شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-19)

00:00
00:00
تحميل
124

المتن

[67/55] وفد بني تميم

 ●         [4077] حدثنا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن أبي صخرة، عن صفوانَ بن مُحرِزٍ المازنيِّ، عن عمران بن حصين قال: أتى نفر من بني تميم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم»، قالوا: يا رسول الله، قد بشرتنا فأعطنا، فَرُئِي ذلك في وجهه، فجاء نفر من اليمن، فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلْها بنو تميم»، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله.

الشرح

أراد المؤلف أن يذكر الوفود الذين وفدوا من قبائل العرب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكان ذلك في السنة التاسعة من الهجرة؛ لما فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً تتابعت وفود العرب كل قبيلة ترسل وفداً يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وسمي ذلك العام عام الوفود، وهذا الباب في «وفد بني تميم».

 ●         [4077] هذا الحديث فيه: أن الإنسان إذا بشر ينبغي له ألا يستعجل وألا يقول: أعطنا البشرى بل يسكت وينتظر.

وفيه: أنه إذا قال الإنسان أعطنا ما بشرتنا به لم يكن قبل البشرى كما في هذه الحالة.

وفيه: منقبة لأهل اليمن؛ حيث قبلوا البشرى، وفاتت على بني تميم.

قال الحافظ ابن حجر /: ««وفد بني تميم»، أي: ابن مر - بضم الميم وتشديد الراء - بن أد - بضم الهمزة وتشديد الدال المهملة - بن طابخة - بموحدة مكسورة، ثم معجمة - بن إلياس بن مضر بن نزار، وذكر ابن إسحاق أن أشراف بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم منهم عطارد بن حاجب الدارمي، والأقرع بن حابس الدارمي، والزبرقان ابن بدر السعدي، وعمرو بن الأهتم المنقري، والحباب بن يزيد المجاشعي، ونعيم بن يزيد بن قيس بن الحارث، وقيس بن عاصم المنقري.

قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن، وكان الأقرع وعيينة شهدا الفتح ثم كانا مع بني تميم».

* * *

المتن

[68/55] باب

قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن العنبر، من بني تميم، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأغار وأصاب منهم ناساً، وسبى منهم نساءً.

 ●         [4078] حدثني زهير بن حرب، قال: نا جرير، عن عُمارةَ بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاثٍ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُها فيهم: «هم أشد أمتي على الدجال»، وكانت فيهم سبيَّة عند عائشة فقال: «أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل»، وجاءت صدقاتُهم فقال: «هذه صدقات قوم - أو قومي».

 ●         [4079] حدثني إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، عن ابن أبي مليكة، أن عبدالله بن الزبير أخبرهم، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاعَ بن معبدِ بن زرارةَ، قال عمر: بل أمر الأقرع بن حابسٍ، قال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي، قال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا)[الحجرات: 1] حتى انقضت.

الشرح

قوله: «وسبى منهم نساء» وفي بعض النسخ: «وسبى منهم سباء».

 ●         [4078] هذا الحديث فيه: منقبة لبني تميم، ففيهم هذه الخصال الثلاثة.

وفيه: دليل على أن بني تميم من ولد إسماعيل، فهم من قحطان؛ لأن العرب ينتسبون إلى قحطان وإلى عدنان، فالعرب العاربة تنتسب إلى عدنان، والعرب المستعربة تنتسب إلى قحطان، وقد انقرضت العرب العاربة مثل طسْم وثمود وجديس.

وفيه: جواز سبي العرب والرد على من قال: إنه لا يسبى إلا العجم؛ فإن عائشة كان عندها سبية من بني تميم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعتقيها»، ولو كان لا يجوز سبي العرب لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم سبي هذه الجارية.

قوله: «سبية»، يعني: الجارية المسبية، ويقال: سبية بالياء المشددة، أو سبيئة بالتخفيف مع الهمز.

وهذا الحديث دليل واضح للرد على الأحناف وغيرهم الذين يقولون: العرب لا يسترقون([1])، وإنما يسترق العجم، والأدلة على هذا كثيرة، منها أن: النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق، فقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم، واصطفى لنفسه جويرية بنت الحارث ل([2])، وصارت أما للمؤمنين، وهم من العرب.

وفيه: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحب لبني تميم خصالاً ثلاث:

الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم أشد أمتي على الدجال»؛ فهذه منقبة لهم، يعني: في آخر الزمان إذا خرج الدجال فأشد الأمة عليه بنو تميم.

الثانية: أنهم من ولد إسماعيل.

الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافهم إلى نفسه فقال: «صدقات قوم أو قومي»، والإضافة للتشريف والتكريم.

وفي حديث سابق أنهم لم يقبلوا البشرى، وهذا لا يدل على كون بعض هذا الوفد ما قبلوا البشرى فلا يلزم من ذلك ذم بني تميم، فهذا الحديث فيه مدحهم وذاك فيه ذم لهم، فبعض الوفد الذين تعجلوا ولم يتريثوا بسبب الجفاء، قالوا: «بشرتنا فأعطنا»([3]).

 ●         [4079] هذا الحديث فيه أنه قدم ركب من بني تميم، على النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه الصديق رضي الله عنه بأن يؤمر القعقاع بن معبد، وأشار عمر بأن يؤمر الأقرع بن حابس، وجاء في اللفظ الآخر: «الصالحان أو الوليان كادا أن يهلكا فتماريا عند النبي صلى الله عليه وسلم»([4])، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) [الحجرات: 1].


وفيه: أنه لا ينبغي للإنسان أن يتقدم بين يدي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر م ليسا معصومين والله غفر لهما، وسميت سورة الحجرات بسورة الآداب أيضا، لما جاء فيها من آداب كريمة، فقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات: 1 - 2]. وقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]. وقال عز من قائل: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات: 9]. وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات: 11] .وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ) [الحجرات: 12].

وإذا كان هذا في الخليفتين الوليين الصالحين المشهود لهما بالجنة م نهاهما الله عز وجل أن يتقدما بين يدي الله ورسوله، ولم يقل الصديق أو عمر م هذا إلا عن اجتهاد، فكل منهما اجتهد، وكل منهما لا يريد إلا الخير فكيف بمن قدم قول أحد على قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم للهوى أو للشهوة أو لمطامع دنيوية؟! لا شك أن الأمر أعظم وأشد.

 

* * *

المتن

[69/55] وفد عبد القيس

 ●         [4080] حدثني إسحاق، قال: أنا أبو عامر العقدي، قال: نا قُرة، عن أبي جمرة، قلت لابن عباس: إن لي جرة تَنْتَبِذُ لي نبيذًا فأشربه حلواً في جرٍّ، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبدالقيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مرحباً بالقوم غير خزايا ولا الندامى»، فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر الحرم، حدثنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو به مَن وراءَنا، قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمانِ بالله، هل تدرون ما الإيمانُ بالله؟ شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاءُ الزكاة، وصومُ رمضان، وأن تُعطُوا من المغانم الخمسَ. وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدباء، والنقير، والحنتم، والمزفت».

 ●         [4081] نا سليمان بن حرب، قال: نا حماد بن زيد، عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عباس يقول: قدم وفد عبدالقيس على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنَّا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إليك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأشياء نأخذ بها، وندعوا إليها مَن وراءنا، قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمانُ بالله، شهادةُ أن لا إله إلا الله - وعقَد واحدةً - وإقامُ الصلاة، وإيتاءُ الزكاة، وأن تؤدوا لله خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدُّباء، والنَّقير، والْحَنتَم، والمزَفَّت».

 ●         [4082] نا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، ح. وقال بكر بن مضر: عن عمرو بن الحارث، عن بكير، أن كُرَيبًا مولى ابن عباس حدثه، أن ابن عباس وعبدالرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوا إلى عائشة فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسلها عن الركعتين بعد العصر، وإنا أُخبِرْنا أنَّكِ تُصَلِّيهما، وقد بلغَنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنهَا، قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر الناس عنهما، قال كريب: فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني، فقالت: سل أم سلمة، فأخبرتهم، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني إلى عائشة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، وأنه صلى العصر ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الخادم فقلت: قومي إلى جنبه فقولي: تقول أم سلمة: يا رسول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين فأراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فاستأخري، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر؛ إنه أتاني أناس من عبدالقيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان».

 ●         [4083] حدثني عبدالله بن محمد الجعفي، قال: نا أبو عامر عبدالملك، قال: نا إبراهيم، هو: ابن طهمان، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: أول جمعة جُمِّعت بعد جمعة جُمِعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مسجد عبدالقيس بِجُواثَى مِن البحرين.

الشرح

هذا الباب في «وفد عبد القيس» وعبد القيس قبيلة كبيرة في البحرين ينتمون إلى عبد القيس بن أفصى - بوزن أعمى - بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.

 ●         [4080] قوله: «قدم وفد عبد القيس لعبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم وفادتان: أولاهما قبل الفتح والثانية بعد الفتح، وهذا الحديث فيه الوفادة الأولى؛ ولهذا قالوا: «إن بيننا وبينك المشركين من مضر» وكانوا يسكنون البحرين والمراد بالبحرين هنا جميع دول الخليج كلها الأحساء والدمام والبحرين وقطر وعمان، فليس المراد البحرين على حسب الجغرافيا الآن فكانت قريتهم بالبحرين، وكانت أول قرية أقيمت فيها جمعة بعد المدينة، فأول جمعة جمعت في الإسلام في المدينة النبوية أو أنها قبل أن يبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الجمعة الثانية كانت في البحرين والتي - في الأحساء في قرية تسمى جواثى - رأيناها فيها آثار المسجد والمكان الذي أقيمت فيه الجمعة، وكان عدد الوفد الأُول الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر سألوه عن الإيمان وعن الأشربة.

والنبيذ عصير كعصير التمر - يسمى باللهجة العامية عندنا المريس - والعنب والشعير والبر يعصر أيضاً، والآن وجدت أشربة كثيرة كالتفاح والبرتقال وغيره وكله يسمى نبيذًا، وكان العرب ينبذون حتى يكون الماء حلوا، فكانوا ينبذون ويشربون منه في يومين أو ثلاثة يضعونه في إناء، فإذا كان في شدة الحر فإنها في اليوم الثالث في الغالب تكون خمرا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبذ له فيشربه اليوم والغد، ثم في اليوم الثالث إما أن يهريقه أو يسقيه الخادم؛ خشية أن يختمر، لكن لما وجدت ثلاجات أصبح العصير يحفظ فيها ولا يتخمر حتى لو وضع فيها أياما، لكن إذا كان في الحر وليس في ثلاجات فإن النبيذ يقذف الزبد ويتخمر.

قوله: «إن لي جرة» الجرة: إناء مطبوخ من فخار، مثل الأزيار التي يبرد فيها الماء.

قوله: «فأشربه حلوا في جر، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح»، يعني: قد يتركه يومين أو ثلاثة وقد يتخمر في هذا الجر قال أخشى أن أفتضح لأني أصير منه في مثل حال السكارى.

قوله: «مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا الندامى» يعني: لا تندمون ولا تخزون بل أنتم مكرمون على مجيئكم، ففيه: مشروعية الترحيب بالوفود وأن ولي الأمر يرحب بالوفود.

قوله: «إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر الحرم»، يعني: لا نستطيع أن نأتي إليك بسبب الكفار يقاتلوننا إلا إذا دخلت الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ثلاثة متوالية، ورجب، حيث تضع الحرب أوزارها، فكان الكفار يوقفون الحرب فيها، فإذا دخلت هذه الأشهر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأمنوا من القتال، أما في غيرها فيقاتلهم الكفار.

وهذا يوضح أن الكفار في الجاهلية كانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، لكن كانوا إذا طالت عليهم الأشهر الحرم، واحتاجوا إلى القتال في المحرم أخروه إلى صفر وقاتلوا في محرم وقدموا صفرًا، وهذا هو النسيء، قال الله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً) [التوبة: 37].

قوله: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع»، هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «آمركم بأربع» ما هي الأربع؟ قال: «الإيمان بالله» ثم فسر الإيمان بالله قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس».


وفيه: أنه فسر الإيمان بالأعمال ففسره بشهادة أن لا إله إلا الله، وتدخل فيها شهادة أن محمدا رسول الله؛ لأنه إذا أطلقت إحدى الشهادتين دخلت فيها الأخرى.

قوله: «وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس» ففسر الشهادة بخمسة أشياء من الأعمال , وهذا فيه: دليل لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من أن الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام وشمل الأعمال كما في الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان»([5])، فذكر شعبة قولية وهي: الشهادة، وشعبة عملية وهي: إماطة الأذى عن الطريق، وشعبة قلبية وهي: الحياء؛ فدل على أنه داخل في مسمى الإيمان الشعب القولية والعملية والاعتقادية.

فالشهادة إيمان وإسلام وإذا اجتمع الإسلام، والإيمان كان الإسلام: الأعمال الظاهرة، وكان الإيمان: أعمال القلوب، كما في حديث جبريل: فإن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة قال: «الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج»، ولما سأل عن الإيمان فسره بأعمال القلوب: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»([6])، فإذا اجتمع الإسلام والإيمان صار لكل واحد منهما معناه فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، ويفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر كما في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران: 19].

وهذا أيضاً من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة الذين يقولون إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، فهذا صريح في الرد عليهم حيث فسر الإيمان بالأعمال.

قوله: «وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ في الدباء، والنقير، والحنتم، والمزفت»، يعني: لا تجعلوا النبيذ في هذه الأشياء الأربع: الدباء، والنقير، والحنتم والمزفت، فالدباء: القرع المستطيل؛ تؤخذ اللبة التي في وسطه وتبقى يابسة صلبة يصب فيها النبيذ.

والنقير: جذع النخلة؛ ينقر وينتبذ فيه.

والحنتم: طين الفخار المطبوخ مثل التي يسمونها الآن الأزيار يصب فيها الماء.

والمزفت: هو المطلي بالقار والزفت؛ فهذه الأشياء الصلبة إذا انتبذ فيها نبيذ التمر أو نبيذ العسل أو نبيذ العنب أو نبيذ الشعير ومكث فيها ثلاثة أيام في الحر الشديد قد يختمر، والإنسان لا يشعر فيسكر لأنها صلبة قوية، فالإنسان لا يدري؛ فلهذا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الأشياء الصلبة.

ولكن يمكن الانتباذ في الأسقية – والسقاء: من الجلد يجعل فيه النبيذ- فإذا ومضى عليه يومان أو ثلاثة تشقق وتمزق ويصبح مثل الزبد، أما الأشياء الصلبة فلا يؤثر النبيذ فيها فلا يشعر الإنسان به إذا اختمر فيشربه فيسكر.

وكان هذا في أول الإسلام ثم لما استقرت الشريعة وفقه الناس دين الإسلام نسخ النهي عن الانتباذ في هذه الأشياء الأربعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الانتباذ في هذه الأشياء فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا»([7]).

 ●         [4081] قوله: «إنا هذا الحي من ربيعة»، يعني: نحن هذا الحي من ربيعة أو نخص هذا الحي.

قوله: «وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر»، يعني: بسبب القتال.

قوله: «فلسنا نخلص إليك إلا في شهر الحرام»؛ والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وسميت بذلك لتوقف العرب فيها عن الحرب؛ فلهذا يستطيعون المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة»، يعني: فسر الإيمان بـ «شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة» بأصبعه، «وإقام الصلاة» وعقد اثنين، «وإيتاءُ الزكاة» وعقد ثلاثة، «وأن تؤدوا لله خمس ما غنمتم» وعقد أربعة.

وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأربعة لأنها أصول الإيمان فمن أدى هذه الأصول وقام بها واستقام عليها أدى الفروع؛ لأن الفروع تابعة للأصول، فقط طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بأمر فصل جامع يدخلهم الجنة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع» ظاهره أن الإيمان بالله واحدة من الأربع التي يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فسر الإيمان بأربعة أشياء أو بخمسة أشياء ولم يذكر الأمور الثلاثة.

 ●         [4082] مناسبة هذا الحديث للباب هو مجيء وفد عبد القيس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم،
وفيه: صلاة الركعتين بعد العصر.

وهذه القصة فيها: «أن كريبًا مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس وعبد الرحمن ابن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوا إلى عائشة فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا»، ففيه: دليل على إبلاغ السلام ولو للمرأة، ولو كانت أجنبية إذا لم يكن هناك ريبة.

قوله: «وسلها عن الركعتين بعد العصر» فيه: أخذ العلم ولو من المرأة، وكان بعض المحدثين لهم شيخات من النساء تحدثهم من وراء حجاب، فهؤلاء الصحابة ي أخذوا العلم عن عائشة، وكانت عائشة ل أفقه امرأة، حملت من العلم شيئًا كثيرًا وبلغته.

قوله: «فإنا أخبرنا أنك تصليهما» فيه: الاقتداء بالعالم وسؤاله عن الشيء الذي يفعله فهم رأوا عائشة ل تصلي ركعتين بعد العصر، وقالوا: أنت عالمة وفاضلة وفي بيت النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصلين ركعتين بعد العصر والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت وقال: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس»([8]).

قوله: «وكنت أضرب مع عمر الناس عنهما»، أي: إذا رأى أحدا يصلي بعد العصر يضربه ضرب تأديب.

قوله: «فدخلت عليها»، يعني: على عائشة.

قوله: «سل أم سلمة» فيه: أن العالم يرد العلم إلى من هو أعلم منه وذلك إذا لم يكن عنده علم، أو إن كان غيره أولى منه بهذه المسألة، أو هو أعلم منه بالأدلة فيحيل على العالم؛ فعائشة ل ردتهم إلى أم سلمة ل؛ لأن أم سلمة عندها علم بهذا الشيء، فذهب كريب إلى من أرسلوه، فأخبرهم بما قالت عائشة ل، قال: ««فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني إلى عائشة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما» يعني: عن الركعتين بعد العصر «وأنه صلى العصر، ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما»، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة بعد العصر، ثم دخل وصلى ركعتين بعد العصر، قالت: «فأرسلت إليه الخادم»، أي: الجارية «فقلت: قومي إلى جنبه فقولي: تقول أم سلمة: يا رسول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين فأراك تصليهما؟» تخاطب أم سلمة الجارية، «فإن أشار بيده فاستأخري» لأنه يصلي «فأشار بيده فاستأخرت عنه».

مسألة: قد يقول بعض الناس الآن كيف تأتي الجارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتكون أمامه كاشفة؟! هل معنى ذلك أنه يجوز للخادمات الآن أن تتكشف أمام كفيلها؟ وما هو الفرق بين الجارية التي عند النبي صلى الله عليه وسلم والخادمة الآن؟

والجواب: إن الجارية مملوكة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المملوكة بالنسبة للسيد إن شاء باعها وإن شاء تسراها، والجارية ليست مثل الحرة فلا تتحجب إلا إذا خيفت عليها الفتنة، وكان عمر إذا رأى الجارية تتحجب قال: يا لكع أتتشبهين بالحرائر؟ ذلك لأنها مال، تباع وتشترى إلا إذا خيفت الفتنة.

أما الخادمات التي عندنا الآن فهن حرائر ولسن مملوكات وبعضهن لهن أزواج، فهي أجنبية عن سيدها – كفيلها- فلا تتكشف أمامه، ولا يخلو بها في السيارة، أو في البيت، أو في أي: مكان، ولا يخلو بها أحد من أبنائه؛ فهي ليس كالجارية. واللاتي كن عند النبي صلى الله عليه وسلم جواري جئن من السبي حيث كان الجهاد قائماً، فإذا انتصر المسلمون على الكفرة سبوا نساءهم وذراريهم وأموالهم مثل غزوة أوطاس فقد غنموا ستة آلاف نفس من النساء والأطفال ووزعت على الجيش.

قوله: «يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر»، يعني: أم سلمة ل، واسمها هند بنت أبي أمية.

قوله: «إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان»، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم انشغل عن ركعتي السنة الراتبة بعد الظهر حتى دخل وقت العصر فقضاهما بعد العصر؛ واختلف العلماء في الركعتين بعد العصر قضاء عن الركعتين بعد الظهر هل يصليهما المسلم؟ وإذا صلاهما هل يداوم عليهما؟

القول الأول: أنهما تقضيان ويداوم عليهما. ودليلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما وداوم عليهما.

القول الثاني: أنهما تقضيان ولا يداوم عليهما؛ حيث إن المداومة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثالث : أنهما لا تقضيان ولا يداوم عليهما، وأنهما من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول الأخير هو الصحيح أنهما لا تصليان ولا يداوم عليهما، وأنهما من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك ما روى أحمد بسند جيد عن أم سلمة ل «أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الركعتين بعد العصر أنصليهما إذا فاتتا؟ قال: «لا»»([9]).

فالسنن الرواتب تقضى إلى آخر الوقت، فسنة الظهر إذا فاتت القبلية تقضى إلى دخول وقت العصر، وسنة المغرب تقضى إلى دخول وقت العشاء، وسنة العشاء تقضى إلى نصف الليل، وسنة الفجر جاء ما يدل على أنها تقضى بعد الفجر مباشرة، وتقضى بعد ارتفاع الشمس؛ وهذا دليل على أن سنة الفجر خاصة مخير فيقضيها بعد الفجر مباشرة إذا كان ينشغل عنها بعد ذلك الوقت، أو يقضيها بعد ارتفاع الشمس إذا لم يكن عليه مشقة.

 ●         [4083] هذا الحديث منقبة لبني عبد القيس؛ لأنهم أسلموا قديما. فالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة بنى المسجد وجمع أول جمعة في السنة الأولى من الهجرة، وبنو عبد القيس أقاموا الجمعة الثانية في بلادهم، وهي جواثى؛ وهذا المسجد موجود الآن يزوره الناس على أنه أثر، والمشهور أن جواثى اسم للأحساء والمنطقة الشرقية والدمام وتوابعه ودول الخليج وقطر والبحرين والإمارات.

* * *

المتن

[70/55] باب وفد بني حنِيفةَ وحديثِ ثُمامةَ بن أُثالٍ

 ●         [4084] حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: نا الليث، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثُمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خيرٌ يا محمد؛ إن تقتُلْني تقتُلْ ذا دَم، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك حتى كان الغدُ، ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلتُ لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: عندي ما قلت لك، قال: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخلٍ قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوْتَ؟ قال: لا، ولكن أسلمتُ مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [4085] نا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن عبدالله بن أبي حسين، قال: نا نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تَعْدُ أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني»، ثم انصرف عنه، قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك أرى الذي أريت فيه ما رأيت»، فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما؛ فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة».

 ●         [4086] حدثني إسحاق بن نصر، قال: نا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم فأُتيت بخزائن الأرض، فوُضِع في كفَّيَّ سوَاريْن من ذهب، فكَبُرا عليَّ، فأوحَى الله إليَّ أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذَّابيْن اللذين أنا بينهما: صاحبَ صنعاءَ، وصاحبَ اليمامة».

 ●         [4087] نا الصلت بن محمد، قال: سمعت مهدي بن ميمون، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخيرُ منه ألقيناه فأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب، وسمعت أبا رجاء يقول: كنت يوم بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم غلاماً أرعى الإبل على أهلي، فلما سمعنا بخروجه فررنا إلى النار؛ إلى مسيلمة الكذاب.

الشرح

هذا الباب في «وفد بني حنيفة» وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن عدي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة من العرب كبيرة شهيرة ينزلون باليمامة في نجد، ووفد بني حنيفة كان في السنة التاسعة من الهجرة، لكن قصة ثمامة رضي الله عنه كانت قبل ذلك لأن ثمامة رضي الله عنه أسلم قديماً.

 ●         [4084] ذكر المؤلف قصة ثمامة بن أثال؛ لأنه من بني حنيفة وإلا فوفد بني حنيفة في السنة التاسعة من الهجرة، وأما قصة ثمامة وأخذ الصحابة له هذا كان قديماً قبل فتح مكة بمدة.

وجاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد قبل فتح مكة بزمان فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، وكان سيداً مطاعاً ورئيساً في بني حنيفة قومه.

قوله: «فربطوه بسارية من سواري المسجد» فيه: جواز ربط الأسير المشرك في المسجد، وأنه لا بأس بدخول المشرك المسجد إذا احتاج إلى ذلك كشرب ماء وما أشبه ذلك فلا حرج، إنما الممنوع دخول المشرك مكة، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28] ومكة كلها مسجد، فكل الذي داخل الحرم يسمى مسجدا؛ لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الحج: 25] يعني: يصدون عن دخول مكة.

وهناك الآن طريق لغير المسلمين القادمين من الطائف إلى جدة، فلا يمرون بمكة.

أما المدينة، فلا بأس بدخول الكافر فيها وغيرها من المدن الأخرى، يعني: لو دخل المسجد أو غيره فلا حرج، لكن لا ينبغي أن يؤمن الكافر على عمارة المسجد أو هندسة المسجد وما أشبه ذلك.

  • والحكمة في ربط ثمامة رضي الله عنه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام: أن يسمع العلم ويسمع القرآن ويرى المصلين؛ ولذلك تأثر وصار هذا سبباً في إسلامه رضي الله عنه.

قوله: «إن تقتلني تقتل ذا دم»، يعني: ذا دم عظيم؛ لأنه رئيس في قومه له مكانته في المجتمع، «وإن تنعم تنعم على شاكر»، دليل على أنه يقدر المعروف، «وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت»، لأنه سيد قومه عنده مال كثير، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم وسأله في اليوم الثاني والثالث وهو ثابت على مقالته؛ فعرف بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل عاقل شاكر يقدر الأمور، وتوسم فيه الخير فأمر بإطلاقه، فقال: «أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد»، فيه: دليل على استحباب الاغتسال للإسلام لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة رضي الله عنه على ذلك وليس بواجب، لأنه لما فتحت مكة أسلم جم غفير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، وكذلك ثمامة رضي الله عنه ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال فقد فعل ذلك من نفسه.

وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»، فيه: دليل على أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين : الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وهو أول واجب على المكلف.

وفيه: الرد على أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم الذين يقولون أول واجب الشك فيما حولك، ثم تنتقل من الشك إلى اليقين، وبعضهم قالوا: إن أول واجب النظر والتأمل حتى تصل إلى اليقين، وهذا باطل، فأول واجب على الإنسان الشهادتان، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»([10]).

وبالإسلام تتغير الأمور ويتغير مجرى حياة الإنسان وأفكاره، فالإسلام ينقل الإنسان من الأفكار المنحرفة إلى الفكر السليم، ولذلك قال ثمامة: «والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك» لما كان على الكفر، أما بعد الإسلام قال: «أصبح وجهك أحب الوجوه إلي»، وقال: «والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك» لما كان على الكفر، «فأصبح دينك أحب الدين إلي» أي: بعد إسلامه، وقال: «والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك» لما كان على الكفر، «فأصبح بلدك أحب البلاد إلي»، أي: بعد إسلامه.

ومثال ذلك: النصارى الذين أسلموا حديثًا، فبعض القسيسين كانوا دعاة ليل نهار إلى النصرانية ثم بعد ذلك لما أسلموا تغيرت أحوالهم وصار لهم نشاط في الإسلام ولهم قوة في دين الله، فهكذا يصنع الإسلام.

وقوله: «وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر» فيه: دليل على أن الكافر إذا عزم على فعل خير ثم أسلم يفعله، وإذا نذر شيئاً يقضيه، فإن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك»([11]).

فلما قدم ثمامة مكة معتمراً عيره كفار قريش، وقال له قائل: «صبوت؟»، يعني: خرجت من دينك فهكذا ينبزون من أسلم ويقولون: صابئ؛ فرد عليه ثمامة رضي الله عنه قائلا: «لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله»، ثم عاقبهم فقال: «ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم»، كأنه فرض عليهم حصاراً اقتصادياً؛ لأن أهل مكة ما عندهم حبوب، فهم في واد غير ذي زرع، فتأتيهم الحنطة من نجد.

وفعل ثمامة رضي الله عنه بمنع الحنطة يستدل به على مقاطعة الكفار، فلا شك أن مقاطعة الكفار لها تأثير كبير، وقد حاصر الكفار المسلمين قديماً لما حاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في شعب ثلاث سنوات وقاطعوهم: لا يبيعونهم، ولا يناكحونهم، ولا يكلمونهم حتى يسلموا النبي صلى الله عليه وسلم، فكما يحاصر الكفار المسلمين ويقاطعونهم فكذلك المسلمون يقاطعونهم؛ لأن العداوة بين المسلمين والكفار قائمة.

 ●         [4085] هذا الحديث في «وفد بني حنيفة» كان هذا في السنة التاسعة من الهجرة.

قوله: «قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم»، يعني: مع وفد بني حنيفة، وكان في أول ظهوره وادعائه النبوة.

قوله: «إن جعل لي محمد من بعده تبعته» يعني: إن جعل لي الخلافة بعده تبعته الآن وإذا لم يجعل لي الخلافة بعده فلا أتبعه.

قوله: «وقدمها في بشر كثير من قومه»، يعني: وفد بني حنيفة.

قوله: «فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس» وكان ثابت رضي الله عنه خطيب النبي صلى الله عليه وسلم . كان يخطب بين يديه إذا جاءت الوفود، وكان يرفع صوته، ولما نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)[الحجرات: 2] خاف ثابت؛ لأنه يرفع صوته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته، وقال: إنه من أهل النار وإنه حبط عمله، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: «قولوا له إنه من أهل الجنة وليس من أهل النار»([12])، وهذه بشارة وشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس؛ وذلك لأنه إنما رفع صوته مضطراً حتى يسمعه الناس. فكونه يرفع صوته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس منهياً عنه؛ إنما النهي عن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي من باب الكلام، أما الذي يخطب الناس فهذا مستثنى للحاجة.

قوله: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها»، بيان لتحقيره، يعني: كيف أجعل الخلافة لك وأنت كذاب تدعي النبوة.

قوله: «ولن تعدُ أمر الله فيك»، يعني: مسيلمة.

قوله: «ولئن أدبرت ليعقرنك الله» هذا تهديد له.

قوله: «وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت» يعني: ما أريت في المنام، لأنه رأى في المنام مسيلمة الكذاب والأسود العنسي.

قوله: «إنك أرى الذي أريت فيه ما رأيت»، يعني: رؤيا المنام.

قوله: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما؛ فأوحي إلي في المنام أن انفخهما» انفخهما نفخ ينفُخ بضم الفاء سماعا، وأما القياس انفَخهما نفخ ينفَخ كفتح يفتح، والقاعدة أن الفعل إذا كان ثالثه حرف حلق فإنه يفتح ثانيه في الأمر والمضارع.

قوله: «فأهمني شأنهما»، يعني: عظما علي وشقا علي.

وفيه: أن رؤيا الأنبياء وحي.

قوله: «فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة» العنسي هو الأسود العنسي الذي خرج في اليمن، ومسيلمة هو الكذاب الذي خرج في نجد.

 ●         [4086] قوله: «سوارين من ذهب» لعل السر في كونه رآهما سوارين من ذهب أن الذهب له لمعان فكذلك هذان الكذابان عندهما بريق يموهان به على الناس حتى راج أمرهما، ثم تبين حالهما وزال لبسهما.

قوله: «فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» فالمدينة بين اليمن وبين نجد، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين الأسود العنسي صاحب صنعاء ومسيلمة في نجد صاحب اليمامة.

وهذا الحديث فيه: أن لبس الذهب في المنام يؤول بشر يكون ويحصل، وإن نفخه حتى يطير دليل على زوال هذا الشر.

قال الحافظ ابن حجر /: «ويؤخذ منه أن السوار وسائر أنواع الحلي اللائقة بالنساء تعبر للرجال بما يسوؤهم ولا يسرهم».

 ●         [4087] قوله: «كنا نعبد الحجر»، يعني: في الجاهلية.

وقوله: «فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه فأخذنا الآخر» هذا من جهلهم المطبق، يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجرًا أحسن منه رموا الحجر الأول، وعبدوا الحجر الجديد.

قوله: «فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب»، مبالغة في عدم القتال في الأشهر الحرم تعظيما لها حتى لا يقاتلوا.

قوله: «فلما سمعنا بخروجه» كأن المراد فتح مكة.

قوله: «فررنا إلى النار؛ إلى مسيلمة الكذاب»، يعني: أن اتباع مسيلمة يوصل إلى النار. هربوا من الإسلام إلى مسيلمة، ثم من الله عليهم بالإسلام بعد ذلك.

والشاهد لمجيء هذا الحديث في الترجمة ذكر مسيلمة الكذاب الذي هو من بني حنيفة.

* * *

المتن

[71/55] قصة الأسود العنسي

 ●         [4088] حدثني سعيد بن محمد الجرمي، قال: نا يعقوب بن إبراهيم، قال: نا أبي، عن صالح، عن ابن عبيدة بن نَشِيطٍ - وكان في موضع آخر اسمه عبدالله - أنَّ عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: بلغَنا أن مسيلِمة الكذَّابَ قدم المدينة، فنزل في دار بنت الحارث، وكان تحته ابنة الحارث بن كريز وهي أم عبدالله بن عامر، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس - وهو الذي يقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئتَ خليتَ بيننا وبين الأمر، ثم جعلتَه لنا بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذا القضيبَ ما أعطيتُكه، وإني لأُراك الذي أُريت فيه ما أُريت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عني»، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [4089] قال عبيدالله بن عبدالله: سألت عبدالله بن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذَكَر، فقال ابن عباس: ذُكِر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم أُريتُ أنه وُضِع في يديَّ إسْواريْن مِن ذهبٍ، ففَظِعْتُهما وكَرِهْتُهما فأُذن لي، فنفختُهما فطارا، فأوَّلْتُهما كذَّابيْن يَخرُجان»، فقال عبيدالله: أحدهما العنسيُّ الذي قتله فَيْرُوزُ باليمن، والآخر مسيْلِمةُ الكذَّابُ.

الشرح

 ●         [4088] قوله: «عن ابن عبيدة بن نشيط وكان في موضع آخر اسمه عبدالله»، يعني: اسمه عبد الله بن عبيدة في موضع آخر، لكن هنا أبهم الاسم فقال: ابن عبيدة.

 ●         [4089] قوله: «ففظعتهما وكرهتهما»، يعني: اشتد علي الأمر، وعلمت أن الأمر فظيع، يعني: كيف يكون في يدي سواران من ذهب وهي للنساء وذلك في النوم، والأقرب أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم أصابته فظاعة، هذا محتمل.

قال الحافظ ابن حجر /: «قوله: «ففظعتهما وكرهتهما»، بفاء وظاء مشالة مكسورة» ضبطه القسطلاني بالضمة، وظاهره أنه بالفتح.

قوله: «أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة الكذاب» والذي قتل مسيلمة وحشي بن حرب رضي الله عنه الذي قتل حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.

ومناسبة ذكر هذا الحديث في هذه الترجمة تضمنه ذكر الأسود العنسي، فكأن المؤلف ما وجد حديثًا على شرطه يخص الأسود العنسي فأتى بقصة مسيلمة.

* * *

المتن

[72/55] قصة أهل نجران

 ●         [4090] حدثني عباس بن الحسين، قال: نا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء السَّيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يُلاعِناهُ، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيئًا فلاعنَّا لا نفلحُ نحن ولا عقبُنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتَنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: «لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، حق أمين»، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة».

 ●         [4091] حدثني محمد بن بشار، قال: نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ابعث لنا رجلاً أمينا، فقال: «لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين»، فاستشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح.

 ●         [4092] نا أبو الوليد، قال: نا شعبة، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».

الشرح

هذه الترجمة في «قصة أهل نجران» لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ونجران الإقليم المعروف يقول فيه الشراح: إنه بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن يشتمل على ثلاث وسبعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع.

 ●         [4090] قوله: «جاء السَّيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يُلاعِناهُ»، بأن يباهلاه ثم عدلا عن ذلك وخافا، فقال أحدهما لصاحبه: «لا تفعل، فوالله لئن كان نبيئًا فلاعنَّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا».

الملاعنة والمباهلة هي أن يجتمع الفريقان المتخاصمان بأبنائهم ونسائهم فيدعون على الكاذب، كما قال الله تعالى في كتابه في قصة وفد نجران: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران: 61] فيعاجل الكاذب بالعقوبة ولا يعيش أكثر من سنة، وقال بعض العلماء: يعيش أقل من شهر أو شهرين.

وقوله: «إنا نعطيك ما سألتنا»، يعني: من الجزية، وفي رواية «أنه صالحهم على ألفي حلة: ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية»([13])».

يعني: صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدفعوا ألفي حلة وألفي أوقية. والحلة ثوب مكون من قطعتين.

وقوله: «فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» استشرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رغبة في هذا الوصف «لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين»، وليس رغبة في الولاية، فكل واحد منهم يتمنى أن يكون له هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: «هذا أمين هذه الأمة» هذه منقبة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

قال الحافظ /: «وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام.

 وفيها: جواز مجادلة أهل الكتاب وقد تجب إذا تعينت مصلحته.

 وفيها: مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك، ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين .

وفيها: مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام.

 وفيها: بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام.

 وفيها: منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم»([14]).

 ●         [4091] قوله: «لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين» يعني: أميناً حقاً، فقدم الوصف على الموصوف.

 ●         [4092] قوله: «وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» فيه: : منقبة ومزية لأبي عبيدة رضي الله عنه، وهذا الحديث أصل في بعث السفراء.

* * *

المتن

[73/55] قصة عمان والبحرين

 ●         [4093] حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا سفيان، سمع ابنُ المنكدر جابرَ بن عبدالله يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا»، ثلاثا، فلم يقْدَم مال البحرين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين أو عِدَة فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا»، ثلاثا، قال: فأعطاني، قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك، فسألته فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني، فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني، فقال: أقُلْتَ تبخل عني؟ وأي: داء أدوأُ من البخل! - قالها ثلاثا، ما منعتُك من مرة إلا أنا أريد أن أعطيَك.

 ●         [4094] وعن عمرو، عن محمد بن علي، سمعت جابر بن عبدالله يقول: جئتُه فقال لي أبو بكر: عدها، فعددتها فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين.

الشرح

 ●         [4093] هذا الحديث في «قصة عمان والبحرين» ولم يجد المؤلف على شرطه إلا هذا الحديث لهذه الترجمة، وهذا الحديث مع حديث: «وإذا وعد أخلف»([15]) أصل في الوفاء بالوعد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وعد جابراً رضي الله عنه قال: «لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، ثلاثا»، لكن توفي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء مال البحرين، ثم جاء مال البحرين في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقضي ديون وعدات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين أو عدة فليأتني» فجاءه جابر رضي الله عنه وقال له: لي وعد من النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء مال البحرين أعطاني ملء الكف ثلاث مرات، وكأن أبا بكر رضي الله عنه انشغل عنه في أول الأمر فسأله جابر رضي الله عنه ثلاث مرات ثم قال: «فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني» فكبر ذلك على أبي بكر رضي الله عنه فقال: «أي: داء أدوأ من البخل؟» يعني: أنت تقول إني أبخل عنك، هذا لا يمكن أنا ما منعتك إلا لأعطيك، ثم أعطاه ثلاث مرات.

 ●         [4094] قوله: «خذ مثلها مرتين»، يعني: لما قال أبوبكر لجابر م: خذ ملء كفيك، فأخذها فعدها، فوجدها خمسمائة، قال له: «خذ مثلها مرتين» فأخذ ألفا وخمسمائة إنجازاً لوعد النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

المتن

[74/55] قدوم الأشعريين وأهل اليمن

وقال أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «هم مني وأنا منهم».

 ●         [4095] حدثنا عبدالله بن محمد وإسحاق بن نصر، قالا: نا يحيى بن آدم، قال: نا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن أبي موسى قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا ما نرى ابن مسعود وأمَّه إلا من أهل البيت؛ من كثرة دخولهم ولزومهم له.

 ●         [4096] حدثنا أبو نعيم، قال: نا عبدالسلام، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن زهدمٍ قال: لما قدم أبو موسى أكرم هذا الحي من جرم وإنا لجلوس عنده وهو يتغدى دجاجًا، وفي القوم رجل جالس فدعاه إلى الغداء، فقال: إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، قال: هلم، فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، فقال: إني حلفت ألا آكله، فقال: هلم أخبرك عن يمينك، إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين، فاستحملناه فأبى أن يحملنا، فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا، ثم لم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل، فأمر لنا بخمس ذود، فلما قبضناها قلنا: تغفلنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نفلح بعدها أبدا، فأتيته فقلت، يا رسول الله، إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا، قال: «أجل، ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها».

 ●         [4097] حدثني عمرو بن علي، قال: نا أبو عاصم، قال:نا سفيان، قال: نا أبو صخرة جامع بن شداد، قال: نا صفوان بن مُحْرِزٍ المازني، قال: حدثنا عمران بن حصين قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشروا يا بني تميم»، قالوا: أما إذا بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم»، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله.

 ●         [4098] نا عبدالله بن محمد الجعفي، قال: نا وهب بن جرير، قال: نا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان هاهنا - فأشار بيده إلى اليمن - والجفاء وغِلظ القلوب في الفدَّادين عند أصول أذناب الإبل، من حيث تطلُع قرنا الشيطان؛ ربيعةَ، ومُضرَ».

 ●         [4099] حدثني محمد بن بشار، قال: نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم».

وقال غندر: عن شعبة، عن سليمان، سمعت ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 ●         [4100] نا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان، والفتنة هاهُنا، هاهُنَا يطلع قرن الشيطان».

 ●         [4101] نا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، قال: نا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبًا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمان».

 ●         [4102] نا عبدان عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا جلوسا مع ابن مسعود، فجاء خباب فقال: يا أبا عبدالرحمن، أيستطيع هؤلاء الشباب أن يقرءوا كما تقرأ؟ قال: أمَا إنك إن شئت أمرتُ بعضهم فيقرأ عليك، قال: أجل، قال: اقرأ يا علقمة، فقال زيد بن حُدير أخو زياد بن حدير: وتأمرُ علقمةَ أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ قال: أمَا إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه في قومك وقومه، فقرأتُ خمسين آية من سورة مريم، وقال عبدالله: كيف ترى؟ قال: قد أحسن، قال عبدالله: ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرؤه، ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يُلقَى؟ قال: أما إنك لن تراه عليَّ بعد اليوم، فألقاه.

رواه غندر عن شعبة.

الشرح

هذا الباب في ذكر «قدوم الأشعريين وأهل اليمن» وعطف أهل اليمن على الأشعريين من عطف العام على الخاص؛ لأن الأشعريين من أهل اليمن، وكان قدوم الأشعريين وأهل اليمن في فتح خيبر سنة سبع من الهجرة.

قوله: «وقال أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: هم مني وأنا منهم» هذا معلق، وقد أتى به المؤلف مسنداً في موضع آخر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما معهم ثم اقتسموه بينهم؛ فهم مني وأنا منهم»([16]). فهذا تحسين لفعلهم ومبالغة في اتفاقهم على الطاعة واتصال طريقهم، يعني: أنهم يعطف بعضهم على بعض، ويواسي بعضهم بعضاً، فإذا أرملوا في الغزو أو في السفر وقل طعامهم جمعوا ما عندهم، ثم يجعلونه في نطع، ثم يقتسمونه فيما بينهم بالسوية.

 ●         [4095] قوله: «قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً ما نرى ابن مسعود وأمَّه إلا من أهل البيت؛ من كثرة دخولهم ولزومهم له» في هذا منقبة لعبد الله بن مسعود وأمه، وملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم من أهل البيت.

 

([1]) انظر «المبسوط» (10/118).

([2]) أحمد (2/51)، والبخاري (2541)، ومسلم (1730).

([3]) أحمد (4/426)، والبخاري (3190).

([4]) أحمد (4/6)، والبخاري (4845).

([5]) أحمد (2/414)، والبخاري (9)، ومسلم (35).

([6]) أحمد (1/28)، والبخاري (4777) بنحوه، ومسلم (8).

([7]) أحمد (5/355)، ومسلم (977).

([8]) أحمد (1/18)، والبخاري (1864)، ومسلم (827).

([9]) أحمد (6/315).

([10]) أحمد (1/233)، والبخاري (1395)، ومسلم (19).

([11]) أحمد (1/37)، والبخاري (2043)، ومسلم (1656).

([12]) أحمد (3/137)، والبخاري (3613)، ومسلم (119).

([13]) أبو داود (3041).

([14]) انظر «الروض الأنف» للسهيلي (4/382).

([15]) أحمد (2/189)، والبخاري (33)، ومسلم (59).

([16]) البخاري (2486)، ومسلم (2500).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد