قوله: «بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ»» . هذه الترجمة أيضًا على لفظ الحديث.
}7059{ قوله: «اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ، فيه: مشروعية ذكر الله عند الاستيقاظ من النوم، وقد جاء في الحديث الآخر أنه يشرع للمسلم أن يقول إذا استيقظ من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»[(33)] وهنا قال: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» .
قوله: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ» ، قيل: إنه خص العرب بالذكر؛ لأنهم أول من دخل في الإسلام؛ وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم، والويل: شدة الهلاك.
قوله: «فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ ـ وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً» ، هذه اصطلاحات للعرب في العقود بواسطة أصابع اليد، وردم يأجوج ومأجوج هو الذي بناه ذو القرنين كما أخبر الله عز وجل قال: [الكهف: 96]{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *} سد ما بين الجبلين بالحديد والنحاس [الكهف: 98]{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} فأول اشراط الساعة المهدي خلافته خلافة نبوة ثم في زمانه يخرج الدجال ثم ينزل عيسى ابن مريم ويقتله ثم يخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى أمتان كثيرتان كافرتان حتى أنهم يمرون على البحيرة فيشربون ماءها حتى إن نبي الله عيسى يتخرج من جبال الطور يقول الله خرج عبادي إني مخرج عباداً لا حد منهم أي لا قدره ولا طاقة فيتخرج نبي الله عيسى وهو يحكم بشريعة النبي بجبال الطور، ثم يدعوا عليهم هو والمؤمنون فيرسل الله عليهم النغف - مرض في رقابهم كالدود - فيهلكون ويصيرون كالجبال بعضهم فوق بعض من كثرتهم، ثم يرسل الله طيراً فتأخذهم وترميهم في البحر لئلا يفسد الجو من رائحتهم، ثم ينزل عيسى ابن مريم ومن معه من جبال الطور هذا كما جاء في الأحاديث في آخر الزمان.
وفي الحديث: الإنذار بقرب الساعة كي يتوبوا، وإذا فتح من ردمهم ذلك المقدار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معناه: أن هذا المقدار يزيد، ولم يزل يتسع على مر الأوقات حتى يخرجوا.
قوله: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» ، والخبث يعني: المعاصي.
وفيه: دليل أن المعاصي هلاك، وأن المعاصي إذا كثرت هلك الناس، ولو كان فيهم صالحون.
وفيه: أن العقوبة إذا وقعت فإنها تعم الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم، قال الله تعالى: [الأنفَال: 25]{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً}، وجاء في الحديث: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم»[(34)] ، فإذا جاءت العقوبات عمت، كل من كان مع الجيش من الباعة الذين يتبعون الجيش والخدم وغيرهم، كلهم ليسوا منهم وليس عندهم نية هدم الكعبة ومع ذلك لما جاء الخسف شملتهم العقوبة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[(35)] .
وفيه: التحذير من المعاصي.
وفيه: الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يعم البلاء، فهو صمام الأمان، وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»[(36)] أي: إذا أخذوا على أيديهم ولم يتركوهم يخرقون السفينة نجوا، وإذا تركوهم يخرقون السفينة دخل الماء وغرق أهل الدور الأول وأهل الدور الثاني جميعًا، فكذلك أهل المعاصي إذا تُركوا هلكوا وهلك من سكت عنهم، وإذا أخذوا على أيديهم وأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر سلم العصاة من العقوبة وسلم غيرهم، ومثل ذلك أيضًا ما ذكره الله عز وجل عن بني إسرائيل الذين نهاهم الله عن الصيد يوم السبت، فاحتالوا ووضعوا الشباك يوم الجمعة وتركوها يوم السبت، ثم رفعوا الشباك وأخذوا ما فيها يوم الأحد، فهم في الحقيقة احتالوا واصطادوا يوم السبت، وعصوا أمر الله، فقال الله تعالى مبينًا حال الذين نهوا قومهم عند وقوع العقوبة: [الأعرَاف: 165]{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، أي: لما ابتعدوا عنهم جعلوا بذلك بينهم وبينهم فاصلاً وحاجزًا عن العقوبات فجاءت العقوبة على الذين فعلوا المعصية وهؤلاء الذين نهوهم سلموا من العقوبة وأما الذين سكتوا فقد سكت الله عنهم.
}7060{ قوله: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ» ، أشرف يعني: اطلّع من عُلو، وأطم يعني: حصن.
قوله: «فَقَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ قَالُوا: لاَ قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ» هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان وقوع الفتن في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن بعدهم؟!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «إنما اختصت المدينة بذلك؛ لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه حيث إن هؤلاء السفهاء الذين جاءوا وتجمعوا من الكوفة والبصرة ومصر ورئيسهم عبد الله ابن سبأ اليهودي زعموا أنهم يطالبون الإصلاح فطعنوا على عثمان وعلى أمرائه وقالوا: إنه يقرب أقربائه وطعنوا فيهم فكان ذلك سبباً في قتله فأشد أسباب قتل عثمان الطعن على أمرائهم، ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق، وهي من جهة المشرق، فلا منافاة بين حديث الباب وبين الحديث الآتي أن: «الفتنة من قبل المشرق»[(37)] ، وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم؛ لأنه إذا وقع في أرض معينة عمها ولو في بعض جهاتها، قال ابن بطال: أنذر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زينب بقرب قيام الساعة؛ كي يتوبوا قبل أن تهجم عليهم، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة، فإذا فتح من ردمهم ذاك القدر في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يزل الفتح يتسع على مر الأوقات، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم»[(38)] قال: وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها، حيث جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وأخبر في حديث أسامة بوقوع الفتن خلال البيوت ليتأهبوا لها فلا يخوضوا فيها ويسألوا الله الصبر والنجاة من شرها».
ظُهُورِ الْفِتَنِ
}7061{ حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ الْقَتْلُ».
وَقَالَ: شُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7062{، }7063{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، قَال: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالاَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ».
}7064{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، قَالَ: جَلَسَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى فَتَحَدَّثَا، فَقَالَ: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ».
}7065{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما فَقَالَ: أَبُو مُوسَى: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ.
}7066{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ رَفَعَهُ قَالَ: «بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ، يَزُولُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ فِيهَا الْجَهْلُ».
قَالَ: أَبُو مُوسَى: وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ الأَْشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِاللَّهِ: تَعْلَمُ الأَْيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَيَّامَ الْهَرْجِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ».
قوله: «بَاب ظُهُورِ الْفِتَنِ» الفتن كما سبق نوعان:
النوع الأول: فتنة الشبهات بأن تحصل مثلاً شبهة في الدين يضل بها، أو يعتقد اعتقادًا باطلاً فيحارب ويقاتل من أجله، كما يعتقد أهل البدع والأهواء كالخوارج، فلهم شبه كثيرة أعظمها التكفير بالمعاصي، وكما يعتقد المعتزلة خروج أهل المعاصي من الإسلام، ولا يدخلون في الكفر بل هم عندهم في منزلة بين المنزلين، وكما يعتقد القدرية أن أفعال العباد غير داخلة في خلق الله وفي تقديره، وكما يعتقد الجهمية أن الأسماء والصفات لا تليق بالله، وكما يعتقد المرجئة أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، ومن الفتن كذلك فتنة القول بخلق القرآن في زمن الإمام أحمد رحمه الله، فكل هذا من فتنة الشبهات التي قد تصل إلى الكفر.
وقد تكون الشبه في المصائب، فقد يصاب الإنسان بمصيبة فيُسيء ظنه بالله عز وجل، ويرى أن الله ظلمه، وأنه لا يستحق هذا فيضل ويكفر بالله، مثل ظن السوء الذي يظنه الكفرة بالله ورسوله كما قال الله تعالى: [الفَتْح: 6]{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}. ظنوا أن الله لا ينصر رسوله ولا حزبه، وأنه سيقضى على الإسلام والمسلمين. وفتن الشبهات أشد من فتن الشهوات والله تعالى حكيم عليم في تقديره للفتن فمن ذلك رفع الدرجات وتكفير السيئات، ولا بد من الامتحان والاختيار لعباده، فإذا تبين ذلك فكيف يسيئ العبد الظن بربه وقد قال تعالى: [الأنعَام: 83]{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *}.
النوع الثاني: فتنة الشهوات وأشدها فتنة النساء، عندما يخلو بالمرأة التي ليس لها محرم ويزين له الشيطان فعل الفاحشة، وفتنة الأموال، فيفتن الإنسان فيتعامل بالربا، أو يأخذ الرشوة، أو يأكل حقوق الناس، فيجمع المال من حلال وحرام، وقد تكون أيضًا فتنة الرجل في أهله، وماله، وجاره، وربما افتتن بزوجته فتجره إلى الباطل، أو في أولاده فيجرونه إلى المعاصي.
وكل من فتن الشبهات والشهوات واقع، والسعيد من نجا، وسلمه الله من الفتن، وأعطاه بصيرة، فلا يقع في الشبهات، وأعطاه دينًا فلا يقع في الشهوات.
النوع الثالث: فتن الحروب.
والمراد من هذه الترجمة أن الفتن كثيرة، فإذا ظهرت وانتشرت كانت أمارة على دنو الساعة.
}7061{ قوله: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ» اختلف العلماء في معناه، ولهم أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الخطابي: هو من استلذاذ العيش، يريد ـ والله أعلم ـ أنه يقع عند خروج المهدي، ووقوع الأمنة في الأرض، وغلبة العدل فيها، فيستلذ العيش عند ذلك، وتستقصر مدته، وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون مدة المكروه وإن قصرت» يعني: يمضي الزمان بسرعة بسبب التنعم في الدنيا، فيكون الزمان قريبًا مع الرفاهية ومع اجتماعهم بالأحبة حيث تمضي الأوقات سريعًا وتكون الأيام قصيرة.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أقول: إنما احتاج الخطابي إلى تأويله بما ذكر لأنه لم يقع النقص في زمانه، وإلا فالذي تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا، وإن لم يكن هناك عيش مستلذ، والحق: أن المراد نزع البركة من كل شيء حتى من الزمان وذلك من علامات قرب الساعة».
ثم قال: «قال ابن بطال: ليس في هذا الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ» ومعناه: ـ والله أعلم ـ تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء في الحديث: لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا، يعني: لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله، يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم»، يعني: يتقارب أحوال أهله في قلة الديانة، وغلبة الفسق والمعاصي، فأهله كله متقاربون في المعاصي، وعدم الطاعة، وكثرة الفسق.
ثم قال: «وقيل: قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة، فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارًا من الطبقة التي قبلها».
أقول: وهذا قاله العلماء قبل أن توجد المخترعات الحديثة الآن، ولا مانع من أن يفسر تقارب الزمان بما وقع بالعصر الحاضر من مخترعات كالمراكب السريعة التي تقطع المسافات البعيدة في زمن قصير، وما يقع من نقل أخبار العالم والحوادث بواسطة الإذاعات، والأقمار الصناعية، والشبكة المعلوماتية، حتى كأن العالم بلد واحد، أو قرية واحدة.
وهذه المخترعات الحديثة ما كانت تدور بخلد الناس سابقًا، ولم يكن يتصور أحد أن تقع هذه الأمور العظيمة، ولهذا قال العلماء سابقًا: مسافة القصر يومان قاصدًا بالإبل المحملة مرحلتان، وهي تقارب ثمانين كيلومترًا، قالوا: لو قطعها الإنسان في وقت وجيز فله أن يترخص رخصة السفر، قالوا: لو قطعها في ساعة قديمًا من باب الفرض والتقدير، والآن صار يقطعها في ساعة بالسيارة أو أقل من ساعة، وأسرع منها الطائرة فهي تقطع ثمانين كيلومترًا في زمن يسير جدًّا، فهذا لا شك أنه من تقارب الزمان، ما جاء في الحديث يتخابر الناس بالخبر في لحظة، ففيه: اختصار للأوقات، والأعمال، والزمان، ويتحقق بهذا تقارب الزمان، ولو خرج أحد من السابقين الآن ما استطاع أن يعيش معنا، ولا استطاع أن يتصور ولا يتحمل هذه المعيشة؛ لأن الموجود الحي الآن يتقبل هذا شيئًا بعد شيء حتى صارت شيئًا عاديًا مألوفًا، وإذا كثر الإمساس قل الإحساس.
قوله: «وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ» يعني: العمل الصالح.
قوله: «وَيُلْقَى الشُّحُّ» ، أي: في قلوب الناس، والشح: البخل مع الحرص، وهو أشد من البخل، فالبخيل قد يبخل بالواجب ولكن الشحيح أشد منه، وهو الذي يجمع المال من حلال ومن حرام، ثم يبخل فلا يؤدي الواجبات، فهو حرص مع بخل، قال تعالى: [الحَشر: 9]{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *}.
قوله: «وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ؟» أيم: بفتح الهمزة وتشديد الياء، استفهام عن الهرج.
قوله: «الْقَتْلُ الْقَتْلُ» تفسير للهرج، وهذا من أشراط الساعة كثرة القتل، فإن الإنسان قد يفتن في الحروب وفي القتال، كما هو واقع الآن في زماننا، قلَّ أن تجد الآن بلدًا إلا وفيه: قتال وقتل، وكل هذا من أشراط الساعة، وكل هذا واقع، والسعيد من نجا وسلمه الله من الفتن بأنواعها.
قوله: «وَقَالَ: شُعَيْبٌ» ، يعني: ابن أبي حمزة، وكان أيضًا من أثبت الناس في الزهري، وكان كاتبه.
قوله: «وَيُونُسُ» ، يعني: ابن يزيد، وكان من أثبت الناس في الزهري.
قوله: «وَاللَّيْثُ» ، يعني: ابن سعد الإمام المشهور.
قوله: «وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يعني: ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة، يعني: أن هؤلاء الأربعة خالفوا معمرًا في قوله: «عن الزهري، عن سعيد» فجعلوا شيخ الزهري حميدًا لا سعيدًا، وصنيع البخاري يقتضي أن الطريقين صحيحان».
}7062{، }7063{ قوله: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ» وهذا واقع منذ أزمان، فإن الجهل كثر، ورفع العلم، فإنك تجد مدنًا وقرى خالية من العلماء، وقد يوجد في بعض البلدان بعض العلماء والحلقات ولكنها قليلة بالنسبة لكثرة الناس والبلدان، والإنسان لا ينظر إلى بلدنا هذا بل ينظر إلى مستوى العالم أجمع؛ فيجد الجهل منتشرًا كثيرًا، وقلة العلم مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا بين يدي الساعة.
}7064{ قوله: «قَالَ: جَلَسَ عَبْدُ اللَّهِ» ، يعني: ابن مسعود.
قوله: «يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ» كما ورد: «أن الله لا ينزع العلم انتزاعاً من صدور الرجال وإنما يقبض العلم بقبض العلماء» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «معناه: أن العلم يرتفع بموت العلماء، فكلما مات عالم ينقص العلم بالنسبة إلى فقد حامله، وينشأ عن ذلك الجهل بما كان ذلك العالم ينفرد به عن بقية العلماء».
}7065{ قوله: «وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ» . في هذا الرواية زيادة فائدة، وهي أن كلمة «وَالْهَرْجُ» أصلها حبشي، ومعناها: القتل، فاستعملها النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح من السائغ استعمالها في اللغة العربية على معنى القتل.
}7066{ قوله: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ» ، يعني: ابن مسعود.
قوله: «وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ» . قد يكون هذا من توافق اللغات فيسمى القتل الهرج في لغة الحبشة وفي اللغة العربية، أو أن العرب استعملوها فصارت من لغتهم، فأحيانًا ترد كلمة ليست من العربية يستعملها العرب فتكون من لغتهم، وقد ورد استعمال الهرج في الاختلاط والاختلاف كالحديث الذي رواه الإمام مسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي»[(39)] ويراد بالهرج: الاختلاط والاختلاف، وهَرَجَ القوم في الحديث: إذا كَثّروا وخلطوا، وهذا يوافق الآن اللهجة الدارجة التي عندنا في نجد: فلان كثير الهرج، يعني: كثير الكلام.
وذكر ابن حجر أنه جاء في بعض روايات الحديث: «قيل يا رسول الله وما الهرج؟ فقال هكذا بيده، فحرفها كأنه يريد القتل»[(40)] ، فيجمع بينها بأنه جمع بين الإشارة والنطق، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض».
ثم قال: «وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد: أن رجلاً قال له: يا أبا سليمان: اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانًا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، أيام الهرج»[(41)] لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما يسأل حذيفة عن حديث السر فقال عمر من يحدثني عن الفتنه؟ فقال حذيفة: أنا يعني: فتنة الرجل في أهله ماله وجاره يعني: أن الإنسان يفتن في أهله الكلام الذي يدور بهم بزلة وبين إخوانه هذه صغائر تكفرها الصلاة والصيام والصدقة. قال عمر ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال حذيفة يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باب قال أيفتح الباب أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال أحرى ذلك ألا يصد لأنه لو فتح يمكن إغلاقه لكن كسره ليس فيه حيلة، فقيل لمسروق هل يعرف عمر من هو الباب؟ قال: يعلم كما يعلم أن دون غدٍ الليلة فصار بينه وبين عمر الباب الذي يكسر وهو قتله فلما قتل ظهرت الفتن ثم اشتدت بقتل عثمان رضي الله عنه.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد جاء عن أبي هريرة من طريق أخرى زيادة في الأمور المذكورة فأخرج الطبراني في «الأوسط» من طريق سعيد بن جبير عنه، رفعه: «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش، والبخل، ويُخَوّن الأمين، ويؤتمن الخائن، وتهلك الوعول، وتظهر التحوت، قالوا: يا رسول الله وما التحوت، والوعول؟ قال: الوعول: وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس ليس يعلم بهم»[(42)] وله من طريق أبي علقمة، سمعت أبا هريرة يقول: «إن من أشراط الساعة»[(43)] ... نحوه، وزاد كذلك: أنبأنا عبدالله ابن مسعود، سمعته من حبي؟ قال: نعم، قلنا: وما التحوت؟ قال: «فسول الرجال، وأهل البيوت الغامضة» ، قلنا: وما الوعول؟ قال: «أهل البيوت الصالحة»[(44)] وجاء في حديث أيضًا في بيان أنها تكون في تقارب الزمان، وتكون السنة كالشهر، والشهر كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة»[(45)].
وقال بعضهم: تقارب الزمان استواء الليل والنهار كما قالوا في حديث: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب»[(46)] قيل: المراد آخر الزمان، وقيل: المراد استواء الليل والنهار في وقت الاعتدال مثل أول فصل الربيع في هذه الأيام، قالوا: إن ساعات النهار تقصر قرب قيام الساعة ويقرب النهار من الليل، ولكن كما سبق أن الأقرب المراد بها الآلات الحديثه والمخترعات وكل شيء يأتي بسرعه.
قوله: «أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِاللَّهِ:» ، يعني: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، «تَعْلَمُ الأَْيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَيَّامَ الْهَرْجِ نَحْوَهُ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يريد نحو الحديث المذكور: «بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ» ، وقد رواه الطبراني[(47)] من طريق زائدة عن عاصم مقتصرًا على حديث ابن مسعود المرفوع دون القصة، ووقع عند أحمد وابن ماجه من رواية الحسن البصري عن أسيد بن المتشمس عن أبي موسى وفي المرفوع زيادة: قال رجل: يا رسول الله إنا نَقتُل في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال: «ليس بقتلكم المشركين، ولكن بقتل بعضكم بعضًا»[(48)] الحديث».
قوله: «مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ» ، فيه: دليل على أن الساعة إنما تقوم على شرار الناس، وهم الكفرة، وهذا يكون بعد قبض أرواح المؤمنين والمؤمنات يحزب الزمان فتقوم القيامة كما جاء في الحديث: «تأتي ريح طيبة باردة من قبل الشام فتقبض روح المؤمنين والمؤمنات فلا يبقى إلا الكفرة وعليهم تقوم الساعة»[(49)] وجاء في الحديث الآخر: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد»[(50)] فالذين تدركهم الساعة وهم أحياء: الكفرة، والذين يتخذون القبور مساجد، وهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يبقى إلا الكفرة بعد قبض أرواحهم، كما في الحديث: «يتهارجون تهارج الحمر»[(51)] قيل: معنى يتهارجون كما في لفظ: «يتسافدون»[(52)] يعني: يتناكحون في الأسواق كالحمر، لا يعرفون دينًا، ولا خلقًا، وقيل: يتثاورون، وقيل: يتقاتلون، وفي حديث مسلم: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله، الله»[(53)] وفي لفظ: «حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله»[(54)] يعني: تقوم الساعة على الكفرة؛ لأن قيام الساعة خراب لهذا الكون، وخراب هذا الكون إنما يكون بخلوه من الإيمان والتوحيد، فإذا خلا من الإيمان والتوحيد خرب وقامت القيامة.
لاَ يَأْتِي زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْه
}7068{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم.
}7069{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح.
وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ! وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ! مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ».
قوله: «بَاب لاَ يَأْتِي زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْه» . أخذ المصنف رحمه الله هذه الترجمة من معنى الحديث.
}7068{ قوله: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ» . في بعض النسخ: «فشكون إليه ما يلقون من الحجاج هذا من باب الالتفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة والأصل على المثبت في المتن هنا: أن يقول: فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج.
قوله: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» . قال أنس: «اصْبِرُوا» ، أشر وأخير هذه لغة قليلة، واللغة يعبر بالكثيرة: شر وخير، بدون الهمزة.
قوله: «حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» ، يعني: حتى تموتوا.
قوله: «سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم» ، أي: هذه وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم حال وقوع الفتن.
فهم قد شكوا إلى أنس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من الحجاج، من ظلمه وتعديه، والحجاج بن يوسف هو أمير العراق لعبدالملك بن مروان، ولاه على العراق في ذلك الوقت، وقد تولى قبله ولاة ولكنهم لم يمكثوا إلا قليلاً، فاختار الخليفة للعراق الحجاج لقوته؛ لأن أهل العراق عندهم شغب ومنازعات منذ زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لما تولى سعد بن أبي وقاص إمارة العراق شكوه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقالوا: بأنه لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، أي: لا يحسن شيئًا، يقولون هذا لرجل من الصحابة المبشرين بالجنة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين، وأُخِفُّ في الأخريين[(55)]، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، ثم عزله درءًا للفتنة، ولما حضرته الوفاة أوصى إلى الستة أصحاب الشورى ومنهم سعد قال عمر رضي الله عنه: فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمّرَ فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وإنما درءًا للفتنة، فالشاهد أنهم أهل شغب فولى عبدالملك بن مروان عليهم الحجاج حتى يضبطهم ويضبط الأمن، وكان الحجاج ظالمًا، وكان يسرف في القتل، ويقتل لأدنى سبب ولا يبالي، فشكوا إلى أنس بن مالك ما يلقونه من ظلمه وتعديه، حتى يقال إنه: قتل مائة ألف، وذات مرة تهدد أنسًا رضي الله عنه وقال له قولاً سيئًا، فشكاه إلى الخليفة عبدالملك بن مروان، فكتب عبدالملك بن مروان للحجاج كتابًا نقله الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»[(56)] : كتابًا شديد اللهجة، وقال فيه: «فلعنك الله من أخفش العينين تهددت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم». وكان كتابًا قويًّا، فلما وصله الكتاب، أكرم أنسًا رضي الله عنه، فسلم من شره.
واختلف العلماء في قوله: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» ؛ لأنه تأتي بعض الأزمنة المتأخرة أحسن من الزمان السابق، فمثلاً زمن عمر بن عبدالعزيز فيه العدل وزمن الحجاج فيه الفتن، وكذلك الأزمنة المتأخرة زمن قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وانتشار الدعوة هنا في نجد، وفي جميع الأقطار، وهذا فيه خير أحسن من الأزمنة السابقة، وأيضًا زمن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كذلك فيه خير، فما معنى الحديث؟
وحاصل ما قيل في معنى الحديث جمعًا بينه وبين بعض الأزمنة التي تكون في الشر دون التي قبلها قولان:
أحدهما: تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج فيه الصحابة، وعصر عمر بن عبدالعزيز انقرض منه الصحابة، فالمراد المجموع، وليس المراد أشخاصًا بعينهم، وهذا القول للحسن البصري.
ثانيهما: أن المراد ذهاب العلماء والفقهاء والأخيار، حتى لا يكون لهم خلف، ثم يجيء قوم يفتون برأيهم فيهدمون الإسلام، وهذا بدأ من زمان الحجاج بعد الصحابة حتى يومنا هذا، والشر يزيد، وهذا القول الثاني لابن مسعود رضي الله عنه كما نقل الحافظ عنه.
واستشكل معنى الحديث أنه في زمن عيسى بن مريم بعد زمن الدجال يكثر الخير، ففي زمن عيسى بعد قتله الدجال يحصل الأمان، وتخرج الأرض بركتها، ويستظل بقحف الرمانة جماعة من الناس، واللقحة من الإبل تكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر تكفي الجماعة الكثيرة، واللقحة من الغنم تكفي الفخذ من الناس.
أجاب الكرماني: المراد الزمن الذي يكون بعد عيسى، أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه.
قلت: وهذا الإطلاق بأن زمان النبي المعصوم لا شر فيه ترده الأدلة والواقع.
وكلا الجوابين من الكرماني ليسا بظاهرين من الأدلة.
وقيل: يحتمل أن المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، واستدل بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنه يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا.
والأقرب أن المراد هو مجموع العصر، وكونه تأتي بعض الأزمنة خيرًا من التي قبلها فقد يكون هذا مستثنى بأدلة خاصة، ومعروف أن الأدلة العامة يأتي ما يخصصها، فيخصص مثلاً بزمان عيسى، وزمان المهدي الذي يكثر فيه الخير.
ولا شك أن الزمن الذي فيه الصحابة أفضل من غيره، وزمن الحجاج فيه صحابة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»[(57)] يعني: يرجعون إليهم ويفتونهم بما بلغهم عن نبيهم، فإذا ذهبوا جاء من بعدهم ممن لا يعلمون فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
}7069{ قوله: «اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ!» في رواية سفيان: «ماذا فتح من الخزائن؟»[(58)] .
قوله: «وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ!» فيه: دليل على التلازم بين فتح الخزائن وبين الفتن.
وفيه: أنه لما فتحت فارس والروم وجيء بكنوز كسرى وقيصر جاءت معها الفتن، يعني: التنافس، والبخل بالحق، والبطر.
قوله: «مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ» فيه: الندب إلى الصلاة والتضرع والدعاء عند نزول الفتن؛ ولهذا لما ظهرت النار التي في المدينة في القرن السادس أو السابع الهجري وعلت فزع الناس إلى المسجد النبوي يصلون.
قوله: «رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ» رب: تأتي للتقليل وتأتي للتكثير، والمراد هنا التكثير، يعني: كثير من توجد كاسية في الدنيا لكنها عارية في الآخرة.
وقيل: المعنى كاسية في الدنيا من نعم الله عارية من شكرها الذي تظهر ثمرته في الآخرة.
وقيل: المعنى كاسية البعض، عارية البعض، كاسية لأن عليها ثيابًا، وعارية لأن الثياب قصيرة أو ضيقة تبين مفاتن المرأة.
وقيل: كاسية في الدنيا بالثياب؛ لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب؛ لعدم العمل.
وقيل: كاسية بالثياب، لكنها شفافة لا تستر عورتها، وتعاقب في الآخرة بالعري.
وقيل: كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها فتصير عارية.
وقيل: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل فلا ينفعها صلاح زوجها.
قال ابن بطال: «في هذا الحديث أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك، وأراد بقوله: «مَنْ يُوقِظُ» بعض خدمه، وفي الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، لتُكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له».
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»
}7070{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا».
}7071{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْد،ٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا».
}7072{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ».
}7073{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
}7074{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلاً مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بِأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا لاَ يَخْدِشُ مُسْلِمًا.
}7075{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ».
قوله: «بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»» . هذه الترجمة مأخوذة من لفظ الحديثين الأولين، والمعنى: ما حكم من حمل السلاح؟ قال فيه: «فَلَيْسَ مِنَّا» ، ومن الفتن حمل السلاح.
}7070{ قوله: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «معنى الحديث حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق؛ لما في ذلك من تخويفهم، وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة أو القتل للملازمة الغالبة».
ثم قال: «جاء الحديث بلفظ: «من شهر علينا السلاح» أخرجه البزار من حديث أبي بكرة، ومن حديث سمرة، ومن حديث عمرو بن عوف[(59)]، وفي سند كل منها لين، لكنها يعضد بعضها بعضًا، وعند أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ: «من رمانا بالنبل فليس منا»[(60)] وهو عند الطبراني في «الأوسط» بلفظ: «الليل»[(61)] بدل «النبل» وعند البزار من حديث بريدة مثله».
قوله: «فَلَيْسَ مِنَّا» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: ليس على طريقتنا، أو ليس متبعًا لطريقتنا؛ لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره، ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه؛ لإرادة قتاله، أو قتله، ونظيره: «من غشنا فليس منا»[(62)] «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب»[(63)] وهذا في حق من لا يستحل ذلك، فأما من يستحله فإنه يكفر باستحلال المحرم بشرطه لا بمجرد حمل السلاح، والأولى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر، وكان سفيان بن عيينة ينكر على من يصرفه عن ظاهره، فيقول: معناه: ليس على طريقتنا، ويرى أن الإمساك عن تأويله أولى لما ذكرناه، والوعيد المذكور لا يتناول أهل الحق الذين قاتلوا البغاة فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالمًا».
}7071{ قوله: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا» فيه: وعيد شديد لمن فعل ذلك، ويدل على أنه من الكبائر لأن الكبيرة أصح ما قيل في تعريفها: كل ذنب وجب فيه حد في الدنيا أو وعيد في الاخرة من نار أو لعن أو غضب أو قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» ونحو ذلك، أو تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «أنا برئ من الحالقة والصالقة وقوله: «ليس منا قد أولها النووي وجماعة، فقالوا: ليس على طريقتنا، أو ليس متبعًا لطريقتنا، وهذا ليس بجيد عند أهل العلم، والصواب أن يترك على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر.
ولا يدل هذا على أن فاعل ذلك كافر وخارج من الملة، لكن هذا من باب الوعيد، وهو مرتكب للكبيرة، إلا إذا استحل قتال المسلمين، فإن من استحل معلومًا من الدين بالضرورة محرماً كان كافراً، مثل من استحل غش المسلمين، أو استحل الزنا، أو الربا، أو الخمر، أو استحل عقوق الوالدين، فهذا يكفر؛ لأنه كذب الله ورسوله، أما ما يقع من المسلم من هذه المعاصي وهو لا يستحلها، كمن يحمل السلاح طاعة للهوى والشيطان أو للعصبية والحمية، وكذلك الغش يحمله الطمع وحب المال على فعله ولا يستحله فيكون مرتكبًا لكبيرة.
وفيه: دليل على تحريم القتال بين المسلمين، ويدخل في ذلك الخروج على ولاة الأمور بالسلاح، وشق عصا الطاعة، وسبق حديث: «من خرج على السلطان شبرًا فمات فميتته جاهلية»[(64)] المراد أنه مرتكب كبيره.
}7072{ قوله: «لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي» ، وفي رواية: «لا يدري».
قوله: «لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «باالغين المعجمة قال الخليل في العين: نزغ الشيطان بين القوم نزغًا حمل بعضهم على بعض بالفساد ومنه: [يُوسُف: 100]{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، وفي رواية الكشميهني بالعين المهملة: «يَنْزِعُ» ، ومعناه: قلع، ونزع بالسهم رمى به، والمراد أنه يغري بينهم حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه فيحقق الشيطان ضربته له، وقال ابن التين: معنى ينزعه يقلعه من يده فيصيب به الآخر أو يشد يده فيصيبه، وقال النووي: ضبطناه ونقله عياض عن جميع روايات مسلم بالعين المهملة، ومعناه: يرمي به في يده ويحقق ضربته، ومن رواه بالمعجمة فهو من الإغراء، أي: له تحقيق الضربة».
قوله: «فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ» ، أي: فيكون ذلك سببًا لدخوله النار.
وفي الحديث: تحريم الإشارة إلى المسلم بالسلاح، وأن هذا من المحرمات، وبعض الناس يلعب بالسلاح ويشير إلى أخيه، فهذا ربما نزغ الشيطان في يده، فيقتل أخاه، وألحق بعضهم بذلك اللعب بالسيارة وهو يروغ عنه يمينًا وشمالاً ليلحقه، فلعل الشيطان ينزغ في يده فلا يتحكم في القيادة فيدهسه، فلا يجوز اللعب بالسلاح، ولا اللعب بالسيارات، فالشيطان يعين على هذا وينزع في يده.
}7073{ قوله: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا؟» النصل: هو حديدة السهم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لئلا يصيب أحدًا من المسلمين بسوء، كما تفسره الرواية الآتية.
}7074{ قوله: «أَنَّ رَجُلاً مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بِأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا لاَ يَخْدِشُ مُسْلِمًا» فيه: تعليل الأمر بالإمساك على النصول، وهو عدم إيذاء المسلم.
}7075{ قوله: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ» ، يعني: على النصال.
قوله: «أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ» ، يعني: خشية أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء فيؤذيه.
وهذا الحديث أعم من حديث جابر؛ لأن حديث جابر واقعة حال لا تستلزم التعميم، فهو حكم خاص بهذا الرجل، لكن حديث أبي موسى يليه الخطاب فيه لعموم المسلمين فهو عام في جميع المكلفين.
وفي الحديثين: تحريم قتال المسلم وقتله.
وفيه: تغليظ الأمر بالقبض على النصال.
وفيه: تحريم تعاطي أسباب أذية المسلم بكل وجه.
وفي الحديثين أيضًا: حجة للقول بسد الذرائع، فترك النصال ذريعة للإصابة، فأمر بالأخذ بنصالها سدا للذريعة، مثل ذلك إذا كان يسير بسيارة مثلاً وفيها مواسير خارجة منها فلابد أن يلاحظ هذا الشيء حتى لا يصيب أحدًا؛ لأنها قد تصيب المسلمين وتؤذيهم، أو تصيب سيارة، أو تخدشها، وكذلك الزجاج أو غير ذلك مما يخشى منه الضرر، فعليه أن يمنع الوسائل والأسباب التي تكون سببًا في الأذية.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
«لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
}7076{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
}7077{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض».
}7078{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ هُوَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَلاَ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ»، فَكَانَ كَذَلِكَ، قَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ.
}7079{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ،عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَرْتَدُّوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
}7080{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتْ النَّاسَ؟ ثُمَّ قَالَ: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
قوله: «بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»» هذه الترجمة على لفظ الحديث، والمقصود منها بيان معنى هذا الحديث، يعني: لا ترجعوا بعدي تتقاتلون كفعل الكفار، وهل القتال بين المسلمين كفر أو ليس بكفر؟
_خ الجواب: هو كفر، كما نص الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا كفر يخرج من الملة أو لا يخرج من الملة؟
_خ الجواب: القتال المنهي عنه هو القتال الذي لم يتبين فيه وجه الحق، كالقتال الصادر من الخوارج والبغاة، والقتال للحصول على الرئاسة والملك، والقتال لأجل العصبية ولأجل الحمية، وهو قتال المسلمين بعضهم بعضًا، هذا هو الذي فيه الوعيد، ويقال: إنه كفر من الأعمال الكفرية، أما القتال لنصرة الحق فلا بأس فيه، كقتال الطائفة الباغية، وهم البغاة الذين يخرجون على جماعة المسلمين، ويريدون تفرقة كلمتهم بعد محاولة الإصلاح بينهم، إذا لم يفيؤوا، فهذا قتال بحق، أمر الله به فلا يدخل في هذا كما قال الله تعالى: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وهذا أمر بالقتال لنصرة الحق، لا يدخل في هذا الوعيد، ومن ذلك قتال أهل العراق ومعهم علي رضي الله عنهلأهل الشام ومعهم معاوية رضي الله عنه؛ لأنهم عند أهل السنة بغاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: «تقتله الفئة الباغية»[(65)] وقد قتله جيش معاوية رضي الله عنه، وكان علي رضي الله عنه وأهل العراق ومن معهم على الحق، وقاتلوا بحق؛ لأن عليًّا رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد ولم يتخلف إلا معاوية وأهل الشام، وإن كان معاوية وأهل الشام خير كان متأولين ولا يعلمون أنهم بغاة فهم مجتهدون مخطؤون لهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الإصابة، وعلي رضي الله عنه وأهل العراق ومن معهم مجتهدون مصيبون لهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وانضم أكثر الصحابة إلى علي رضي الله عنه عملاً بالآية: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، فلما لم يحصل صلح بينهما، وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد رأى أن يخضع معاوية رضي الله عنه وأنه يجب عليه أن يبايعه وليس له أن يتخلف ولم ير أنه من المؤلفة قلوبهم حتى يتألفه؛ لأنه ممن ثبت الإيمان في قلبه، ومعاوية رضي الله عنه وأهل الشام لا يمانعون في الخلافة لعلي رضي الله عنه، فمعاوية رضي الله عنه لا يطلب الخلافة لنفسه، بل يرى أن عليًّا هو الأحق بها، لكنه يطالب بدم عثمان رضي الله عنه الذي قتل ظلمًا، فهو يطالب بدمه، وهو الآن أولى الناس به؛ لأنه من بني أمية، وإذا لم ينتصر للشهيد المظلوم فإنه يخشى طغيانهم على غيرهم، فقال لعلي رضي الله عنه: أعطني القتلة وأبايعك، وعلي رضي الله عنه لا يمانع، قال: لا أستطيع أن أعطيكهم، فقتلة عثمان رضي الله عنه لا يعرفون بأعيانهم؛ لأنهم اندسوا في الجيش، وهناك من له قبيلة تنتصر له، والوقت وقت فتنة، فإذا هدأت الأحوال أخرجنا القتلة، فلم يقبل معاوية رضي الله عنه، فحصل الخلاف، وحصل القتال عن اجتهاد، وليس هو قتال عن هوى ولا عن عصبية، بل قتال بحق عن اجتهاد وتأويل، وكل من الطرفين مجتهد.
}7076{ قوله: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:» هو: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
قوله: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ، يعني: من الفسق والمعصية، والقتال كفر، أي: قتال المسلم من الأعمال الكفرية، وسبه من الأعمال التي تفسق، وسباب المسلم وسيلة إلى قتاله فنهى عن الوسيلة وعن الغاية، وهما من أسباب العداوة والبغضاء.
}7077{ قوله: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض» ، يعني: كالقتال على الرئاسة والملك والعصبية، فهو كبيرة من كبائر الذنوب، وهو كفر أصغر إذا لم يستحل القتال، أما إذا استحل قتال المسلمين ورأى أنه حلال فإنه يكفر كفرًا أكبر؛ لأنه كذب الله، ولأنه استحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.
}7078{ قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَلاَ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»» جاء بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، فإنه يخاطب الصحابة وهم يعرفون هذا اليوم، ويعلمون أنه يوم العيد، لكن لا يدرون ما مقصود الرسول هل يسميه بغير اسمه؟
قوله: «قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» ، هذا في حياته صلى الله عليه وسلم يقال: الله ورسوله أعلم، وبعد مماته يقال: الله أعلم.
قوله: «حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟»» وهو يوم العيد، وهو أفضل الأيام عند الله، وهو يوم حرام.
قوله: «قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ» ثم سأل السؤال الثاني: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» فسكت الناس؛ لأنهم ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فإنهم يعرفون بلدهم مكة.
قوله: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ» وفي اللفظ الآخر: «أي شهر هذا؟» أيضًا سؤال ثالث «أليس ذو الحجة؟»[(66)] قالوا: بلى يا رسول الله.
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة تقديما لبيان أهمية الأمر، وهو قوله: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» يوم حرام: وهو يوم العيد، وشهر حرام: وهو ذو الحجة، وبلد حرام: وهو مكة، فهذه ثلاث حرمات ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، والدماء والأموال والأعراض أشد حرمة من حرمة اليوم والشهر والبلد، فكما أن الشهر حرام فلا تنتهك حرمته، والبلد مكة حرام فلا تنتهك حرمتها، واليوم يوم العيد حرام، فكذلك أموال المسلمين فيما بينهم حرام ودماؤهم حرام وأعراضهم حرام.
وقوله: «وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» ، يعني: أجسامكم، وهذه اللفظة رابعة، وليست في بعض الأحاديث.
قوله: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ، يعني: بلغتكم أن الأموال حرام، والدماء حرام، والأعراض حرام؛ فلا يجوز لأحد أن ينتهك حرمة أخيه.
قوله: «قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» طلب من الله أن يشهد على أنه بلغ.
قوله: «فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» ، الشاهد: هو الذي حضر خطبة يوم العيد وسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، والغائب: هو الذي لم يحضر.
قوله: «فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ» ، يعني: قد يكون المبلغ يفهم ويفقه من الحديث أكثر من الذي بلغه، وهذا صحيح فأحيانًا قد ينقل الإنسان إليك خبرًا أو حديثًا وأنت أوعى به منه، مثلاً: إنسان يحفظ الحديث لكن لا يعرف معناه، ثم ينقله لطالب علم فيفهم منه ما لا يفهمه الناقل ويستنبط منه الفوائد والأحكام.
قوله: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» ، أي: لا يحل لكم أن تتقاتلوا.
قوله: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ» ، وذلك أن ابن الحضرمي ـ وهو عبدالله بن عمرو بن الحضرمي ـ أرسل للانتصار لمعاوية رضي الله عنه في القتال بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وكان جارية من المنتصرين لعلي رضي الله عنه فجارية حاصر عبدالله بن عمرو بن الحضرمي ليقاتله فتحصن منه في بيته فأحرق البيت عليه كاملاً.
قوله: «أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ» أبو بكرة هو الصحابي الجليل رضي الله عنه، وهو من الذين قعدوا عن القتال، واعتزل الفريقين فلم يقاتل مع علي رضي الله عنه ولا مع معاوية رضي الله عنه، وهذا رأي جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأسامة بن زيد، وسلمة ابن الأكوع، وكذلك أبو بكرة وغيرهم رضي الله عنهم لا يرون القتال؛ لأنهم لم يتبين لهم وجه الحق، وأخذوا بعموم النصوص التي فيها النهي عن القتال في الفتنة، فلما حرق جارية ابنَ الحضرمي «قال: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ» ، أي: انظروا أبا بكرة رضي الله عنه هل يقاتل أم لا يقاتل؟ هل ينتصر لأحد الفريقين؟ وأبو بكرة رضي الله عنه معتزل الفريقين، اعتزل عليًّا واعتزل معاوية رضي الله عنه «فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ» .
قوله: «قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ» المعنى: لو دخلوا علي داري ما رفعت عليهم قصبة ولا حركت ساكنًا ولاستسلمت للقتل؛ لأني لا أرى القتال بين المسلمين مطلقًا، لا مع هذا ولا مع هذا، فكيف أقاتلهم بالسلاح وهو قتال فتنة؟ وكيف يرون أني سأشارك هؤلاء أو هؤلاء بأخذ السلاح؟
وأبو بكرة وابن عمر وسعد رضي الله عنهم ومن قعد عن القتال من الصحابة رضي الله عنهم حملوا النصوص في القتال بين المسلمين على عمومها كحديث: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[(67)] أي: أي قتال، فحملوه على العموم ورأوا أن كل قتال بين المسلمين فهو قتال فتنة، وهذا اجتهاد منهم.
والصواب الذي عليه الجمهور وهو الذي تدل عليه النصوص الأخرى أنه إذا بغت طائفة على الإمام فإنها تقاتل حتى تفيء كما قال الله تعالى: [الحُجرَات: 9]{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، وكذا كل ظالم يقاتل ويؤخذ على يده وينصر المظلوم لحديث: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»[(68)] .
}7079{ قوله: «لاَ تَرْتَدُّوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فيه: تحذير شديد، ونهي عن قتال المسلمين بعضهم بعضًا، حيث وصف فاعل ذلك بالكفر، وتقدم الكلام عليه.
}7080{ قوله: «اسْتَنْصِتْ النَّاسَ؟» ، يعني: قل لهم أنصتوا واستمعوا؛ لأهمية الخطبة، أراد أن ينتبه الناس لقوله: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وتقدم الكلام عليه.
تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ
}7081{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْد،ٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ح.
قَالَ إِبْرَاهِيم: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ».
}7082{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ».
قوله: «بَاب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» . هذه الترجمة مأخوذة من لفظ الحديث.
}7081{ قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ» في رواية المستملي: «فتنة» بالإفراد.
قوله: «الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «زاد الإسماعيلي من طريق الحسن بن إسماعيل الكلبي عن إبراهيم بن سعد بسنده فيه في أوله: «النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد» ، قال بعض الشراح في قوله: «الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» . أي: القاعد في زمانها عنها، قال: والمراد بالقائم الذي لا يستشرفها، وبالماشي من يمشي في أسبابه لأمر سواها، فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه، وحكى ابن التين عن الداودي أن الظاهر أن المراد من يكون مباشرًا لها في الأحوال كلها، يعني: أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببًا لإثارتها، ثم من يكون قائمًا بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرًا لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون مجتنبًا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم، والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرًا ممن فوقه على التفصيل المذكور».
قوله: «وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في حديث ابن مسعود: «والماشي فيها خير من الراكب، والراكب فيها خير من المجري، قتلاها كلها في النار»[(69)] .
قوله: «مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «بفتح المثناة والمعجمة وتشديد الراء، أي: تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وضبط أيضا من الشرف ومن الإشراف».
قوله: «تَسْتَشْرِفْهُ» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك»، ثم قال: «وحاصله أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرها، ويحتمل أن يكون المراد من خاطر فيها بنفسه أهلكته، ونحوه قول القائل من غالبها غلبته».
قوله: «فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي ليعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة» ثم قال: «وفيه: التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل».
}7082{ قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» ، لأن القائم متهيئ.
قوله: «وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي» ، لأن الماشي يسعى إليها برجليه والقائم أخف.
قوله: «وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي» ، يعني: الذي يمشي مشيًا عاديًّا أخف من الذي يهرول ويسرع، فالذي يهرول ويسرع إلى الفتنة أشد ثم يليه الماشي ثم يليه القائم ثم يليه القاعد.
قوله: «مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا» ، يعني: تطلع لها وتصدى وتعرض.
قوله: «تَسْتَشْرِفْهُ» ، يعني: تهلكه.
قوله: «فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً» ، أي: من وجد ما يلتجئ به.
قوله: «أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» ، يعني: يعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة فليفعل.
وهذا الحديث فيه التحذير من الفتن، والتحذير من الدخول في القتال، وعدم التطلع لها، والالتجاء والتحصن عنها إذا وقعت، والبحث عن ملجأ ومعاذ يلتجئ إليه الإنسان حتى يسلم من شرها.
والصواب الذي عليه المحققون من الصحابة رضي الله عنهم ومن أهل العلم أن المراد ـ كما سبق ـ فتن القتال والحروب التي لم يتبين فيها وجه الحق كفتن الحروب الناشئة عن الاختلاف في طلب الملك والرئاسة وكالقتال من أجل العصبية والحمية للقبائل أو الجنس أو الدم أو اللون أو الأحزاب السياسية، أما قتال البغاة الذين يبغون على المسلمين أو قتال قطاع الطريق فهذا قتال واجب إذا لم يفيئوا إلى الحق حتى لا يفرقوا كلمة المسلمين، وكذلك الخوارج الذين يخرجون على المسلمين ويكفرونهم بالمعاصي ويقاتلونهم لأنهم يرون كفرهم بالمعاصي، وكذلك البغاة لأنهم ينقمون على الإمام ويخرجون عليه ويقولون: توجد منكرات إما أن تزيلها وإما قاتلناك، وهؤلاء لهم شبهة، فيرسل لهم الإمام من يكشف لهم شبهتهم فإن فاءوا وإلا قاتلهم، فقتالهم قتال بحق وهو قتال واجب إذا تبين الحق، ومن ذلك قتال علي رضي الله عنه ومن معه لمعاوية رضي الله عنه ومن معه فإنه قتال بحق، يعني: عن تأويل، لا عن هوى ولا عن عصبية، وإن كان معاوية رضي الله عنه ومن معه مجتهدين وهم لم يعلموا أنهم مخطئون، وهناك طائفة من الصحابة رضي الله عنهم قعدوا عن القتال؛ لأنهم لم يتبين لهم وجه الحق؛ فلم يشاركوا في القتال لا مع علي رضي الله عنه ولا مع معاوية كسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وأسامة بن زيد وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم الذي خرج إلى البادية وتزوج واعتزل كلا الفريقين وقال: أذن لي رسول الله في البدو، وأسامة رضي الله عنه الذي قتل من قتله وشدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟»[(70)] اعتزل الفريقين وابن عمر رضي الله عنهما كذلك لم يشارك، ولما استتب الأمر لمعاوية رضي الله عنه بايعه، وكذلك بعض العلماء حملوا النصوص على عمومها وقالوا كل قتال بين المسلمين فهو حرام، والصواب: التفصيل في هذا وهو مذهب الجمهور جمعًا بين النصوص؛ لأن النصوص يعمل بها كلها من الجانبين؛ لأن هؤلاء الذين عملوا بهذه النصوص عطلوا النصوص الأخرى مثل قوله تعالى: [الحُجرَات: 9]{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أما جمهور الصحابة والتابعين فعملوا بالنصوص كلها، فإذا كان القتال عن اجتهاد وتأويل فإنهم قد عملوا بهذه النصوص، وإذا كان القتال قتال فتنة أمسكوا عن القتال فعملوا بالنصوص الأخرى، أما أولئك فأشكل عليهم الأمر ولم يتبين لهم الحق، فهؤلاء أرجؤوا أمر الفريقين إلى الله ولم يشاركوا هؤلاء ولا هؤلاء، فالصواب إذًا مع الجمهور من الصحابة والتابعين من السلف، وهناك من حمل حديث الباب على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقًا، ومن العلماء من حمل حديث الباب على أناس مخصوصين وأن النهي مخصوص بمن خوطب في ذلك، ومن العلماء من خصص حديث الباب بآخر الزمان لتحقق أن المقاتلة إنما هي لطلب الملك والصواب التفصيل كما سبق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «فَلْيَعُذْ بِهِ» ، أي: ليعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة وفي رواية سعد بن إبراهيم: «فليستعذ» ، ووقع تفسيره عند مسلم في حديث أبي بكرة ولفظه: «فإذا نزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله» ـ وذكر الغنم والأرض ـ قال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له؟ قال: «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع»[(71)] وفيه: التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل، قال الطبري: اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقًا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت، وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلاً، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال: بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل، وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور، وفصل آخرون فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب، وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي».
على كل حال، الصواب القول الأول ـ كما سبق ـ وهو التفصيل مثل لو جاء ظلمة يظلمون الناس ويقاتلون الناس أيتركون؟ ويقال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالقعود عن الفتن؟
_خ الجواب: لا، فهؤلاء معتدون يؤخذ على أيديهم ويمنعون.