(92)كِتَاب الفِتَنِ
مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً}
وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَنِ
}7048{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى».
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ.
}7049{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُِنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، يَقُولُ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
}7050{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِم،ٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ».
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ، وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ قَالَ: «إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي».
قوله: «كتاب الفتن» عقد المؤلف رحمه الله هذا الكتاب في آخر كتابه لبيان الفتن التي تعرض للإنسان وهي فتن الشبهات، وفتن الشهوات، وفتن الحروب، فالفتنة قد تكون شبهة في الدين لرأي يراه أو لاعتقاد يعتقده مثل اعتقادات الفاسدة لأهل البدع، كاعتقاد الخوارج الذين يعتقدون أن العاصي كافر، فهذه من فتن الشبهة حيث أخذوا نصوص الكفر وجعلوها في العصاة فكفرّوا بالمعاصي، وكفتن المعتزلة والقدرية والجبرية، وقد تكون شبهة في الشهوات كشهوة البطن لأجل أن يأكل مالاً حراماً أو حلال لا يبالي، أو الفرج كمن فعل الزنا لشهوة فرجه أو المال المرابي فتن بشهوة المال، وقد تكون الفتنة في الحروب كما جاء في الحديث أنه يأتي على الناس فتن لا يدري القاتل فيما قَتلَ والمقتول فيما قُتِل فلا يقاتل عن شيء واضح ولا يقتل عن شيء واضح.
والفتن: جمع فتنة، ونقل الحافظ عن الراغب[(1)] تعريف الفتنة واستعمالاتها وأصلها، فقال: «أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته»، يعني: أصل الفتنة أن تحمي الذهب في النار، فإذا أحميته في النار فإنه يخرج الذهب صافيًا ويزول الزيغ والزيف، ثم قال: «ويستعمل في إدخال الإنسان النار ويطلق على العذاب كقوله: [الذّاريَات: 14]{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ *} يعني: عذابكم، ويطلق على ما يحصل عند العذاب، كقوله تعالى: [التّوبَة: 49]{أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}، ويطلق على الاختبار ومنه الحديث: «أن الميت إذا وضع في قبره جاءه الفتّانان» الفتنان: منكر ونكير، كقوله تعالى عن موسى: [طه: 40]{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} يعني: اختبارناك، ويطلق على ما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، قال: وفي الشدة أظهر معنىً وأكثر استعمالاً، قال الله تعالى: [الأنبيَاء: 35]{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}»، فالفتنة تكون في الخير وتكون في الشر، «ومنه قوله تعالى: [الإسرَاء: 73]{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي: يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك».
ثم قال: «وقال أيضًا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات، فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة، فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة بنفسه كقوله: [البَقَرَة: 191]{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، وقوله تعالى: [البُرُوج: 10]{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يعني: اختبروهم وألقوهم في النار ليصدوهم عند ينهم، وقوله: [الصَّافات: 162]{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ *}، وقوله: [القَلَم: 6]{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ *}، وقوله: [المَائدة: 49]{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ}، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر قال تعالى: [البَقَرَة: 191]{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} الفتنة يعني: الكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور وغير ذلك» فقد يفتن الإنسان في ماله في جمعه من حلال أو حرام، ويفتن في إمساكه عن الواجبات كالزكاة، وقد يفتن فيتعامل بالربا أو يأكل الرشوة، وقد يفتن في ولده فيصده عن طاعة الله، فتكون الفتنة في الخير، وتكون في المصيبة أيضًا، فقد تصيبه مصيبة فيتسخط على قضاء الله وقدره، ويرى أن الله ظلمه، وقد يخرج من الدين بسبب ظنه بالله ظن السوء، كظن المنافقين الذين يظنون بالله ظن السوء [ص: 27]{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *} وهذا الظن لا يكون الا في آخر الزمان إذا قبض أرواح المؤمنين والمؤمنات ويبقى الكفرة فتقوم الساعة عليهم لكن قبل ذلك الدين باقي قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالف أمرهم حتى يأتي أمرو الله» فالدين باقي ولكن الطائفة تقل وتكثر، فيظنون أن الله لن ينصر دينه ولن يظهر دينه ولن ينصر نبيه، وظن هذا كفر، وهذا من الفتنة، وقد تكون الفتنة شبهة تعرض للإنسان في دينه فيعتقد غير الحق مثل الخوارج، فيبتدع بدعة ويرى أنه على صواب مثل بدعة المولد فهذه فتنة في الدين، وقد تكون الفتن في الحروب أيضًا كما حصل بين الصحابة علي ومعاوية رضي الله عنهم وأكثر الصحابة علموا أن علي على الحق وأنه يجب على من تخلف أن يبايع وعملوا بقوله تعالى: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فقالوا أهل الشام بغاة والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» لكن هم لا يعلمون أنهم بغاة هم اجتهدوا فلهم أجر واحد فأهل الشام ومعاوية فاتهم الصواب، وعليّ ومن معه حصلوا على الصواب فلهم أجر الاجتهاد وأجر الصواب، طائفة من الصحابة ما تبين لهم الامر فاعتزلوا الفريقين منهم سلمة ابن الاكوع ذهب الى البادية وتزوج وقال إن النبي أذن لي في البدو، ومنهم ابن عمر رضي الله عنه منع أبناءه من المشاركة ومنهم أسامة بن زيد وجماعة.
فأحياناً تكون الفتنة في الحروب بحيث أن الإنسان لا يتبين له الامر فيدخل في الحروب وهو لا يعرف الحق من الباطل، فالواجب على الانسان ألا يشارك إلا في أمر يتضح له فيه وجه الصواب وإلا يعتزل، وجاء في الحديث: «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل، ولا المقتول فيم قُتل» [(2)].
قوله: «بَاب: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأنفَال: 25]{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً}» ، هذا تحذير وأمر من الله تعالى باتقاء الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تعم الجميع، فإذا فعل الناس المعاصي جاءت العقوبات، وعمت العقوبة الصالح والطالح، وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[(3)] فإذا افتتن الناس بالمعاصي والمنكرات وعصوا الله على بصيرة جاءت العقوبات وعمت الصالح والطالح ثم يبعثون على نياتهم كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببيداءَ من الأرضِ يُخسفُ بأوَّلِهم وآخرِهم» . قالت : قلت : يا رسولَ اللهِ، كيفَ يُخسفُ بأولِهم وآخرِهم، وفيهم أسواقُهم، ومن ليس منهم ؟. قال: «يُخسفُ بأولِهم وآخرِهم ثم يُبعثون على نيَّاتِهم» [(4)].
قوله: «وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَنِ» . حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن في غير ما حديث، ففي حديث زينب قالت: إن النبي استيقظ ليلة فزعاً محمر وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» [(5)] والخبث: المعاصي، ومن هنا يجب على العلماء والدعاء والمصلحون وأهل الحسبة وأعيان الناس أن يأخذوا على يد السفهاء ويمنعونهم من المعاصي والا تأتي العقوبة فتعم وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم الأمة: الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومن وقع في المعاصي بمثل حسي فقال: «مثلُ القائمِ على حدودِ اللَّهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استَهموا على سفينةٍ فأصابَ بعضُهم أعلاَها وبعضُهم أسفلَها فَكانَ الَّذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم فقالوا لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»[(6)] الحديث، وقال: «إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر»[(7)] . وهذا في زمانه صلى الله عليه وسلم
}7048{ قوله: «أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ» ، فيه: إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والرد على من أنكره وإثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم من الاحاديث المتواترة والاحاديث المتواترة قليلة تقارب أربعة عشر حديثاً منها الحوض، ومنها حديث الشفاعة قليلة، والحديث إذا صح سنده وعُدّل رواته فكانوا ضابطين ولم يكن شاذاً أو معللاً فهو صحيح عند أهل العلم، يعمل به في كل شيء، ولا يَرُدَّ أحاديث الآحاد إلا أهل البدع، فهذا باطل لأنه إبطال للسنة.
وحوض النبي صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة وجاءت الأحاديث في وصفه بأن طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، يصب في نهر الكوثر ميزابان في الحوض، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وأوانيه أي: كيزان عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا حتى يدخل الجنة، وجاءت النصوص بأن لكل نبي حوض ولكن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أوسعها وأعظمها وأحلاها وأكثرها وروداً.
وقوله: «أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ» هذا فيه: اثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكره من أهل البدع (الخوارج و المعتزلة)، وفي اللفظ الآخر: «أنا فرطكم على الحوض»[(8)] يعني: أَسبِقكم وأنتظركم وأهيئ لكم الأمور، فالفرط هو الذي يتقدم القوم ويهيئ لهم ما يحتاجونه من النزل والشراب.
قوله: «فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى» . وفي الحديث الذي سيأتي بعده، قال: «أنا فرطكم على الحوض، ليرفعنّ إليّ رجالٌ منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختُلِجوا دوني فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك»[(9)] وفي لفظ: «أُصيحابي أُصيحابي فليُقالنّ لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»[(10)] فإن كان المراد بأصحابه أمته فهم من جاء بعده، وإن كان المراد بهم الذين صحبوه، فالمراد بهم الأعراب الذين ارتدوا ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم وهم الذين قاتلهم الصديق.
وقوله: «فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي» ، وفي لفظ يقول: «لا تدري ما أحدثوا بعدك» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يعلم أحوال أمته بعد وفاته.
فيه: الرد على من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب من الطوائف الكافرة فلوكان يعلم الغيب لكان يدري.
ويدل على ذلك النصوص من القرآن [الجنّ: 26]{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *}، [الأعرَاف: 188]{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}.
وقوله: «الْقَهْقَرَى» يعني: الرجوع إلى الخلف، والمشي لا من جهة الأمام بل من جهة الخلف، والمعنى: أنهم ارتدوا عن الدين وتخلفوا عن ركب الصحابة.
قوله: «قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:» التابعي وهو الراوي عن أسماء: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ» ، فيه: مشروعية الدعاء والضراعة إلى الله بالسلامة من الفتن، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أن نستعيذ بالله من الفتن في كل صلاة «اللهمَّ إني أعوذُ بك من عذابِ جهنَّمَ. وأعوذُ بك من عذابِ القبرِ. وأعوذ بك من فتنةِ المسيحِ الدَّجّالِ. وأعوذ بك من فتنة المحيا والمماتِ»[(11)] بل إن طاووس من التابعين يرى أنه يجب على كل مصل أن يستعيذ بالله من أربع، فأمر ابنه أن يعيد الصلاة. الجمهور على أن الدعاء بهذا الدعاء أمر مستحب وليس بواجب.
}7049{ قوله: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» يعني: أتقدمكم، والفرط هو الذي يتقدم القوم ويهيئ لهم ما يحتاجونه، ويعد لهم الطعام والشراب والنُزُل.
قوله: «لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ» ، يعني: يردون عليّ الحوض.
قوله: «حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأُِنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي» ، يعني: خطفوا وأخذوا من عندي.
قوله: «فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ» ، أي: حرف نداء، يعني: يا رب هؤلاء أصحابي كيف يختلجون دوني؟!
قوله: «لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» كما ذكر في الحديث السابق، وفي لفظ: «أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»[(12)] والمراد بهم الأعراب كما سبق بيانه، وهم الذين ارتدوا ممن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، وقد يكون المراد بهم من بعده من أمته.
ويحتمل أنه يعرفهم بالعلامة ممن تأخر، لكن المراد بهم الأعراب الذين أسلموا حديثًا ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم؛ أما الصحابة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فإن الله عصمهم من ذلك.
وفي الحديث: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يعلم أعمال أمته بعد موته.
وفيه: دليل على ضعف الحديث الذي فيه: «أن أعمال أمته تعرض عليه، فإن وجد منها خيرًا حمد الله، وإن وجد منها سيئًا استغفر»، وهذا حديث مرسل وهو ضعيف عند أهل العلم، ولو صح فيجاب عليه بأنه تعرض عليه ثم ينساها، لكنه لم يصح، وإنما الثابت قوله: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام» [(13)].
}7050{ قوله: «إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ» ، فيه: دليل على أن الذين يطردون عن الحوض هم الذين غيروا وبدلوا وهم الكفار، وبعض العلماء ألحق بهم بعض المبتدعة وبعض العصاة لكن الذين ارتدوا لا شك أنهم يطردون؛ ولهذا قال الحافظ رحمه الله: «إن كانوا ممن ارتد عن الإسلام فلا إشكال في تبري النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من اعتقاد القلب، فقد أجاب بعضهم: بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم، ولم يشفع لهم اتباعًا لأمر الله فيهم؛ حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته، فيخرجون عند إخراج الموحدين من النار».
على كل حال ظاهر الأحاديث أن الذين يطردون هم المرتدون وأهل الكبائر، أما المعاصي الصغائر فتغفر للإنسان باجتنابه للكبائر وفعله للفرائض كما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان كفارة لما بينهما اذا اجتنبت الكبائر» فهذا يحتاج إلى دليل؛ لأن العصاة والمبتدعة لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، بل هم مؤمنون فإذا كانت البدعة لا توصل إلى الكفر فهم داخلون في دائرة الإيمان، وإن كانوا قد يدخلون النار إلا أنهم سيخرجون منها بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين.
قوله: «سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»؛ سحقًا: مصدر بمعنى أبعده الله.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
}7052{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ».
}7053{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ الْجَعْد،ِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
}7054{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
}7055{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ.
}7056{ فَقَالَ: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَْمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ.
}7057{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي، قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي».
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»» ، هذه الترجمة على لفظ الحديث، ومناسبتها للفتن ظاهرة، يعني: باب: سترون بعدي أمورًا تنكرونها مما تخالف الشرع فاصبروا، واعملوا ما تستطيعون، فإن كانت تتعلق بولاة الأمور فالواجب هو الصبر، وعدم الخروج، وبذل النصيحة على حسب الاستطاعة، وإن كانت في غير ذلك فيفعل الإنسان ما ورد في الشرع إن كانت تتعلق بالمنكر ينكر على حسب استطاعته، فإن كان يستطيع أنكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع غير بقلبه فإن كانت تحتاج إلى تأجيل أجل كان يخشى مفسدة فيأجل كالرجل الذي قال إذ نواله بئس العشير، فلما دخل ألفا له الكلام، فقال عائشة كذا وكذا فقال متى علمتيني يا عائشة فاحشاً أو متفحشاً هذا يدارى وينكر المنكر في وقت مناسب، وقوله: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» ، يعني: فتأهبوا لها؛ فمن الفتن أن يرى الإنسان أمورًا ينكرها تخالف الشرع تتعلق بذات الأمور لها شأن غير ذلك لها شأن.
قوله: «وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»» ، أي: اصبروا على ما ترونه مخالفًا للشرع، فاصبروا على جور الولاة، واصبروا على الأثرة وهي التقديم في الأعطيات، والواجب على الإنسان أن يفعل ما يستطيعه مما أمر الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، ومناصحة ولاة الأمور، وجهاد الفساق والعصاة، فيفعل ما يستطيع، قال تعالى: [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال: [البَقَرَة: 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
}7052{ قوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» ، الأثرة التقديم والتفضيل في العطايا والمناصب والولايات، يعني: يُؤثر غيركم عليكم، ويقدم غيركم عليكم، فاصبروا، وقال للأنصار: «إنكم سترون بعدي أَثَرةً فاصبروا»[(14)] يعني: في المستقبل سيتولى عليكم ولاة لا يعطونكم حقكم في المال والأعطية والولايات، فيؤثر غيركم عليكم، ويقدم غيركم عليكم وأنتم أحق منهم فاصبروا، وهذا من الفتن.
قوله: «قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» يعني: ما هو العلاج؟ وما الذي يفعله الإنسان إذا حصل هذا أو رأى أثرة، وقدم غيره عليه، ولم يعط حقه؟ قال: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» ، أي: أعطوا ولاة الأمور حقهم الذي يطالبون به من السمع والطاعة في المعروف، والنصح لهم، وعدم الخروج عليهم، وكذلك حقهم الذي وجب لهم المطالبة به، كالمال الواجب في الزكاة إذا طلِبت الزكاة، وبذل النفس للجهاد فهذا حقهم.
قوله: «وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» ، يعني: تجد حقك أمامك يوم القيامة، هذا هو الموقف إذًا، إذا حصلت أمور منكرة، وإيثار غيرك عليك، وأنت أحق منه، ولم تعط حقك، فما موقفك؟ موقفك أن تؤدي الحق الذي عليك، وتسأل الله الحق الذي لك؛ فتصبر، ولا تخرج على الحاكم، ولا تؤلب الناس على الخروج على ولاة الأمور؛ لأن هذا يترتب عليه مفسدة أكبر؛ حيث يؤدي إلى اختلال الأمن، وإراقة الدماء، وتدخُّل الأعداء، واختلال أحوال الناس المعيشية، والاقتصادية، والتعليم، والزراعة، والتجارة، كلها تختل بسبب الخروج على ولاة الأمور، ولكن الصبر وعدم الخروج هو العلاج، وتركك للمفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى هذه هي الحكمة.
وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»[(15)] .
وفي الحديث: «لا يزالُ المؤمن في فسحةٍ من دينِه، مالم يصب دماً حراماً[(16)] والله تعالى يقول: [المَائدة: 32]{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}.
فأنت الآن بين مفسدتين لابد من ارتكاب أحدهما والقاعدة عند أهل العلم أنه إذا اجتمع مفسدتان صغرى وكبرى فترتكب الصغرى لدفع الكبرى، وإذا اجتمع مصلحتان لا يمكن فعلهما تفعل المصلحة الكبرى، وإن فاتت المصلحة الصغرى.
}7053{ قوله: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا» ، يعني: مما يخالف الشرع، «فَلْيَصْبِرْ» ، أي: ولا يخرج عليه.
قوله: «فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ» ، يعني: من طاعة السلطان.
وفيه: أنه لابد من الصبر، وأنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وأنه من المعاصي والكبائر.
قوله: «مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، أي: أنه مات على الكفر، لكنه ليس المراد، وإنما المراد أنه من الكبائر، فإن هذا مؤمن ليس من أهل الجاهلية، لكن شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالجاهلية.
وليس معنى ذلك أنك لا تنصح، بل تنصح ولاة الأمر إذا كنت تستطيع، فالنصيحة مبذولة من أهل الحل والعقد، فإن قبلوا النصيحة فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أديت ما عليك، ولا يجوز لك الخروج؛ لأن الخروج ينتج عنه مفاسد.
وإنكار المنكر كما ذكر العلماء له أحوال:
الحالة الأولى: أن يزول المنكر ولا يحل محله شيء آخر، ففي هذه الحالة يجب إنكاره، لقول النبي: «مروا بالمعروف ونهو عن المنكر» وقوله تعالى: [آل عِمرَان: 110]{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقول النبي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيد...» .
الحالة الثانية: أن يزول المنكر لكن يخلفه منكر أخف منه فهذا واجب أيضا يجب إنكاره.
الحالة الثالثة: أن يزول المنكر ويحل محله منكر مثله، وهذا محل نظر وتأمل من المحتسب إما ينكر أو لا ينكر.
الحالة الرابعة: أن يزول المنكر ويحل محله منكر أشد منه، فهذا لا تنكره، ومثاله: الخروج على ولاة الأمور، فإذا رأى شخص من ولاة الأمور أنهم ظلموا بعض الناس، وقتلوا بعض الناس، أو أخذوا أموالهم، فأراد أن ينكر عليهم بالخروج عليهم وتأليب الناس عليهم، فهذا الإنكار يترتب عليه منكر أشد؛ لأنه يحدث بسببه قتال، ونزاع، وإراقة دماء، واختلال الأمن، وتدخل الأعداء، وتحصل فتن لا أول لها ولا آخر، تقضي على الأخضر واليابس، فأين هذه الفتن من الظلم اليسير الذي فعلوه؟!
ومثال ذلك أيضًا ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين»[(17)] ، قال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم».
كذلك الخروج على السلطان إذا فسق أو عصى أو شرب الخمر أو ظلم بعض الناس فكل هذه مفاسد صغرى، لكن الخروج عليه يترتب عليه منكر أعظم، فلا يزال المنكر بمنكر أعظم؛ ولهذا فإن هذا الحديث دل على أن الخروج على ولي الأمر بالمعاصي من الكبائر.
}7054{ قوله: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» فيه: دليل على أن الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي من كبائر الذنوب، وهو من شعار أهل البدع لأن أهل السنة لا يخرجون على ولي الأمر، ومنهم:
الخوارج: فهم يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأنهم يرون أنه إذا فعل ولي الأمر معصية كفر، فهم يقولون بكفره، وخلعه، وإبعاده عن الولاية، بل يوجبون قتله لأنه كفر وخرج من دائرة الاسلام فيكون كافراً في الدنيا ومخلداً في النار في الاخرة.
و المعتزلة: وهم يرون أن مرتكب المعصية من المسلمين خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، ويرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، وأصول الدين عند المعتزلة غير أصول الدين عند أهل السنة.
فأصول الدين عند أهل السنة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأما أصول الدين عند المعتزلة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل واحد من هذه الخمسة ستروا تحته أمورًا باطلة:
فالتوحيد: ستروا تحته نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، وهذا يسمونه التوحيد.
والعدل: ستروا تحته التكذيب بالقدر، وأن الله لا يهدي ضالًّا، ولا يضل مهتد.
والمنزلة بين المنزلتين: ستروا تحتها قولهم: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، بين الكفر والإيمان، فلا هو كافر، ولا هو مؤمن، بل فاسق، ويخلدونه في النار.
وإنفاذ الوعيد: ستروا تحته القول بخلود العصاة في النار.
والأمر بالمعروف: ستروا تحته إلزام الغير باجتهاداتهم الفاسدة.
ولهذا لما كانت لهم الكلمة في زمان المأمون ألزموا الناس بالقول بخلق القرآن، وامتُحن الأئمة، كالإمام أحمد وغيره، وهذا يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالخروج على ولاة الأمور بالمعاصي أصل من أصول المعتزلة.
و الرافضة: وهم يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأنهم لا يرون الإمامة إلا للإمام العدل، وليس عندهم عدل إلا الأئمة المنصوص عليهم عندهم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ونص على أئمة معصومين فالأئمة عندهم اثنا عشر فولي الأمر إذا كان من غير الأئمة المعصومين يجب قتله والخروج عليه، أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين رضي الله عنهم، ثم البقية كلهم من نسل الحسين: علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، الذي دخل سرداب سامراء في العراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن!!، وهذا هو المهدي المنتظر عند الشيعة، وهو شخص موهوم لا حقيقة له، وأبوه مات عقيمًا ولم يولد له شيخ الاسلام: مضى عليه في زمانه 800 سنة، ونحن نقول مضى عليه في زماننا 1200 سنة ولن يخرج، فهؤلاء الأئمة الاثنا عشر، قالوا: هؤلاء نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحابة كَفَروا وارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخفوا النصوص التي فيها أن الخليفة بعده علي رضي الله عنه، وولوا أبا بكر زورًا وبهتانًا، فهو مغتصب، ثم ولوا عمر زورًا وبهتانًا، فهو مغتصب أيضًا، ثم ولوا عثمان زورًا وبهتانًا، فهو مغتصب كذلك، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الأول وهو علي، هذا هو مذهب الرافضة، يرون أنه ليست هناك إمامة إلا للإمام المعصوم، وعلى هذا يرون الخروج على ولاة الأمور؛ لأنه غير معصوم، وولايته باطلة.
فتبين بهذا أن الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي من عقيدة أهل البدع: كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، فهم الذين يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي.
أما أهل السنة والجماعة فلا يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، ولهذا يقول الطحاوي في «العقيدة الطحاوية»[(18)] : «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة» وكما قال البربهاري[(19)]: «ولا يحل قتال السلطان، ولا الخروج عليه، وإن جار، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري: «اسمع وأطع وإن كان عبدًا حبشيًّا»[(20)] وقوله للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»[(21)] وليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدنيا والدين»، وبنحو هذا قال غيرهم من علماء أهل السنة أخذًا من هذه النصوص: إن لهم طاعة في أمرين:
الأمر الأول: في الطاعات.
الأمر الثاني: في المباحات، أي: تطيعهم في الأمور المباحة.
وأما المعاصي فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا يطاعون في خصوص المعصية، فإذا قال لك: اشرب الخمر، فلا تطعه، أو قال لك: اقتل شخصًا بغير حق، فلا تطعه، أو قال: تعامل بالربا، فلا تطعه، وكذلك الأب إذا أمر ابنه بمعصية فلا يطيعه، وكذلك الزوجة إذا أمرها الزوج بمعصية فلا تطيعه، وكذلك العبد إذا أمره سيده بمعصية فلا يطيعه.
لكن ليس معنى ذلك أنك تتمرد عليه، فأنت لا تطيعه في خصوص المعصية، ولكن يجب أن تطيعه فيما عدا ذلك، والأب لا يطيعه ابنه في المعصية فإذا قال الأب لابنه: اشتر دخانًا لا يطيعه الابن، لكن لا يتمرد عليه بالعقوق، بل يتلطف معه، ويقول: يا والدي هذا لا يجوز، هذا محرم، وأنا لا يجوز لي أن أطيعك في المعصية، لكن أطيعك فيما عدا ذلك.
وكذلك الزوجة إذا أمرها زوجها بالمعصية، فلا تطعه، لكن لا تتمرد عليه وتنشز.
وكذلك العبد إذا قال له سيده: افعل محرما، لا يطيعه، لكن لا يتمرد عليه، إنما لا يطيعه في خصوص المعصية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[(22)] وقال: «إنما الطاعة في المعروف»[(23)] .
}7055{، }7056{ قوله: «أَصْلَحَكَ اللَّهُ» دعاء له بالصلاح، وهو دعاء طيب للصغير وللكبير.
قوله: «حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» يعني: عبادة بن الصامت.
قوله: «دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا» يعني: من البيعة.
قوله: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» يعني: عدم الخروج على الأمير، والمراد بالسمع والطاعة في طاعة الله وفي الأمور المباحة، وهذا الحديث العام يخصصه الحديث الآخر: «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف»[(24)] أما المعاصي فلا يطاع فيها فإذا أمرك بشرب الخمر أو بقتل من لا يستحق أو شيء حرمه الله، فلا تطعه، ولا يطاع أحد في المعاصي.
وذكر البخاري في «صحيحه» قصة حدثت مع بعض الصحابة، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّر رجلاً من الأنصار على سرية، فلما خرجوا في أثناء الطريق أغضبوه، فقال لهم: ألست أميركم؟ قالوا: بلى، قال: ألم يأمركم رسول الله بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبًا، فجمعوا حطبًا، فلما جمعوه قال: أججوه نارًا فأججوه نارًا ثم قال: ادخلوا فيها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما دخلنا في الإسلام فرارًا من النار فكيف ندخل فيها؟ فتركوه حتى سكن غضبه، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف»[(25)] أي: يستمر عذاب الدنيا مع الآخرة فيصيرون في النار هذا في الظاهر لكن لا يدل على كفرهم والمعنى أنهم ارتكبوا كبيرة وليس من المعروف أن الإنسان يدخل في النار، فهذا دليل على أنه لا يطاع أحد في المعاصي.
قوله: «فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا» ، «فِي مَنْشَطِنَا» يعني: في حال نشاطنا، «وَمَكْرَهِنَا» في الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به، «وَعُسْرِنَا» في الأشياء التي نكرهها، «وَيُسْرِنَا» في وقت الكسل والمشقة.
قوله: «وَأَثَرَةً عَلَيْنَا» ، يعني: تفضيل غيرنا علينا.
وفيه: أن تفضيل غيرك عليك فيما هو حق لك، يوجب عليك مبايعته ولا تنزع يدًا من طاعة ولا تخرج عليهم ولو آثروا غيرك عليك ولو منعوك حقك بل حتى ولو ظلموك وسجنوك بغير حق فلا يجوز الخروج بالمعاصي لأن هذا ظلم جزئي ويقابلها المفسدة العظيمة الخروج على ولي الأمر.
قوله: «وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَْمْرَ أَهْلَهُ» المراد بالأمر الملك والخلافة، فلا ننازعهم فيها ولا نقاتلهم؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»؛ رواه مسلم في «صحيحه»[(26)] ؛ وفي صحيح مسلم أيضًا: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»[(27)] فالأول هو الذي تمت له البيعة واستتب له الأمر، والثاني يريد أن يفرق بين جماعة المسلمين فيقتل.
قوله: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» ؛ استثنى النزاع في الملك والخلافة إذا وجدت حالة معينة وهي ما وضحه بقوله: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» ، ففي هذه الحالة: ينازع، والمراد كفرًا واضحًا صريحًا باديًا لا شبهة فيه، وعليه دليل واضح من الكتاب والسنة كنص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل.
ويشترط للخروج في هذه الحالة وجود البديل الذي يحل محله، أما إذا لم يوجد بديل كما يحدث في الانقلابات العسكرية يذهب حاكم كافر ويأتي آخر مثله ففي هذه الحالة لا يُخرج حتى يوجد البديل، ومن الشروط كذلك القدرة.
إذن لابد من توافر خمسة شروط لجواز الخروج على الحاكم:
الشرط الأول: أن يفعل ولي الأمر كفرًا؛ لأن هذا نص الحديث، فإن فعل فسقًا أو بدعةً أو معصيةً فلا يجوز الخروج.
الشرط الثاني: أن يكون هذا الكفر بواحًا، أي: صريحًا لا شبهة فيه.
الشرط الثالث: أن يكون الكفر دليله نص من القرآن أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل.
الشرط الرابع: وجود البديل الذي يحل محله.
الشرط الخامس: وجود القدرة على الخروج؛ لقوله تعالى: [البَقَرَة: 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
فإذا وجدت هذه الشروط الخمسة جاز الخروج على ولاة الأمور وإلا فلا يجوز.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» ، أي: نص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل».
نعم ما دام هناك تأويل لا يخرج عليهم، ولو كان بعض الناس يراه كفرًا أو فيه احتمال كفر، لكنه ليس بصريح، فلا يخرج حتى يكون كفرًا ليس فيه احتمال أبدًا، مثل: سب الله، أو سب الرسول، أو الاستهزاء بالله وبرسوله، وهذا لا يحتمل التأويل وذلك عند وجود القدرة والبديل الذي يحكم الشريعة.
ثم قال: «قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا، تعلمونه من قواعد الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى، وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر».
وهذا هو الصواب، أن المراد به بالمعصية الكفر أما المعاصي فلا، فقول النووي: إن المراد المعصية هذا غير صحيح؛ لأنه خلاف الحديث: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه» يعني: من المعاصي فعليه أن يصبر، «فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، ثم استثنى في حديث عبادة، فقال: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا» .
ثم قال: «فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا والله أعلم».
نعم إذا كان قادرًا لأنه قد يوجد بعض الظلمة الذين لا يقبلون النصيحة ويبطشون بمن ينصح فهذا يسكت عنه، قال الله تعالى: [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
ثم قال: «ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر» فإن لمكن خلعه بغير فتنه، وإلا فيجب الصبر ويحرم الخروج.
ثم قال: «وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه على كل حال» الصواب في هذه السألة كما قرره العلماء والمحققون أنه لا يجوز الخروج عليهم الا إذا فعل كفراً صريحاًواضحاً.
}7057{ حديث أنس عن أسيد بن حضير ذكره مختصرًا وقد تقدم بتمامه مشروحًا في مناقب الأنصار، والسر في جوابه عن طلب الولاية بقوله: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً» أي: إرادة نفي ظنه أنه آثر الذي ولاه عليه؛ فبين له أن ذلك لا يقع في زمانه، وأنه لم يخصه بذلك لذاته بل لعموم مصلحة المسلمين، وأن الاستئثار للحظ الدنيوي إنما يقع بعده، وأمرهم عند وقوع ذلك بالصبر».
قوله: «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي» ، أي: جعلت فلانًا عاملاً على الصدقة أو على بلد كذا ولم تستعملني مثله، أو وظفت فلانًا ولم توظفني، فإذا كان هذا يقال للرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وأعدل الناس فغيره من باب أولى، وهذا الرجل يرى أنه أهل لذلك ولا يرى عيوبه الكثيرة.
وكأن الرجل يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه آثر غيره عليه، وهو أولى بهذا العمل ممن استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الأثرة ستراها في المستقبل أما الآن فلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عادل لا يظلم أحدًا، لكن الأثرة والظلم ستراه في المستقبل، وحين ذلك يجب على المرء أن يصبر، ولا يخرج على الحاكم الذي ظلمه، ولا يعاون أحدًا على الخروج عليه، بل يفعل ما يستطيع من بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قدر الاستطاعة لكن دون خروج.
والواجب على ولاة الأمور أن ينظروا إلى مصلحة المسلمين ويولوا من هو أقدر على العمل وأنفع للمسلمين.
قوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي» ، أي: تظهر الفتن بعد وفاتي، فبين أن ذلك لا يقع في زمانه.
قوله: «أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» ، أي: الأمراء يؤثرون غيركم عليكم، وأنتم أحق بذلك، ولا يعطونكم حقوقكم، ويفضلون غيركم عليكم ويقدمونهم عليكم فاصبروا.
قوله: «فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» ، أي: اصبروا على الحكام الظالمين ولا تخرجوا عليهم.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ»
}7058{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَمَعَنَا مَرْوَانُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: «هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ لَفَعَلْتُ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مُلِّكُوا بِالشَّأْم،ِ فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا: عَسَى هَؤُلاَءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، قُلْنَا أَنْتَ أَعْلَمُ.
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ»» . هذه الترجمة على لفظ الحديث، وفي رواية: «على رؤوس غِلمةٍ أمراء سفهاء من قريش»[(28)] وفي حديث آخر: «إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش»[(29)] والأغيلمة: جمع غيلم، تصغير غلام، والغليم: هو الصبي من حين يولد إلى أن يحتلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد يطلق الصبي والغليم ـ بالتصغير ـ على الضعيف العقل والتدبير والدين ولو كان محتلمًا، وهو المراد هنا، فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف وهو دون البلوغ، وكذلك من أمروه على الأعمال، إلا أن يكون المراد بالأغيلمة أولاد بعض من استخلف فوقع الفساد بسببهم فنسب إليهم، والأولى الحمل على أعم من ذلك».
}7058{ قوله: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ» الجالس مع أبي هريرة هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان من علماء قريش بالكوفة، وكان مع أبيه إذ غلب على دمشق، فلما قُتل أبوه سيّره عبدالملك بن مروان مع أهل بيته إلى الحجاز، ثم سكن الكوفة، وله بها عقب، وطال عمره حتى وفد على الوليد بن يزيد في خلافته، وكان ثقة نبيلاً من كبار الأشراف، توفي سنة ست وعشرين ومائة.
قوله: «فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَمَعَنَا مَرْوَانُ» ، هو مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية الذي ولي الخلافة بعد ذلك، وكان يلي لمعاوية رضي الله عنه إمرة المدينة، ثم تولى بعد مروان ابنه عبدالملك الذي اتسع ملكه الذي من أمراءه الحجاج على العراق.
قوله: «سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ» ، مراده رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الصادق: يعني: في قيله، المصدوق: يعني: يصدقه غيره.
قوله: «هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» . وقع هذا لما تولى الإمارة والخلافة فتية من قريش، وهم الخلفاء من بني أمية، مثل يزيد بن معاوية، ويزيد ابن الوليد الذي يقال له: يزيد الناقص، أو الفاسق، بخلاف الوليد بن يزيد فإنه صالح، فهؤلاء هم السفهاء، وقد استعاذ أبو هريرة من سنة ستين، ومن إمارة الصبيان قال: «اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين ومن إمارة الصبيان»، فتوفي قبلها بسنة فلم يدرك سنة تسع وخمسين أو ستين أبو هريرة راوية الشام وأكثر الصحابة رواية، ويزيد بن معاوية بويع له سنة ستين بالخلافة، وقوله: «هَلَكَةُ أُمَّتِي» المراد بالأمة: أمة ذلك العصر ومن قاربهم لا جميع الأمة إلى يوم القيامة، وقوله: «عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» المراد: بعض قريش وهم الأحداث منهم لا كلهم.
قال ابن بطال: «جاء المراد بالهلاك مبينًا في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه قال: «أعوذ بالله من إمارة الصبيان» قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: «إن أطعتموهم هلكتم» ، يعني: في دينكم، «وإن عصيتموهم أهلكوكم»[(30)] يعني: في دنياكم بإزهاق النفس أو بإذهاب المال أو بهما، وفي رواية ابن أبي شيبة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يمشي في السوق ويقول: «اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان» فاستجاب الله دعاءه ومات قبلها بسنة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك فإن يزيد بن معاوية، استخلف فيها وبقي إلى سنة أربع وستين، فمات، ثم ولي ولده معاوية، ومات بعد أشهر، وهذه الرواية تخصص رواية أبي زرعة عن أبي هريرة الماضية في علامات النبوة بلفظ: «يُهْلِكُ الناسَ هذا الحي من قريش»[(31)] والمراد بعض قريش، وهم الأحداث منهم لا كلهم، والمراد أنهم يهلكون ناسا بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن، وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم».
قوله: «فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ لَفَعَلْتُ» . ظاهر الكلام أن أبا هريرة يعرف أسماءهم، وكأن هذا من الوعاء الذي لم يحدث به؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»، يعني: رقبته، قال العلماء: الذي لم يحدث به هي الأحاديث التي في الفتن، وإمارة السفهاء والصبيان، وأسماؤهم، مثل قوله هنا: «لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ لَفَعَلْتُ» فلذلك سكت عنه وليس للناس فيها فائدة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في رواية عبدالصمد: «لعنة الله عليهم من أغيلمة»؛ وهذه الرواية تفسر المراد بقوله في رواية المكي: «فقال مروان: غلمة»[(32)] كذا اقتصر على هذه الكلمة، فدلت رواية الباب أنها مختصرة من قوله: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً» ، فكان التقدير: غلمة عليهم لعنة الله، أو ملعونون أو نحو ذلك، ولم يرد التعجب ولا الاستثبات».
قوله: «فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مُلِّكُوا بِالشَّأْم» ، يعني: لما تولوا الخلافة، «فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا: عَسَى هَؤُلاَءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ» أي: ممن ذكرهم أبو هريرة رضي الله عنه، «قُلْنَا أَنْتَ أَعْلَمُ» ، أي: جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص أعلم.
قال ابن بطال: «في هذا الحديث حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء وأسماء آبائهم، ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم؛ لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين».
ثم قال: «تنبيه: يتعجب من لعن مروان الغلمة مع أن الظاهر أنهم من ولده، فكأن الله أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة عليهم لعلهم يتعظون، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد أخرجها الطبراني وغيره، وغالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك».
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ»
}7059{ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضيَ الله عنهنَّ، أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ ـ وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً ـ قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ».
}7060{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح.
وحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ قَالُوا: لاَ قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ».