● [4128] هذا الحديث فيه منقبة لعلي رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه رجل شجاع، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك استخلف عليا وقال له: «اجلس في المدينة تكون عند أهلي وأهلك»([1])، فلما أراد المسير تبعه علي فقال: «أتخلفني في الصبيان والنساء؟» أي: تخلفني في النساء والصبيان وأنا رجل فارس قوي نشيط، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطيب خاطره وقال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟»، لكنه احترز وقال: «إلا أنه ليس نبي بعدي»، يعني: أن هارون خلفه موسى لما ذهب لميقات ربه وهو نبي بعده: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142]، وعلي خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إلا أنه ليس بعده نبي.
وفي اللفظ الآخر قال: «كن عند أهلي وأهلك، فإنما خلفتك لما تركت ورائي»([2]).
● [4129] هذه القصة وقعت في غزوة تبوك؛ لأن يعلى بن أمية رضي الله عنهكان رجلا كبير السن، فاستأجر أجيرا يقوم بالعمل ويعطيه شيئًا من الغنيمة،
وفيه: أنه لا بأس باستئجار الأجير في الغزو على أجرة أو على جزء من الغنيمة، فيعلى بن أمية استأجر هذا الأجير على أن يكون معه ويخدمه ويقوم بشئونه ثم يعطيه الأجرة.
قوله: «قال يعلى: فكان لي أجير فقاتل إنسانا، فعض أحدهما يد الآخر» قاتل يعني: خاصم، أي: خاصم إنسانا واشتدت الخصومة فأحدهما عض صاحبه، إما أجير يعلى أو الرجل الأجير الذي استأجره يعلى، أي: عض الشخص أو الشخص عضه ولذلك «قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر فنسيته، قال: فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال عطاء: وحسبت أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفيدع يده في فيك تقضمها كأنها في في فحل يقضمها؟!» يعني: لما عض أحدهما الآخر نزع المعضوض يده فسقطت ثنيته- والثنيتان الأسنان من الأمام- فالذي سقطت ثناياه اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أريد الدية، أي: يريد الدية في ثنيتيه اللتين سقطتا فلم يجعل له النبي صلى الله عليه وسلم دية؛ لأنه معتد فأبطل ديته وقال: «أفيدع يده في فيك تقضمها كأنها في في فحل يقضمها؟!» يعني: هو مضطر إلى أن ينزع يده فهل يترك يده يقضمها الآخر كالفحل؟ أي: كأنها في فم بعير يقضمها، فما يمكن هذا، فدل هذا على أنه لا دية لثنية العاض إذا سقطتا من نزع يد المعضوض؛ لأنه نزع يده ليخلصها من فمه فلا دية له، وذلك هدر؛ لأنه معتد.
وفي الحديث: أن من دفع عن نفسه صائلًا أو معتديًا فإن ما أصابه من دفعه أو سقوطه على الأرض هدر، فلو صال إنسان على شخص فأراد أن يدفع عن نفسه فدفع أو سقط أو كسرت يده مثلا أو جرح فلا دية له؛ لأنه معتد وهو مضطر لأن يدفع عن نفسه.
وفيه: أنه لا بأس بالاستئجار بجزء من الغنيمة واستئجار أجير ليجاهد معه ويخدمه في الحرب ويعطيه أجرة أو جزءًا من الغنيمة.
* * *
المتن
[79/55] حديث كعب بن مالك
وقول الله عز وجل: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118]
● [4130] حدثنا يحيى بن بكير، قال: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، أن عبدالله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغَزَاة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا وَعَدُوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد الناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكا، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟»، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي: من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: «تعال»، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»، فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قال: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه؛ فاجتنبنا الناس، فتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحبأي: فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، وكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك؛ فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقربك»، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلةً وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت - سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر! قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشرونا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك»، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله؟ أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، وما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)، إلى قوله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 117-119]، فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال الله عز وجل: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إلى قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 95-96]، قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118]، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
الشرح
بوب المؤلف فقال: «حديث كعب بن مالك» وذكر هذا الحديث الطويل الذي فيه قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن غزوة تبوك.
ثم ذكر المؤلف قول الله تعالى: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118].
والحديث فيه فوائد وأحكام عظيمة، وهو حديث طويل نزلت فيه هذه الآية: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وقبلها قول الله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة: 117] وقد سميت غزوة تبوك بساعة العسرة؛ لما أصاب المسلمين فيها من الشدة، فكان الحر شديدا والنفقة قليلة والظهر أو الدواب قليلة والسفر طويلاً بعيداً، فالمسافة من تبوك إلى المدينة طويلة، وليس هناك مواصلات مثل التي عندنا الآن من سيارات وطائرات وما إلى ذلك، وما كانت الطرق ممهدة ومعبدة بل كان التنقل بالرواحل من الإبل وكانت الطرق في الصحراء من الرمال، وقد يعترضها الجبال والوقت وقت حر شديد، فهذه المسافة قد تهلك فيها بعض الإبل أو بعض الناس، فسميت الصحراء مفازة تفاؤلا بالفوز والسلامة منها، وإلا ففيها مهلكة، وكان يسمى اللديغ سليماً تفاؤلا له بالسلامة وإلا فاللديغ ليس بسليم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم استقبل سفراً بعيداً ومفازة شاسعة فأصابهم شدة عظيمة، فقد قل الماء حتى إن الواحد ينحر البعير ويشرب ما في كرشها من الماء من العطش، وقل الظهر، فليس لكل أحد منهم بعير، والوقت حار شديد، وكان الليل قصيراً والنهار طويلاً والشمس حارة والمسافة طويلة جدًّا تصل إلى عشرين يومًا سيرًا.
وقد جلى النبي صلى الله عليه وسلم للناس هذا الأمر فكان إذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ورى بغيرها حتى يفجأ العدو، فإذا أراد أن يغزو جهة الشمال سأل عن طريق جهة الجنوب، وإذا أراد أن يغزو جهة الغرب سأل عن جهة الشرق إلا هذه الغزوة، فقد جلى وأوضح للناس وبين لهم حتى يستعدوا ويتأهبوا؛ لأن المسافة بعيدة والخطورة شديدة.
وأنزل الله فيها: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) أي: تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه ساعة العسرة (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 117] ، يعني: كادت القلوب أن تزيغ من الشدة والعسرة، ثم خص الثلاثة فقال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 117] ، يعني: وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العمري.
وقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وصدر المؤلف بهذه الآية لحديث كعب: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).
وقوله: (خُلِّفُوا)، يعني: خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرجأ أمرهم بعدما جاء إلى المدينة، فبعد رجوعه إلى المدينة جاء المخلفون من المنافقين واعتذروا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم وعلانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله إلا الثلاثة الذين خلفوا؛ لأنهم صدقوا فأرجأ أمرهم إلى الله حتى تاب الله عليهم، فقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون خمسين ليلة حتى صار الحل فيما قال الله: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ)، يعني: تيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فالظن في الآية معناه اليقين، وقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة: 118] فبعد أن تيقنوا من أن ملجأهم ليس لأحد إلا لله وفقهم الله سبحانه للتوبة.
وقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم المخلفين في غزوة تبوك؛ لأن الظاهر أن الجهاد في هذه الغزوة كان فرض عين.
فالجهاد يكون فرض عين في ثلاث حالات منها: إذا استنفر الإمام الناس أو أحدًا منهم، فكان الجهاد في تبوك فرض عين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتجهز.
أما إذا لم يأت الأمر بالجهاد فيكون الجهاد مستحبًّا، إلا إذا دهم العدو بلدًا أو وقف في الصف، وقد عوقب المتخلفون؛ لأن الظاهر في الأمر أنهم ارتكبوا كبيرة، وإن كان الجهاد فرض عين على الأنصار فهو من باب أولى فرض عين على المهاجرين، فقد تركوا ديارهم وأموالهم وأوذوا.
● [4130] قوله: «ولم يعاتب» يعني: لم يلم الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عنه في بدر؛ لأنهم ما خرجوا لقتال وإنما خرجوا لأخذ العير.
قوله: «يريد عير قريش»، يعني: هم يريدون العير والله جعل لهم نفيرًا؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)، إما القتال وإما الغنيمة (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)[الأنفال: 7] ، يعني: تودون ألا تكون حربًا والله جعلها حربًا وقتالًا، أي: تودون أنكم تأخذون العير وتنصرفون.
وقوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 7]. يعني: أراد إحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر حزبه وأوليائه؛ فهم خرجوا للعير، وأراد الله النفير، وأن يعز الإسلام والمسلمين.
قوله: «وما أحب أن لي بها مشهد بدر» هذا رأي: كعب رضي الله عنه يقول: ما تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في غزوتين: غزوة تبوك وغزوة بدر، لكني في غزوة بدر لا لوم علي ولا عتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاتب أحدا ولا دعا الناس إلى النفير والجهاد، وإنما خرجوا لاستنقاذ عير أبي سفيان وأخذها، لكن مع كوني تخلفت عن غزوة بدر فإني شهدت ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وكان هذا قبل الهجرة بسنة أو سنتين عندما لقي النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار فتواثقوا وتعاهدوا على أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليهم المدينة فيمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، فقوله: «وما أحب أن لي بها مشهد بدر»، يعني: لا أحب أن لي بدلًا منها بدرًا، فبيعة العقبة عندي أفضل.
قوله: «وإن كانت بدر أذكر في الناس منها» يعني: وإن كانت غزوة بدر أشهر عند الناس من ليلة العقبة، لكني أرى أن ليلة العقبة أفضل، وهذا رأي: كعب رضي الله عنه، والصواب أن بدرًا - ولا شك - لها مزية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «وما يدريك؟ لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([3]).
قوله: «كان من خبري» من هنا بدأ خبر كعب رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة تبوك، فقد تخلف كعب رضي الله عنه وليس له عذر، فقال: ما لي عذر في ذلك، فالذي يتخلف قد يكون فقيرا ليس عنده راحلة، وأنا كان عندي وقتها راحلتان قال: «والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة» إذن ليس له عذر، فكان ميسوراً وليس عنده نقص في المال ولا في العدة فلهذا قال رضي الله عنه: «لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت» يعني: عنده يسر وقدرة ومال وراحلتان ومع ذلك تخلف، وسيأتي أنه كلما أراد أن يذهب يتباطأ ويثاقل حتى ذهب الوقت.
قوله: «ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها» يقول كعب رضي الله عنه: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عادته إذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها، والتورية أن يظهر شيئًا ويريد أمرًا آخر، فإذا أراد غزوة جهة الشمال صار يسأل عن الطريق إلى جهة الجنوب يوهم أن السير جهة الجنوب، وإذا أراد أن يغزو جهة الشرق صار يسأل عن الطريق جهة الغرب، وهذا ليس كذبا، وإنما تورية حتى يبغت العدو وحتى لا ينتشر خبره، إلا هذه الغزوة فليس فيها تورية؛ وذلك لأن هذه الغزوة سفرها طويل في وقت القيظ والحر الشديد، فلابد من الاستعداد وإعداد العدة، والتورية هنا تضر المسلمين.
قوله: «والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ»، فعددهم يصل إلى سبعة وعشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً فلا يجمعهم كتاب حافظ، يعني: لا يحررون أسماء الجند في كتاب خاص بذلك، فأي: شخص يريد أن يتغيب يمكنه ذلك ولا يعلم عنه أحد شيئا؛ لأن العدد كبير إلا إذا نزل فيه الوحي.
قوله: «حين طابت الثمار والظلال» فالغزوة وقعت حين طابت الثمار والظلال وقت الخريف فقد صار التمر والعنب طريًّا، فالإنسان يميل إلى الراحة والدعة للتمتع بالثمار التي حان قطافها، وهذه أيضا من المثبطات.
قوله: «وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم»، يعني: حاولت أغدو لكي أتجهز معهم ثم لم يقدر لي، يقول: «فأرجع ولم أقض شيئا» ثم يقول في نفسه: «أنا قادر عليه»، يعني: نشيط وقوي في أي: وقت أركب بعيري وألحقهم ثم قال: «فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو»، أي: اشتد الناس ومشوا مرحلة وهو لم يتحرك.
فقد حاول أن يتجهز لكنه تباطأ، فينبغي على الإنسان إذا عزم أن يتوكل على الله ويجتهد ويبادر؛ لأن الإنسان قد لا يوفق في ذلك إذا تباطأ، فعليه المحاولة.
فعندما تفارط الغزو ولم يقدر كعب رضي الله عنه على الخروج عزم على الجلوس؛ لأنه ما استطاع أن يسافر ولا يمكنه اللحاق بالجيش في هذا الوقت، قال: «وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك».
ثم لما عزم على الجلوس وتقدم الجيش وصار لا حيلة له في لحوقهم كان إذا خرج يطوف في المدينة فيحزن لأنه لم يجد أحدًا من المتخلفين إلا رجلين، إما رجلًا متهمًا بالنفاق، وإما رجلًا معذورًا؛ لأنه مريض أو كبير السن أو أعرج أو أعمى، فصار يحزن ويتألم؛ لأن في قلبه إيمانًا.
قوله: «مغموصا عليه النفاق»، يعني: أنه متهم بالنفاق.
ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل تبوكًا فلما وصل تبوكًا ذكر كعبًا، قال: «ما فعل كعب؟» فاغتابه رجل من بني سلمة، قال: «يا رسول الله، حبسه برداه ونظره في عطفه»، وفي لفظ: «في عطفيه»([4])، يعني: أنه آثر الدنيا فهذا هو الذي حبسه؛ لأنه لم يتعب نفسه ولم يشق عليها، فكأنه جالس ينظر إلى ثيابه الجديدة فيلبس هذا ويخلع هذا، فدافع عنه معاذ بن جبل، فقال: «بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا» فهذا معاذ رضي الله عنه رد عن عرض كعب رضي الله عنه رد على الرجل الذي اغتابه، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه على رده عن عرضه، قال: «فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وفيه: أنه إذا اغتاب شخص شخصًا آخر عندك فإنك تنهاه عن الغيبة وترد عن أعراض المسلمين، فقد جاء في الحديث: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة»([5]).
قوله: «حضرني همي» ذلك لأنه علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى المدينة قافلاً، فقال فجاءت الهموم والأحزان، أي: ماذا أقول للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وبماذا أعتذر له صلى الله عليه وسلم؟ وجعل يفكر في نفسه قال: «وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟» أي: ماذا أقول للرسول صلى الله عليه وسلم إن غضب علي؟ بماذا أكذب عليه؟
قوله: «واستعنت على ذلك بكل ذي رأي: من أهلي»، يعني: استشرت بعض أهلي وبعض أقاربي فيما أقول للرسول صلى الله عليه وسلم عند حضوره.
قوله: «فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه»، أي: فكر كعب في الكذب قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع من تبوك إلى المدينة صار يتذكر: أكذب أم لا أكذب، أحلف أم لا أحلف، ماذا أفعل؟ فاستشار بعض أهله، فلما قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة زاح عنه الباطل وعزم على أن يصدق ولا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم إلا الصدق، فعلم أنه لا ينجيه إلا الصدق.
قوله: «وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس» فيه: مشروعية صلاة ركعتين للمسافر وأنه يبدأ بالصلاة أولا قبل أن يدخل بيته فيصلي ركعتين إذا تيسر له،
وفيه: مشروعية تحية المسجد.
قوله: «ثم جلس للناس» هذه قصة اعتذار كعب للنبي صلى الله عليه وسلم واعتذار المخلفين، لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ركعتين جلس للناس فجاء المخلفون المنافقون وطفقوا يعتذرون ويحلفون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا كل واحد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيحلف ويقول: أنا معذور وأنا كذا، فالمنافقون ما عندهم إيمان يحلف الواحد منهم إنه لمعذور وإنه ما استطاع وإنه ليس عنده قدرة والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويستغفر لهم ويكل السرائر إلى الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله، فلما انتهى المنافقون وكانوا بضعة وثمانين جاء كعب ووقعت مناقشة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كعب قال كعب: «فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال» أي: لكعب «فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فكعب رضي الله عنه مؤمن وقلبه حي فيمنعه إيمانه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأله قال: «بلى يا رسول الله».
أما قوله: «الله ورسوله أعلم» قال ذلك أبوقتادة رضي الله عنه لكعب رضي الله عنه؛ لأن ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يقال هكذا، وإنما يقال:الله أعلم.
والحديث فيه - كما قال الحافظ ابن حجر - «استحباب بكاء العاصي أسفًا على ما فاته من الخير»، ولذلك بكى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
وقال في بيان الفوائد من هذه القصة: «وفيها إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى»، أي: مثلما أجراها النبي صلى الله عليه وسلم على المنافقين.
وقال /: «وفيها ترك السلام على من أذنب وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيًّا، وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب، ولا يختص بالسرور، ومعاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره، وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب، وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما حدثه كعب: «أما هذا فقد صدق»([6])، فإنه يشعر بأن من سواه كذب لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه؛ لأن مرارة وهلالا أيضا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف واعتذر لا بمن اعترف؛ ولهذا عاقب من صدق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب، وأخر من كذب للعقاب الطويل،
وفي الحديث: الصحيح: «إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرًّا أمسك عنه عقوبته فيرد القيامة بذنوبه»([7])».
ثم قال /: «وفيها تبريد حر المصيبة بالتأسي بالنظير، وفيها عظم مقدار الصدق في القول والفعل وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة؛ لأن مرارة وهلالًا لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة. وفيها سقوط رد السلام على المهجور عمن سلم عليه؛ إذ لو كان واجبًا لم يقل كعب: «هل حرك شفتيه برد السلام؟» وفيها جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه. وفيها أن قول المرء:الله ورسوله أعلم - ليس بخطاب ولا كلام ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الآخر إذا لم ينو به مكالمته، وإنما قال أبو قتادة ذلك لما ألح عليه كعب وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسان لما سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب ولا يتكلمون بقولهم مثلاً: هذا كعب؛ مبالغة في هجره والإعراض عنه. وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها وإيثار طاعة الرسول على مودة القريب وخدمة المرأة زوجها. والاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه. وجواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة»؛ فكعب حرق الكتاب،
وفيه: اسم الجلالة.
ثم قال /: «وفيها مشروعية سجود الشكر والاستباق إلى البشارة بالخير وإعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة»، لأنه نزع إليه ثوبيه ولا يملك غيرهما.
ثم قال /: «وتهنئة من تجددت له نعمة والقيام إليه إذا أقبل واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة وسروره بما يسر أتباعه، ومشروعية العارية، ومصافحة القادم والقيام له، والتزام المداومة على الخير الذي ينتفع به، واستحباب الصدقة عند التوبة، وأن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه. وسيأتي البحث فيه في كتاب «النذر» إن شاء الله تعالى.
وقال ابن التين فيه: إن كعب بن مالك من المهاجرين الأولين الذين صلوا إلى القبلتين كذا قال، وليس كعب من المهاجرين إنما هو من السابقين من الأنصار».
([1]) البزار (4/32).
([2]) «تاريخ الطبري» (2/183).
([3]) أحمد (1/79)، والبخاري (3007)، ومسلم (2494).
([4]) أحمد (3/456)، ومسلم (2769).
([5]) أحمد (6/449)، والترمذي (1931).
([6]) أحمد (3/456)، والبخاري (4418)، ومسلم (2769).
([7]) أحمد (4/87).