخفيف، يعني: معمول بالرُّمَال وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة، أما الآن فتتكون الأسرة من الخشب وغيره.
قوله: «فدعا بماء فتوضأ» فيه: استحباب الوضوء للدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، فيستحب للإنسان إذا أراد الدعاء أن يتوضأ ويستقبل القبلة ثم يدعو، فوضوء النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء يدل على الاهتمام به.
قوله: «ثم رفع يديه» فيه: مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وأنه من أسباب الإجابة.
قوله: «ورأيت بياض إبطيه»، فيه: مبالغة في رفع اليدين حتى يرى بياض الإبطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه رداء على عادة العرب، فقد كانت عادتهم أن يلبسوا إزارا ورداء، فإذا رفع يديه بقوة كشف بياض إبطيه، فهذه ثلاثة أنواع من الاستحبابات.
ومن أسباب قبول الدعاء أيضاً الثناء على الله بما هو أهله والصلاة على نبيه وحضور القلب.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عامر رضي الله عنه ودعا لأبي موسى رضي الله عنه فقال عند دعائه لأبي عامر: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك»، يعني: فوقهم في المرتبة، وهذا فضل عظيم. فلما رأى أبو موسى ذلك قال: يا رسول الله، وادع لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً» فيا له من فضل عظيم، وهذه منقبة فاز بها أبو موسى وأبوعامر رضي الله عنهما.
قوله: «إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى» هذا قول أبي بردة راوي الحديث عن أبي موسى.
* * *
المتن
[56/55] غزوة الطائف في شوال سنة ثمان
قاله موسى بن عقبة
● [4038] حدثنا الحميدي، سمع سفيان قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمها أم سلمة، دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث، فسمعته يقول لعبدالله بن أبي أمية: يا عبدالله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فعليك بابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن هؤلاء عليكم».
قال ابن عيينة: وقال ابن جريج: المخنث هِيتٌ.
● [4039] حدثنا محمود، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام بهذا وزاد: وهو محاصر الطائف يومئذ.
● [4040] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي العباس الشاعر الأعمى، عن عبدالله بن عَمْرو قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئاً قال: «إنا قافلون إن شاء الله»، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ وقال مرة: «نقفل»، فقال: «اغدوا على القتال»، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: «إنا قافلون غداً إن شاء الله»، فأعجبهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان مرة: فتبسم.
قال: قال الحميدي: حدثنا سفيان كُلَّه بالخَبَر.
● [4041] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا عثمان قال: سمعت سعداً - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله - وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام».
وقال هشام، أخبرنا معمر، عن عاصم، عن أبي العالية أو أبي عثمان النهدي، قال: سمعت سعداً وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عاصم: قلت: لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما، قال: أجل، أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف.
● [4042] حدثني محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبدالله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت علي من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: «رد البشرى، فاقبلا أنتما»، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال: «اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا»، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة.
● [4043] حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أن صفوان بن يعلى بن أمية أخبره، أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يُنزل عليه! قال: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه، فقال: «أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً؟»، فالتمس الرجل فأتي به، فقال: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك».
● [4044] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبدالله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وُجْدٌ؛ إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، أو كأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟»، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟»، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
● [4045] حدثني عبدالله بن محمد، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك قال، قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤُنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر؛ أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»، قالوا: يا رسول الله، قد رضينا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله؛ فإني على الحوض»، قال أنس: فلم يصبروا.
● [4046] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس قال: لما كان يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم من قريش، فغضبت الأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله؟» قالوا: بلى، قال: «لو سلك الناس وادياً - أو شعباً - لسلكت وادي الأنصار - أو شعبهم».
● [4047] حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا أزهر، عن ابن عون، قال: أنبأنا هشام بن زيد بن أنس، عن أنس قال: لما كان يوم حنين التقى هوازن، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا، قال: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، نحن بين يديك، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنا عبدُ الله ورسوله»، فانهزم المشركون، فأعطى الطلقاء والمهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئاً، فقالوا، فدعاهم فأدخلهم في قبة، فقال: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً، لاخترت شعب الأنصار».
● [4048] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار فقال: «إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أُجيزَهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟» قالوا: بلى، قال: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت وادي الأنصار - أو شعب الأنصار».
● [4049] حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة حنين قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتغير وجهه ثم قال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
● [4050] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبدالله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً؛ أعطى الأقرع مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله، فقلت لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
● [4051] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا ابن عون، عن هشام بن زيد بن أنس، عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما؛ التفت عن يمينه فقال: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: «أنا عبد الله ورسوله»، فانهزم المشركون، وأصاب يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا، فقالت الأنصار: إذا كانت شديدةً فنحن ندعى وتعطى الغنيمةُ غيرَنا؛ فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة فقال: «يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني؟» فسكتوا، فقال: «يا معشر الأنصار، ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم؟!» قالوا: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لأخذت شعب الأنصار»، وقال هشام: قلت: يا أبا حمزة، وأنت شاهد ذاك؟ قال: وأين أغيب عنه؟
الشرح
● [4038]، [4039] قوله: «وعندي مخنث» المخنث: هو الذي يشبه المرأة، ويكون له آلة ذكر وآلة أنثى، فالمخنث يشبه المرأة في كلامه وحركاته ومشيته وليس له شهوة ولا مأرب في النساء، فليس عنده شهوة من الأساس. وكان يدخل على النساء ولا يحتجبن عنه، فقد قال الله فيهم: (أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ)[النور: 31] فالمخنثون هم التابعون الذين يتبعون النساء ويدخلون عليهن و(غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ) يعني: غير أولي الشهوة من الرجال فالمرأة تبدي لهم من زينتها. فقد قال الله عز وجل: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)[النور: 31]. فكل هؤلاء تبدي لهم المرأة زينتها، ومنهم التابعون غير أولي الشهوة.
والمخنث أحياناً يكون مشكلاً بأن يتصف بالذكورة والأنوثة في آن واحد، وأحياناً غير مشكل بأن تغلب عليه صفات الذكورة أو صفات الأنوثة.
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة ل وعندها هذا المخنث، لأنه ليس له شهوة، قالت : فسمعه يقول لعبدالله بن أبي أمية -وهو أخو أم سلمة - : «يا عبدالله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان»؛ وفي لفظ: «غدًا أدلك على بنت غيلان»([19])، يعني: إذا فتح الله عليكم الطائف ووزعت نساء المشركين فعليك أن تختار ابنة غيلان لتكون من نصيبك، «فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان» يعني: أنها سمينة ففي بطنها من جهة الأمام أربع طيات، ولها من جهة الخلف ثمان طيات أربع منها جهة اليمين وأربع جهة اليسار، وهذا يدل على أن له شهوة في النساء، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك طرده وقال: «لا يدخلن هؤلاء عليكم» بعد ذلك، لأن حاله تغيرت، فوصفه الدقيق لهذه المرأة يدل على أن عنده شهوة للنساء، وكان هذا المخنث اسمه: هيت.
والمخنث معذور في طبيعته، فقد خلقه الله عز وجل شبيهًا بالنساء في كلامه ومشيه، لكن الشخص الطبيعي العادي الذي يتخنث ويتعمد التشبه بالمرأة في كلامها أو في صفة من صفاتها الخاصة بها -مثلما يشاهد الناس في المسلسلات- فهذا حرام، فلا يجوز أن يمشي مشية المرأة ولا يتكلم كلام المرأة، فمن تشبه من الرجال بالنساء فهو ملعون، ففي الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»([20]).
إذن فالمخنث نوعان:
الأول: خلقه الله عز وجل مخنثا، مشيه كمشي المرأة وكلامه ككلامها وحركاته كحركاتها، فهذا معذور وليس له حيلة، وفي الغالب أنه لا تكون له شهوة ولا تحتجب عنه النساء.
الثاني: من يتشبه بالمرأة في لبسها وكلامها وحركاتها، فهذا ملعون.
والغالب أن المخنث الذي في الحديث كانت خلقته خلقة مخنث، خلقه الله هكذا، صوته كصوت المرأة وكلامه ككلامها ومشيته كمشيتها ولا شهوة له في النساء، وكان المخنثون موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المخنث قد تغيرت حاله فطرده الرسول صلى الله عليه وسلم وحجب زوجاته عنه.
ويجوز للخصي ألا تحتجب عنه المرأة، فإذا وجد أحد قطعت خصيتاه وليس له شهوة، فهذا لا تحتجب عنه النساء، هذا مع حرمة فعل الإخصاء.
أما الخدم الأجانب الذين يخدمون المسلمين في هذه الأيام فلا يعاملون معاملة المخنثين؛ لأن لديهم شهوة للنساء، فإذا كان هؤلاء المخنثون يمنعون من الدخول على النساء فسائق السيارة وغيره يمنع من باب أولى، فلا شك أن الأمر خطير وبه فتنة عظيمة، فالسائقون والخدم الذين امتلأت بهم البيوت يتساهل كثير من الناس في دخولهم على النساء سواء في المطبخ أو في غيره، ولا تحتجب النساء منهم، بل وقد يذهب بالمرأة وحدها إلى بعض الأماكن وهذا مما سبب الشر والفواحش.
● [4040] جاء في هذا الحديث أن حصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف قد طالت مدته، ولم ينالوا منه شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنا قافلون إن شاء الله»، يعني: سنرجع.
قوله: «فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟» يعني: نرجع ولا نفتح الطائف بعد طول الحصار ومدته ولم ننل منه شيئاً، وقالوا مرة: «نقفل»؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «اغدوا على القتال».
قوله: «فغدوا فأصابهم جراح»، لأن أهل الطائف كانوا يرسلون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحصار فيصيبونهم بالجراح، ويرسل عليهم المسلمون شيئاً فلا يصيبونهم، فحصل لهم جراحات كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا قافلون غداً إن شاء الله، فأعجبهم».
قوله: «فضحك النبي صلى الله عليه وسلم»، يعني: ضحك من ضعفهم وعجزهم، وهذه طبيعة البشر، حيث ثقل عليهم الرجوع بغير فتح، ثم لما أصيبوا بالجراح أعجبهم الرجوع، «وقال سفيان مرة: فتبسم»، أي: بدلًا من «فضحك».
● [4041] قوله: «سمعت سعدا وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله» يعني: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهذه منقبة له.
قوله: «وأبا بكرة وكان تسور حصن الطائف في أناس فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم» أبو بكرة رضي الله عنه هو مولى الحارث بن كندة الثقفي من عبيدهم فأسلم واسمه نفيع بن الحارث، وقد نزل من حصن الطائف، وكان قد نزل من الحصن ثلاثة وعشرون شخصا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جاء من العبيد فأسلم فهو حر»([21]). فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم أبو بكرة رضي الله عنه تسور حصن الطائف وهرب منهم فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم.
فروى هذا الحديث سعد وأبو بكرة م عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» وهذا وعيد شديد على من انتسب من الأحرار إلى غير أبيه أو غير قبيلته، فإنه من كبائر الذنوب؛ لأن هذا من الأعمال الكفرية والجنة عليه حرام؛ لأنه أنكر النعمة وجحد حق أبيه عليه، وفي اللفظ الآخر: «ليس من رجل ادّعى إلى غير أبيه إلا كفر»([22]). وهذا كفر أصغر لا يخرج المسلم عن الملة.
وكذلك من انتسب إلى غير مواليه من الموالي، فقد جاء فيه الوعيد: «من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»([23]). وفي لفظ آخر: «ومن تولى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل»([24]). ففيه: التحذير من الانتساب إلى غير الأب، فبعض الناس ينتسب إلى غير أبيه حتى يأخذ مالا بالتزوير فيجعل له اسمين مختلفين فيأخذ بهذا مالاً أو أرضاً ويأخذ بهذا مالاً أو أرضاً.
● [4042] قوله: «بين مكة والمدينة» قال بعضهم: إنه وهم والصواب أنها بين مكة والطائف، فالجعرانة معروفة قريبة من مكة، أحرم منها للعمرة وقسم فيها غنائم حنين.
وحدثت هذه القصة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل الجعرانة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تنجز لي ما وعدتني؟» يحتمل أن هذا الوعد كان خاصا به ويحتمل أنه كان عاما، وكان طلبه ليعجل له نصيبه من الغنيمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في قسم غنائم هوازن، فجمع الغنائم وجعلها في الجعرانة، وذهب يحاصر الطائف، أيامًا ثم رجع من الطائف ثم قسمها؛ فبعض الأعراب لم يصبر.
قوله: «قد أكثرت علي من أبشر» هذا على عادة الأعراب من العجلة وعدم الصبر، ومن الجفاء، كيف يقابل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له هذا الكلام؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم تأثر من هذا القول وأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان وقال: «رد البشرى»، يعني: هذا الأعرابي؟
قوله: «فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا» صار خيراً ساقه الله إلى أبي موسى وبلال.
قوله: «ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه، ومج فيه، ثم قال: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» فالرسول صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ومج في القدح فأفرغا على وجهيهما وشربا منه وأخذا القدح تبركاً به.
قوله: «فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما»، يعني: أفضلا – أو أبقيا - تريد أن تشاركهم في هذا الخير. «فأفضلا لها منه طائفة»، وشربت منه، وغسلت تبركا به؛ لما جعل الله من البركة في جسد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: «من وراء الستر»؛ فلا شك أن هذا من أدلة وجوب الحجاب، وأدلة الحجاب كثيرة، ودعاة السفور الذين يريدون أن يخرجوا المرأة بغير حجاب يقولون: ليس هناك دليل، كيف ذلك والآية الكريمة: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [سورة الأحزاب: 53] تدل على أن الحجاب أطهر لقلوب الرجال والنساء؟!
ومن الأدلة أيضًا حديث عائشة: «فخمرت وجهي بجلبابي»([25]). والأدلة كثيرة لكن أبى دعاة السفور إلا أن يعارضوا هذه النصوص ويتبعوا أهواءهم وشهواتهم.
([1]) أحمد (4/32)، والبخاري (1834).
([2]) أحمد (4/40)، والبخاري (2129)، ومسلم (1360).
([3]) أحمد (2/238)، والبخاري (112)، ومسلم (1355).
([4]) أحمد (2/460)، والبخاري (881)، ومسلم (850).
([5]) أحمد (1/315)، والبخاري (1834)، ومسلم (1353).
([6]) أبو داود (2501).
([7]) أحمد (4/289)، والبخاري (2930)، ومسلم (1776) واللفظ له.
([8]) أحمد (3/157)، ومسلم (1059).
([9]) أحمد (3/168)، والبخاري (63).
([10]) «مصنف ابن أبي شيبة» (14/526).
([11]) أحمد (2/218)، وأبو داود (2694)، والنسائي (3688).
([12]) «المغازي» (ص290).
([13]) «المغازي» (ص290).
([14]) «مغازي موسى بن عقبة» (ص290).
([15]) «مغازي موسى بن عقبة» (ص290).
([16]) أحمد (2/184)، والنسائي (3688).
([17]) أحمد (2/218) واللفظ له، وأبو داود (2694)، والنسائي (3688).
([18]) أحمد (1/207، 3/279)، والبخاري (4337)، ومسلم (1059، 1775).
([19]) أحمد (6/318)، والبخاري (5235)، ومسلم (2180).
([20]) أحمد (1/339)، والبخاري (5885).
([21]) أحمد (1/248).
([22]) أحمد (5/166)، والبخاري (3508)، ومسلم (61).
([23]) أحمد (1/81)، والبخاري (3172)، ومسلم (1370).
([24]) أحمد (1/126)، والبخاري (1870)، ومسلم (1508).
([25]) أحمد (6/194)، والبخاري (4141)، ومسلم (2770).