شعار الموقع

شرح كتاب المغازي من صحيح البخاري (64-20)

00:00
00:00
تحميل
71

 

 ●         [4096] في هذه القصة أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان عنده قوم جلوساً وهو يتغدى دجاجا، وفي القوم رجل جالس.

قوله: «لما قدم أبو موسى أكرم هذا الحي من جرم»، يعني: من قبيلة جرم، فدعاهم أبو موسى إلى الطعام «وهو يتغدى دجاجًا»، فامتنع رجل فلم يأكل، وقال: «إني رأيته يأكل شيئا فقذرته»، يعني: لا أريد أن آكله من أجل ذلك، فقال له: «هلم»، يعني: تعال أقبل وكل؛ «فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله»، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج، فقال الرجل: «إني حلفت ألا آكله»، فقال له أبو موسى: «هلم أخبرك عن يمينك»، يعني: تعال أخبرك كيف تتصرف في يمينك، فإن اليمين لا تمنعك، كفر عن يمينك وكل.

قوله: «إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين» يعني: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نحن وجماعة من الأشعريين من اليمن.

قوله: «فاستحملناه»، يعني: طلبنا منه إبلًا يحملنا عليها، وذلك في غزوة تبوك، فنحن فقراء نريد أن نجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن ليس عندنا شيء نحمل عليه.

قوله: «فأبى أن يحملنا، فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا»، يعني: امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملنا، وفي لفظ آخر قال: «وافقناه وهو غضبان»([1])، وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عندي ما أحملكم، والله لا أحملكم»([2]).

قوله: «ثم لم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل» والنهب: الشيء المأخوذ من الغنيمة، يعني: يسر الله للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه إبل من الغنيمة، «فأمر لنا بخمس ذود»، يعني: خمسًا من الإبل، وفي لفظ: «غر الذرى»([3])، يعني: أسنمتها بيض.

قوله: «فلما قبضناها قلنا: تغفلنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح بعدها أبدا»، يعني: كيف حلف الرسول ما يحملنا وحملنا؟! يجب أن ننبه النبي صلى الله عليه وسلم على يمينه، إذا لم ننبهه على يمينه لا نفلح أبدا، قال أبو موسى: «فأتيته فقلت: يا رسول الله، إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا، قال: أجل» تقرير، يعني: أنه يذكر اليمين «ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها».

هذا فيه: دليل على أن اليمين لا تمنع من فعل الخير، وأن الإنسان إذا حلف ألا يأكل طعام فلان أو لا يزور فلاناً من أقاربه فليس له أن يلج في يمينه، بل عليه أن يكفر عن يمينه ويزور قريبه ويصل رحمه، وفي اللفظ الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيتها»([4]). وفي لفظ آخر «إلا فعلت الذي هو خير وتحللتها»([5]) وسواء حلف ثم كفر أو كفر ثم حلف، فالأمر في هذا واسع.

 ●         [4097] في هذا الحديث حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه لما جاء بنو تميم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشروا»، قالوا: «أما إذا بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول صلى الله عليه وسلم» واعتبر أنهم لم يقبلوا البشرى، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله»، فصار قبولهم وبالاً على بني تميم حيث لم يقبلوا البشرى.

وهذه منقبة لأهل اليمن حيث قبلوا البشرى،
وفيه: أن من بشر بشيء فقال: بشرتني فأعطني فإنه لم يقبل البشرى حيث استعجل، وإنما عليه أن يقول: قبلت، وينتظر البشرى، ولا يستعجل، سواء كانت البشرى في الدنيا أو في الآخرة.

 ●         [4098] قوله: «الإيمان هاهنا فأشار بيده إلى اليمن» فيه: : منقبة لأهل اليمن، «والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين»، وذلك لما فيهم من الجفاء.

قوله: «ربيعة ومضر» قبيلتان مشهورتان بالجفاء، وكذلك الأعراب فيهم الجفاء إلا من تفقه منهم وتعلم، قال الله تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 97].

 ●         [4099] قوله: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» هذا فيه منقبة لأهل اليمن.

قوله: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» هذا ملاحظ مشاهد، فأصحاب الإبل عندهم فخر وخيلاء وجفاء، ويحتقرون أهل الغنم، والذين يرعون الغنم عندهم سكينة وتواضع؛ فالإنسان يستفيد من أخلاق من يخالط، هؤلاء لما كانوا يخالطون الإبل، والإبل فيها قوة وشيطنة صار فيهم الفخر والخيلاء، والذين يخالطون الغنم صار فيهم الوداعة والسكينة والتواضع.

 ●         [4100] قوله: «حدثنا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن ثور بن زيد»، هو المدني من رجال الشيخين، وأما ثور بن يزيد الشامي فمن رجال البخاري فقط، والأول أوثق.

قوله: «الإيمان يمان، والفتنة هاهنا، هاهنا يطلع قرن الشيطان»، وأشار إلى المشرق، وهو يشمل المشرق الأعلى والمشرق الأدنى، والمشرق الأعلى: الترك والعراق وخراسان، وحصلت فيه فتنة التتار وفتنة الرافضة والخوارج، والمسيح الدجال يخرج بين الشام والعراق، ويأجوج ومأجوج يخرجون من جهة الشرق، كل فتنة من جهة الشرق، والمشرق الأدنى: شرق المدينة نجد، وحصلت فيه فتنة مسيلمة وبني حنيفة وسجاح، وكذلك ربيعة ومضر من الشرق الأدنى وهم شر في الجفاء وعدم الاستجابة لله ولرسوله.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان يمانٍ»، «والحكمة يمانية»([6])، وقوله أيضًا: «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم»([7])، ليس المراد كلهم، فهذا وصف أغلبي لأهل اليمن في ذلك الوقت على عهدالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن بقي على هذه الصفة بقي له هذا الوصف، ومن خرج منها لم يكن كذلك.

قال الحافظ ابن حجر تعالى: ««الإيمان يمان»، في رواية الأعرج التي بعدها: «الفقه يمان»([8])، وفي رواية ذكوان: «والحكمة يمانية»([9])، وفي أولها وأول رواية ذكوان «أتاكم أهل اليمن»([10])، وهو خطاب للصحابة الذين بالمدينة، وفي حديث أبي مسعود: «والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين»([11]) إلخ، وفي رواية ذكوان عن أبي هريرة: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل»، وزاد فيها: «والسكينة والوقار في أهل الغنم»([12])، وزاد هنا في رواية أبي الغيث: «والفتنة هاهنا حيث يطلع قرن الشيطان»

ثم قال /: «وقد ذكر ابن الصلاح قول أبي عبيد وغيره: إن معنى قوله: «الإيمان يمان» أن مبدأ الإيمان من مكة؛ لأن مكة من تهامة، وتهامة من اليمن، وهذا قول أبي عبيد؛ ولهذا يسمى الركن اليماني لأنه جهة اليمن، والركن الشمالي يسمى الركن الشامي، كل ما كان عن يمين الكعبة وما كان وراء الكعبة وتهامة كلها يشمل اسم اليمن.

ثم قال /: «وقيل: المراد مكة والمدينة لأن هذا الكلام صدر وهو صلى الله عليه وسلم بتبوك، فتكون المدينة حينئذ بالنسبة إلى المحل الذي هو فيه يمانية، والثالث واختاره أبو عبيد أن المراد بذلك الأنصار؛ لأنهم يمانيون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره، وقال ابن الصلاح: ولو تأملوا ألفاظ الحديث لما احتاجوا إلى هذا التأويل؛ لأن قوله: «أتاكم أهل اليمن» خطاب للناس، ومنهم الأنصار؛ فيتعين أن الذين جاءوا غيرهم، قال: ومعنى الحديث وصف الذين جاءوا بقوة الإيمان وكماله ولا مفهوم له، قال: ثم المراد الموجودون حينئذ منهم لا كل أهل اليمن في كل زمان انتهى، ولا مانع أن يكون المراد بقوله: «الإيمان يمان» ما هو أعم مما ذكره أبو عبيد وما ذكره ابن الصلاح، وحاصله أن قوله: «يمان» يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة، لكن كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر، بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان جهة اليمن وجهة الشمال، فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان، وقد قسم في حديث أبي مسعود أهل الجهات الثلاثة: اليمن والشام والمشرق، ولم يتعرض للمغرب في هذا الحديث، وقد ذكره في حديث آخر فلعله كان فيه ولم يذكره الراوي إما لنسيان أو غيره، والله أعلم.

وأورد البخاري هذه الأحاديث في الأشعريين؛ لأنهم من أهل اليمن قطعا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس م: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قال:الله أكبر، إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم حسنة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية»([13]) أخرجه البزار.

وقوله: «يمانية» يجوزتخفيف الياء وتشديدها، لكن التخفيف مع الألف أفصح))

ثم قال الحافظ /: «وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خير أهل الأرض»([14]). الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي الطبراني من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعيينة بن حصن رضي الله عنه: «أي: الرجال خير؟ قال: رجال أهل نجد قال: كذبت، بل هم أهل اليمن، الإيمان يمان»([15]) الحديث، وأخرجه أيضا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال الخطابي: قوله: «هم أرق أفئدة وألين قلوبا» أي: لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه».

 ●         [4101] هذا الحديث كسابقه فليس المراد كلهم، فهذا وصف أغلبي لأهل اليمن في ذلك الوقت على عهدالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن بقي على هذه الصفة بقي له هذا الوصف، ومن خرج منها لم يكن كذلك.

 ●         [4102] الشاهد للترجمة أن علقمة نخعي منسوب إلى النخع، وهي قبيلة مشهورة من اليمن، واسم النخع حبيب بن عمرو بن علة، وقيل له: النخع؛ لأنه نخع عن قومه أي: بعد، وأهل اليمن قد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان والحكمة يمانية»([16])، وزيد بن حدير من بني أسد، وبنو أسد قد ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم([17]) مثل ما سبق: «أن جهينة وغيرها خير من بني أسد وغطفان»، وهذا المدح لأهل اليمن وهذا الذم لبني أسد هو وصف أغلبيّ في الجملة لمن بقي على هذا الوصف دون من خرج عنه.

قوله: «فقال زيد بن حدير أخو زياد بن حدير: وتأمر علقمةَ أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ قال: أمَا إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه في قومك وقومه، فقرأت خمسين آية من سورة مريم» فيه: أن خباب بن الأرت كان عليه خاتم من ذهب، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود وقال: «ألم يأن لهذا الخاتم أن يُلقَى؟» والظاهر أن خبابا كان قد خفي عليه النص بالنزع منه، أو خفي عليه تحريمه، أو كان يعتقد أن النهي ليس للتحريم؛ ولهذا أنكر عليه عبد الله بن مسعود؛ فقال: «إنك لن تراه عليّ بعد اليوم».

وفي هذا الحديث منقبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وحسن تأنيه في الموعظة والتعليم حتى في إنكاره على خباب، فما قال: اخلعه، كما يفعل بعض الناس، أو قال: هذا حرام بأسلوب غليظ، وإنما أتى بأسلوب لين قال: «ألم يأن لهذا الخاتم أن يُلقَى؟».


وفيه: أن الصحابة قد يخفى عليهم بعض الأحكام فإذا نبهوا عليها رجعوا.

* * *

المتن

[75/55] قصةُ دَوْسٍ والطفيلِ بن عَمرٍو الدوسِي

 ●         [4103] حدثنا أبو نعيم، قال: نا سفيان، عن ابن ذكوان، عن عبدالرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا قد هلكت؛ عصت وأبت، فادع الله عليهم، فقال: «اللهم اهْدِ دوسًا، وأتِ بهم».

 ●         [4104] حدثني محمد بن العلاء، قال: نا أبو أسامة، قال: نا إسماعيل، عن قيس، عن أبي هريرة قال: لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق:

يا ليلةً مِن طولها وعنائها  على أنها مِن دارَةِ الكُفر نَجَّتِ

وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، هذا غلامك»، فقال: هو لوجه الله، فأعتقْتُه.

الشرح

ذكر المؤلف في هذه الترجمة ما يتعلق بدوس ومن أسلم منها، وخص الطفيل بن عمرو؛ لأنه أول من أسلم بها، فقد كان الطفيل بن عمرو يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا وبين أظهرنا رجل قد فرق جماعتنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، ونحن نخشى عليك أن يفتنك، فإن دخل عليك فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه حتى حشوت أذني كرسفًا فرقاً من أن أسمع قوله، قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبًا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: سمعت كلاماً حسناً، قال: فقلت في نفسي: والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن والقبيح، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، قال: فمكثت حتى إذا انصرف اتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فاعرض علي أمرك، فلما عرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن أسلم([18]).

 ●         [4103] قوله: «جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم» هذا المجيء غير المجيء الأول الذي أسلم فيه، بعد أن دعاهم للإسلام فأبوا «فقال: إن دوسا قد هلكت»، أي: بسبب الكفر؛ ولذا قال: «عصت وأبت»، وفي اللفظ الآخر: «إن دوسا كفرت وأبت»([19])، فالكفر هلاك،
وفي الحديث: الآخر أن الطفيل قال: «عصت وأبت فادع الله عليها فقيل: هلكت دوس»([20])، أي: أن الصحابة الحضور هم الذين قالوا ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده وهمَّ بالدعاء فظنوا أنه يدعو عليهم، ومعلوم أن دعوته مستجابة، فقال: «اللهم اهد دوساً، وائت بهم» وهذا فيه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم يدعُ عليهم بل دعا لهم بالهداية، فكان صلى الله عليه وسلم أرحم بهم من الطفيل الذي هو منهم وهم أهله وذووه، وليس في هذا غرابة فهو نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].


وفيه: أنه يدعى للكفار بالهداية إذا لم يتعرضوا للمسلمين بالأذى وأن هذا جائز كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لدوس، وإنما يدعى على الكافر إذا تعدى على المسلمين أو تعرض لهم بالأذى كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على رعل وذكوان([21]).

 ●         [4104] في هذا الحديث قصة مجيء أبي هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وجاء بهذا الحديث في هذه الترجمة؛ لأن أبا هريرة دوسي.

وفيه: فضل أبي هريرة رضي الله عنه وفرحه بالإسلام، حيث إنه تمثل بهذا البيت:

«يا ليلة من طولها وعنائها
 

على أنها من دارة الكفر نجَّتِ»
 

 

فهو في سفره ومجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم حصل له عناء ومشقة، ولكن في ذلك مصلحة عظيمة وهي أنها نجته من دار الكفر، فتجشم المشاق والتعب، ولكنه يرى أن ذلك عذبًا وحلوًا حيث إن العاقبة حميدة، حيث إنه أسلم ونجاه الله من الكفر.

قوله: «وأبق لي غلام في الطريق» يعني: هرب منه عبد له.

قوله: «هو لوجه الله» هذه كناية عن أنه أعتقه، والكناية لابد فيها من النية، وفي هذا فضل أبي هريرة رضي الله عنه وحسن خلقه وكرمه ودفعه السيئة بالحسنة، حيث إنه قابل إباق عبده بالعتق، وهناك بعض السادة إذا هرب منهم عبد ثم لقيوه أدبوه وضربوه، لكن أبا هريرة قابله بالعتق رضي الله عنه، وهذه من صفات أولياء الله الكرماء كما قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت: 34].

وللإنسان إذا أسيء إليه أحوال:

الحال الأولى: أن يرد السيئة بسيئة مثلها، وزيادة، وهذا من الظلم.

الحال الثانية: أن يرد السيئة بسيئة مثلها فهذا قصاص، وهو العدل.

الحال الثالثة: أن يقابلها بالعفو والسماح، وهذا من الفضل.

الحال الرابعة: أن يقابلها بالعفو والزيادة والإحسان إليه كأن يعطيه عطية أو يهدي إليه هدية، وهذه من الصفات التي لا يقدر عليها إلا الخواص من عباد الله؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35].

* * *

المتن

[76/55] وفدُ طَيِّئٍ وحديثُ عدي بن حاتم

 ●         [4105] حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبو عوانة، قال: نا عبدالملك، عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلاً رجلاً يُسمِّيهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووَفَيتَ إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عدي: فلا أبالي إذن.

الشرح

قوله: «وفد طيئ وحديث عدي بن حاتم»، وعدي بن حاتم رضي الله عنه صحابي؛ لأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وورد هذا في حديث طويل([22])، وأما وفد طيئ الذي ذكره المؤلف فمتأخر، فهو في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

 ●         [4105] هذا الحديث فيه منقبة لعدي،
وفيه: أنهم لما قدموا على عمر في وفد «فجعل يدعوهم رجلاً رجلاً يسميهم» فلان بن فلان، حتى وصل إلى عدي بن حاتم، وكان سيداً مطاعا، فقال: «أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى،: أسلمتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووَفَيتَ إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا» وهذه صفات عظيمة، يعني: أسلمت حين كفر الناس، وأقبلت حين أدبر الناس وهربوا، ووفيت حين غدر الناس، وعرفت حين أنكر الناس.

قوله «فقال عدي: فلا أبالي إذن» أي: ما دام فيّ هذه الأوصاف فلا أبالي بشيء، ولا أريد غير هذا.

قال الحافظ ابن حجر /: «يشير بذلك إلى وفاء عدي بالإسلام والصدقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه منع من أطاعه من الردة» يعني: لما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منع عدي قومه من أن يرتدوا.

ثم قال /: «وهذا مشهور عند أهل العلم، وقوله: «فلا أبالي إذا»، يعني: إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي إذا قدّمتَ علي غيري»، وذكر رواية عن البخارى أنه قال لعدي: حياك الله من معرفة.

المتن

[77/55] حَجَّة الوداع

 ●         [4106] حدثنا إسماعيل بن عبدالله، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه هدي فَلْيُهْلِلْ بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا»، فقدمت معه وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج ودعي العمرة»، ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: «هذه مكان عمرتك»، قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.

 ●         [4107] حدثني عمرو بن علي، قال: نا يحيى بن سعيد، قال: نا ابن جريج، قال: حدثني عطاء، عن ابن عباس: إذا طاف بالبيت فقد حل، فقلت: من أين؟ قال: هذا ابن عباس، قال: من قول الله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33]، ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد الْمُعَرَّف، قال: كان ابن عباس يراه قبلُ وبعدُ.

 ●         [4108] حدثني بيان، قال: نا النضر، قال: أنا شعبة، عن قيس، قال: سمعت طارقًا، عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فقال: «أحججت؟» قلت: نعم، قال: «كيف أهللت؟» قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «طف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حِلَّ»، فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة، وأتيت امرأة من قيس ففَلَت رأسي.

 ●         [4109] حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: نا أنس بن عياض، قال: نا موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر أخبره، أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، فقالت حفصة: فما يمنعُك؟ قال: «لبدتُ رأسي وقلدتُ هديي، فلستُ أَحِلُّ حتى أنحر هديي».

 ●         [4110] نا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، ح. وقال محمد بن يوسف، نا الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، أن امرأة من خثعمَ استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والفضلُ بن عباسٍ رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده أدركتْ أبي شيخا كبيرا لا يستطيعُ أن يستويَ على الراحلة، فهل يقضي أن أحج عنه؟ قال: «نعم».

 ●         [4111] حدثني محمد، قال: نا سريج بن النعمان، قال: نا فليح، عن نافع، عن ابن عمر قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو مردفٌ أسامةَ على القصواء، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، حتى أناخ عند البيت، ثم قال لعثمان: «ائْتِنا بالْمِفْتَح»، فجاءه بالْمِفتَح ففتَح له البابَ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان ثم غلَّقُوا عليهم الباب، فمكُث نهارا طويلا، ثم خرج، فابتدر الناسُ الدخولَ فسبقتُهم، فوجدت بلالا قائما وراء الباب، فقلت له: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: صلى بين ذيْنِك العمودين المقدَّمين، وكان البيت على ستة أعمدة شطرين، صلى بين العمودين من الشطر المقدَّم، وجعل باب البيت خلف ظهره، واستقبل بوجهه الذي يستقبلُك حين تَلِجُ البيتَ بينه وبين الجدار، قال: ونسيت أن أسأله: كم صلى؟ وعند المكان الذي صلى فيه مَرْمَرَةٌ حمراءُ.

 ●         [4112] نا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبدالرحمن، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حجة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلْتَنفِر».

 ●         [4113] نا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، أن أباه حدثه، عن ابن عمر قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: «ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس على ما يخفى عليكم -ثلاثا - إن ربكم ليس بأعورَ، إنه أعورُ العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت»، قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد -ثلاثا - ويلكم - أو ويحكم - انظروا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

 ●         [4114] نا عمرو بن خالد، قال: نا زهير، قال: نا أبو إسحاق، قال: حدثني زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها؛ حجةُ الوداع.

قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى.

 ●         [4115] نا حفص بن عمر، قال: نا شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير، عن جرير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع لجرير: «استَنصِتْ ليَ الناسَ»، فقال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض».

 ●         [4116] حدثني محمد بن المثنى، قال: نا عبدالوهاب، قال: نا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلَقَ السموات والأرض، السنةُ اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي: شهر هذا؟» قلنا:×الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «أي: بلد هذا؟» قلنا:×الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس البلدةَ؟» قلنا: بلى، قال: «فأي: يوم هذا؟» قلنا:الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه»، فكان محمد إذا ذكره يقول: صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ألا هل بلغت»، مرتين.

 ●         [4117] نا محمد بن يوسف، قال: نا سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، أن أناسًا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذْنا ذلك اليومَ عيدًا، فقال عمر: أيَّةُ آيةٍ؟ فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: 3]، فقال عمر: إني لأعلم أي: مكان أُنزلَتْ؛ أُنزلَت ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعرفةَ.

 ●         [4118] نا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمِنَّا مَن أهلَّ بعمرة، ومنا من أهل بحجة، ومنا من أهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج، أو جمع الحج والعمرة فلم يَحِلُّوا حتى يومِ النحر.

 ●         [4119] نا عبدالله بن يوسف، قال: أنا مالك، وقال: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.

 ●         [4120] نا إسماعيل، قال: نا مالك، مثله.

 ●         [4121] نا أحمد بن يونس، قال: نا إبراهيم بن سعد، قال: نا ابن شهاب، قال: نا عامر بن سعد، عن أبيه، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا ترثني إلا بنت لي واحدة، فأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا»، قلت: فالثلث؟ قال: «والثلث كثير، وإنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها؛ حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك»، قلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي، قال: «إنك لن تُخَلَّفَ فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلفُ حتى ينتفعَ بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم، لكن البائسُ سعدُ بن خولة»، رَثَى له رسول الله أن تُوُفِّيَ بمكةَ.

 ●         [4122] حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: نا أبو ضمرة، قال: نا موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر أخبرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع.

 ●         [4123] حدثنا عبيدالله بن سعيد، قال: نا محمد بن بكر، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، أخبره ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجة الوداع وأناسٌ من أصحابه، وقصَّر بعضُهم.

 ●         [4124] نا يحيى بن قزَعة، قال: نا مالك، عن ابن شهاب، ح. وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيدالله بن عبدالله، أن ابن عباس أخبره، أنه أقبل يسير على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بمنىً في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس.

 ●         [4125]نا مسدد، قال: نا يحيى، عن هشام، قال: حدثني أبي، قال: سُئل أسامة وأنا شاهد عن سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، فقال: العَنَقَ، فإذا وجد فجوة نَصَّ.

 ●         [4126] نا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عَدي بن ثابت، عن عبدالله بن يزيدَ الْخَطْمِيِّ، أن أبا أيوب أخبره، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعًا.

الشرح

قوله: «حجة الوداع» ذكرها المؤلف هنا في «كتاب المغازي»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج في آخر عمره، والحج نوع من الجهاد، فهذه مناسبة ذكرها هنا.

 ●         [4106] هذا الحديث في حجة الوداع في إهلالهم بالحج، قالت عائشة: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» يعني: أن الذين ساقوا الهدي يهلون بالحج والعمرة جميعا، ولا يهلون بالعمرة وحدها؛ لأنهم ساقوا الهدي، كذا لا يتحلل حتى يذبح هديه، أما من لم يسق الهدي فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يتحللوا([23]). ولهذا قال: «من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا»، يعني: يوم العيد.

قالت عائشة: «فقدمت معه وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة»؛ لأنها حاضت بسرف، وسرف مكان قريب من مكة وهي أحرمت بالعمرة، «فشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وفي اللفظ الآخر: «أنه دخل عليها وهي تبكي قال: ما يبكيك أنفست؟» يعني: حضت، والحيض يسمى نفاسًا، «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم»([24]).

قوله: «انفضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج ودعي العمرة» فيه: : استحباب نقض شعر رأس المرأة وامتشاطها لإهلالها بالحج بعد العمرة إذا حاضت قبل إكمال عمرتها، فعائشة أحرمت بالعمرة، ولكن جاء الحج وهي لم تطهر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل للحج، وأن تنقض شعر رأسها، وأن تمتشط بالأصابع - لا بالمشط - لإهلالها؛ لأن المشط يقطع الشعر، فتمتشط للإهلال بالحج بعد العمرة إذا حاضت قبل إكمال عمرتها، وقوله: «ودعي العمرة» يعني: دعي أفعالها؛ لأنها أدخلت الحج على العمرة، وإلا فهي صارت قارنة يعني: حجا وعمرة.

قولها: «فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك» فيه: دليل على أن من أراد العمرة وهو من أهل مكة فإنه لا يحرم من مكة، بل يخرج خارج الحرم إلى التنعيم أو الجعرانة أو عرفة، أو أي: مكان، ولو كان يجوز لعائشة رضي الله عنهما أن تحرم من الحرم لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أخاها أن يذهب بها إلى التنعيم في الليل، وهذا مخصص لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل نجد من قرن، ومن كان دون ذلك فمهله من أهله، حتى أهل مكة من مكة»([25])، يعني: يهلون بالحج من مكة، فعائشة حاضت وتركت أعمال العمرة مع حجتها، فمن كان حاله مثل حال عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد الحج، قالت عائشة: فهذه عمرة أخرى غير العمرة التي دخلت بها مكة وأدخلت عليها الحج، والعمرتان اللتان حصلتا لعائشة بينهما مقدار عشرة أيام؛ لأنها أحرمت في الخامس والعشرين من ذي القعدة للعمرة، وأحرمت ليلة الرابع عشر يعني: مقامهم عشرة أيام في مكة.

قولها: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى»، وفي اللفظ الآخر «بعد أن رجعوا من منى لحجهم»([26]) يعني: الذين أهلوا بالعمرة طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا من عمرتهم، ثم أحرموا بالحج في اليوم الثامن، ثم طافوا طوافا آخر، والمراد بهذا الطواف السعي بين الصفا والمروة؛ لأن الطواف بالبيت بعد الرجوع من منى واجب على جميع الحجاج المفرد والقارن والمتمتع؛ ولذلك قالت - كما في الجملة التي بعدها: «وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» والمراد بهذا الطواف : أي: بين الصفا والمروة، أي: سعوا سعياً واحداً.

فهاتان الجملتان دليل على أن القارن ليس عليه إلا طواف واحد للحج والعمرة، وهو الصواب، وأما المتمتع فإن عليه طوافين: طواف لعمرته، وطواف لحجه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»([27])، والمراد بالطواف السعي بين الصفا والمروة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.

القول الثاني:قول الإمام أبو حنيفة /([28]) وهو رواية عن الإمام أحمد([29])إلى أن القارن عليه طوافان وسعيان مثل المتمتع.

مسألة : وفيما يجب على المتمتع قولان:

القول الأول: وهو مذهب الجمهور، وهو أن المتمتع عليه سعيان: سعي للحج وسعي للعمرة.

القول الثاني: وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس عليه إلا سعي واحد. قال شيخ الإسلام: وليس على المتمتع والقارن إلا سعيا واحدا باتفاق أهل العلم وكذا المتمتع في أصح أقوالهم ما عليه إلا سعي واحد لا سيما المرأة([30]).

وجاء في الحديث الآخر لما تكلم عن وجوه الإحرام قال: «فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله بالحج»([31]). لكن قولها «فأهللنا» تقصد به نفسها ومن كان مثلها ومن أهل بعمرة، فالصحابة مختلفون فمنهم من أهل بحج ومنهم من أهل بحج وعمرة، كما بينا ذلك من قبل.

 ●         [4107] يرى ابن عباس رضي الله عنهما وجوب المتعة على كل أحد، ويميل إليه ابن القيم في زاد المعاد([32])؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة كلهم أن يتمتعوا([33])، وحج معه بشر كثير يقارب عددهم مائة ألف حتى قال جابر لما قام: أرى بشرا كثيرا مد البصر أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، كلهم جاءوا من كل مكان ليأتموا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم([34])؛ فمنهم من أهل بحج مفرد، ومنهم من أهل بعمرة مفردة، ومنهم من أهل بحج وعمرة.

ثم لما قربوا من مكة وقربوا من سرف، بقي الذين ساقوا الهدي على حالهم، والذين لم يسوقوا الهدي أمرهم أن يتحللوا قال لهم: طوفوا واسعوا وتحللوا، ثم لما قدموا مكة وطافوا وسعوا أمرهم وحتم عليهم وألزمهم أن يتحللوا عند المروة إلا من ساق الهدي فتحللوا كلهم، وشدد عليهم وألزمهم بذلك([35])، وأخذ ابن عباس من هذا وجوب المتعة، وأنه يجب على كل أحد أن يتمتع إلا من ساق الهدي؛ لأن الرسول ألزمهم بهذا ولم يدع أحداً إلا تحلل، وأما شيخ الإسلام ابن تيمية([36]) فإنه يرى أن هذا خاص بالصحابة حتى يزول اعتقاد أهل الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج ممنوعة حرام، بل من أفجر الفجور، يقولون: أيام الحج تكون للحج، والعمرة لها أوقات كثيرة، ويقولون: إذا عفا الدبر، وانسلخ شهر صفر حلت العمرة لمن اعتمر، أي: إذا رجع الناس من الحج، وشفيت الإبل من الجروح التي في ظهرها وبرئت، ومضت مدة وانسلخ شهر صفر حلت العمرة لمن اعتمر، حتى قالوا: يا رسول الله كيف نتمتع؟ أي: حل كامل أم ناقص؟ قال: «الحل كله حل كامل»([37]) فاستغربوا؛ لأن هذا لم يكن معروفا في الجاهلية، قالوا: كيف نتحلل وليس بيننا وبين عرفة غير أربع ليال؟ قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم»([38])، يعني: لو كنت أظن أنكم ستتوقفون لما سقت الهدي، فقالوا: يا رسول الله ماذا نعمل؟ هل نجامع النساء وليس معنا ماء؟! قال: «نعم»، قالوا: أينطلق أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟! يعني: قريب من مجامعة النساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افعلوا ما آمركم به فلولا أني سقت الهدي لأحللت معكم»([39])؛ فلهذا يرى ابن عباس أن العمرة واجبة على كل أحد، كذلك ابن القيم قال في زاد المعاد: «أنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا»([40])، يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية.

فوجوب العمرة هو قول ابن عباس، واختيار ابن القيم، واختيار الشيخ ناصر الدين الألباني، وأما شيخ الإسلام([41]) فيرى أن هذا الإلزام خاص بالصحابة، والجمهور يرون أنه مخير بين المتعة وغيرها.

فهذا الحديث على مذهب ابن عباس قال: «إذا طاف بالبيت فقد حل»، يعني: وبالصفا والمروة، وإنما لم يذكره؛ لأنه معلوم أنه يتحلل تلقائيا.

قوله: «فقلت: من أين؟ قال: هذا ابن عباس؟» القائل هو ابن جريج يخاطب عطاء، «قال من قول الله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33]» أي: إذا وصل إلى البيت العتيق حل، وهذا تفقه من ابن عباس، ولكن الآية مجملة والنصوص الواضحة والمفصلة هي التي يؤخذ بها؛ لأنها تفصل هذا الإجمال وتوضحه.

قوله: «ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد المعرَّف» المعرَّف: يعني: الوقوف بعرفة «قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد» يعني: يرى وجوب المتعة والإحلال من العمرة على كل من أحرم قبل عرفة وبعد عرفة.

 ●         [4108] هذا حديث أبي موسى رضي الله عنهما،
وفيه: أنه قال: «قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فقال: «أحججت؟» قلت: نعم، قال: «كيف أهللت؟» قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال له: أنا معي هدي وأنت ما معك هدي، فلا تكون مثلي، أنا أتحلل يوم العيد، وأنت عليك أن تطوف بالبيت، وأن تسعى بين الصفا والمروة، ثم تتحلل، قال أبو موسى: «فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة، وأتيت امرأة من قيس»، يعني: من قومه، «ففلت رأسي»، وسبق أن هذه المرأة إحدى محارم أبي موسى.

 ●         [4109] هذا حديث حفصة رضي الله عنهما، وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع»؛ لأن أزواجه حججن معه، «فقالت حفصة: فما يمنعُك؟» أي: أتأمرنا أن نتحلل ولا تحل أنت؟! «قال: إني لبدتُ رأسي وقلدتُ هديي، فلستُ أحل حتى أنحر هديي»، يعني: أنه عليه الصلاة والسلام قد لبد رأسه وساق الهدي، ولا يستطيع أن يتحلل حتى ينحر الهدي، والنحر كما هو معلوم يكون يوم العيد، أما أنتن فليس معكن هدي فعليكن أن تتحللن.

وقوله: «لبدت رأسي» يعني: جعل فيه شيئا يمسكه، أو ألصق فيه شيئا معروفا.

وقوله: «قلدت هديي» يعني: وضع عليها النعال أو غيرها أو شيئا من العهن حتى تعرف أنها مهداة للبيت.

 ●         [4110] هذا الحديث فيه مشروعية الحج عن الكبير الحي غير المستطيع كالشيخ الفاني، ولا يشترط استئذانه ولا إخباره؛ لأنه كالميت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهذه المرأة استأذنيه أو أخبريه، وكذلك العاجز الذي لا يثبت على المركوب؛ رجلا كان أو امرأة، وأما الحي القادر فلا يحج عنه، بل يحج عن نفسه.

قوله: «والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فيه: جواز الإرداف على الدابة إن كانت تطيق ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس.

وفي هذا الحديث أن هذه المرأة استفتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة» وهذا قيد، يعني: لا يستطيع أن يركب مركوبا، فقالت: «فهل يقضي أن أحج عنه؟ قال: نعم» فيه: جواز حج المرأة عن الرجل إذا كان غير مستطيع.

 ●         [4111] هذا الحديث في غزوة الفتح،
وفيه: أن ابن عمر قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح» يعني: إلى الكعبة «وهو مردف أسامةَ على القصواء»، والقصواء: اسم ناقته،
وفيه: دليل على جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.

قوله: «فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان الحجبي»، أي: من الذين يلون الحجابة، وفي لفظ أنه أمره أن يأتي بالمفتاح فجاء بمفتاح الكعبة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان الحجبي أربعة فأغلقت عليهم الباب([42])، وفي رواية حتى دخل البيت فقال لعثمان: «ائتنا بمفتاح الكعبة»، فجاء بالمفتاح ففتح الباب فدخل أربعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان ثم أغلقوا عليهم الباب، فمكث نهارا طويلا([43])، يعني: مدة من الزمن، ثم خرج، وابن عمر لم يدخل معهم، بل كان واقفا عند الباب ينتظرهم.

قوله: «ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم، فوجدت بلالا قائما وراء الباب، فقلت له: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: صلى بين ذينك العمودين المقدمين، وكان البيت على ستة أعمدة شطرين» كان البيت على ستة أعمدة؛ ثلاثة أعمدة مقدمة، وثلاثة أعمدة مؤخرة،
وفي الحديث: الآخر([44]) أنه جعل باب الكعبة خلفه، وجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع.

قوله: «واستقبل بوجهه الذي يستقبلك حين تلج البيت بينه وبين الجدار، قال: ونسيت أن أسأله: كم صلى؟ وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء» فيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وجاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ولم يصل، وإنما كبر في نواحيه([45])؛ ويجمع بينهما بأن يقال: إن حديث بلال مثبت، وحديث ابن عباس ناف، فالمقدم حديث بلال؛ لأنه هو المثبت فمعه زيادة علم خفيت على من نفى.

قال الحافظ ابن حجر /: «وقد أشكل دخول هذا الحديث في باب «حجة الوداع»؛ لأن فيه التصريح بأن القصة كانت عام الفتح، وعام الفتح كان سنة ثمان، وحجة الوداع كانت سنة عشر، وفي أحاديث هذا الباب جميعها التصريح بحجة الوداع وبحجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حجة الوداع» يعني: هذا الحديث في غزوة الفتح، والإمام البخاري بوب قال: «باب حجة الوداع» فالحافظ ابن حجر ألشكل دخول حديث غزوة الفتح هنا، ولم يجب على الإشكال، فالجواب على هذا الإشكال والله أعلم أن إدخال المؤلف هذا الحديث في «باب حجة الوداع»؛ ليبين أن دخول البيت ليس من سنن الحج، ولا من سنن العمرة، وإنما هو من السنن المستقلة؛ ولهذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، ولم يدخل البيت في عمرة القضية، ولا في عمرة الجعرانة، وإنما دخله عام الفتح، ولما سألته عائشة رضي الله عنه عن الصلاة في البيت قالت له: يا رسول الله أريد أن أصلي في البيت، قال لها: «صلي في الحجر»([46])؛ وما ذاك إلا لأنه جزء من البيت.

 ●         [4112] هذا الحديث فيه: دليل على سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء، فإذا أرادت أن تسافر وقد طافت طواف الإفاضة - وهو طواف الحج - ولم يبق عليها إلا طواف الوداع وعليها الحيض فإنها تسافر، ويسقط عنها طواف الوداع لهذا الحديث: «أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حجة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت».


وفيه: دليل على أن المرأة إذا لم تطف طواف الإفاضة فإنها تحبس وليها، ويبقى معها حتى تطوف طواف الإفاضة؛ ولهذا قال: «أحابستنا هي؟» يعني: إن لم تكن طافت طواف الإفاضة فهي تحبسنا، قالوا: لا يا رسول الله «إنها قد أفاضت»، قال: «فلتنفر» فأسقط عنها طواف الوداع، فدل على أنها لو لم تطف طواف الإفاضة لحبست النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن شق عليه الجلوس، ولا سيما المواصلات في هذا العصر، وأرادت أن تذهب إلى جدة أو إلى مكة أو إلى الطائف أو إلى الرياض أيضا فإنها تذهب في الطائرة، وإذا طهرت ترجع في الحال وتطوف طواف الإفاضة، ويكون زوجها ممنوعا من قربها حتى تطوف طواف الإفاضة، فإن لم ترجع يبقى عليها طواف الإفاضة، وتبقى معلقة ويبقى طواف الحج عليها، وتكون ممنوعة من زوجها حتى ترجع، ولابد أن ترجع، وإذا كانت من بلاد بعيدة فإنها ترجع إلى المفتي وينظر إلى حالتها، فلكل حالة جواب، ولا يفتى بفتوى عامة، ولكن إذا ضاقت بها الحيل، وكانت من بلاد بعيدة ولا يمكن أن ترجع ففيه: قولان:

القول الأول: هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية([47]) أنها في هذه الحال تتلجم وتتحفض وتطوف وهي على حالها للضرورة القصوى إذا لم تجد ملجأ.

القول الثاني: أنها تكون محصرة -أي: ممنوعة من الطواف شرعاً - وهذا اختيار شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز /، أنها تذبح وتقصر وتتحلل وتذهب إلى بلدها، ويبقى الحج في ذمتها، إن قدرت حجت وإن لم تقدر تكون عاجزة، أما التي تستطيع أن تبقى وتستطيع أن ترجع فلابد من الرجوع.

 ●         [4113] قوله: «كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره» يعني: في حجة الوداع أطنب النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره، وقال: «ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده»، وهذا يدل على عظم فتنة الدجال، حيث أنذر منه نوح والنبيون من بعده مع أن خروجه في آخر الزمان، وجاء في قصة الصحابة الذين ركبوا البحر وماج بهم، ثم أرسوا إلى جزيرة أنهم وجدوا فيها الجساسة، وهي الدابة لا يعرفون لها قبلًا من دبر، قالوا: ما أنتِ؟ فرقنا أن تكون شيطانا، أي: خافوا منها، قالت: اذهبوا إلى صاحب ذلك الدير، قالوا: فذهبنا إلى رجل كأعظم ما رأينا، موثق بالحديد ما بين عنقه ويديه، وجعل يسألهم عن كذا وعن كذا وعن نخل كذا، وسألهم عن رسول الأميين هل بُعث؟ فقالوا له: من أنت؟ قال: قدرتم على خبري، ثم أخبرهم أنه المسيح الدجال، وأنه يوشك أن يخرج، ولا يطأ بلداً إلا دخلها إلا مكة والمدينة([48]).

قوله: «فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس على ما يخفى عليكم – ثلاثًاً - إن ربكم ليس بأعور، إنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية» فيه: دليل على إثبات العينين لله عز وجل في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن ربكم ليس بأعور» والأعور: الذي ليس له إلا عين واحدة، والله ليس بأعور؛ فله عينان سليمتان كاملتان تليقان بجلاله سبحانه، والدجال له عين واحدة.

قوله: «انظروا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» فيه: : دليل على أن القتال بين المسلمين من الأعمال الكفرية، وأنه كفر أصغر ومن كبائر الذنوب، ومع ذلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حصل قتال في عهد الصحابة في خلافة علي رضي الله عنه في وقعة صفين وغيرها.

وهذا الحديث يدل على أن هذه الخطبة كلها كانت في حجةالوداع، حيث خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحذر من الدجال وأطنب، وبين أوصاف الدجال، ثم قال في آخر الخطبة: «إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم»، وقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وخطبة حجة الوداع كانت في يوم عرفة.

 ●         [4114] قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها: حجةُ الوداع، قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى» أي: حجة أخرى بمكة قبل الهجرة، والصواب أنه لا يُعلم عدد حجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، قيل: إنه حج قبل الهجرة حجتين كما جاء عند الترمذي عن جابر قال: حج ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر ومعها عمرة([49])، وهذا مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك؛ ولهذا أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري أن النبي حج قبل أن يهاجر حججا([50]).

قال الحافظ ابن حجر /: ««قال أبو إسحاق وبمكة أخرى» هو موصول بالإسناد المذكور، وغرض أبي إسحاق أن لقوله: «بعدما هاجر» مفهوما، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حج، لكن اقتصاره على قوله: «أخرى» قد يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة، وليس كذلك؛ بل حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه؟! وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفا بعرفة([51])، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية كما بينته».

 ●         [4115] قوله: «استنصت لي الناس» يعني: اجعلهم ينصتون، «فقال: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» فيه: دليل على أن القتال من الأعمال الكفرية بين المسلمين، لكنه كفر أصغر ومن كبائر الذنوب.

 ●         [4116] هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن البلد وعن الشهر وعن اليوم حتى يسترعي انتباههم فتتبين لهم حرمة البلد والشهر واليوم، ثم قال: إن الدماء والأموال والأعراض حرام كحرمة اليوم والشهر والبلد.


وفيه: أنه يقال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: الله ورسوله أعلم، وأما بعد وفاته فيقال الله أعلم.

قوله: «لا ترجعوا بعدي ضلالًا يضرب بعضكم رقاب بعض... ألا هل بلغت؟» ومع هذا التبليغ والتحليف العظيم، وقعت الحرب بين أهل الشام والعراق في صفين والجمل، فالواجب الحذر، فدماء المسلمين وأموالهم عظيمة،
وفي الحديث: الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة وقال: «إن حرمتك عظيمة، وإن حرمة الدماء أعظم من حرمتك»([52]) والآن صارت الدماء رخيصة عند هؤلاء الذين يفجرون ويهلكون الحرث والنسل ويقتلون الأنفس البريئة والأموال، فقد وقعوا في هذا الجرم الشديد.

 ●         [4117] قوله: «لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر: أية آية؟ فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: 3] ، فقال عمر: إني لأعلم أي: مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة»، نزلت بعرفة، ويوم عرفة يوم عيد.

وفي هذا الحديث معرفة اليهود للحق، ومع ذلك لم يتبعوه.

 ●         [4118] هذا حديث عائشة
وفيه: أنها قالت: «منا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة» تقصد نفسها ومن وافقها.

قولها: «وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» هذا يدل على أن عائشة غلطت ووهمت في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، وإلا فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالعمرة والحج معا([53])، وهذا على حسب علمها، ويحتمل أن مقصود قولها: «أهل بالحج» يعني: بالحج مع العمرة، فأطلقت الحج وأرادت الحج مع العمرة.

 ●         [4119]، [4120] قال الحافظ ابن حجر /: «أورده من طرق عن مالك بسنده في طريقين، منها حجة الوداع، وهو مقصود الترجمة، وقد تقدم من وجه آخر في أول الباب عن شيخ آخر لمالك بأتم من السياق المذكور هنا».

 ●         [4121] هذا الحديث في قصة مرض سعد بن أبي وقاص، فقد مرض رضي الله عنه بمكة، ثم شفاه الله، ولم يكن لسعد في ذلك الوقت إلا ابنة واحدة.

قوله: «فأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا»، أوصله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثلث، ففيه: دليل على أنه يجب على الإنسان ألا يوصي بأكثر من الثلث.

وقد شفي سعد من هذا المرض، ورزق أولادا كثيرين، منهم عامر راوي الحديث، ومنهم عائشة وغيرهم.

قوله: «أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون» فيه: :علم من أعلام النبوة؛ حيث عاش سعد، وقاتل الفرس، وتولى إمارة القادسية فانتفع به قوم ممن أسلموا، وضُرَّ به آخرون ممن ماتوا على الكفر.

قوله: «لكن البائس سعد بن خولة رثى له النبي صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة» فيه: : حث المهاجرين على التخلي عن المكان الذي تركوه لله وعدم الإقامة فيه، لكن لا يضر سعد أنه مات بمكة؛ لأنه لم يقصد الإقامة وترك مكان الهجرة.

 ●         [4122] هذا الحديث فيه دلالة على أن الحلق أفضل من التقصير، وإن كان التقصير جائزا كما سيأتي في الحديث الذي بعده.

 ●         [4123] هذا الحديث يدل على أن الإنسان مخير في الحج بين التقصير وبين الحلق، إلا أن الحلق أفضل كما جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا ودعا للمقصرين واحدة([54]).

 ●         [4124] قوله: «أقبل يسير على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس».كان ابن عباس صغير السن قد ناهز الاحتلام في حجة الوداع، جاء وهو راكب الحمار، ودخل بالحمار بين النبي صلى الله عليه وسلم والصف أمام الناس، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم، فدل هذا على أن مرور الحمار لا يؤثر بين يدي المأموم وبين الإمام؛ لأن سترة الإمام سترة للمأموم، لكنه يؤثر إذا مر أمام المنفرد، أو بين الإمام وسترته، لا من وراء السترة.

 ●         [4125] هذا الحديث فيه أن أسامة رضي الله عنه سئل عن سير النبي صلى الله عليه وسلم في الحج فقال: «العنق» والعنق: هو السير المعتدل غير السريع.

قوله: «فإذا وجد فجوة نص»، والنص: هو السير السريع، فكان صلى الله عليه وسلم وهو يمشي بناقته إذا وجد فجوة أسرع، وإذا صار هناك بعض التقارب سار سيرا معتدلا.

 ●         [4126] قوله: «أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعا»، أي: جمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، كما أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فدل على مشروعية جمع الحاج بعرفة ومزدلفة.

* * *

المتن

[78/55] غزوة تبوك وهي غزوة العسرة

 ●         [4127] نا محمد بن العلاء، قال: نا أبو أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم؛ إذ هم معه في جيش العسرة - وهي غزوة تبوك - فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: «والله لا أحملكم على شيء»، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أين عبدالله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: «خذ هذين القرينتين، وهذين القرينتين - لستة أبعرة ابتاعهم حينئذ من سعد - فانطلق بهم إلى أصحابك، فقل: إن الله - أو قال: إن رسول الله - يحملكم على هؤلاء فاركبوهن»، فانطلقت إليهم بهن، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى.

 ●         [4128] نا مسدد، قال: نا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي».

وقال أبو داود: نا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت مصعبًا.

 ●         [4129] حدثني عبيدالله بن سعيد، قال: نا محمد بن بكر، قال: أنا ابنُ جريج، قال: سمعت عطاء يخبر، قال: أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم العسرة، قال: كان يعلى يقول: تلك الغزوة أوثق أعمالي عندي، قال عطاء: فقال صفوان: قال يعلى: فكان لي أجير فقاتل إنسانا، فعض أحدهما يد الآخر، قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر فنسيته، قال: فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال عطاء: وحسبت أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفيدع يده في فيك تقضمها كأنها في في فحل يقضمها؟!».

الشرح

قوله: «غزوة تبوك» سميت تبوكًا كما ذكر الحافظ ابن حجر عن ابن قتيبة أنه قال: «جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون مكان مائها بقدح، فقال: «ما زلتم تبوكونها»([55])؛ فسميت حينئذ تبوكًا».

قوله: «وهي غزوة العسرة» سميت بذلك للشدة التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإنهم خرجوا إلى تبوك في قيظ شديد، وأصابهم عطش شديد، حتى إنهم كانوا ينحرون البعير ويشربون ما في كرشها من الماء، فحصل لهم عسرة في الماء وفي الظهر وفي النفقة؛ فسميت غزوة العسرة.

وقد ذكر الشارح أن تأخير غزوة تبوك عن حجة الوداع خطأ من النساخ؛ فإن غزوة تبوك كانت قبل حجة الوداع، فغزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع، وحجة الوداع سنة عشر، فكيف تقدم حجة الوداع على غزوة تبوك.

وقال بعضهم: إنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وكانت الطائف سنة ثمان من الهجرة فيكون دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة من الطائف في ذي الحجة.

 ●         [4127] هذا حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه،
وفيه: أنه قال: «أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم؛ إذ هم معه في جيش العسرة - وهي غزوة تبوك»، يعني: يسألونه ظهرا أو إبلا يحملهم عليها؛ لأنهم يريدون أن يجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم فقراء ما عندهم ظهر ولا إبل، فحلف النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحملهم فقال: «والله لا أحملكم على شيء»، وفي اللفظ الآخر: «وما عندي شيء»([56]).

قال أبو موسى: «ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزينا»، أي: حلف النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحملهم ولا يعطيهم شيئا، وقد وافق النبي صلى الله عليه وسلم غضبان فرجع أبو موسى رضي الله عنه حزينا لأمرين:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه.

الأمر الثاني: أنه خاف أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب عليه؛ لأنه جاءه وهو غضبان، فرجع أبو موسى إلى أصحابه، وأخبرهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو موسى: «فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أين عبدالله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك»، فأجابه. : «فلما أتيته قال: «خذ هذين القرينتين وهذين القرينتين لستة أبعرة ابتاعهم حينئذ من سعد» يعني: اشتراهن، ويحتمل أن يكون كل قرينين ثلاثة أبعرة، ويحتمل أن يكون هناك اختصار من الراوي، والأصل: هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين، فيكون العدد ستة.

قوله: «فانطلق بهم إلى أصحابك» أي: ليجاهدوا عليها.

قال: «فقل: إن الله - أو قال: إن رسول الله - يحملكم على هؤلاء فاركبوهن»، أي: فأخذهن أبو موسى.

قال: «فانطلقت إليهم»، أي: إلى أصحابه.

وقوله: «فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم» يعني: أن أبا موسى رجع إلى أصحابه وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حلف ألا يحملنا، ثم استدعاه وأعطاه ستة أبعرة، قال: إني أريد أن يذهب معي بعضكم حتى تعلموا أني ما كذبت عليكم.

وقوله: «فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت»، أي: أنت مصدق ولا نتهمك، وسنصنع لك ما أردت.

قوله: «فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى» هذا الحديث فيه اختصار، فقد سبق أن ساق المؤلف هذا الحديث،
وفيه: أن أبا موسى قال: «تغفلنا رسول الله يمينه لا نفلح أبدا»([57]
وفيه: أيضا أنهم قالوا: «يا رسول الله، إنك حلفت ألا تحملنا، ثم حملتنا»، فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حلف ألا يحملنا وحملنا، لعل الرسول صلى الله عليه وسلم نسي يمينه فقال: «إني لم أحملكم ولكن الله حملكم، ولكني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وآتي الذي هو خير»»([58]) فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ألا يحملهم ثم كفر عن يمينه وحملهم.

 
وفيه: دليل على أن اليمين لا تمنع من فعل الخير، وأن المسلم إذا حلف على فعل شيء أو ترك شيء ثم رأى الخير في فعله أو تركه فإن الأولى أن يحنث فيفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله ويفعل الخير، ولا يلج في يمينه، فالخير في يمينه أن يفعل الخير، فإذا حلف إنسان ألا يزور قريبه أو لا يأكل طعامه أو لا يزور جاره، أو حلف ألا يجيب دعوته - فالأمر يسير، فإنه يكفر عن يمينه ويزور قريبه، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «لأن يلج الإنسان في يمينه آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة»([59])، فكون إنسان يلج في يمينه هذا أشد إثمًا من كونه يحنث ويكفر عن يمينه.

وجاء في حديث آخر: «إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير»([60])، وفي لفظ: «إلا فعلتها وتحللتها»([61])، وسواء قدم الكفارة أو قدم الحنث فإن كل هذا جاء في الحديث.

وقيل: إن عدد الجيش في هذه الغزوة عشرون ألفًا، وقيل: ثلاثون ألفًا، وقيل: أربعون ألفًا.

 

([1]) أحمد (4/401)، والبخاري (4415)، ومسلم (1649).

([2]) أحمد (4/401)، والبخاري (5518)، ومسلم (1649).

([3]) أحمد (4/398)، والبخاري (3133)، ومسلم (1649).

([4]) أحمد (4/401)، والبخاري (6623)، ومسلم (1649).

([5]) أحمد (4/401)، والبخاري (3133)، ومسلم (1649).

([6]) أحمد (2/235)، والبخاري (3499)، ومسلم (52).

([7]) أحمد (2/269)، والبخاري (4388)، ومسلم (52).

([8]) أحمد (2/277)، والبخاري (4390)، ومسلم (52).

([9]) أحمد (2/252)، والبخاري (4388).

([10]) أحمد (2/380)، والبخاري (4388، 4390)، ومسلم (52).

([11]) أحمد (2/407)، والبخاري (3302)، ومسلم (51).

([12]) أحمد (2/269)، والبخاري (4388).

([13]) ابن حبان (16/287)، وعزاه الهيثمي في «المجمع» (10/55) للبزار.

([14]) أحمد (4/84)، وأبو يعلى (13/398)، والبزار (8/351)، والطبراني في «الكبير» (2/129).

([15]) الطبراني في «مسند الشاميين» (2/89).

([16]) أحمد (2/235)، والبخاري (4388)، ومسلم (52).

([17]) أحمد (2/369)، والبخاري (3516)، ومسلم (2522).

([18]) «السيرة» لابن إسحاق (2/226)، و«الطبقات» (4/238)، و«دلائل النبوة» للأصبهاني (1/212).

([19]) مسلم (2524).

([20]) أحمد (2/502)، والبخاري (2937).

([21]) أحمد (3/109)، والبخاري (1003)، ومسلم (677).

([22]) أحمد (4/377).

([23]) أحمد (3/292)، والبخاري (1085)، ومسلم (1241).

([24]) أحمد (3/309)، والبخاري (294)، ومسلم (1211).

([25]) أحمد (1/252)، والبخاري (1526)، ومسلم (1181).

([26]) أحمد (6/30)، والبخاري (1556)، ومسلم (1211).

([27]) أحمد (1/236)، ومسلم (1241).

([28]) انظر «المبسوط» (4/27).

([29]) انظر «الفروع» (3//309).

([30]) انظر «الفتاوى الكبرى» (5/383).

([31]) أحمد (6/36)، والبخاري (1562)، ومسلم (1211).

([32]) انظر «زاد المعاد» (2/193).

([33]) أحمد (1/252)، والبخاري (1085)، ومسلم (1240).

([34]) أحمد (6/191)، والبخاري (1786).

([35]) أحمد (6/273)، والبخاري (2734).

([36]) انظر «شرح العمدة» (2/492 - 496).

([37]) أحمد (1/252)، والبخاري (3832)، ومسلم (1240).

([38]) أحمد (3/366)، والبخاري (7229)، ومسلم (1211).

([39]) أحمد (3/366)، والبخاري (1568)، ومسلم (1216).

([40]) زاد المعاد (2/193)

([41]) انظر «شرح العمدة» (2/492-496).

([42]) أحمد (2/3)، والبخاري (468)، ومسلم (1329).

([43]) أحمد (2/3)، والبخاري (2988)، ومسلم (1329).

([44]) أحمد (2/3)، والبخاري (506).

([45]) أحمد (5/201)، والبخاري (1601)، ومسلم (1331).

([46]) أحمد (6/92)، وأبو داود (2028)، والترمذي (876)، والنسائي (2912).

([47]) مجموع الفتاوى (26/225)

([48]) أحمد (6/373)، ومسلم (2942).

([49]) الترمذي (815).

([50]) «المستدرك» (3/56).

([51]) أحمد (4/80)، والبخاري (1664)، ومسلم (1220).

([52]) ابن ماجه (3932).

([53]) أحمد (3/187)، والبخاري (1551، 1693)، ومسلم (1232).

([54]) أحمد (4/165)، والبخاري (1727)، ومسلم (1301).

([55]) «معجم ما استعجم» لأبي عبيد البكري (1/303)، و«الفائق» للزمخشري (1/132).

([56]) أحمد (4/398)، والبخاري (3133)، ومسلم (1649).

([57]) أحمد (4/401)، والبخاري (4385)، ومسلم (1649).

([58]) أحمد (4/401)، والبخاري (3133)، ومسلم (1649).

([59]) أحمد (2/317)، والبخاري (6625)، ومسلم (1655).

([60]) أحمد (4/398)، والبخاري (6623)، ومسلم (1649).

([61]) أحمد (4/401)، والبخاري (3133)، ومسلم (1649).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد