والشاهد من هذه القصة أنها حصلت والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بالجعرانة.
● [4043] هذه القصة وقعت في الجعرانة أيضًا وهي أن يعلى بن أمية كان يتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينزل عليه الوحي. فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم وعليه جبة متضمخة بالطيب، ومن المعلوم أن المحرم لا يلبس الثياب ولا يضع من الطيب، فهذا فعل محظورَيْنِ من محظورات الإحرام: لبس المخيط - أي: الجبة - وتضمخ بالطيب، فقال: «يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟» فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه الوحي.
وهذا فيه: دليل على أنه لا يجوز لإنسان أن يتكلم إلا بعلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق ما أجابه حتى جاءه الوحي من السماء.
قوله: «فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعال» لأن يعلى كان يتمنى أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي فأشار إليه عمر رضي الله عنه فأدخل رأسه على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: «فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط»، أي: من شدة ثقل الوحي ثقل عليه.
قوله: «ثم سري عنه» يعني: ارتفع عنه الوحي.
قوله: «أين الذي يسألني عن العمرة آنفًا؟» فيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان إذا سئل عن شيء وكان عنده علم أن يجيب، وإذا لم يكن عنده علم فإنه يؤجل السائل حتى يبحث أو يحيله على غيره.
قوله: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها» فيه: دليل على أن من لبس المخيط أو تضمخ بالطيب جاهلًا أو ناسياً أو مكرهاً فإنه يغسل الطيب ويخلع المخيط وليس عليه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالفدية.
وأما المتعمد فإن عليه الفدية، والفدية كما جاءت في حديث كعب بن عجرة لما حلق رأسه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تجد شاة؟» قال: لا،قال: «أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام»([1]). فدل على أن الجاهل والناسي إذا فعل محذورًا فإنه معفو عنه لهذا الحديث.
قوله: «اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»، يعني: فيما يمكن أن يتوافقا فيه مثل الطواف والسعي، وإلا فمن المعلوم أن العمرة ليس فيها الوقوف بعرفة وليس فيها رمي الجمار.
وقد استدل بعضهم بقوله: «اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك» على وجوب طواف الوداع في العمرة لأن الحج يصنع فيه طواف الوداع.
واحتج بهذا الشيخ محمد بن عثيمين وقال: هذا دليل على وجوب طواف الوداع في العمرة.
وجمهور العلماء على أن طواف الوداع مستحب للعمرة وليس بواجب، وإنما يجب طواف الوداع في الحج، وهذا الذي عليه الجمهور هو الصواب.
● [4044] هذه القصة وقعت بعد حنين لما أفاء الله على رسوله يوم حنين حين قسم الغنائم في الناس.
قوله: «لما أفاء الله» الفيء: هو الأموال والغنائم التي يغنمها المسلمون من الكفار في الحروب، وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئًا لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئًا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم وكانت غنائم حنين ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، وأربعة وعشرين ألفًا من الإبل وأربعين ألف شاة من الغنم.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «قسم في الناس»، حذف المفعول والمراد به الغنائم، ووقع في رواية الزهري عن أنس في الباب «يعطي رجالًا المائة من الإبل»([2])
قوله: «المؤلفة قلوبهم»، يعني: الذين أسلموا حديثًا حتى يتقوى إيمانهم فأعطى الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن وغيرهم ليتألف قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئًا فكأنهم وجدوا في أنفسهم شيئًا.
قوله: «كأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس»، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم هذه المقالة: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي؟»، يعني: جئتكم في المدينة وأنتم ضلال تعبدون الأوثان، فهداكم الله بي إلى الإسلام.
قوله: «وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟»، يعني: كانت بينكم الحروب الطاحنة، فألف الله بي بين قلوبكم، وكنتم فقراء فأصبحتم أغنياء.
قوله: «كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن»؛ وفي اللفظ الآخر: «أنهم بكوا حتى أخضلوا لحاهم»([3]) أسفًا على ما صدر منهم.
قوله: «لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا» يعني: جئتنا طريدًا فآويناك، وفقيرًا فواسيناك، لو شئتم أن تقولوا ذلك لقلتم.
ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟»، يعني: هؤلاء أخذوا الشاة والبعير وذهبوا بها إلى بيوتهم وأنتم ذهبتم بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ وفي اللفظ الآخر: «فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»([4])، أي: ما ترجعون به أفضل مما يرجعون به.
قوله: «لولا الهجرة لكنت امرءأ من الأنصار»، يعني: لولا الهجرة لكنت واحدًا منكم، لكني من المهاجرين الذين هاجروا، وهذا فيه: دليل على أن المهاجرين أفضل من الأنصار،
وفيه: بيان فضل الأنصار.
قوله: «ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها» هذه منقبة للأنصار، أي: فلو سلك الناس واديًا وشعبًا لاتبعت وادي الأنصار.
قوله: «الأنصار شعار والناس دثار» الشعار: هو الثوب الذي يلي الجسد ويلاصقه، والدثار: هو الثوب الذي فوقه، والمراد أنهم أقرب الناس له صلى الله عليه وسلم.
قوله: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» فيه: :علم من أعلام النبوة، والمراد أنه في المستقبل سوف يحصل أن يفضل الأمراء من غيركم عليكم ويمنعونكم حقكم في الأعطيات وفي الوظائف فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فوقع هذا كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وجاء في الحديث الآخر كما سيأتي أن أنسًا قال: فلم نصبر؟([5]).
وقوله: «في المؤلفة قلوبهم»، بدل بعض من كل والمراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلامًا ضعيفًا، وقيل: كان فيهم استظهر الشارح من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية».
قوله: «ولم يعط الأنصار شيئًا» ظاهر في أن العطية المذكورة كانت من جميع الغنيمة.
وقال القرطبي في المفهم: الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس ومنه كان أكثر عطاياه».
ومن المعلوم أن الغنيمة تقسم خمسة أخماس: خمس لله وللرسول يتصرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل فيه ما يكون فيه صالح الإسلام والمسلمين، وخمس لقرابة الرسول، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين وخمس لابن السبيل.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع مائة من الإبل. وهذا كثير.
فالراجح كما في قول القرطبي أن العطاء الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم كان من الخمس الذي لله وللرسول.
وذهب ابن القيم([6]) والحافظ ابن حجر رحمهما الله إلى أنه من رأس الغنيمة.
الغنيمة والذي يظهر أن الراجح قول القرطبي وهو قول أبي عبيد وهو أن العطاء الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤلفة قلوبهم من الخمس الذي لله ولرسوله وأما أربعة أخماس الغنيمة فقسمت بين الغانمين فهذا هو الذي يتمشى مع أصول الشريعة.
وما اختاره الحافظ وابن القيم من أن ذلك من الغنيمة وأنها قسمت في المؤلفة دون الغانمين فمرجوح لأن الخمس شيء كثير فكانت الغنيمة من الإبل أربعة وعشرين ألفًا ومن الغنم أربعين ألفًا فيكون الخمس ثمانية آلاف من الغنم وأربعة آلاف وثمانمائة بعير فبقي منها ألفان وأربعمائة.
ثم نقل الحافظ عن ابن القيم بيان الحكمة من فتح مكة أنه كان سببا لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام .والحكمة في كون هوازن حاربوا النبي صلى الله عليه وسلمنصر الله رسوله،فالنصر الحق إنما هو من عند الله وفي تقسيم الغنائم.
اقتضت حكمته أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه؛ لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم وتجتمع على محبته لأنها جبلت على حب من أحسن إليها ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم بخلاف قسمته على المؤلفة لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم فلما كان ذلك العطاء سببًا لدخولهم في الإسلام ولتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدخول فكان في ذلك عظيم
اقتضت تلك الحكمة أن تقسم تلك الغنائم في المؤلفة ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه ثم كان من تمام التأليف رد من سبي منهم إليهم فانشرحت صدورهم للإسلام فدخلوا طائعين راغبين وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة
قوله: «فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، أي: يوم القيامة؛ وفي رواية الزهري: «حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض»([7]) أي: اصبروا حتى تموتوا فإنكم ستجدونني عند الحوض فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم والثواب الجزيل على الصبر».
يعني: إن ظلمتم فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فتلقوا جزاءكم وتأخذوا حقكم ممن ظلمكم عند الله عز وجل.
ثم قال الحافظ /: «وفي الحديث: من الفوائد غير ما تقدم إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه »، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحجة عليهم وبين لهم وجه قسمه للغنائم،«وحسن أدب الأنصار في تركهم؛ المماراة والمبالغة في الحياء وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم لا عن شيوخهم وكهولهم
وفيه: مناقب عظيمة لهم لما اشتمل من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم البالغ عليهم وأن الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق؛
وفيه: المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبه بإقامة حجة من عتب عليه والاعتذار والاعتراف،
وفيه: علم من أعلام النبوة لقوله: «ستلقون بعدي أثرة»، فكان كما قال وقد قال الزهري في روايته عن أنس في آخر الحديث: «قال أنس: فلم يصبروا»؛ وفيه: أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء، وأن له أن يعطي الغني منه للمصلحة وأن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك.
ومشروعية الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصًّا أم عامًّا
وفيه: جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة»؛ وذلك لأن الرسول خصص الأنصار وجمعهم في خيمة وحدهم.
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وفيه: تسلية من فاته شيء من الدنيا مما حصل له من ثواب الآخرة والحض على طلب الهداية والألفة والغنى وأن المنة لله ورسوله على الإطلاق وتقديم جانب الآخرة على الدنيا والصبر عما فات منها ليدخر ذلك لصاحبه في الآخرة والآخرة خير وأبقى».
● [4045] هذا حديث أنس رضي الله عنه
وفيه: قصة هوازن وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم في غزوة حنين.
قوله: «قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله: ما أفاء من أموال هوازن» الفيء: هو المال الذي يأخذه المسلمون من أموال المشركين، فإن كان بقتال سميت غنيمة، وإن كانت بدون قتال يسمى فيئًا، قال الله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) [سورة الحشر: 7]، فإذا كانت فيئًا من دون قتال فهي لله وللرسول تصرف في المصارف العامة، وإن كانت بعد القتال يؤخذ الخمس من رأسها وتقسم الأربعة الأخماس على الغانمين.
وبعد غزوة هوازن غنم المسلمون أموالًا كثيرة من السبي: ستة آلاف من النساء والأطفال، ومن الإبل غنموا أربعة وعشرين ألفًا، ومن الغنم أربعين ألف شاة، وصار النبي صلى الله عليه وسلم يقسمها فيمن أسلم حديثًا حتى يتقوى إسلامهم فيعطيهم ليتألفهم على الإسلام، فأعطى رؤساء القبائل وصناديد قريش، أعطى كل واحد مائة من الإبل، أعطى الأقرع ابن حابس مائة بعير، وصفوان بن أمية مائة بعير، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة بعير، فهؤلاء رؤساء قبائل لهم مكانتهم ولهم تأثير على قبائلهم يطوعونهم، فلهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتقوى إسلامهم ولم يعط الأنصار شيئًا لأن الأنصار تقدم إسلامهم وثبت الإيمان في قلوبهم فوكلهم إلى إيمانهم وإسلامهم لكن بعض الشباب حديثي السن من الأنصار تأثروا بما حدث وتكلموا وقالوا: أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أناسًا ولا يعطينا وسيوفنا تقطر من دمائهم نحن قاتلناهم في مكة حتى فتحت ثم خرجوا معنا، فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم أرسل إليهم وجمعهم ثم خطبهم.
قوله: «قبة من أدم» يعني: خيمة من جلد.
قوله: «ولم يدع معهم غيرهم» يعني: دعا الأنصار خاصة.
قوله: «فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا» يعني: كبارنا «وأما ناس حديثة أسنانهم»، يعني: شباب صغار السن «فقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم»، وهؤلاء ليس عندهم نظر ولا تأمل في الحكمة التي من أجلها أعطى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لحداثة أسنانهم وقلة خبرتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر؛ أتألفهم» يعني: أسلموا قريبًا وعهدهم، بالكفر قريب، وأتألفهم على الإسلام.
قوله: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟» يخاطب الأنصار ويقول لهم: أما ترضون أن يذهب الناس بالإبل والبقر والغنم وأنتم تذهبون بالرسول صلى الله عليه وسلم؟!
قوله: «فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يرجعون به أفضل مما يرجع به غيرهم، وفي لفظ آخر قالوا: «يا رسول الله، قد رضينا»([8])، وفي لفظ قال: «يا معشر الأنصار إني جئتكم متفرقين فجمعكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي» بين فضله صلى الله عليه وسلم عليهم، فكان كلما قال شيئًا قالوا: «الله ورسوله أمن حتى بكوا وأخضلوا لحاهم»([9]).
قوله: «فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ستجدون أثرة شديدة» الأثرة: هي تفضيل الأمراء غيركم عليكم وإيثارهم في الأعطيات والوظائف.
قوله: «فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله؛ فإني على الحوض»، أي: اصبروا على الأثرة وعلى منعكم من حقكم بتفضيل غيركم عليكم حتى يتوفر لكم الأجر وتأخذوا حقكم كاملًا إذا لقيتم الله ورسوله يوم القيامة.
قوله: «فقال أنس: فلم يصبروا» هذه هي طبيعة الإنسان عدم الصبر، والصابر يسكت ولا يتكلم ولا يطالب بحقه وإن كان له الحق.
وظاهر الأعطيات التي تألف بها النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الذين هم حديثو عهد بالإسلام أنها من الخمس، فالخمس شيء كثير.
والمسألة فيها خلاف كما ذكرنا سابقا؛ فبعضهم قال: من رأس الغنيمة كابن القيم([10]) والحافظ وجماعة، وبعضهم قال: من الخمس وهو الأقرب.
● [4046] قوله: «فغضبت الأنصار» هذا عام أريد به الخصوص فليس المراد أنهم كلهم غضبوا وإنما غضب بعض الشباب صغار السن، أما كبار السن فلم يغضبوا، وإنما أسلموا لله ولرسوله.
● [4047] قوله: «لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء» فالطلقاء: هم أهل مكة، وكان عددهم ألفين، فيكون الجميع اثني عشر ألفًا، عشرة آلاف ممن قدموا معه من المدينة وألفان من أهل مكة.
فغزوة حنين كانت بعد فتح مكة مباشرة، فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان ثم حدثت غزوة حنين في شوال بعدها مباشرة، ولم يتمكن الإيمان في قلوب الطلقاء فاحتاجوا إلى أن يتقوى إيمانهم، فلهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الإبل والغنم.
قوله: «فأدبروا» يعني: انهزموا بعد أن رشقتهم هوازن بالنبل وكان رشقًا متتابعًا في الفجر قبل أن يتضح نور الصباح.
فلما انهزموا ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «يا معشر الأنصار»، قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، نحن بين يديك، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم» ولعله نزل ليأخذ ترابًا ليرمي به وجوه القوم حتى ينهزموا.
قوله: «فقال: أنا عبد الله ورسوله»، ورماهم بالحصى، فانهزم المشركون، فأعطى الطلقاء والمهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئًا فكأنهم وجدوا في نفوسهم ضيقًا، وإنما أعطى الطلقاء من الغنيمة ليتقوى إيمانهم؛ فإنهم أسلموا حديثًا وما مضى عليهم إلا شهر، فأعطى أبا سفيان قائد الحروب مائة، وأبو سفيان ما أسلم إلا في مكة حديثًا، فذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأعطاه مائة من الإبل لأنه قائد للجيوش وله مكانته.
والحديث فيه فضل الأنصار حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا، لاخترت شعب الأنصار» فالرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار أينما ذهبوا، لو سلكوا واديًا والناس واديًا كان هو مع الأنصار.
● [4048] بين النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار سبب إعطائه المهاجرين وقريشًا دونهم، قال: «إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة»، جاهلية لأنهم أسلموا قريبًا فما مضى عليهم سوى شهر، ومصيبة لأنهم حصل لهم ما حصل - حسب ما يظنون أنه مصيبة - من فتح مكة عليهم وأنهم ذهب عنهم ما يعتقدونه من السلطان والزعامة فاعتبروا هذا مصيبة، فهو يجبرهم ويتألفهم بهذه العطايا التي يعطيهم، ولهذا قال: «إني أردت أن أجبزهم وأتألفهم».
● [4049]، [4050] هذان الحديثان هما حديث واحد رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وساقه المؤلف من طريقين.
قوله: «قال رجل من الأنصار» لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى الأقرع بن حابس وترك الأنصار، قال هذا الرجل: «ما أراد بها وجه الله»، وفي اللفظ الآخر: «هذه قسمة ما أريد بها وجه الله»([11]). فهذا الرجل منافق، وهو معتب بن قشير.
قوله: «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته» هذا إخبار من باب النصيحة لله وللرسول وليس من باب الغيبة، «فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم»، وفي اللفظ الآخر: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا؛ أعطى الأقرع بن حابس -وهو رئيس قبيلة بني تميم- مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن، فقال هذا الرجل: «ما أريد بهذه القسمة وجه الله، قال عبدالله بن مسعود: لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم»(1) وفي اللفظ الآخر: «تغير وجهه حتى صار كالصرف»، وهو الصبغ الأحمر، حتى قال ابن مسعود: «تمنيت أني لم أخبره»([12])؛.
قوله: «رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، يعني: أن بني إسرائيل آذوه؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) [سورة الأحزاب: 69]؛ آذوه وقالوا: إنه آدر يعني: كبير الخصيتين.
فالحديث فيه التأسي بالأخيار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تأسى بموسى عليه السلام لأن فيه عزاء وتسلية للإنسان إذا أصيب بمصيبة، فعليه أن يتعزى بأخبار الأخيار الذين يصبرون كالرسل والأنبياء والصالحين.
قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «وأعطى عيينة»، أي: ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. قوله: «وأعطى ناسًا»، تقدم ذكرهم في الكلام على المؤلفة قريبًا. وفي هذه العطية يقول العباس بن مرداس السلمي كما أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي في الدلائل من طريق عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطى المؤلفة قلوبهم، من سبي حنين مائة مائة من الإبل»([13]).
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم لضعف إيمانهم فقد أسلموا حديثًا فأعطاهم ليتألف قلوبهم ويقوى إيمانهم، وهم أهل مكة الذين أسلموا حديثًا ورؤساء القبائل من هوازن وغطفان.
ثم قال الحافظ /: «فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة».
هوالذي كان يقود الجيوش في أحد أسلم وأعطاه مائة بعير؛ ليقوى إيمانه لأنه أسلم حديثًا ما مضى عليه شهر؛ ولهذا جاء في بعض الأحاديث أن النبي قال: «تلومني في لعاعة من الدنيا أتألفهم على الإسلام»([14]).
ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة».
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من رؤساء القبائل، كل واحد أعطاه مائة بعير، وهذه عطية عظيمة. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «أعطى رجلًا غنمًا بين جبلين»، غنم كثيرة تملأ الوادي، أعطاها لشخص، فذهب إلى قومه وكان رأسا فيهم فقال: «يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر»([15]). فأثرت فيه العطية والمال. فأعطى أبا سفيان بن حرب قائد الجيوش مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير، وأعطى عيينة بن حصن مائة بعير، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة؛ فهذه ستمائة، وأعطى العباس بن مرداس أقل من مائة فتأثر لما نقصه، وذكر أبياتا من الشعر.
يقول:
تجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع»
والنهب هو المال الذي يأخذه من الغنيمة، يعني: أتجعل عطيتي أقل من عطيتهم وأنا مثلهم، فاعتبر أن هذا نقص له، فكأنه يقول: إن الذي تضعه اليوم يا رسول الله لا يرفع، والذي تجعله دون الناس يكون وضيعًا إلى يوم القيامة.
«وما كان حصن ولا حابس |
يفوقان مرداس في المجمع» |
ومرداس أبوه، يعني: ما كان حصن ولا حابس يفوقان أباه في الشرف.
«وما كنت دون امرئ منهما |
ومن تضع اليوم لا يرفع» |
أي: من تضعه يا رسول الله اليوم لا يرفع، فأنت حينما تنقصني من المال وضعتني، وهو بذلك يستعطف الرسول حتى يكمل له المائة مثلهم فأكمل النبي صلى الله عليه وسلم له المائة وصار مثلهم.
قال الحافظ ابن حجر /: «وفي الحديث: جواز المفاضلة في القسمة» فبعضهم أعطاه مائة وبعضهم أقل من مائة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتألف على الإسلام حسب اجتهاده ولا يلزم التسوية بينهم.
ثم قال: «وفيه: الإعراض عن الجاهل»، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن هذا الجاهل الذي قال: «تلك قسمة ما أريد بها وجه الله» وهو معتب بن قشير، وهو منافق، ولم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعاقب عبدالله بن أبي؛ لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولأنه لا ينتصر لنفسه صلى الله عليه وسلم، حتى المرأة اليهودية التي سمته وجعلت له في اللحم سمًّا ما عاقبها، لكن لما مات الصحابي قتلها قصاصًا فهو لا ينتقم لنفسه عليه الصلاة والسلام، لكن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك الذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقتل من قبل ولي الأمر ولا يعفى عنه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الرجل حين استأذن خالد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله، فمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «إنه يصلي» قالوا: كم من مصل وهو لا يريد وجه الله، فقال: «إني لم أومر أن أنقب عن بطون الناس أو أشق بطونهم»([16]). وسيأتي هذا الحديث.
ثم قال: «وفيه: الصفح عن الأذى والتأسي بمن مضى من النظراء».
● [4051] قوله: «لما كان يوم حنين»: يعني: غزوة حنين، وهو الوادي الذي وقعت فيه المعركة.
قوله: «أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم» - وهم قبائل معروفة - «بنعمهم وذراريهم» النعم: الإبل، والذراري: النساء والأطفال، ساقها الله حتى تكون غنيمة للمسلمين.
قوله: «ومع النبي صلى الله عليه وسلم»، أي: من الجيش «عشرة آلاف من الطلقاء»: وهم أهل مكة، وسموا الطلقاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم ومنَّ عليهم، لما فتح مكة ما قتلهم، والفاتح إذا فتح يقتل ويأسر لكن النبي صلى الله عليه وسلم، منَّ عليهم وأطلقهم قال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» بعد العداء الشديد وبعد الأذى وبعد الحروب وبعد فتح مكة وصارت السلطة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم» أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)» [سورة يوسف: 92]»([17]). هذا حلمه وخلقه صلى الله عليه وسلم كما قال الله له: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[سورة القلم: 4].
وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى حنين لما سمع بأن حنينًا تجمعوا لقتاله توجه إليهم ومعه عشرة آلاف منهم الأنصار وأخذ معه من الطلقاء من أهل مكة ألفين فصار الجميع اثني عشر ألفًا.
قوله: «فأدبروا عنه حتى بقي وحده» الصواب أنه بقي معه أناس، أما هذا فعلى حسب علم أنس، وإلا فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه ينادي، أو يُحمل ذلك على أن أنسًا اعتبر العدد القليل الذين معه كأنه وحده.
فلما جاءوا كانت هوازن وغطفان قد عبئوا وتهيئوا وكمنوا له في مكامن وهيئأوا أنفسهم، فجاءوهم بعد الفجر وقبل ظهور النور، فلما أقبلوا عليهم رشقوهم بالنبل رشقة واحدة، ففروا وأدبروا حتى بقي النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
قوله: «فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما؛ التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار... ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار» نادى النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار لأنهم قد ثبت الإيمان في قلوبهم وهاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يناد أهل مكة لأنهم أسلموا حديثًا ولم يكن الإيمان قد رسخ بعد في قلوبهم، فقالوا: «لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك»؛ وفي اللفظ الآخر: «أنهم عطفوا عليه عطفة البقر على أولادها»([18])، أي: جاءوا مسرعين، وفي اللفظ الآخر أنه أمر العباس أن ينادي، وكان جهوري الصوت: «يا أهل سورة البقرة، فعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها»([19]).
قوله: «وهو على بغلة بيضاء فنزل» أي: ليحثو في وجوههم التراب فينهزموا، «قال: أنا عبدالله ورسوله، فانهزم المشركون وأصاب يومئذ غنائم كثيرة» سبق أنها أربعون ألف شاة، وخمس أو أربع وعشرون ألفًا من الإبل، وستة آلاف من السبايا - النساء والأطفال - «فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئًا»،.
قوله: «فقالت الأنصار» هذا عام أريد به الخصوص، يعني: قال الشباب الصغار منهم: «إذا كانت شديدة فنحن ندعى، وتعطى الغنيمةُ غيرَنا؟»، يعني: إذا كان القتال والحرب فنحن ندعى وإذا جاءت الغنائم يعطاها غيرنا، وهذا لقصر نظرهم وعدم تأملهم بسبب صغر السن «فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني فسكتوا؟»، فأرضاهم النبي صلى الله عليه وسلم وبين فضلهم ومكانتهم وأنه صلى الله عليه وسلم معهم حيثما كانوا.
قوله: «وقال هشام»، يعني: الراوي، وهو هشام بن زيد، قال: «يا أبا حمزة -وهي كنية أنس - أنت شاهد ذاك؟»، يعني: هذا المكان، «قال: وأين أغيب عنه؟»، يعني: كنت معهم ومع الأنصار.
* * *
المتن
[57/55] بابُ السرية التي قبل نجد
● [4052] حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فكنت فيها، فبلغت سِهامُنا اثني عشر بعيراً، ونفلنا بعيراً بعيراً، فرجعنا بثلاثة عشر بعيراً.
الشرح
● [4052] قوله: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فكنت فيها» السرية: هي قطعة من الجيش تخرج للجهاد وليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج معهم سميت غزوة، وهذه السرية كانت جهة نجد.
قال الحافظ ابن حجر /: «هكذا ذكرها بعد غزوة الطائف والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه إلى فتح مكة... وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا خمسة وعشرين وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة، والسرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية هي التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار».
فكل واحد جاء باثني عشر بعيرًا غنيمة؛ حيث كان عددهم خمسة وعشرين، ونفلهم أمير الجيش بعيراً زيادة من الخمس، فصار لكل واحد ثلاثة عشر بعيرًا.
* * *
المتن
[58/55] باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة
● [4053] حدثني محمود، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، ح. وحدثني نعيم، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع يديه فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، مرتين.
الشرح
● [4053] هذا الحديث في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، و«جذيمة» على وزن عظيمة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا قال الحافظ ابن حجر /: ««فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا» هذا من ابن عمر راوي الحديث يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة ويؤيدفهمه أن قريشًا كانوا يقولون لكل من أسلم: صبأ حتى اشتهرت هذه اللفظة وصاروا يطلقونها في مقام الذم، ومن ثم لما أسلم ثمامة بن أثال وقدم مكة معتمرًا قالوا له: صبأت قال: لا بل أسلمت. فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت استعملها هؤلاء، وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها لأن قولهم: صبأنا أي: خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولًا قولهم؛ ، ولكنهم لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوا يقولون: «صبأنا صبأنا»، يعني: خرجنا من الدين الذي نحن فيه إلى دين الإسلام، فلم يفهم خالد من ذلك أنهم أسلموا، وقال خالد لآصحابه الذين كانوا معه في السرية: اتركوا السلاح ودفع إلى كل واحد أسيرًا حتى إذا كان في بعض الأيام أمر خالد أن يقتل كل رجل أسيره، فقتل كل واحد أسيره إلا عبدالله بن عمر وأصحابه، قال: «والله لا أقتل أسيري» حيث قالوا: صبأنا «ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره»، حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فعظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ورفع يديه وتبرأ من صنيع خالد، فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، مرتين» وذكر ابن هشام في زياداته أنه انفلت منهم رجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فقال: «هل أنكر عليه أحد؟»([20])، فوصف له صفة ابن عمر وسالم مولى أبي حذيفة.
وهذا الحديث فيه أن من قال: لا إله إلا الله، أو قال: أسلمت، من المشركين يكف عنه ويحكم بإسلامه، فإن التزم بالإسلام فهو مسلم، وإن لم يلتزم بالإسلام أو فعل ناقضًا من نواقضه عومل معاملة المرتد فيقتل من قبل ولاة الأمور.
وكان هذا مبلغ علمهم وفهمهم؛ لأن قريشا كانوا يقولون للذي يسلم صابئًا؛ لأنه خرج من دينه إلى دين آخر، وأما ابن عمر فقد فهم ذلك فتوقف ولم يقتل أسيره، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شدد على خالد ورفع يديه وقال: «إني أبرأ إليك مما صنع خالد» قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا».
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا فوداهم كلهم، فدفع ديتهم من عنده من بيت المال حتى ميلغة الكلب وهو الإناء الذي يشرب فيه الكلب دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قتلوا بغير حق. ففيه: دفع دية من قتل خطأ من قبل ولي الأمر، ولم يعزل النبي خالدًا لأنه مجتهد ولأنه قائد مظفر.
قوله: فجعل خالد يقتل منهم ويأسر في كلام ابن سعد أنه أمرهم أن يستأسروا، فاستأسروا فكتف بعضهم بعضًا، وفرقهم في أصحابه، فيجمع بأنهم أعطوا بأيديهم بعد المحاربة .
وهذا مثل ما حصل لأسامة بن زيد لما رفع السيف على شخص قال: أسلمت فقتله أسامة فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «قتلته بعدما قال: لا إله إلا الله»، قال: يا رسول الله إنه قالها متعوذًا، فقال: «أشققت عن قلبه؟! كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!»([21]).
ثم قال الحافظ /: «ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا فقال: «اخرج إلى هؤلاء القوم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك»([22]). فخرج حتى جاءهم ومعه مال، فلم يبق لهم أحد إلا وداه.
* * *
المتن
[59/55] سرية عبدالله بن حذافة السهمي وعلقمة بن مُجَزِّز المدلجي
ويقال إنها سرية الأنصاري.
● [4054] حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبدالواحد، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثني سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن، عن علي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب قال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف».
الشرح
● [4054] في هذه القصة أن عبدالله بن حذافة كان أميرًا على السرية فلما كانوا ببعض الطريق كأنهم أغضبوه فقال: «أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبًا» قالوا: سمعًا وطاعة «فجمعوا» قال: أوقدوها نارًا فأججوها قال: ادخلوا فيها فاحرقوا أنفسكم فجعل بعضهم يمسك بعضًا ويقولون: نحن آمنا بالله ورسوله فرارًا من النار فكيف ندخلها؟! فلم يدخلوا النار حتى خمدت وسكن غضبه فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة» وهذا من باب الوعيد يعني: لو دخلوها وقتلوا أنفسهم وهو من الكبائر؛ لصار لهم حكم القاتل لنفسه واتصل عذاب الآخرة بعذاب الدنيا، وليس المراد الحكم عليهم بالخلود في النار.
قوله: «الطاعة في المعروف» فليس من المعروف أن يطاع أحد في المعاصي، سواء كان أميرا أو أبا أو زوجا أو سيدا، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([23]).
فقد أخطأ أمير السرية وهو ليس معصوما وإن كان صحابيًّا، فقد يغلط الصحابي مثلما غلط بعض من شرب الخمر من الصحابة، ومثلما غلط من تكلم في الإفك كحسان وغيره، ومثلما غلط حاطب بن أبي بلتعة... وكتب إلى المشركين في خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحابة ولا سيما من شهد بدرًا مسددون وموفقون فإذا وقعوا في معصية يوفقهم الله لما يمحوها: إما بتوبة، وإما بابتلاءات، وإما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما بحسنات ماحية.
وهذا الحديث فيه مشروعية بعث الإمام السرايا وتأمير الأمير عليهم،
وفيه: أن الأمير لا يطاع في المعصية وكذلك الأب أو الزوج بالنسبة للمرأة أو السيد بالنسبة للمولى فلا يطاع في المعصية،
وفيه: أن الصحابة ليسوا معصومين فهذا صحابي لكنه أخطأ.
* * *
المتن
[60/55] بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع
● [4055] حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا عبدالملك، عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: واليمن مخلافان، ثم قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا»، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبدالله بن قيس، أيُّمَ هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يقتل، قال: إنما جيء به لذلك فانزل، قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل، ثم نزل، فقال: يا عبدالله، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقا، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
● [4056] حدثنا إسحاق، قال: حدثنا خالد، عن الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: «ما هي؟» قال: البتع والمزر، فقلت لأبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال: «كل مسكر حرام».
رواه جرير وعبدالواحد عن الشيباني عن أبي بردة.
([1]) أحمد (4/242)، والبخاري (1816)، ومسلم (1201).
([2]) أحمد (3/165)، والبخاري (4331).
([3]) أحمد (3/76).
([4]) أحمد (3/165)، والبخاري (3147)، ومسلم (1059).
([5]) أحمد (3/165)، والبخاري (3147)، ومسلم (1059).
([6]) انظر «زاد المعاد» (3/484).
([7]) أحمد (3/224)، والبخاري (4331)، ومسلم (1059).
([8]) أحمد (3/165)، والبخاري (3147)، ومسلم (1059).
([9]) أحمد (3/76)، والبخاري (4330)، ومسلم (1061).
([10]) انظر «زاد المعاد» (3/484).
([11]) أحمد (1/411)، والبخاري (3405)، ومسلم (1062).
([12]) أحمد (1/441)، ومسلم (1062).
([13]) مسلم (1060)، والبيهقي في «الدلائل» (5/248).
([14]) أنظر: ابن أبي شيبة (12/156- 157، 14/528- 529)؛ أبو يعلى (1092)، الدلائل للبيهقي (5/176- 177) هو بنحوه في المسند (3/ 76) .
([15]) أحمد (3/107)، ومسلم (2312).
([16]) أحمد (3/4)، والبخاري (4351)، ومسلم (1064).
([17]) «سيرة ابن هشام» (5/74)، و«فتح الباري» (8/18).
([18]) أحمد (1/207)، وأبو عوانة (4/279)، والحميدي (1/218).
([19]) أحمد (1/207)، والحميدي (1/218).
([20]) «فتح الباري» (8/57).
([21]) أحمد (5/207)، ومسلم (96).
([22]) البيهقي في «الدلائل» (5/178).
([23]) أحمد (1/131).