شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-18)

00:00
00:00
تحميل
102

 ●         [4057] حدثنا مسلم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا سعيد بن أبي بردة، عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا»، فقال أبو موسى: يا نبي الله، إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر، وشراب من العسل البتع، فقال: «كل مسكر حرام»، فانطلقا، فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا، قال: أما أنا فأقومُ وأنامُ وأقومُ، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وضرب فسطاطا فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى؛ فإذا رجل موثق فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه. تابعه العقدي ووهب عن شعبة

وقال وكيع والنضر وأبو داود، عن شعبة، عن سعيد، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [4058] حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا عبدالواحد، عن أيوب بن عائذ، قال: حدثنا قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: حدثني أبو موسى قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي، فجئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم منيخ بالأبطح، فقال: «أحججت يا عبدالله بن قيس؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «كيف قلت؟» قال: قلت: لبيك إهلال كإهلالك، قال: «فهل سقت معك هديا؟» قلت: لم أسق، قال: «فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، ثم حل»، ففعلت حتى مشطت لي امرأة من نساء بني قيس، ومكثنا بذلك حتى استخلف عمر.

 ●         [4059] حدثني حبان، قال: أخبرنا عبدالله، عن زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبدالله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - حين بعثه إلى اليمن -: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».

 ●         [4060] حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون، أن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)[النساء: 125]، فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم.

زاد معاذ، عن شعبة، عن حبيب، عن سعيد، عن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن، فقرأ معاذ في صلاة الصبح سورة النساء، فلما قال: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)، قال رجل خلفه: قرت عين أم إبراهيم.

الشرح

قوله: «بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع» كانت حجة الوداع في السنة العاشرة وهذا البعث كان في السنة التاسعة.

 ●         [4055] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن قبل حجة الوداع، بعثهما أميرين كل واحد منهما على مخلاف، قال: «واليمن مخلافان» يعني: إقليمان، كل واحد في إقليم ولعل بعضها في السهل أو بالجبل، وكان جهة معاذ العليا وهي صوب عدن، وجهة أبي موسى السفلى.

قوله: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا» هذا التيسير والتبشير في حدود الشرع وهو مقيد النصوص الأخرى، وذلك لأن التيسير والتبشير سبب لقبول الإسلام والانقياد له،
وفي الحديث: الآخر: «إن هذا الدين يسر»([1]) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة»([2]).

ولا شك أن الأخذ بالأيسر مطلوب لا سيما إذا لم يكن هناك مخالفة للنص، أما إذا كان في المسألة دليل فيجب الأخذ به، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا([3]) كما في الحديث.

قوله: «فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه» يعني: جدد العهد به وزاره وسلم عليه فصار حديث العهد به.

قوله: «فسار معاذ في أرضه قريبًا من صاحبه أبي موسى» في مرة من المرات.

قوله: «فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إلىه وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ: يا عبدالله بن قيس أيُّم هذا؟» استفهام، يعني: ما هذا الرجل المقيد؟

قوله: «قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه» وفي الرواية الأخرى: «كان يهوديا أسلم ثم ارتد»([4]) يعني: وسيقتل.

قوله: «لا أنزل حتى يقتل قال: إنما جيء به لذلك فانزل» وذلك والله أعلم من باب الحزم والصرامة في الحق والمبادرة في تنفيذ الأحكام حتى لا يتجرأ الناس على الكفر والمعاصي.

وسأل كل منهما صاحبه فقال معاذ لأبي موسى: «يا عبدالله، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقًا» يعني: يلازم أبو موسى القراءة ليلًا ونهارًا شيئًا بعد شيء، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن يحلب الناقة ثم يتركها حتى تدر ثم يحلب مرة أخرى، أما معاذ فقال: «أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي» فمعاذ يجزئ الليل فيجعل جزءًا أول الليل للنوم وجزءا آخر الليل للقيام والقراءة؛ لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام من أول الليل إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه وإذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي([5]) وهو دأب الصالحين؛ ولهذا قال: «فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي» يعني: يقرأ في صلاته.

قوله: «فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» هذه كلمة عظيمة من معاذ رضي الله عنه فهو يحتسب عادة النوم ليتقوى به على طاعة الله فتصير بالنية الصالحة عبادة، فالعادات كالأكل والشرب تصبح بالنية عبادات، وإنما ينام ليستفيد لأنه لو بقي طوال الليل قائما ما استطاع أن يقوم بعمل، فالمقصود من قولة معاذ رضي الله عنه التذاكر فيما ينفع وليس الرياء فقد يكون هناك ما يدعو إلى ذكر هذا الشيء وتكون فيه مصلحة فلولا أنهم تذاكروه لما بلغنا؛ مثلما قال عثمان رضي الله عنهلما اطلع على الناس: «أسألكم هل قال رسول الله: من يشتري بئر رومة؟» فاشتريتها بمالي هذا([6]).

وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث فيه: دليل على أن أبا موسى كان عالمًا فطنًا حاذقًا؛ ولهذا ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، واعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي ي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوا إليه الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم في صفين، ونقل عن ابن العربي أنه قال: الحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى ولهذا طعن الخوارج والروافض فيه وهذا من جهلهم وضلالهم، ولقد طعنوا في الصحابة لأنهم أهل بدعة.

 ●         [4056] هذا الحديث فيه بيان حكم عام وقاعدة عامة وهو تحريم كل مسكر فالعبرة بالإسكار قال صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» وفي اللفظ الآخر: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»([7]) فهذه قاعدة أن المسكر خمر من أي: شيء كان سواء كان من مأكول أو مشروب أو مشموم ومن ذلك نبيذ العسل وهو البتع ونبيذ الشعير وهو المزر ونبيذ العنب ونبيذ التمر ويسمى المريس، وهذه الأشربة إذا كانت قبل الإسكار فهي مباحة تُشرب فإذا وصلت إلى حد الإسكار بأن تخمرت وقذفت الزبد فيجب إتلافها لأنها تكون خمرا.

و كان النبي صلى الله عليه وسلم ينبذ له النبيذ فيشربه في اليوم والغد وفي اليوم الثالث يهرقه أو يسقيه الخادم([8]) خشية أن يختمر.

 ●         [4057] هذا حديث أبي موسى وقد سبق،
وفيه: زيادة هنا قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا» يعني: لا تختلفا؛ وذلك لأن الاختلاف منفذ للأعداء وسبب في التفرق، ثم سأل أبو موسى: هل يجوز شراب الشعير - ويسمى المزر - وشراب العسل - ويسمى البتع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» فطالما أسكر فهو حرام، أما قبل الإسكار فلا بأس.

قوله: «فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا» قال الحافظ ابن حجر /: «أي: ألازم قراءته ليلًا ونهارًا شيئًا بعد شيء وحينًا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب وهكذا».

فقال معاذ: «أما أنا فأقوم وأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» يعني: إذا نام يحتسب نومته وينوي أن يتقوى بها على طاعة الله ثم يقوم ويؤدي العمل.

قوله: «وضرب فسطاطا» أي: خيمة.

قوله: «فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى؛ فإذا رجل موثق» أي: موثق اليدين إلى عنقه.

قوله: «فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ: لأضربن عنقه» وسبق أنه قال: لا أنزل حتى تضرب عنقه. فضربت عنقه ثم نزل معاذ، وهذا من باب الحزم فينبغي أن تنفذ الأحكام في الجاني وألا تؤخر؛ لأن التأخر مدعاة إلى التساهل، ولأنه قد يأتي ما يمنع من إقامة الحد علىه.

 ●         [4058] هذا حديث أبي موسى رضي الله عنه،
وفيه: أن أبا موسى رضي الله عنه حج من اليمن حجة الوداع، وكذلك حج علي رضي الله عنه أيضًا.

قال أبو موسى رضي الله عنه: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي فجئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم منيخ بالأبطح» الأبطح: الوادي الذي بين مكة وبين منى، ويسمى الآن العزيزية، وهو الآن ليس واديًا فقد اتصل البنيان.

قوله: «أحججت يا عبد الله بن قيس؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: كيف قلت؟» أي: في إحرامك.

قوله: «قلت: لبيك إهلال كإهلالك» يعني: كإهلال الرسول صلى الله عليه وسلم.


وفيه: دليل على جواز أن يهل الإنسان بما أهل به فلان، فيقول: أهللت بما أهل به فلان - إذا كان يعرفه - ثم ينظر إذا كان أهل فلان بالحج أو بالحج والعمرة فيكون مثله؛ ولهذا سأله صلى الله عليه وسلم قال: «فهل سقت معك هديا؟ قلت: لم أسق، قال: فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة ثم حل»،
وفيه: دليل على أن من لم يسق الهدي فإنه يجوز له أن يفسخ نيته ويجعلها عمرة ويطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، وهذا هو الأفضل له؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى رضي الله عنه أن يهل بالعمرة، وقال: طف واسع وقصر واجعلها عمرة ثم تحلل، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي، أما من ساق الهدي فلا يتحلل حتى يذبح هديه.

قوله: «ففعلت حتى مشطت لي امرأة من نساء بني قيس» وفي لفظ آخر: «حتى جئت إلى امرأة من بني قيس فمشطت رأسي»([9]) وهذه إحدى محارمه من أخواته أو عماته أو خالاته.

قوله: «ومكثنا بذلك» فيه: أن أبا موسى صار يفتي بالتمتع في الحج وصار يأمر الذين لم يسوقوا الهدي بالتحلل، فقيل له بعد ذلك في خلافة عمر: إن عمر يفتي بالإفراد بالحج اجتهادًا منه وكذلك الصديق وكذلك عثمان فالخلفاء الثلاثة يفتون الناس بالإفراد بالحج حتى يهل بالعمرة في سفرة أخرى فلا يزال هذا البيت يحج ويعتمر، وفي الرواية الأخرى لما قيل لأبي موسى: إن عمر يفتي بخلاف ما تفتي - قال: «أيها الناس اتئدوا فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فائتموا به»([10]) يعني: فانظروا ماذا يأمركم به،
وفيه: التأدب مع ولاة الأمور وترك الفتوى لفتوى ولي الأمر.

وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، فليس كل أحد يستطيع أن يأتي بالعمرة في سفرة أخرى.

 ●         [4059] هذا الحديث في بعث معاذ إلى اليمن وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله»، وجاء فيه وجوب الترتيب في دعوة الكفار وأهل الكتاب فالدعوة أولا إلى التوحيد ثم إلى الصلاة ثم إلى الزكاة، فالكفار لا يدعون أولا إلا إلى التوحيد، ولا يدعون قبله إلى الصلاة ولا إلى الزكاة ولا إلى غير ذلك؛ لأنها لا تقبل منهم حتى يوحدوا الله؛ ولهذا قال: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله» وفي لفظ: «أن يوحدوا الله»([11]).

و لم يذكر الحج ولم يذكر الصوم؛ فالحج فرض بعد ذلك.

وفي رواية أخرى فسر المؤلف كلمة «طاعوا» فقال: «طَوَّعَتْ: طاعت وأطاعت لغة، طِعت وطُعت وأطعت»([12]) وذلك على عادة البخاري في تفسير اللفظة الغريبة من القرآن إذا وافقت لفظة من الحديث، فأراد أن يفسر قول الله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) [المائدة: 30].

فقوله: «فإن هم طاعوا لك» وفي رواية «أطاعوا»([13]) وكلاهما صحيح، وأطاع بالهمزة للتعدي، فيقال: طاع يطيع من الثلاثي، ويقال: أطاع يطيع من الرباعي.

قال الحافظ ابن حجر /: «والحاصل أن طاع وأطاع استعمل كل منهما لازمًا ومتعديًّا».

  [4060] هذا الرجل لما سمع معاذا يقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125] قال كما في الرواية الأولى: «لقد قرت عين أم إبراهيم» أو قال كما في الثانية: «قرت عين أم إبراهيم» والأقرب أن الرجل الذي قال هذا جاهل، والجاهل بالحكم معذور، ويحتمل أنه لما سمع ذلك ذهل وسها من شدة استحضاره؛ فهو معذور، ولم يؤمر بإعادة الصلاة كما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن الحكم السلمي رضي الله عنه لما تكلم في الصلاة، فمن تكلم في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا فصلاته صحيحة، أما لو تكلم متعمدًا فصلاته باطلة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس»([14]).

وقال بعضهم: قد يكون أمره معاذ بالإعادة ولم ينقل، وكل هذا محتمل.

* * *

المتن

[61/55] بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد
إلى اليمن قبل حجة الوداع

 ●         [4061] حدثني أحمد بن عثمان، قال: حدثنا شريح بن مسلمة، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، سمعت البراء: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه، فقال: «مر أصحاب خالد: من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل»، فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواق ذوات عدد.

 ●         [4062] حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا علي بن سويد ابن منجوف، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغضُ عليا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: «يا بريدة، أتبغض عليا؟» فقلت: نعم، قال: «لا تبغضْه؛ فإن له في الخمس أكثر من ذلك».

 ●         [4063] حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبدالواحد، عن عمارة بن القعقاع بن شُبْرُمَةَ، قال: حدثنا عبدالرحمن بن أبي نعم، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي ابن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؛ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟» قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، قال: «ويلك، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟!»، قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، فقال خالد: وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، قال: ثم نظر إليه وهو مقفي وقال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، وأظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».

 ●         [4064] حدثني المكي بن إبراهيم، عن ابن جريج، قال عطاء: قال جابر: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقيم على إحرامه.

زاد محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال عطاء، قال جابر: فقدم علي بن أبي طالب بسعايته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بما أهللت يا علي؟»، قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فأهد وامكث حراما كما أنت»، قال: وأهدى له علي هدياً.

 ●         [4065] حدثنا مسدد، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن حميد الطويل، قال: حدثنا بكر، أنه ذكر لابن عمر، أن أنسا حدثهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة وحجة، فقال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال: «من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة»، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بم أهللت؟ فإن معنا أهلك»، قال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فأمسك؛ فإن معنا هدياً».

الشرح

هذا الباب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد م إلى اليمن، واليمن بلدة واسعة الأرجاء؛ ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراء عدة إلى اليمن منهم: علي وأبو موسى ومعاذ وخالد بن الوليد وغيرهم ي.

وذكر الحافظ ابن حجر حديثًا عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أحسن القضاء، قال: فوضع يده على صدري، وقال: «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه»([15])، وقال: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر»([16])، فينبغي للقاضي ألا يجلس لأحد الخصمين حتى يأتي الخصمان جميعًا ثم يسمع من هذا ويسمع من هذا.

 ●         [4061] ذكر حديث البراء
وفيه: أنه قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه» يعني: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن أميرًا ثم لما انتهت المدة رجع خالد رضي الله عنه وبعث عليًّا رضي الله عنه مكانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «مر أصحاب خالد: من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل» قال البراء: «فكنت فيمن عقب معه» قال الحافظ ابن حجر /: «وقال الخطابي: التعقيب هو أن يعود بعض العسكر بعد الرجوع ليصيبوا غزوة من الغد... وقال ابن فارس: غزاة بعد غزاة، والذي يظهر أنه أعم من ذلك وأصله أن الخليفة يرسل عسكرًا إلى جهة مدة فإذا انقضت المدة رجعوا وأرسل غيرهم فمن شاء أن يرجع من العسكر الأول مع العسكر الثاني سمي رجوعه تعقيبًا».

قال البراء: «فغنمت أواق ذوات عدد»، وفي نسخة: «أواقي ذوات عدد»([17])، فهو رضي الله عنه ممن كان مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ثم لما انتهت مدة خالد رجع من رجع، وعقب البراء ورجع مرة ثانية مع علي رضي الله عنه فغنم أواقي ذوات عدد أي: عديدة، والأواقي جمع أوقية، والأوقية مقدارها أربعون درهمًا.

 ●         [4062] هذا حديث بريدة رضي الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد ليقبض الخمس» ومعلوم أن الخمس يؤخذ من رأس الغنيمة ثم يقسم خمسة أخماس: خمس لله وللرسول، وخمس لقرابة الرسول، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل، كما قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال: 41]، وعلي رضي الله عنه من أهل الخمس.

قوله: «وكنت أبغض عليا، وقد اغتسل»، يعني: اغتسل من وطء الجارية التي اختصها لنفسه من الخمس، ومعلوم أن المسلمين إذا غنموا نساء المشركين صارت جواري وسبايا لهم، وإذا صار الإنسان في نصيبه امرأة فأول شيء يحدث بمجرد الغنيمة أن ينفسخ نكاحها من زوجها الكافر، ثم بعد ذلك إذا وزعت على الغانمين وأصاب الإنسان في نصيبه أمة أو أمتين فله أن يتسراها، وله أن يتزوجها وله أن يبيعها، ولكن لابد أن يمضي عليها مدة حتى يستبرأ رحمها بحيضة، فحيضة واحدة تكفيها خشية أن تكون حاملًا من زوجها الأول، ثم إذا هي طهرت فله أن يتسراها وأن يطأها.

فعلي رضي الله عنه لما قبض الخمس كان فيها جارية فوطئها واغتسل؛ فأنكر عليه بريدة رضي الله عنه وقال لخالد: «ألا ترى إلى هذا؟!» يعني: يأخذ جارية ويطأها وكان يبغض عليًّا، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك له: «فقال: يا بريدة، أتبغض عليا؟ فقلت: نعم، قال: لا تبغضه؛ فإن له في الخمس أكثر من ذلك»، يعني: هو من أهل الخمس، فهو من ذوي القربى، وله في الخمس أكثر من الجارية؛ فعند ذلك رضي بريدة رضي الله عنه، وزال ما في نفسه.

قال الحافظ ابن حجر /: «وقد أورده الإسماعيلي من طرق إلى روح بن عبادة الذي أخرجه البخاري من طريقه فقال في سياقه: «بعث عليًّا إلى خالد ليقسم الخمس»([18])، وفي رواية له: «ليقسم الفيء فاصطفى علي منه لنفسه سبيئة»([19]): بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم همزة أي: جارية من السبي، وفي رواية له: «فأخذ منه جارية ثم أصبح يقطر رأسه فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟! قال بريدة: وكنت أبغض عليًّا»([20])؛ ولأحمد من طريق عبدالجليل عن عبدالله بن بريدة عن أبيه: «أبغضت عليًّا بغضًا لم أبغضه أحدًا، وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً، قال: فأصبنا سبيًا فكتب»، أي: الرجل «إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يخمسه قال: فبعث إلينا عليا وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي قال: فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر، فقلت يا أبا الحسن: ما هذا؟ فقال: ألم تر إلى الوصيفة فإنها صارت في الخمس ثم صارت في آل محمد صلى الله عليه وسلم ثم صارت في آل علي فوقعت بها»([21]).

ثم قال /: «وقد استشكل وقوع علي على الجارية بغير استبراء وكذلك قسمته لنفسه»، يعني: ما مضى مدة حتى يستبرئها، فلابد أن يستبرئها بحيضة، وهنا قسم، ووطئها في الحال،«فأما الأول فمحمول على أنها كانت بكرًا غير بالغ، ورأى أن مثلها لا يستبرأ كما صار إليه غيره من الصحابة، ويجوز أن تكون حاضت عقب صيرورتها له ثم طهرت بعد يوم وليلة ثم وقع عليها وليس ما يدفعه»، يعني: يحتمل أحد أمرين إما أنها بكر، أو أنها حاضت يومًا وليلة، يعني: مدة قصيرة ثم وطئها.

ثم قال /: «وأما القسمة فجائزة في مثل ذلك ممن هو شريك فيما يقسمه، كالإمام إذا قسم بين الرعية وهو منهم، فكذلك من نصبه الإمام قام مقامه، وقد أجاب الخطابي بالثاني وأجاب عن الأول لاحتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ، أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها. ويؤخذ من الحديث جواز التسري على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف التزويج عليها

وكان بغض بريدة لعلي م لأجل أمر دنيوي، وليس لأجل الدين، ولهذا زال ما في نفسه بعدما بين له النبي صلى الله عليه وسلم الأمر.

 ●         [4063] هذا الحديث فيه أن عليًّا رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.

قوله: «بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ» الأديم: الجلد، ومقروظ يعني: المصبوغ بالقرظ، والقرظ: نوع من الأدوية التي تجعل في الجلد حتى يعالج بها ويزول ما فيه من الآثار، والذهيبة: القطعة من الذهب.

قوله: «لم تحصل من ترابها»، يعني: مختلطة بالتراب وما صفيت منه.

قوله: «فقسمها بين أربعة نفر»، أي: أرسلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر من رؤساء القبائل حتى يتقوى إسلامهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يوزع المال ليتألف القلوب على الإسلام وليس للهوى ولا للشهوة.

قوله: «بين عيينة بن بدر»، وهو رئيس قبيلة فزارة، «وأقرع بن حابس»، وهو رئيس قبيلة تميم، «وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل» وكل هؤلاء الأربعة رؤساء قبائل أسلموا حديثًا، فوزعها عليهم ليتألفهم على الإسلام ويطوعوا أفراد قبائلهم.

ولم يعط النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أو المهاجرين ي شيئًا؛ لأنهم ثبت الإيمان في قلوبهم ورسخ فليسوا بحاجة إلى أن يعطوا شيئًا من الدنيا، مثل ما سبق في غزوة حنين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الطلقاء وأعطى رؤساء القبائل ولم يعط الأنصار شيئًا حتى تكلم بعض شباب الأنصار.

قوله: «فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء»، هو لا يدري مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا قال: نحن أولى من هؤلاء الجفاة الأعراب، «قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؛ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟» يعني: ألا تأمنوني على توزيع هذا المال؟ أنا لم أوزعه لأجل الهوى ولكن وزعته عليهم لأتألفهم على الإسلام، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له ذلك فكيف يرجو أحد السلامة من أذى الناس.

قوله: «فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار»، أي: عيناه غائرتان في محاجرهما، والوجنتان تشرفان على الخدين ومرتفعتان، وجبهته مرتفعة، وشعر اللحية كثير، والرأس محلوق بالموسى، وارتفع إزاره إلى نصف الساقين، وهذه سيما الخوارج.

قوله: «يا رسول الله اتق الله»؛ وفي الرواية الأخرى قال: «اعدل يا محمد؛ فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله»([22]). جاءت تسمية هذا الرجل في لفظ آخر وأنه ذو الخويصرة التميمي، وهو أصل الخوارج.

قوله: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟!» يعني: أنا أحق أهل الأرض بتقوى الله عز وجل؛ «قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟» يعني: لأنه تنقص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقم لنفسه؛ لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وكذلك لم يقتل اليهودية التي سمته، لكن لما أكل أحد الصحابة هو البراء بن معرور رضي الله عنه من الشاة المسمومة ومات قتلها قصاصًا([23]) وكما لم يقتل عبدالله بن أبي رأس المنافقين، فكذلك لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا ممن تظاهر بأنه من أصحابه حتى لا تكون سمعة سيئة ويقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه؛ فيكون ذلك تنفيرًا عن الإسلام.

وقال العلماء: إن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من سبه صلى الله عليه وسلم لا يعفى عنه بل يقتل لأنه مرتد.

قوله: «لا، لعله أن يكون يصلي» فيه: إجراء الأحكام على الظاهر وأن المصلي لا يقتل إذا لم يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام، «فقال خالد: وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم»، يعني: أنا ليس لي إلا الظاهر، ففيه: أن أحكام الإسلام تجرى على الظاهر؛ ولهذا فإن المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، فيعتبر من المسلمين، فيرث ويورث، ويغسل ويدفن في مقابر المسلمين، وإذا مات فهو في الآخرة؛ في الدرك الأسفل من النار، فله حكم في الدنيا وله حكم في الآخرة، حكمه في الدنيا مع المسلمين التوارث والنكاح والتقسيم والأحكام، أما إذا أظهر ما في نفسه من كفر وغير ذلك فيقتل.

قوله: «ثم نظر إليه وهو مقفي»، يعني: لما ولى وهو يعطيهم قفاه «وقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا»، أي: هذا الشخص، و«ضئضئ»، تقال بالصاد وبالضاد، وتعني من نسله وعقبه، وقيل: المراد من جنسه، فيكون هذا هو أصل الخوارج وسيأتي في الحديث الآخر أن قال عن الخوارج: «سيماهم التحليق»([24])، يعني: يتعبدون بحلق الرأس بالموسى فلا يبقي أحدهم شيئًا أبدًا.

قوله: «قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، فيه: دليل ظاهر على كفر الخوارج وهو أحد قولي العلماء وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد([25])، وفي لفظ آخر: «يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه»([26]).

قوله: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود» يعني: إدراك خروجهم، فشبههم بثمود - وثمود قوم كفار، وفي لفظ آخر: «لأقتلنهم قتل عاد»([27]) وعاد قوم كفار، - فدل على كفرهم.

وأما جمهور العلماء فإنهم يرون أنهم مبتدعون وليسوا كفارًا ويقولون: أجمع الصحابة على معاملة الخوارج معاملة المبتدعة، ولا يعاملون معاملة الكفار؛ ولهذا لما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «يمرقون من الدين»، في رواية سعيد بن مسروق: «من الإسلام»([28]).
وفيه: رد على من أول الدين هنا بالطاعة، وقال: إن المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام كما يخرج السهم من الرمية، وهذه صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء، والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر، وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل».

هذا هو تأويل الجمهور الذين لم يكفروا الخوارج فيقولون قوله: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، هذا خرج مخرج الزجر والتغليب، وقالوا: هذا مثل قوله في الحديث الآخر «من غشنا فليس منا»([29]) ومثل: «من حمل علينا السلاح فليس منا»([30]). وقالوا: وهو مثل القاتل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)[النساء: 93]. والقاتل ليس بكافر، ومثل وعيد آكل مال اليتيم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً)[النساء: 10] ، فهم لا يكفرون، وكل هذا من باب الزجر والوعيد.

وأما من كفرهم فأخذ بظاهر الحديث، وقال: الحديث ظاهر في أنهم خرجوا من الدين، وتكفيرهم هو اختيار شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز /.

ثم قال الحافظ ابن حجر /: «وزاد سعيد بن مسروق في روايته: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»([31]) وهو مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيبات فوقع كما قال... وقد استشكل قوله: «لئن أدركتهم لأقتلنهم...» مع أنه نهى خالدًا عن قتل أصلهم، وأجيب بأنه أراد إدراك خروجهم واعتراضهم المسلمين بالسيف ولم يكن ظهر ذلك في زمانه، وأول ما ظهر في زمان علي كما هو مشهور، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في «علامات النبوة»؛ واستدل به على تكفير الخوارج، وهي مسألة شهيرة في الأصول، وسيأتي الإلمام بشيء منها في «استتابة المرتدين».

  [4064] هذا الحديث ساقه المؤلف من طريقين وهو في قصة إهلال علي رضي الله عنه بالحج من اليمن، وكان ذلك في حجة الوداع، حيث قدم علي رضي الله عنه وأهلَّ بما أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم» أي: قال: اللهم لبيك إهلالا كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.


وفيه: دليل على أنه لا بأس أن يهل الإنسان بما أهل به غيره فيقول: أهللت بما أهل به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ويبقى معلقًا، وينظر إذا كان محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة وكان متمتعًا فإنه يكون مثله، وإذا كان أهل بالحج فإنه يكون مثله، وإن كان أهل بالحج والعمرة فإنه يكون مثله، فعلي رضي الله عنه جعل إهلاله معلقًا بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج؛ لأنه ساق الهدي فقال: «فأهد وامكث حراماً كما أنت».

قوله: «وأهدى له علي هدياً»، أي: أتاه علي ببعض الهدي والنبي صلى الله عليه وسلم ساق الإبل من المدينة، فقد ساق ثلاثًا وستين، وساق علي من اليمن سبعاً وثلاثين، فكان الجميع مائة، فعلي بقي على إحرامه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أبو موسى فقد أهل بمثل إهلال النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسق الهدي فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلل كما مر.

 ●         [4065] قوله: «من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة» فيه: مشروعية فسخ الحج للقارن والمفرد وجعله عمرة ويتحلل.

قوله: «فإن معنا أهلك»، يعني: زوجته فاطمة.

قوله: «فأمسك»، يعني: ابق على إحرامك، «فإن معنا هدياً»، وقد ساق علي رضي الله عنه أيضًا هديًا من اليمن.

* * *

المتن

[62/55] غزوة ذي الخلصة

 ●         [4066] حدثنا مسدد، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا بيان، عن قيس، عن جرير قال: كان بيت في الجاهلية يقال له ذو الخلصة، والكعبة اليمانية، والكعبة الشامية، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فنفرت في مائة وخمسين راكباً، فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا لنا ولأحمس.

 ●         [4067] حدثني محمد بن المثنى، قال:ً حدثنا يحيى، عن إسماعيل، قال: حدثنا قيس، قال: قال لي جرير: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» وكان بيتاً في خثعم يسمى كعبةَُ اليمانية، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري، وقال: «اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً»، فانطلق إليها فكسرها وحرقها، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

 ●         [4068] حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فقلت: بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: «اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً»، قال: فما وقعت عن فرس بعد، قال: وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد يقال له الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا؛ فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير، فقال: لتكسرنها ولتشهد أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها وشهد، ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبرَّك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

الشرح

 ●         [4066]، [4067]، [4068] هذه الأحاديث في غزوة ذي الخلصة، وذو الخلصة - كما بين الحديث الثالث - بيت في اليمن لقبيلة خثعم وبجيلة، فيه نصب تعبد يقال لها: الكعبة اليمانية باعتبار كونها باليمن ويقال لها الكعبة الشامية باعتبار أنهم جعلوا بابها مقابل الشام.

وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جريرا لهدم هذا المعبد الشركي وإزالته وقال: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» قال: نعم فركب في مائة وخمسين فارساً وكان لا يثبت على الخيل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: «اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً»، فعند ذلك لم يقع عن فرس بعد ذلك.

وهذا من أعلام النبوة حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضرب صدره ثبت على الخيل وكان قبل ذلك لا يثبت.


وفيه: منقبة لجرير حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم ثبته واجعله هادياً مهديًّا»، فسار إليها في مائة وخمسين فارساً فكسرها وحرقها حتى صارت سوداء كأنها جمل أجرب فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقال له: أبو أرطاة يبشره فلما أتى البشير للنبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب» ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

قوله: «فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات»، يعني: دعا لهم بالبركة خمس مرات قائلًا: اللهم بارك في خيل أحمس ورجالها، وهذه منقبة لقبيلة أحمس التي منها جرير، وكان جرير سيداً وأميراً مطاعاً فيهم ولهذا كما جاء في الحديث الآخر أنه قال: «ما استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فحجبني»([32])، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقدر الناس وينزلهم منازلهم إذا جاء جرير يأذن له في الحال وأما غيره من سائر الناس فقد يحجب بعض الشيء.

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة»([33]). فالمعني هنا ليس هذه الكعبة المذكورة في الحديث وإنما المقصود قبر يعبد من دون الله ويسمى ذو الخلصة.

وجرير وجد عند هذا الصنم الذي يعبد رجلاً يستقسم بالأزلام «فقيل له: إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها ولتشهد أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها وشهد»، أي: شهد أن لا إله إلا الله فخلى سبيله.

وكانوا يستقسمون بالأزلام في الجاهلية، فيأتون بثلاثة أقداح قدح مكتوب عليه: افعل، والثاني مكتوب عليه: لا تفعل، والثالث مكتوب عليه: غفل، فإذا أراد أحدهم سفراً أو زواجاً أو تجارة يجيل الأقداح فإن خرج افعل مضى لسبيله وإن خرج لا تفعل أحجم وإن خرج الثالث الغفل أجالها حتى يخرج أحدهما فأبطل الإسلام ذلك كله وأبدل الله المسلمين عنه بالاستخارة والاستشارة بأن يستخير المسلم ربه ويستشير أهل الخبرة بدلاً من الاستقسام بالأزلام، قال الله تعالى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ)[المائدة: 3]

وأما قول الله عز وجل: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] ، فقيل: إن هذه الآية منسوخة وقيل: إنها في أهل الكتاب خاصة، ففعل جرير هنا من باب الجهاد في سبيل الله، فهذا الرجل كان وثنيًّا ليس من أهل الكتاب.

* * *

المتن

[63/55] غزوة ذات السلاسل وهي غزوة لخم وجذام
قاله إسماعيل بن أبي خالد

وقال ابن إسحاق، عن يزيد، عن عروة: وهي بلاد بَلِيٍّ وعُذْرة وبني القَين.

 ●         [4069] حدثنا إسحاق، قال: حدثنا خالد، عن خالد الحذاء، عن أبي عثمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاصي على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»، قلت: من الرجال، قال: «أبوها»، قلت: ثم من؟ قال: «عمر»، فعد رجالاً، فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم.

الشرح

قوله: «غزوة ذات السلاسل» سميت هذه الغزوة بغزوة ذات السلاسل، لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض كالسلاسل مخافة أن يفروا، وقيل: إن بها ماء من السلسل.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «وهي غزوة لخم وجذام» قاله إسماعيل بن أبي خالد، وعند ابن إسحاق أنه ماء لبني جذام ولخم، أما لخم فبفتح اللام وسكون المعجمة، قبيلة كبيرة شهيرة ينسبون إلى لخم، واسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، وأما جذام فبضم الجيم بعدها معجمة خفيفة، قبيلة كبيرة شهيرة أيضا، ينسبون إلى عمرو بن عدي، وهم إخوة لخم على المشهور، وقيل: هم من ولد أسد بن خزيمة.

قوله: «وقال ابن إسحاق عن يزيد عن عروة هي بلاد بلي وعذرة وبني القين» أما يزيد فهو ابن رومان، مدني مشهور، وأما عروة فهو ابن الزبير بن العوام، وأما القبائل التي ذكرها فالثلاثة بطون من قضاعة .

 ●         [4069] هذا الحديث صورته صورة المرسل لأن أبا عثمان النهدي تابعي لكن قول أبي عثمان لعمرو رضي الله عنه: «فأتيته» وصل للحديث وتقدم في «مناقب أبي بكر» موصولاً عن أبي عثمان قال: «حدثنا عمرو».

وعقد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة اللواء لعمرو بن العاص رضي الله عنه وكان في الجيش أبو بكر وعمر م، ففيه: تولية المفضول على الفاضل؛ لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه ولاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جيشه أبو بكر وعمر م اللذين هما أفضل الناس بعد الأنبياء، وهذا لا بأس به، لأنه قد يصلح إنسان للإمارة والإمامة والخطابة ولكن لا يصلح لولاية الجيش، وهذا يصلح لولاية الجيش ولا يصلح للخطابة، فكل له اختصاصه؛ فخالد بن الوليد رضي الله عنه له خصوصية بالإقدام والكر والفر، وهو سيف من سيوف الله فيولى قائداً ويكون تحته من هو أفضل منه، كذلك هنا عمرو بن العاص رضي الله عنه ولاه النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ذات السلاسل، وكان في الجيش أبو بكر وعمر م.

ثم قال /: «قوله: «فعد رجالاً» في رواية علي بن عاصم قال: «قلت في نفسي: لا أعود لمثلها أسأل عن هذا».

قوله: «فعد رجالاً»، عد رجالا ولم يعده فسكت مخافة أن يجعله في آخرهم، فهو ظن أنه لما كان أميرا أنه من المقدمين في المحبة، فلما أخبره أن أبابكر أفضل منه وعمر أفضل منه وعد رجالا سكت خشية أن يجعله آخرهم.

قال الحافظ رحمه الله في فوائد الحديث : «مزية أبي بكر على الرجال ، وبنته عائشة على النساء... ومنقبة لعمرو بن العاص لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد روينا في فوائد أبي بكر بن أبي الهيثم من حديث رافع الطائي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً واستعمل عليهم عمرو بن العاص([34])، وفيهم أبو بكر. قال: وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام،وروى أحمد والبخاري في «الأدب»، وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق علي بن رباح عن عمرو بن العاص، قال: بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي، فقال: «يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك» قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»([35]). وهذا فيه إشعار بأن بعثه عقب إسلامه وكان إسلامه في أثناء سنة سبع من الهجرة».

* * *

المتن

[64/55] ذهاب جرير إلى اليمن

 ●         [4070] حدثني عبدالله بن أبي شيبة العبسي، قال: حدثنا ابن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن: ذا كلاع، وذا عمرو، فجعلت أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ذو عمرو: لئن كان الذي تذكر من أمر صاحبك لقد مر على أجله منذ ثلاث، وأقبلا معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة، فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، والناس صالحون، فقالا: أخبر صاحبك أنا قد جئنا، ولعلنا سنعود إن شاء الله، ورجعا إلى اليمن، فأخبرت أبا بكر بحديثهم، قال: أفلا جئت بهم؟ فلما كان بعدُ قال لي ذو عمرو: يا جرير، إن بك علي كرامة، وإني مخبرك خبرًا: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرْتُم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكا يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضا الملوك.

الشرح

هذا الباب في ذهاب جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إلى اليمن، وكأن ذهابه هذا بعدما هدم الكعبة اليمانية وكان هذا متأخراً كما بين ذلك الحافظ ابن حجر وكان هذا قبيل حجة الوداع؛ فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وجرير رضي الله عنه في اليمن.

 ●         [4070] قوله: «ذا كلاع» بفتح الكاف. وذا كلاع وذا عمرو من ملوك اليمن وكانا عزما على التوجه إلى المدينة فلما بلغهما وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعا إلى اليمن ثم هاجرا في زمن عمر رضي الله عنه.

لقي جرير رضي الله عنه هذين الرجلين من ملوك اليمن فجعل يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ذو عمرو: «لئن كان الذي تذكر من أمر صاحبك» يعني: إن كان حقاً «لقد مر على أجله منذ ثلاث»، يعني: لقد مات منذ ثلاثة أيام، وهذا قاله ذو عمرو عن اطلاع في الكتب القديمة؛ لأن اليمن بها يهود كما في قصة معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب...»([36]) ، فكأنهم وجدوا هذا في كتبهم القديمة، وأنه إذا حصل كذا مات النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «رفع لنا ركب من قبل المدينة»، يعني: جاء وفد من ناحية المدينة فسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون»، يعني: استخلف أبو بكر واصطلح الناس عليه والأمور مستتبة.

قوله: «أخبر صاحبك»، يعني: أبا بكر «أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله» قد جئنا يعني: توجهنا إلى المدينة لكن لما بلغهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعا إلى اليمن.

قوله: «إن بك علي كرامة وإني مخبرك خبرا»، يعني: أنت لك منزلة عندي فأفيدك بفائدة.

قوله: «إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أميركم تأمرتم في آخر فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوك»، يعني: أنتم بخير ما دمتم، إذا توفي أمير أمرتم آخر بدلاً منه بدون قتال فتستتب الأمور، وذلك أن القلوب تسلم من الضغائن والخلافات فيسلمون من النزاع والقتال، فإذا كانت الإمارة بالسيف والقهر والغلبة وإراقة الدماء صار هؤلاء الخلفاء ملوكًا مثل ملوك الدنيا لهم أحوال من الرضا والغضب ولا يكون الأمر مستقيمًا، وهذا مما يؤيد أنهم أخذوا هذا من الكتب القديمة.

* * *

المتن

[65/55] غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيرًا لقريش
وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح

 ●         [4071] حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة، فخرجنا فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع، فكان مزودي تمر، فكان يقوتُنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن تصيبنا إلا تمرةٌ تمرةٌ، فقلت: ما تغني عنكم تمرة، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت، ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظِّرْب، فأكل منه القوم ثمان عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرُحِلت، ثم مرت تحتها فلم تصبهما.

 ●         [4072] نا علي بن عبدالله، قال: نا سفيان، قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار، سمعت جابر بن عبدالله يقول: بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكبٍ أميرُنا أبو عبيدة بن الجراح؛ نرصد عير قريش، فأقمنا بالساحل نصف شهر، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الْخَبَط، فسُمِّي ذلك الجيش جيش الخبط، فألقَى لنا البحر دابة يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، وادَّهنا من وَدَكِه حتى ثابت إلينا أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضِلَعًا من أضلاعه فنصبه، فعمد إلى أطول رجل معه - قال سفيان مرة: ضلعاً من أضلاعه - وأخذ رجلاً وبعيراً فمر تحته، فقال جابر: وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه.

وكان عمرو يقول: أنا أبو صالح، أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال انحر: قال نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهِيتُ.

 ●         [4073] نا مسدد، قال: نا يحيى، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو، أنه سمع جابرًا يقول: غزونا جيشَ الخبط وأُمِّر أبو عبيدة، فجعنا جوعًا شديدًا، فألقَى البحْر حوتًا ميِّتا لم نر مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته.

 ●         [4074] وأخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: فقال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم»، فآتاه بعضهم فأكله.

الشرح

قوله: «سيف البحر» يعني: ساحل البحر.

وهذه الغزوة كانت فيها شدة عظيمة وسمي هذا الجيش جيش الخبط، وكان أميرها أبو عبيدة رضي الله عنه وذكر لها المؤلف ثلاث طرق.

 ●         [4071]، [4072]، [4073]، [4074] قوله: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا»، يعني: سرية، ليس فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان فيهم النبي صلى الله عليه وسلم تسمى غزوة، وكانت السرية قبل الساحل.

قوله: «فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وهم ثلاثمائة، فخرجنا فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمرهم أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني» جاء تفسير ذلك في اللفظ الآخر أنه كان يعطيهم تمرة تمرة قال: ما تفعلون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي([37])، كل واحد يأخذ تمرة واحدة يمصها كما يمص الصبي ويشرب عليها الماء ثم بعد فترة يمصها ويشرب عليها الماء، وقد أصابهم جوع شديد كما في اللفظ الآخر: «وأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط»([38])، فسمي ذلك الجيش جيش الخبط، والخبط: هو ورق السلم- شجر معروف- يضربون به الأرض ويأكلونه.

فلما قيل لأحدهم: ما تفعل بهذه التمرة؟ قال: «لقد وجدنا فقدها حين فنيت».

وهذا فيه: دليل على ما أصاب الصحابة من الشدة في أول الأمر، ولكن لم يضرهم ذلك لما صبروا وجاهدوا في سبيل الله وآمنوا بالله ورسوله ونشروا دين الله فأفلحوا ي.

وقوله: «فإذا حوت مثل الظرب»، أي: مثل الجبل الصغير، والمعنى أنهم لما أقبلوا على البحر وجدوا حوتاً عظيمًا فأكلوا منه ثماني عشرة ليلة، وفي لفظ آخر قال: «أكلنا منه نصف شهر حتى ثابت أجسامنا بعد الشدة»([39])، يعني: حتى سمنا،وهذا الحوت رزقهم الله إياه، فأكلوا منه وجلسوا مدة طويلة، وفي لفظ: «أنهم ظلوا شهرا»([40]). حتى إن أبا عبيدة نصب ضلعين من أضلاعه لما انتهى ورحل أعظم بعير وأمر أطول رجل فركبه فمر من تحت الضلع ولم يمسه ففيه: دليل على أن الضلع كبير مثل الجبل. وجاء في الحديث الآخر «أن أبا عبيدة جعل على نقب عينه ثلاثة عشر رجلا يستخرجون الدلاء من السمن»(2). فنقب العين كأنه بئر فيه دلاء تستخرج منه السمن.

فالبحر فيه عجائب، ولهذا لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه قال: «كلوا رزقاً أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم»، تطييبا لخاطرهم، فأتى بعضهم بشيء منه فأكله صلى الله عليه وسلم.

وذكر الشارح هنا من الفوائد مشروعية المواساة بين الجيش عند وقوع المجاعة.

قوله: «وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر»، هو قيس بن سعد بن عبادة م، وكان كريمًا جوادًا في الجاهلية والإسلام و هو أبوه م.

قوله: «نهيت»، يعني: نهاه أبو عبيدة كما جاء في الحديث؛ لأنه إذا نحر الإبل انتهت وهي مركوبهم فلم يجدوا ما يحملهم.

* * *

المتن

[66/55] حجُّ أبي بكرٍ بالناس في سنة تسع

 ●         [4075] حدثني سليمان بن داود أبو الربيع، قال: نا فليح، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يوم النحر، في رهط؛ يؤذِّن في الناس: أن لا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفَنَّ بالبيت عريان.

 ●         [4076] حدثني عبدالله بن رجاء، قال: نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملةً: براءة، وآخر سورة نزلت خاتمة: سورة النساء؛ (يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)[النساء: 176].

الشرح

 ●         [4075] هذا الحديث في حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع؛ حيث قدمه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في سنة عشر، وكان أبو هريرة من المؤذنين الذين أرسلهم أبو بكر يؤذنون في الحج يوم العيد في منى بأربع كلمات: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان»، وفي رواية: «ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عهد فهو ولي عهده، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر»([41]). وهذا خاص بالكفار، إما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا حتى يتأدب الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يرى المشركين يحجون، ولا يريد أن يرى العراة، فلهذا أرسل أبا بكر في السنة التاسعة ومعه مؤذنين في الناس ليعلموهم بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر /: «واستدل بهذا الحديث على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعاً قبل فرض الحج. وقال ابن القيم في الهدي: ويستفاد أيضاً من قول أبي هريرة في حديث الباب «قبل حجة الوداع» أنها كانت سنة تسع، لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا، وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاثمائة من الصحابة».

 ●         [4076] هذا الحديث فيه بيان آخر ما نزل من القرآن.

قوله: «آخر سورة نزلت كاملة»، سيأتي تفسير بيان ما فيه من الإشكال، والغرض منها الإشارة إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28]. هذا هو الشاهد أن الله أمر بإبعاد المشركين عن المسجد الحرام فلا يجوز للمشرك أن يدخل مكة، أما المدينة فلا بأس؛ ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال وهو مشرك في المسجد النبوي ثلاثة أيام ثم أطلقه([42])، ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه.

 

([1]) البخاري (39).

([2]) أحمد (5/266).

([3]) أحمد (6/115)، والبخاري (6786)، ومسلم (2327).

([4]) أحمد (4/409)، والبخاري (4345).

([5]) أحمد (1/242)، والبخاري (1146)، ومسلم (739).

([6]) أحمد (1/74)، والترمذي (3703)، والنسائي (3608).

([7]) أحمد (2/16)، ومسلم (2003).

([8]) أحمد (1/232)، ومسلم (2004).

([9]) أحمد (4/395)، والبخاري (1724)، ومسلم (1221).

([10]) أحمد (4/410)، ومسلم (1221).

([11]) البخاري (7372).

([12]) البخاري (4347).

([13]) أحمد (1/233)، والبخاري (1395)، ومسلم (19).

([14]) أحمد (5/447)، ومسلم (537).

([15]) أحمد (1/111)، وابن ماجه (2310).

([16]) أحمد (1/149)، وأبو داود (3582)، والترمذي (1331).

([17]) «فتح الباري» (8/66).

([18]) أحمد (5/359).

([19]) النسائي في «السنن الكبرى» (5/133).

([20]) أحمد (5/359)، والبخاري (4350).

([21]) أحمد (5/359).

([22]) أحمد (1/411)، والبخاري (3150)، ومسلم (1062).

([23]) أبو داود (4510).

([24]) أحمد (3/5)، والبخاري (7562).

([25]) انظر «كشاف القناع» (6/161).

([26]) أحمد (3/64)، والبخاري (7562)، ومسلم (1067).

([27]) أحمد (3/68)، والبخاري (7432)، ومسلم (1064).

([28]) أحمد (3/68)، والبخاري (7432)، ومسلم (1064).

([29]) أحمد (3/466)، ومسلم (101).

([30]) أحمد (2/3)، والبخاري (6874)، ومسلم (98).

([31]) أحمد (3/68)، والبخاري (3344)، ومسلم (1064).

([32]) أحمد (4/358)، والبخاري (3036)، ومسلم (2475).

([33]) أحمد (2/271)، والبخاري (7116)، ومسلم (2906).

([34]) «مختصر تاريخ دمشق» (2/3).

([35]) أحمد (4/197)، والبخاري في «الأدب المفرد» (299)، وابن حبان (8/6)، والحاكم (2/3).

([36]) أحمد (1/233)، والبخاري (1458)، ومسلم (19).

([37]) أحمد (3/311)، ومسلم (1935).

([38]) أحمد (3/308)، والبخاري (4361)، ومسلم (1935).

([39]) أحمد (3/308)، والبخاري (4361)، ومسلم (1935).

([40]) أحمد (3/311)، ومسلم (1935).

([41]) أحمد (2/299)، والترمذي (871).

([42]) أحمد (2/452)، والبخاري (4372)، ومسلم (1764).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد