}7099{ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ، لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً.
}7100{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الأَْسَدِيُّ، قَالَ: لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ، بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدِمَا عَلَيْنَا، الْكُوفَةَ فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، فِي أَعْلاَهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنْ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ.
}7101{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَذَكَرَ عَائِشَةَ، وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ: إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ.
}7102{ حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالاَ: مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَْمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ: عَمَّارٌ مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأَْمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ.
}7105{، }7106{، }7107{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَمَّارٍ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ فِيهِ غَيْرَكَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ اسْتِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَْمْرِ، قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ وَلاَ مِنْ صَاحِبِكَ هَذَا شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتُمَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا فِي هَذَا الأَْمْرِ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلاَمُ هَاتِ حُلَّتَيْنِ فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأُْخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ.
قوله: «بَاب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ» . المراد بها الفتنة التي يشتبه فيها الحق والباطل، ولا يعلم وجه الحق فيها كفتن الشبهات وفتن الحروب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كأنه يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضمرة عن علي قال: «وضع الله في هذه الأمة خمس فتن، قال: فذكر الأربعة، ثم فتنة تموج كموج البحر، وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم» ، أي: لا عقول لهم، ويؤيده حديث أبي موسى قال: «تذهب عقول أكثر ذلك الزمان»[(98)] ، وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حذيفة قال: «لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك؛ إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل» .
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَْبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ» وهي أبيات منسوبة لامرئ القيس، وهي وإن كانت من شاعر جاهلي لكنها مفيدة؛ لأن فيها موعظة.
قوله:
«الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً
تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ»
أي: أنها تكون أول ما تبدأ تكون مثل الفتاة الجميلة التي تبدي زينتها لتغر الرجال.
قوله: «غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ» ، أي: غير ذات زوج.
قوله: «شَمْطَاءَ» ، أي: شمطها الشيب.
قوله: «مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ» ، أي: يكره شمها وتقبيلها؛ لأنها عجوز كريهة المنظر وكريهة الرائحة.
والمعنى: أن الفتن والحروب تبدأ خفيفة ويتساهل الناس فيها، ثم إذا استمرت تأتي بعد ذلك على الأخضر واليابس، فإذا دخل الإنسان في الفتنة فقد لا يستطيع الخروج منها، لكن الإنسان إذا منع نفسه من البداية فهذا أيسر من أن يتورط ولا يستطيع الخلاص.
}7096{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث حذيفة، وكان لحذيفة اختصاص بالفتن، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم إليه أسماء المنافقين.
قوله: «بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ» ، فيه: مجالسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأهل العلم والصلاح.
قوله: «إِذْ قَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟» المخاطب بذلك الصحابة الحضور دون غيرهم.
قوله: «قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وهذا من رحمة الله بعباده، أن فتنة الإنسان في أهله وماله وولده وجاره تُكفر بالصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإنسان لا يستطيع منع نفسه في بعض الأحيان، فقد يحصل منه خطأ أو مشادة في الكلام بينه وبين جاره أو بينه وبين أهله؛ فطبيعة الإنسان هكذا، فمن رحمة الله أن الفرائض والنوافل تكفر ذلك.
قوله: «قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ» فعمر رضي الله عنه مسأله عن الفتن التي تموج كموج البحر، أي: التي لا يعلم وجه الدخول فيها، كالحروب على المُلك واعتلاء العروش والرئاسات، وعلى الأموال والعصبيات، وهي الفتن التي يشتبه فيها على المرء الحق بالباطل، فهذه التي تموج كموج البحر، ولم يذكرها حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه يعلم أن عمر رضي الله عنه يتأثر ويتكدر إذا ذكر ذلك، فأراد حذيفة رضي الله عنه أن يذكر الفتن الخفيفة التي تكفر بالصلاة والصدقة.
قوله: «قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» فبين حذيفة رضي الله عنه: ليس عليك من الفتن التي تموج كموج البحر شيء.
قوله: «إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ عُمَرُ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا» ، أي: لو كان يفتح بالمفتاح فيمكن أن يغلق، لكن إذا كان يكسر كسرًا فلن يغلق ولا حيلة في إغلاقه.
وقول حذيفة: «قُلْتُ: أَجَلْ» فيه: تقرير لقول عمر رضي الله عنه: «إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا» ، أي: هذا صحيح وحق فإنه لا يغلق.
قوله: «قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً» أي: أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد، وفي لفظ: «نعم كما أن دون الغد الليلة»[(99)] يعني: أن علمه في هذا علم يقيني وهذا الباب هو عمر وكسره هو قتله.
قوله: «وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَْغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ؟» والأغاليط جمع: أغلوطة، أي: حدثته حديثا صدق فهابوا أن يسألوه عن الباب من هو؟
قوله: «فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ» ، يعني: أن عمر رضي الله عنه هو الباب، فيكسر الباب ـ أي: قتله رضي الله عنه ـ جاءت الفتن، وهذا هو الواقع فقد جاءت الفتن لما تولى عثمان رضي الله عنه، فجاء الثوار السفهاء من أطراف الخلافة الإسلامية من مصر ومن الكوفة والبصرة وتجمعوا في المدينة وسعى بالفتنة أهلها، ونقموا على عثمان رضي الله عنه أشياء يريدون أن تكون مبررات لهم، قالوا: فعلت كذا، وفعلت كذا، وسعى بذلك عبدالله بن سبأ اليهودي، وقالوا: إنك خالفت الشيخين قبلك، فخفضت الصوت بالتكبير، وأتممت الصلاة في السفر، ووليت أقرباءك، وأخذت الزكاة على الخيل، ونقموا أشياء، يريدون أن تكون مبررات لهم، فأجابهم عنها رضي الله عنه لكنهم أبوا إلا أن يحيطوا ببيته حتى قتلوه، وأراد الصحابة الدفاع عنه، ولكنه منعهم؛ لأنه رضي الله عنه رأى عدم الدخول في الفتنة، وعمل بالأحاديث التي فيها: «ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم»[(100)] فمنع الناس من الدفاع عنه، وكان قد آتاه الله مالاً كثيرًا فجهز جيش العسرة بسبعمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، واشترى أيضا بئر رومة، وكان عنده من تلك الأموال عبيد، فأراد العبيد أن يدافعوا عنه وأخذوا السلاح فمنعهم فلم يمتنعوا، قيل: إنهم كانوا أربعمائة عبد، فقال: من وضع السلاح فهو حر، فوضعوا السلاح، وخرجوا أحرارًا، فدخل عليه الثوار وقتلوه، والله قدر ذلك لحكم وأسرار، فانفتحت أبواب الفتن، وكسر الباب لما مات عمر رضي الله عنه، واستمرت الفتن بعد ذلك، فقد بايع أكثر أهل الحل والعقد عليًّا رضي الله عنه، وامتنع معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، وحصلت الحروب والفتن.
}7097{ قوله: «جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ» ، أي: بوابًا له، «وَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَأْمُرْنِي» ، وفي اللفظ الآخر أنه أمره، فيجمع بينهما أنه جاء في أول الأمر وفعله من قبل نفسه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أمره.
قوله: «فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَضَى حَاجَتَهُ وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ»؛ القف: مكان يبنى حول البئر، وأصله: ما ارتفع من متن البئر «فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَّهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ» ، يعني: قف مكانك «حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ» .
قوله: «فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ، قَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَّهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَجَاءَ عُمَرُ فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاَّهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَامْتَلَأَ الْقُفُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ» ، أي: من الجانب الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلاَءٌ يُصِيبُهُ، فَدَخَلَ» ؛ وفي رواية أخرى: «فقال: الله المستعان» ، قال أبو موسى: «فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْر،ِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلاَّهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ» ، أي: قال: أبو موسى وقد خَلّف أخاه: لعله يأتي حتى يبشره الرسول بالجنة مثل هؤلاء؛ فإن كل من دخل منهم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، لكن لم يأت أخوه.
قوله: «قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا» ، أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في مكان واحد، «وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ» ، أي: في البقيع.
وفيه: الرد على الرافضة الذين يكفرون الخلفاء الراشدين ويزعمون أنهم اغتصبوا الخلافة فيقولون: أبو بكر وعمر وعثمان اغتصبوا الخلافة فهم ظلمة، وارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالخليفة الأول هو علي، وقالوا: قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأئمة فهم منصوص عليهم ومعصومون، ويقول الرافضة أيضًا: إن الأئمة اثنا عشر وهم على هذا الترتيب:
الأول: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أبو الحسن، ويلقبونه المرتضى، توفي سنة 40 هـ.
الثاني: الحسن بن علي أبو محمد الزكي، توفي سنة 50 هـ.
الثالث: الحسين بن علي، أبو عبدالله الشهيد، توفي سنة 61 هـ.
الرابع: علي بن الحسين، أبو محمد زين العابدين، توفي سنة 95 هـ.
الخامس: محمد بن علي، أبو جعفر الباقر، توفي سنة 114 هـ.
السادس: جعفر بن محمد، أبو عبدالله الصادق، توفي سنة 148 هـ.
السابع: موسى بن جعفر، أبو إبراهيم، الكاظم، توفي سنة 183 هـ.
الثامن: علي بن موسى، أبو الحسن الرضا، توفي سنة 203 هـ.
التاسع: محمد بن علي، أبو جعفر الجواد، توفي سنة 220 هـ.
العاشر: علي بن محمد، أبو الحسن الهادي، توفي سنة 254 هـ.
الحادي عشر: الحسن بن علي، أبو محمد العسكري، توفي سنة 260 هـ.
الثاني عشر: محمد بن الحسن، أبو القاسم المهدي المنتظر، ويزعمون أنه ولد سنة 255 أو 256هـ، ويقولون بحياته إلى اليوم، ويقولون: إنه دخل سرداب سامراء في العراق سنة 260هـ، ولم يخرج حتى الآن مع أن أبوه مات عقيماً ولم يولد له.
فهم يقولون: هؤلاء الأئمة منصوص عليهم ومعصومون، ويكفرون الخلفاء الراشدين وهذا من كفرهم وضلالهم وتكذيبهم لله في كتابه، فإن الله تعالى زكى الصحابة وعدَّلهم ووعدهم الجنة.
}7098{ قوله: «قِيلَ لأُِسَامَةَ:» ، أي: قيل لأسامة بن زيد رضي الله عنهما.
قوله: «أَلاَ تُكَلِّمُ هَذَا؟» يعني: عثمان بن عفان، أرادوا أن يكلمه في شأن الوليد؛ وذلك لما ولاه العراق وكان قد شرب الخمر وقد ظهر عليه ريح نبيذ، واشتهر أمره، وكان أخا عثمان رضي الله عنه لأمه، وكان عثمان رضي الله عنه يستعمله على الأعمال، وكان أسامة رضي الله عنه من خاصة عثمان رضي الله عنه.
قوله: «قَالَ: قَدْ كَلَّمْتُهُ» ، أي: كلمته فيما بيني وبينه بأدب ومصلحة «مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ» ، أي: دون أن أثير فتنة، يريد ألا يكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير.
وفيه من الفوائد: أن النصيحة لولاة الأمور تكون سرًّا، وتكون على الوجه المناسب، فلا يكون فيها تشهير، ولا تكون جهرًا على رءوس الأشهاد أو على المنابر؛ لأنها لا تفيد فإن هذا يقلب الناس على ولاة الأمور ويكون فيه شر وتفريق للأمة.
قوله: «وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ» ؛ وفي رواية: «يجاء بالرجل الذي يطاع في معصية الله فيقذف في النار»[(101)] فهو لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له فى السر جهده بعدما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فى الرجل الذي طرح في النار ما قال، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله، فأعلمهم أن هذا الحديث جعله لا يداهن أحدًا، وتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه.
قوله: «فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ» أي: ينادونه «أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ» . وهذا يفيد الحذر من عدم العمل بما يدعو الإنسان إليه من الخير والمعروف، والحذر من فعل ما ينهى عنه من الشر والمنكر، وقد قال الله تعالى في كتابه: [البَقَرَة: 44]{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} فأنكر الله على اليهود، والآية لهم ولغيرهم، وقال تعالى: [الصَّف: 2-3]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *}، وقال عن شعيب عليه السلام: [هُود: 88]{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}.
وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فيجب على الإنسان إذا أمر بشيء أن يكون أول الممتثلين له، وإذا نهى عن شيء أن يكون أول التاركين له، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان لا يأمر ولا ينهى إلا إذا كان كاملا، بل يأمر وينهى ولو كان عنده بعض النقص؛ لأن الإنسان عليه واجبان: واجب الأمر وواجب العمل، فيجب عليه أن يفعل المعروف ويأمر به، فإذا أخل بأحدهما فلا يسقط الآخر، وعليه واجب الترك وواجب النهي، فيجب عليه أن ينهى عن المنكر ويتركه، فإذا أخل بأحدهما فلا يسقط الآخر، فهذا واجب وهذا واجب، فإذا أخل بكونه لا يمتثل فليس معنى ذلك أنه يترك النهي بل ينهى ولو كان يفعله؛ ولهذا يقال: ينبغي على أصحاب الكؤوس ـ كؤوس الخمر ـ أن ينهى بعضهم بعضًا، فالأمر بالمعروف شيء وفعل المعروف شيء.
لكن لا شك أن الإنسان لا يُقبل منه إذا كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، أو ينهى عن المنكر ولا يتركه، ويكون في هذا عار وتشنيع عليه، وقد نعى الله تعالى على اليهود وشنع عليهم.
والمقصود أنه ينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه على العمل بالمعروف وعلى ترك المنكر، وهو مع ذلك لا يترك الأمر بالمعروف ولا يترك النهي عن المنكر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان ما في الحديث من الفوائد: «فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق وإظهار ما يبطن خلافه كالمتملق بالباطل فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل ونحو ذلك».
ونقل ابن حجر عن الطبري قال: «اختلف السلف في الأمر بالمعروف فقالت طائفة: يجب مطلقًا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[(102)] وبعموم حديث أبي سعيد: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده...»[(103)] وقال بعض العلماء: يجب إنكار المنكر لكن بشرط ألا يلحق المنكِر بلاء لا قِبل له به، وقال آخرون: ينكر بقلبه لحديث أم سلمة: «يستعمل عليكم أمراء بعدي فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع»[(104)] .
ولا شك أن الأمر بالمعروف واجب على من استطاع، فإذا كان قادرا ولم يكن عليه ضرر وجب عليه أن ينكر، ويأثم إذا لم ينكر، أما من عجز وكان يصيبه ضرر محقق في بدنه أو دينه أو ماله فهذا معذور، فالإنكار يكون باليد ثم باللسان ثم بالقلب كل على حسب الاستطاعة.
هذا وقد جاء في الحديث أن «الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»[(105)] وجاء في الحديث الآخر: «الصابر عند فساد أمتي له أجر خمسين، قالوا يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: منكم[(106)] » وهذا فيه: فضل الصابر على دينه في آخر الزمان، وفضل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذ له أجر خمسين من الصحابة، وليس معنى ذلك أنه أفضل من الصحابة؛ لأن مزية الصحبة والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ونشر الدين وتبليغه هذه خاصة بالصحابة، لكن في هذه القضية وهي الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت لا يجد الإنسان فيه على الخير عونا يكون له أجر الخمسين.
وإذا انتشرت المنكرات ولم تغير وسكت الناس عنها عمت العقوبات، قال الله تعالى: [الأنفَال: 25]{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *}، وثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة وقام فزعًا وهو يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها فقالت زينب: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»[(107)] ، والخبث: المعاصي، فإذا كثرت المعاصي جاءت العقوبات وعمت الطالح والصالح، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[(108)] وقصة أصحاب السبت معروفة قد قصها الله علينا في القرآن، وفيها أنهم لما فعلوا المنكر جاءت العقوبة وعمت فاعل المنكر ونجى الله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وسكت عن الساكتين قال الله تعالى: [الأعرَاف: 165]{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *}، وفي «صحيح البخاري» في الحديث الذي فيه قصة السفينة: «مثل القائم على حدود الله تعالى والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وكان بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا مروا على من فوقهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن هم أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا»[(109)] فهذا يدل على أن ترك إنكارهم هلاك للفاعل وغير الفاعل.
ففي قصة أحاب السبت أنهم لما فعلوا المنكر جاءت العقوبة وعمت فاعل المنكر ونجّى الله الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر وسكت عن الساكتين قال الله: [الأعرَاف: 165]{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *} والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة.... وهلكوا جميعاً» (الحديث) والله أعلم.
جاء في بعض نسخ صحيح البخاري في هذا الموضع بعد حديث أسامة رضي الله عنه: «باب» بغير ترجمة فيكون كالفصل من الترجمة السابقة، هكذا في رواية أبي ذر والتي عليها شرح ابن حجر، وقد سقط لابن بطال في شرحه وجعله تابعًا للترجمة السابقة دون فصل، وعلى كل حال فالأحاديث الثلاثة الآتية وهي في الفتنة التي تموج كموج البحر، وسبق أن الفتن التي تكون بين الناس نوعان:
النوع الأول: فتن خفيفة وأمرها واضح، وهي تُكَفَّر بالصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال عمر: «أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال ـ أي: حذيفة ـ : فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ، فقد يفتن الإنسان في ماله وقد يتأخر بعض الشيء، وقد يحصل بينه وبين من يعامله منازعات، ويحصل بينه وبين جاره منازعات، ويحصل بينه وبين أبيه وبينه وبين أخيه وبينه وبين زوجه سوء تفاهم أو زيادة في القول فهذه فتنة فيفتتن، أي: تحصل له فتنة فيبتعد عن الحق قليلا وهو يعلم أنه مخطئ، فهذه الفتن تُكَفَّر بالصلوات المفروضات وبالصدقات وبالإحسان وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الفتن ما يسلم منها أحد مهما كان؛ لأن الإنسان بشر يصيب ويخطئ، فالصديق رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء ومع ذلك حصلت له فتنة من ذلك في القصة المعروفة لما جاءه أضيافه فقال لابنه عبدالرحمن ولأهله: عشوهم، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يتعشون بعد العصر أو بعد المغرب، وتأخر أبو بكر وقال عبدالرحمن لضيوفه: اقبلوا قراكم عنا لأنه إن جاء صاحب البيت سيصيبنا منه شيء فقد كان فيه حدة رضي الله عنه، لكنهم قالوا: لا، حتى يأتي مضيفنا، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه وجد الضيوف لم يتعشوا فغضب وقال لزوجته: أما عشيتهم؟ واختفى عبدالرحمن في البيت خوفًا من أبيه، فقال: يا غنثر، أقسمت عليك إن كنت تسمعني لما خرجت، فخرج عبدالرحمن وقال: أبى الضيوف وامتنعوا، وقال: هؤلاء أضيافك فاسألهم، ما قصرنا، فجدع أبو بكر وسب، فهذه من الفتنة التي تصيب الإنسان، والصديق أفضل الناس بعد الأنبياء وتمام القصة أنه قال: أنتم أيها الضيوف ما تريدون حتى آتي والله لا أكل، فقال الضيوف: والله لا نأكل. فقال أبو بكر هذه فتنة وقال: بسم الله وكفى عن يمينه وأكل ثم أكلوا وهذه من الفتنة التي تحصل الكلام والاخذ الرد.
النوع الثاني: الفتن التي تموج كموج البحر، وهي التي ترجم لها المؤلف فقال: «بَاب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ» وهي الفتنة التي يشتبه فيها الحق بالباطل ويشتبه أمرها ولا يعلم وجه الدخول فيها، كأن يحصل له شبهة في دينه فيضل ولا يعرف الحق من الباطل، أو يزل فيعتقد الباطل مثل فتنة الخوارج الذين يكفرون الناس بالمعاصي فهذه فتنة شبهة، فقد استدلوا بالنصوص التي وردت في الكفار فجعلوها في العصاة وكفروهم، وكذلك فتنة المعتزلة وفتنة القدرية وفتنة الرافضة وفتنة الصوفية، فهذه فتن تحصل بسبب الشبه التي يضل بها الإنسان فيعتقد أن الحق فيها، وقد تكون هذه الشبه تخرجه عن الدين، مثل الشبه التي حصلت لبعض الفرق، ومنها شبهة القدرية الأولى الذين أنكروا علم الله بالأشياء حتى تقع، وهؤلاء كفرهم الصحابة، ومثل فتنة الروافض الذين كفروا الصحابة وكذبوا الله في أنه زكاهم وعدلهم، وعبدوا أهل البيت وظنوا أن هذا هو الدين، وأنكروا أن يكون القرآن محفوظًا حتى اعتبرهم العلماء من الفرق الضالة، ومثل فتنة الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات، فهذه فتن في الدين يضل بها الإنسان فيشتبه عليه فيها الحق بالباطل.
وقد تكون الفتن فتن شهوات فيفتن الإنسان بشهوة فرجه، فيخلو بامرأة ويفعل بها الفاحشة، وقد تكون الفتنة في المال فيقع في التعامل بالربا، ومن ذلك المساهمة فهي من الفتن في هذا الزمان، فهذه الأسهم كأنها مقامرة في الحقيقة يربح فيها الإنسان اليوم ملايين ويخسر غدًا ملايين، وكلها بيع وشراء في الشاشات ليس فيها قبض أو غيره، ويزعمون أنها تدخل في الحساب، وقد افتتن كثير من الناس بهذه المساهمات حتى باعوا ما عندهم من أموال، من أراض وعقارات وبيوت ووضعوها في هذه المساهمات، ويحصل ما هو معلوم إذ يربح بعض الناس ربحًا فاحشًا في يوم، ويخسر في غده خسارة فاحشة، فكان بالأمس يملك خمسمائة مليون ثم صار من الغد لا يملك خمسمائة ريال، وبعض الناس اختل عقله وبعضهم مات وبعضهم أصيب بجلطة، فهذا من البلاء ومن الفتن، حتى إن كثيرًا من المساهمين لا يصلي مع الجماعة فعيونه للشاشة ينظر متى ترتفع الأسعار ومتى تنخفض، ويستأذن في وقت العمل فيأتي وقت العمل وعيونه في الشاشة، فيفتن الإنسان بفتن كثيرة فتنة الشبهات وفتنة الشهوات وفتن الحروب التي لا يدرى فيها وجه الحق، وهذا مثلما استشهد المؤلف رحمه الله في أول الباب:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً
تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا
وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ
مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ»
فالدجال لا بد أن تسبقه سنون خداعة يُخَوّن فيها الأمين ويؤمن فيها الخائن، ويُكَذّب فيها الصادق ويُصَدّق فيها الكاذب، فهذه الأمور لا شك أنها من الفتن التي سبق أشراط الساعة الكبرى.
ولهذا لما سأل عمر حذيفة عن الفتن التي تموج كموج البحر قال: «ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابًا مغلقًا قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، قال عمر: إذًا لا يغلق أبدًا»، أي: قال: إذًا أحرى ألا يغلق؛ لأنه إذا كان يفتح بالمفتاح فإنه يغلق، لكن إذا كان يكسر فلا حيلة لأن يغلق، ومراد حذيفة أن الباب هو عمر، أي: قتل عمر، فلما قتل انفتح باب الفتن، وتولى بعده عثمان ثم قتل، ثم حصلت الحروب فهذه هي الفتن التي تموج كموج البحر.
وهذه هي المصيبة فالمصيبة هي التي تكون في الدين، وليست المصيبة في المال لأن المال سهل يروح ويأتي، فهذه الشبهات في هذه الآونة شبهات في الحروب، وكذلك شبهات في الأموال وفي المساهمات التي لا يسأل الناس عنها، فكثير منهم لا يبالي ولا يسأل عن الحق وهل هو مصيب أم لا؟ فيريد أن يكسب، والحلال ما حل بيده، والحرام ما عجز عنه فيقع في الإثم وإذا لم يكن عنده دراهم استأذن غيره في أن يساهم باسمه ويعطيه من الربح، فيأخذ اسما مستعارًا ويكون بينه وبين صاحب الاسم الربح مشاطرة على النصف أو غيره، فمن الذي أباح له هذا؟ هل استفتى أحدًا؟ هل سأل أحدًا؟ ومع ذلك لا يبالي فهو يسعى للكسب ولو بالمتشابه ولو من حرام وهذه من الفتن فتن الشهوات.
وهذا الباب تابع للفتن التي تموج كموج البحر، فقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم من هذه الفتن في الحروب بين علي وأهل العراق وبين معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، فالصحابة اختلفوا وصاروا ثلاثة أقسام: قسم انضم مع علي رضي الله عنه وقالوا: إنه الإمام الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد فيجب مناصرته، وهم جمهور الصحابة، وعملوا بقول الله تعالى: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، وهم على الصواب.
وقسم آخر وهم أهل الشام صاروا مع معاوية رضي الله عنه وطالبوا بدم عثمان رضي الله عنه، وهم مجتهدون ولكنهم لم يصيبوا.
وقسم ثالث وهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم اعتزلوا الفريقين فلم يدخلوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وعملوا بالأحاديث التي فيها القعود في الفتنة كحديث: «ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي»[(110)] وفيها: «يعمِد إلى سيفه فيدق على حده بحجر»[(111)] وهذا هو الذي أخذ به عثمان أيضًا، واستسلم للقتل ولم يدافع عن نفسه ومنع الصحابة وعبيده من الدفاع عنه، وكذلك أيضًا اجتهدت عائشة هي والزبير وطلحة رضي الله عنهم وجاءوا من الحجاز إلى البصرة يطالبون بدم عثمان حتى حصلت معركة الجمل، وكان هذا دون استشارة من الصحابة وأثارها المفسدون، وقتل خلق كثير تحت جمل عائشة رضي الله عنها، فهذه من الفتن أيضًا.
}7099{ قوله: «عَنْ أَبِي بَكْرَةَ» هو نفيع بن الحارث الصحابي الجليل رضي الله عنه «قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ» وذلك أن عائشة رضي الله عنها اجتهدت هي وطلحة والزبير رضي الله عنه وجاءوا يطالبون عليًا بدم عثمان رضي الله عنهما؛ لأنهم يعلمون أن عليًا رضي الله عنه هو الخليفة، وهو الذي بايعه أهل الحل والعقد، لكن هذا من الفتن والابتلاء، فلما جاءوا قال أبو بكرة رضي الله عنه ذلك، والجمل هو جمل عائشة رضي الله عنها الذي قتل تحته خلق كثير.
قوله: «لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى» ، أي: إن فارسًا لما قتل ملكُهم ولوا ابنته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» ، فاستدل أبو بكرة رضي الله عنه بهذا الحديث على أن عائشة رضي الله عنها مخطئة وغير مصيبة فيما جاءت إليه، وأنها لن تنجح في مهمتها؛ لأنها امرأة، وجاءت تقود طلحة والزبير، لكن هي ما جاءت تطلب ولاية، وإنما خرجت ومعها طلحة والزبير رضي الله عنهما، وجاءت للتفاهم مع علي رضي الله عنه في أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه، وقالوا: كيف نترك قتلة عثمان؟ فاجتهدت وأخطأت في ذلك مع فقهها، فهي أفقه امرأة رضي الله عنها وفضلها عظيم؛ فهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ومع ذلك غلطت وظنت أنها على الحق.
}7100{ هذا الأثر في قصة عائشة رضي الله عنها أيضًا وما حصل من إرسال علي رضي الله عنه عمارًا إلى البصرة بأخذ البيعة له.
قوله: «لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ» ، أي: لما ساروا للتفاهم مع علي للمطالبة بدم عثمان.
قوله: «بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ» ، أي: بعثهم إلى الكوفة.
قوله: «فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ» أي: عمار والحسن بن علي رضي الله عنهم، والكلام لأبي مريم عبدالله بن زياد الأسدي، «فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ» ، أي: صعد كل من عمار والحسن رضي الله عنهما المنبر والناس تحتهم، «فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، فِي أَعْلاَهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنْ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ:» ، أي: يقول للناس من أهل الكوفة «إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ» أي: سارت إلى البصرة مع طلحة والزبير رضي الله عنهما للتفاهم مع علي رضي الله عنه في أخذ قتلة عثمان، ولا تريد الولاية، وهي اجتهدت لكنها مخطئة؛ فهي امرأة، فما كان ينبغي لها رضي الله عنها هذا، وكان يمكنها أن تراسل عليًا رضي الله عنه مثلاً أو تكتفي بما سيعمله علي رضي الله عنه؛ لأنه رضي الله عنه معروف بالذكاء والديانة ومشهود له بالجنة وهو الخليفة الراشد ولا يخفى عليه هذا الأمر.
قوله: «وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاَكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ» أي: يقول: لا إشكال في أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وكونها أم المؤمنين رضي الله عنها، وكونها فاضلة وفقيهة وعالمة وورعة وزاهدة، ومن ذلك أنها لما حلفت ألا يدخل عليها عبدالله بن الزبير ـ وهي خالته ـ ثم تحايل ودخل عليها رأت أنها ما أوفت بنذرها فصارت تبكي كثيرًا إذا ذكرت نذرها، وأعتقت أربعين عبدًا من أجل النذر، وكانت تأتيها النقود والدراهم وهي صائمة فتوزعها في الحال ولا تبقي شيئًا للافطار، فقالت لها الجارية مرة: يا أم المؤمنين ما بقي شيء ما لك إفطار، فقالت لها رضي الله عنها: لو ذكرتيني لأبقيت شيئًا، والحاصل أنها اجتهدت ولكنها ليست معصومة، فليس أحد معصوما إلا الأنبياء فيما يبلغون عن الله، ومعصومون عن الشرك والكبائر، أما غيرهم فإنه يخطئ ولو كان من أفضل الناس، بل لو كان من الصحابة، لكنه إذا كان مجتهدًا فله أجر على اجتهاده، وإذا كان مصيبًا فله أجران.
فخروج عائشة ومعها طلحة والزبير ـ وهما من العشرة المشهود لهم بالجنة ـ ابتلاء من الله؛ ليعلم هل تطيعون ربكم في لزوم طاعة ولي الأمر ـ كما دلت على ذلك النصوص ـ وعدم الخروج على الخليفة الراشد الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد في المدينة، أو تطيعونها وطلحة والزبير في مخالفة ولي الأمر وخروجها على علي ومجيئها عن اجتهاد للمطالبة بدم عثمان، وهي بذلك لم تخرج عن الإسلام فهي زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ولكنها خرجت عن اجتهاد للتفاهم مع علي رضي الله عنه وأخذ قتلة عثمان، وهذا إلى ولي الأمر ليس إليها، فهي مجتهدة مخطئة وكذلك طلحة والزبير فلهما أجر الاجتهاد، والصواب مع علي رضي الله عنه ومن معه من الصحابة.
وحصلت وقعة الجمل على غير اختيار من عائشة، وأثار ذلك أهل الشر والفساد والخوارج حتى قُتل خلق كثير تحت جملها، كما أن معاوية رضي الله عنه وأهل الشام مجتهدون أيضًا في الخروج على علي وعدم مبايعته؛ لأنهم يطالبون بدم عثمان فحصلت وقعة صفين، وكانت حربًا ضروسًا بين أهل الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه وأهل العراق بقيادة علي رضي الله عنه، وكانت بعد وقعة الجمل، ولمعاوية ومن معه أجر على اجتهادهم لكنهم مخطئون، والصواب مع علي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: «تقتله الفئة الباغية»[(112)] فقتله جيش معاوية، وكان أهل الشام بغاة لكن لا يعلمون أنهم بغاة، بل يعتقدون أنهم مصيبون وأنهم على الحق، وكان علي رضي الله عنه قد بويع له بالخلافة سنة خمس وثلاثين فقتله الخوارج بعد خمس سنين، ثم بويع لابنه الحسن بن علي فسار بجيش عظيم مكون من كتائب عظيمة إلى معاوية رضي الله عنه حتى أرهب أهل الشام، ثم تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه حقنا لدماء المسلمين بشروط اتفق عليها مع معاوية، وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»[(113)] وفي هذا الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون الطائفتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الإسلام للطائفتين فقال: «من المسلمين» ، والفئتان: هما فئة أهل الشام وفئة أهل العراق، وتمت البيعة لمعاوية رضي الله عنه سنة إحدى وأربعين من الهجرة وسمي ذلك العام «عام الجماعة» لاجتماع الناس على معاوية، وزال الخلاف وبايعه الذين توقفوا عن القتال، فبايعه ابن عمر وأبناؤه وغيرهم، وكان ابن عمر قد اعتزل الناس أولاً، ثم بعد ذلك بايع معاوية.
}7101{ قوله: «قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَذَكَرَ عَائِشَةَ، وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ: إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذا طرف من الحديث الذي قبله، وأراد البخاري بإيراده تقوية حديث أبي مريم لكونه مما انفرد به عنه أبو حصين، وقد رواه أيضًا عن الحكم شعبة، وأخرجه الإسماعيلي، وزاد في أوله، قال: «لما بعث علي عمارًا والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمار» فذكره، قال ابن هبيرة: في هذا الحديث أن عمارًا كان صادق اللهجة، وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب. انتهى».
}7102{ قوله: «حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ» المُحبَّر: على وزن اسم المفعول.
قوله: «دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ» أبو موسى: هو الأشعري رضي الله عنه، والثلاثة كلهم صحابة رضي الله عنهم لكنهم اختلفوا في الاجتهاد، فلأبي موسى وأبي مسعود رضي الله عنهما اجتهاد يخالف اجتهاد عمار رضي الله عنه في الدخول في نفس القتال.
قوله: «حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ» ، أي: بعث علي عمارًا رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم ويحثهم على الدخول في طاعة علي رضي الله عنه.
قوله: «فَقَالاَ:» ، أي: قال أبو مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما لعمار رضي الله عنه.
قوله: «مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَْمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ» . المراد بهذا الأمر دخوله في القتال مع علي، فأبو موسى وأبو مسعود يقولان له ويخاطبانه به: إن الشيء الذي نكرهه منك منذ أسلمت وأشد شيء علينا كونك تدخل في هذا القتال وتقاتل.
قوله: «فَقَالَ: عَمَّارٌ مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأَْمْرِ» ، أي: قال لهم عمار رضي الله عنه: وأنا أيضًا الشيء الذي أكرهه منكما كراهة شديدة منذ أسلمتما إحجامكما وعدم دخولكما مع علي رضي الله عنه، وعدم القتال معه، فالاجتهاد مختلف، فهم على طرفي نقيض، فعمار رضي الله عنه يرى أن عدم دخول أبي موسى وأبي مسعود رضي الله عنهما في القتال أمر مكروه شديد الكراهة لا أكرَه منه منذ أسلما، وهما يريان أن دخول عمار مع علي رضي الله عنهما في القتال أمر مكروه شديد الكراهة لا يريان شيئًا أشد منه منذ أسلم، فهذا فيه بيان اختلاف الاجتهاد، فعمار رضي الله عنه يرى أن خروجه مع علي رضي الله عنه، وانضمامه إليه نصرة للحق؛ لأنه ولي الأمر والخليفة الراشد الذي تجب طاعته وأن من خرج عليه فإنه باغ يجب قتاله عملا بالآية: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}؛ وأما أبو موسى وأبو مسعود رضي الله عنهما فيريان عدم الدخول في هذا الأمر وترك مباشرة القتال في الفتنة فقالوا: هذا قتال فتنة، وتمسكا بالأحاديث الواردة في ذلك والتي فيها الوعيد على حمل السلاح على المسلم واستدلوا بحديث: «من حمل علينا السلاح فليس منا»[(114)] وحديث: «ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي»[(115)] فهذا متمسك أبي مسعود وأبي موسى وكل له اجتهاده، لكن الصواب مع عمار رضي الله عنه.
قوله: «وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ» ، أي: إن أبو مسعود هو الذي كسا كل واحد منهما حلة مع كونهما اختلفا معه في الاجتهاد، لكن ما أدى هذا الاختلاف إلى البغضاء ولا إلى العداوة وذهبوا إلى المسجد جميعاً.
}7105{، }7106{، }7107{ قوله: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَمَّارٍ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ:» ، أي: يخاطب عمارًا «مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ فِيهِ غَيْرَكَ» ، أي: تكلمت فيه إلا أنت لا أقول فيك شيئًا، «وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ اسْتِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَْمْرِ» ، يعني: الدخول مع علي والقتال معه، «قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ وَلاَ مِنْ صَاحِبِكَ هَذَا» ، يعني: أبا موسى «شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتُمَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا فِي هَذَا الأَْمْرِ» ، يعني: كونكما تأخرتما عن هذا الدخول، «فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلاَمُ هَاتِ حُلَّتَيْنِ فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأُْخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ» ، أي: أعطى كل واحد منهما حلة ـ والحلة مكونة من إزار ورداء؛ ليبين أنه وإن اختلفا في الرأي فليس بينهما عداوة ولا حزازة ولا بغضاء، فكل منهما مجتهد، واختلافهم ليس عن عداوة ولا عن بغضاء وإنما عن اجتهاد، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون ولكن لا يتعادون رضي الله عنهم؛ ولهذا كسا عمارًا رضي الله عنه وهو مخالف له في الرأي حلة، وكسا زميله أبا موسى رضي الله عنه وهو موافق له في الرأي حلة، «وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ» ، أي: صليا فيها الجمعة؛ لأن الجمعة يستحب فيها أن يلبس المسلم أحسن ما يجد من الثياب.
وكما سبق فإن الصواب مع عمار رضي الله عنه وهو رأي الجمهور، وقد جعل عمار وأبو مسعود وأبو موسى رضي الله عنهم الإبطاء أو الإسراع عيبًا بالنسبة لما يعتقده كل واحد منهم، فعمار يرى أن الإبطاء وعدم الدخول فيه مخالفة للإمام وترك لامتثال قول الله تعالى: [الحُجرَات: 9]{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} والآخران ظهر لهما ترك مباشرة القتال في الفتنة، ولكن هذا الخلاف لم يؤثر عليهما في المودة ولا المحبة ولا الأخوة؛ ولهذا كسا أبو مسعود رضي الله عنه صاحبيه عمارًا وأبا موسى رضي الله عنهما حلتين وذهب وكل منهما يوالي الآخر ولا يعاديه رضي الله عنه، بخلاف بعض المختلفين فإن بعض الناس إذا خالف غيره في الرأي صار يعاديه ويسبه ويشتمه بل ربما يعمل المكائد لإيذائه، وهذا غلط فكل منهما عنده دليل وإن كان أحدهما مصيبًا والآخر مخطئًا.
إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا
}7108{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ».
قوله: «بَاب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابً» ؛ لم يذكر المؤلف رحمه الله الجواب وحذفه مع أنه الحكم اكتفاء بما وقع في الحديث، والمعنى إذا أنزل الله على قوم عذابًا أصاب العذاب الجميع الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم.
}7108{ قوله: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» ؛ فيه: دليل على أن العقوبات إذا نزلت عمت الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم يوم القيامة، ففي الدنيا يعم العذاب الجميع، فأما الطالح فيكون عقوبة له، وأما الصالح فيكون تمحيصًا لذنوبه ورفعة لدرجاته.
وما دل عليه هذا الحديث دلت عليه نصوص أخرى كثيرة: منها:
1- قول الله تعالى: [الأنفَال: 25]{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} فدلت هذه الآية على أن العقوبات قد تعم فلا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيبهم وغيرهم معهم.
2- حديث البخاري الذي سبق في أول «كتاب الفتن» ، وهو ما روته زينب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ مرة محمر الوجه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب» ، فقالت زينب رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»[(116)] والخبث: المعاصي، فإذا كثر الخبث جاءت العقوبات، وعمت الصالح والطالح.
3- الحديث الذي رواه الشيخان: «يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» قالوا: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ يعني: يتبع الجيش من ليس منهم ومن ليس له قصد ذلك؛ فيتبعه الخدم ومن مراده البيع والشراء، قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم»[(117)] .
4- الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[(118)] .
5- ما حصل لأصحاب السبت الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف لما فعلت طائفة المعصية، فقد حرم الله عليهم اصطياد الحوت يوم السبت فتحيلوا ونصبوا الشباك يوم الجمعة فتصيد يوم السبت، ليأخذوها يوم الأحد، فأنكرت عليهم طائفة وسكتت طائفة وجاء العذاب، فالطائفة التي أنكرت اعتزلتهم وسلمت من العقوبة، والطائفة التي سكتت سكت الله عنها، والطائفة التي فعلت المنكر مسخت قردة وخنازير، قال الله تعالى: [الأعرَاف: 163-164]{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *}، أي: قالت الطائفة الساكتة لهذه الطائفة المنكرة: كيف تعظونهم؟! إنهم قوم سيهلكون، فقالت الطائفة المنكرة كما ذكر الله: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، أي: نخرج بعذر إلى الله، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، فنجَّى الله الناهين، [الأعرَاف: 165]{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *}، وسكت الله عن الساكتين.
6- حديث البخاري: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها» ، يعني: أن السفينة مكونة من طابقين وكل طائفة سكنت في طابق، فكان الذين في الطابق الأسفل إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ونأخذ منه الماء ولم نؤذ من فوقنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن هم أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن هم تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا»[(119)] أي: إذا تركوهم يخرقون دخل الماء فغرق أهل الدور الأول وأهل الدور الثاني، وإذا أخذوا على أيديهم ومنعوهم سلموا وسلم الجميع، فكذلك من يفعل المنكرات والمعاصي، إذا أخذ الناس على يديه ومنعوه سلموا من العقوبات، وإذا سكتوا جاءت العقوبات وعمت الصالح والطالح.
وقد ذكر الحافظ الحديث الذي فيه أنه يخسف بالجيش ثم قال: «وقال الداودي: معنى حديث ابن عمر أن الأمم التي تعذب على الكفر يكون بينهم أهل أسواقهم ومن ليس منهم فيصاب جميعهم بآجالهم ثم يبعثون على أعمالهم، ويقال: إذا أراد الله عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا لئلا يصاب الولدان الذين لم يجر عليهم القلم، انتهى».
وأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا فقال: «وهذا ليس له أصل، وعموم حديث عائشة يرده، وقد شوهدت السفينة ملأى من الرجال والنساء والأطفال تغرق فيهلكون جميعًا، ومثله الدار الكبيرة تحرق، والرفقة الكثيرة تخرج عليها قطاع الطريق فيهلكون جميعًا أو أكثرهم، والبلد من بلاد المسلمين يهجمها الكفار فيبذلون السيف في أهلها، وقد وقع ذلك من الخوارج قديمًا ثم من القرامطة ثم من الططر[(120)] ـ يعني: التتار ـ أخيرًا والله المستعان».
وذكر ابن حجر أيضًا رحمه الله نقلاً عن ابن أبي جمرة أن من أمر ونهى فهم المؤمنون حقًّا، لا يرسل الله عليهم العذاب بل يدفع بهم العذاب.
ثم قال رحمه الله: «ويؤيده قوله تعالى: [القَصَص: 59]{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ *}، وقوله تعالى: [الأنفَال: 33]{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *}، ويدل على تعميم العذاب لمن لم ينه عن المنكر وإن لم يتعاطه قوله تعالى: [النِّسَاء: 140]{فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}، ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود؛ وأما بعثهم على أعمالهم فحكم عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرًا؛ لما قدموه من عمل سيئ فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم، فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن؟ فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قلت: ومقتضى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبي».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وما قدمناه قريبًا أشبه بظاهر الحديث»، والصواب أنهم قد يصابون ويدل عليه حديث زينب: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»[(121)] وفي مسألة حلول العذاب قولان:
القول الأول: أن الله ينجي الذين ينهون عن السوء.
القول الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يصيب كذلك الذين ينهون عن السوء، ثم يبعثهم الله على نياتهم.
والأقرب والأرجح ـ والله أعلم ـ أنه إذا كان المنكرون قد اعتزلوهم وابتعدوا عنهم فإنهم يسلمون كما في قصة أصحاب السبت، فإنهم اعتزلوهم وابتعدوا عنهم؛ لأن من شرط الإنكار إذا لم يزل أن تعتزل وتبتعد عنه، لا أن تجلس مع أصحاب المنكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل على المنكر فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما كنت تفعل، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم لعنهم على لسان أنبيائهم»[(122)] فمن أنكر واعتزل سلم، فالذين ينكرون ينجيهم الله، ومن بقي بينهم فجاءت العقوبة فإنها تعمه.
وقد دلت النصوص الأخرى على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الآمر والناهي يسلم من العقوبة إذا أنزل الله بقوم عذابًا وأصاب الجميع، ونزول العذاب سببه فشو المنكرات وعدم إنكارها، لكن من أنكروا المنكر سلموا.
وإنكار المنكر وتغييره ـ كما سبق ـ يكون باليد وباللسان وبالقلب، والإنكار باللسان فيه فائدة، فمثلاً: رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يأمرون وينهون، هؤلاء يدفع الله بهم العذاب، وكذلك المحتسبون من الشباب وغيرهم الذين ينكرون ويُبَلّغون أهل العلم ما حصل من المنكرات من بعض الناس في الصحف وفي غيرها، فهذا إنكار باللسان فهو في حد ذاته إنكار ولو لم يزل المنكر فليس بشرط أن يزول، بل المهم أن يُنكر ويشيع بين الناس إنكاره ويتضح أن هذا منكر ويعرف الناس إنكاره، ويبلغ ولاة الأمور على حسب الطاقة والإمكان.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ:
«إِنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»
}7109{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى، وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ، وَجَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ. قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لاَ تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ».
}7110{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو: قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الآْنَ فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ: لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الأَْسَدِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ، فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي.
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»» . هذه الترجمة على لفظ الحديث.
وهذا الحديث: دليل من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من أعلامها حيث وقع ما أخبر، فقد أصلح الله بالحسن بين فئتين عظيمتين من المسلمين وهم فئة أهل الشام وفئة أهل العراق، وتحقق فيه ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من علامات النبوة ودلائلها وأنه نبي الله حقًّا.
وفيه أيضا من الفوائد: الدليل على أن كلاً من الطائفتين المتقاتلتين على الإسلام، وأن القتال لا يخرجهم عن الإسلام؛ لأنهم مجتهدون، فطائفة اجتهدت وأصابت فلها أجران وهم علي ومن معه، وطائفة اجتهدت وأخطأت فلها أجر واحد وفاتها أجر الصواب وهم معاوية رضي الله عنه وأهل الشام.
}7109{ قوله: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» : هو المديني شيخ البخاري.
قوله: «حَدَّثَنَا سُفْيَانُ» وهو سفيان بن عيينة.
قوله: «حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى» ، القائل: سفيان بن عيينة، وأبو موسى كنية إسرائيل، «وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ» ، أي: لقيت إسرائيل، «وَجَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ» هو عبدالله قاضي الكوفة في خلافة أبي جعفر المنصور، والمراد أن سفيان ابن عيينة يقول: ولقيت أبا موسى بالكوفة حينما جاء إلى ابن شبرمة وهو قاضي الكوفة لأبي جعفر المنصور في خلافته.
قوله: «أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ» ، يعني: قال أبو موسى لابن شبرمة القاضي: أدخلني على عيسى، وعيسى هذا هو عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس ابن أخي المنصور، وكان هو الأمير على الكوفة إذ ذاك، فقال: استئذن لي عليه؛ لأنه لا يُدخل على الأمير إلا بالاستئذان لوجود الحُجَّاب، والقاضي له وجاهة فيقول: أنت القاضي ابن شبرمة قاضي البلد -أي: الكوفة- فاستئذن لي على الأمير عيسى حتى أدخل عليه فأعظه.
قوله: «فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ» ، أي: أن ابن شبرمة خاف على إسرائيل فلم يفعل، ولم يُدخله على عيسى بن موسى، وخشي أن يغلظ إسرائيل عليه في القول فيبطش به الأمير؛ لأنه شاب وعنده بعض الغرور بنفسه فإذا لم يتلطف معه بطش به.
قال ابن بطال: «دل ذلك من صنيع ابن شبرمة على أن من خاف على نفسه سقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب مع القدرة فإذا خشي على نفسه وكان الخوف محققا أو غلب على الظن أو ناله ضرر في بدنه أو ماله أو دينه سقط عنه الأمر والنهي، فهذا عذر له وينتقل إلى المرتبة التي بعده، فإذا كان لا يستطيع الإنكار باللسان فإنه ينكر بالقلب، وهو أن يكره المنكر ويفارق أهله وتظهر علامات الإنكار عليه ولا يجالس أهله.
قوله: «قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ» ، القائل: «حَدَّثَنَا» هو إسرائيل، والحسن هو البصري «قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ» ، وهذا بعد قتل أبيه علي؛ لأنه لما قتل الخوارج عليًّا رضي الله عنه بايع الناس الحسن بن علي بالخلافة، وكانت مدة خلافته ستة أشهر، وسار الحسن رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه بالكتائب، والكتائب: جمع كتيبة على وزن عظيمة، وهي طائفة من الجيش تجتمع، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وسميت كتيبة؛ لأن أمير الجيش إذا رتبهم وجعل كل طائفة على حدة كتبهم وسجلهم في ديوانه، فسار الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية رضي الله عنه بهذا الجيش العظيم العرمرم الذي قد يسحق أهل الشام لكن ما أراد الخلافة بل نتنازل عن الخلافة والمُلك حقنًا لدماء المسلمين واشترط الشروط لتحقن دماء المسلمين وتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ:» وكان عمرو مع معاوية رضي الله عنهما «أَرَى كَتِيبَةً لاَ تُوَلِّي» ، أي: لا تدبر «حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا» ، أي: التي تقاتلها ونسبها إليها لمشاركتها المحاربة، يعني: أرى جيشًا عظيمًا لا يُدْبر حتى يفني أحدهما الآخر.
قوله: «قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟» يعني: من الذي يكفل ذراريهم إذا قتلوا يريد حقن الدماء؟ وهذا فيه: فضل معاوية رضي الله عنه وعنايته بالجيش وعنايته بالمسلمين بلاف بعض الناس ممن يسب معاوية وينتقص منه مع ما ثبت من فضله ومنزلته رضي الله عنه وهذه منزلته العظيمة.
قوله: «فَقَالَ: أَنَا» ، ظاهره يوهم أن المجيب هو عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «إن كانت محفوظة فلعلها كانت «فقال: أنَّى» بتشديد النون المفتوحة قالها عمرو رضي الله عنه على سبيل الاستبعاد».
قوله: «فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ» أي: يقولان لمعاوية: نلقى الحسن ونشير عليه بالصلح فلعله يقبله فلا يكون هناك قتال.
قوله: «قَالَ الْحَسَنُ:» هو البصري، وهو موصول بالسند المتقدم، «وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ:» فيه: أن الحسن البصري سمع من أبي بكرة «بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» ، يعني: الحسن «وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» فقد تحقق ما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم وصار في هذا علم من أعلام النبوة، فتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه على شروط قبلها معاوية رضي الله عنه؛ حقنًا لدماء المسلمين، ووضعت الحرب أوزارها، وبويع لمعاوية بالخلافة، وتمت له البيعة، وسمي العام عام الجماعة، وكان عام أربعين من الهجرة واستتب الامر فلما استتب الامر جاء الذين توقعوا ابن عمر وأولاده فلما تمت البيعة لمعاوية ذهب وأولاده وبايعوا معاوية.
}7110{ قوله: «حَدَّثَنَا سُفْيَانُ» ـ هو ابن عيينة ـ «قَالَ: قَالَ عَمْرٌو:» ، أي: ابن دينار «أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ» ، أي: محمد بن علي بن الحسين بن علي وهو أبو جعفر الباقر «أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو:» ، أي: ابن دينار «قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ» ، أي: قال حرملة مولى أسامة بن زيد: أرسلني مولاي أسامة من المدينة إلى علي بالكوفة «وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الآْنَ فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟» أي: أسامة، فقد هيأ أسامة مولاه اعتذارًا عن تخلفه فقال: إنه يقول لك: ما الذي خلفه عن الدخول معنا فلم يشارك معنا في القتال؟ لأن أسامة من الذين اعتزلوا الفريقين ولم يشارك في القتال لا مع علي ولا مع معاوية، هو وابن عمر وسلمة بن الأكوع وأبو بكرة وجماعة آخرون اعتزلوا الفريقين ولم يروا الدخول فيها، وأسامة قد انتفع بأمر حدث له، وذلك أنه لما قاتل رجلاً في بعض الغزوات فقال الرجل: لا إله إلا الله فقتله أسامة شدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «قتلته بعدما قال: لا إله إلا الله!»[(123)] فانتفع أسامة بهذه الموعظة ولم يدخل بعد ذلك في معركة.
قوله: «فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ: لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الأَْسَدِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ» ، أي: قل يا حرملة لعلي: إن أسامة رضي الله عنه يقول لك: إني أحبك وأواليك وأنصرك حتى لو دخلت في فم الأسد لأحببت أن أكون معك ولدخلت معك من حبي لك «وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ» ، الإشارة إلى القتال والدخول معه في حروبه، أي: لا يراه، فهو رضي الله عنه يرى ما يراه أبو بكرة وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم من عدم الدخول في هذا القتال، يعني: فاعذرني في هذا فهو يقول بخلافته ويواليه وينصره ويؤيده لكن لا يرى الدخول في القتال والدماء.
قوله: «فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا» أي: يقول حرملة: لم يعطني علي رضي الله عنه شيئا، ولم يذكر مضمون الرسالة «فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي» ، أي: ملؤوا راحلتي من الشيء الذي يطلبه.
وإرسال أسامة مولاه حرملة إلى علي قال عنه الحافظ: «كان أرسله يسأل عليًا شيئًا من المال»، قلت: وهذا الذي قاله الحافظ بأن أسامة أرسله يسأل عليًا شيئًا من المال ليس بجيد؛ لأن المقام ليس مقام سؤال المال، والصواب: ما قاله ابن بطال أنه أرسله ليعتذر عن تخلفه عنه في حروبه، ويعلمه أنه من أحب الناس إليه وأنه يحب مشاركته في السراء والضراء إلا أنه لا يرى الانضمام مع علي في حروبه لأنه لا يرى قتال المسلم.
قال الحافظ ابن حجر «قال ابن بطال: أرسل أسامة إلى علي يعتذر عن تخلفه عنه في حروبه ويعلمه أنه من أحب الناس إليه وأنه يحب مشاركته في السراء والضراء إلا أنه لا يرى قتال المسلم» وكلام ابن بطال هذا كلام جيد.
لكن مما يؤيد كلام الحافظ أنه قال: «فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي» ، أي: ملؤوها، فهذا قد يؤيد أنه يطلب شيئًا من المال فأعطاه هؤلاء، وقد يقال: إنه يطلب شيئا ولم يبين، ثم لما ذهب إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما أعطوه المال وإن كان لم يأت لطلب المال.
ونقل الحافظ عن ابن بطال: «سلّمَ الحسنُ لمعاوية رضي الله عنهما الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ودخل معاوية رضي الله عنه الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب، وبايع معاويةَ رضي الله عنه كل من كان معتزلا للقتال، كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم» فكل هؤلاء بايعوه لما انتهت الحرب.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وأجاز معاويةُ الحسنَ رضي الله عنهما بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدًا ومائة جمل»، أي: بعد أن تنازل عن الخلافة.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وانصرف إلى المدينة، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، والبصرة عبدالله بن عامر، ورجع إلى دمشق».
وذكر أيضًا: «أن معاوية رضي الله عنه لما أرسل للحسن بن علي رضي الله عنه عبدالله بن عامر وعبدالرحمن بن سمرة قال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه ما شاء من المال، وقولا له في حقن دماء المسلمين بالصلح، واطلبا منه خلع نفسه من الخلافة وتسليم الأمر لمعاوية رضي الله عنه وابذلا له في مقابلة ذلك ما شاء، قال: فقال لهم الحسن بن علي رضي الله عنه: إنا بنو المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا يعني: معاوية رضي الله عنه، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فما سألهما شيئًا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه».
قال ابن بطال: «هذا يدل على أن معاوية رضي الله عنه كان هو الراغب في الصلح، وأنه عرض على الحسن رضي الله عنه المال، ورغَّبه فيه، وحثَّه على رفع السيف، وذكَّره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به، فقال له الحسن رضي الله عنه: إنا بنو عبدالمطلب أصبنا من هذا المال، أي: إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالي، وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا عادة».
وذكر ابن حجر رحمه الله من فوائد هذه الحديث:
1- أن فيه علمًا من أعلام النبوة.
2- منقبة للحسن بن علي؛ فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فرأى أمر الدين ومصلحة الأمة.
3- رد على الخوارج الذي يكفرون عليا ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين، ومن ثم كان سفيان بن عيينة يقول عقب هذا الحديث قوله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» يعجبنا جدا؛ لأنه فيه: رد على الخوارج الذين يكفرون الطائفتين.
4- فضيلة الإصلاح بين الناس، ولا سيما في حقن دماء المسلمين، والدلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب.
5- دليل على ولاية المفضول بالخلافة مع وجود الأفضل؛ لأن الحسن ومعاوية رضي الله عنهما ولي كل منهما الخلافة، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد رضي الله عنهما في الحياة وهما بدريان.
6- جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين.
7- النزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال، فيجوز أخذ المال على ذلك.
8- ذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية؛ ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليًا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء، بل يقولون: اجتهدوا فأخطؤوا، وذهبت طائفة قليلة من أهل السنة ـ وهو قول كثير من المعتزلة ـ إلى أن كلاً من الطائفتين مصيب وهذا خطأ، والصواب أن المصيب واحد.
إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلاَفِهِ
}7111{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا، أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَْمْرِ إِلاَّ كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
}7112{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ أَلاَ تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟ فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلاَلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإِْسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا.
}7113{ حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَْحْدَبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ.
}7114{ حَدَّثَنَا خَلاَّد،ٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِْيمَانِ.
قوله: «بَاب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلاَفِهِ» هذه الترجمة معقودة لبيان نوع من النفاق، ونوع من الغدر، ونوع من الفتن بأن يفتن الإنسان في الدين فيخالف ظاهره باطنه، فيقول قولاً عن إنسان ثم إذا خرج قال بخلافه، كالذين يأتون الأمراء والملوك والرؤساء ويثنون عليهم فيدخل على الأمير ويثني عليه ويقول أنت ملك عادل أنت رئيس عادل والناس كلهم يمدحونك، ثم إذا خرجوا سبوهم وتكلموا في أعراضهم هو ظالم وهو كذا، فهذا نوع من النفاق، ونوع من الغدر، وهو من الفتن، وهذا هو مناسبة الباب للفتن، وكما سبق فإن الإنسان قد يفتن بشيء من الشبهات أو الشهوات أو الحروب فيزيغ عن الحق، ومن الزيغ عن الحق ومن النفاق ومن الغدر: أن يأتي إليك إنسان ويتكلم ويثني عليك، ثم إذا خرج من عندك اغتابك وقال بخلاف ما قال لك، فيقول في وجهك قولاً وفي غيبتك قولاً آخر، أو أن يدخل على الأمير ويثني عليه ويمدحه فإذا خرج سبه، أو أن يبايع الأمير ثم إذا خرج خلعه وغدر أو زاد بأن يألّب الناس على الأمير، فهذه الأمور من الفتن.
}7111{ قوله: «لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ» أي: أهله وخدمه ومن يغضب له، والحشمة في الأصل: العصبة، يعني: جمع أولاده ومحبيه ونصحهم ألا يشاركوا أهل المدينة في خلع ولي الأمر؛ وذلك أن أهل المدينة نقموا على يزيد بن معاوية أشياء فخلعوه وأعدوا جيشًا لقتاله؛ فأنكر ابن عمر عليهم ذلك، وقال: هذا من الغدر، أبالأمس تبايعونه واليوم تخلعونه؟! وجمع بنيه وحشمه ومن يقبل قوله فنهاهم أشد النهي عن مشاركة أهل المدينة في خلع يزيد، وقال: إن هذا من الغدر ومن الخيانة.
قوله: «إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الغدر: هو أن يعطيك الإنسان عهدًا وكلامًا ثم إذا انصرف عنك وقد نكث العهد وقال بخلافه، وفي لفظ آخر: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه»[(124)] والاست: المقعدة، فينصب لكل غادر عند مقعدته لواء فتكون فضيحة له أمام الناس على رؤوس الأشهاد.
قوله: «وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» المراد بالرجل: يزيد بن معاوية، وكان قد بويع له بالخلافة يوم مات أبوه معاوية رضي الله عنه سنة ستين من الهجرة.
قوله: «وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا، أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ» ، أي: كيف يبايع أميرٌ أو خليفة أو ولي الأمر على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له المبايِع قتالا فيقاتله ويغدر؟
قوله: «وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَْمْرِ إِلاَّ كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» نصح ابن عمر رضي الله عنهما بنيه وحشمه وحذرهم أشد التحذير، وأبلغهم أن الذي يشارك ويغدر لا يكلمه ولا يجلس معه، فمن شارك وغدر فسيكون هذا فاصلاً بينه وبينه وليس مني ولست منه.
وقد خلع أهلُ المدينة يزيدَ؛ لأنهم نقموا عليه أشياء، وقطعوا جيشًا وسرية لقتاله، وجعلوا على المهاجرين أميرًا، وعلى الأنصار أميرًا، فلما علم يزيد بن معاوية أرسل إليهم جيشًا من الشام بقيادة مسلم بن عقبة، وقال له يزيد: فاوضهم فإن استجابوا فالحمد لله، وإلا فقاتلهم واستبح المدينة ثلاثة أيام، فجاء وفاوضهم فاستمروا على ما هم عليه ولم يقبلوا، فقاتلهم ودخلت قطعة من الجيش من الخلف، فسمعوا لهم صوتًا فخافوا على أولادهم، فذهبوا فانهزموا فاستباح المدينة ثلاثة أيام، كلٌّ يفعل ما يشاء من سرقة وقتل وغير ذلك، فهذا من شؤم وآثار الخروج على ولاة الأمور والمعاصي والظلم فلو صبروا على ظلمه لكان أقل فساداً، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج على ولاة الأمور وبيَّن أن من خرج عن الإمام شبرًا فمات فميتته ميتة جاهلية فقال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته ميتة جاهلية»[(125)] فدل على أن هذا من الكبائر، والمنكر لا يُزال بمنكر أعظم منه، بل إن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكر أعظم منه فلا ينكر، فالمنكر الذي فعله يزيد من المعاصي لا يُزال بالخروج عليه، فمن فقه الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما أنه نصح بنيه وحشمه ألا يشاركوا في هذا الأمر.
}7112{ ذكر المؤلف رحمه الله أثر أبي المنهال وذهابه مع أبيه إلى أبي برزة الأسلمي الصحابي الجليل وسؤاله عما حصل من قتال عبدالله بن الزبير، ومن قتال القراء وقتال مروان بن الحكم بالشام، وكان مروان بن الحكم دعا لنفسه بالخلافة، وكان عبدالله بن الزبير قبل ذلك دعا لنفسه بالخلافة لما مات يزيد بن معاوية، وفي وقت ليس للناس فيه إمام، فبايعه أهل الحجاز: مكة والطائف والمدينة، وكذلك أهل العراق واليمن، ولم يبق من الشام إلا بلدة واحدة امتنع أهلها، وأراد مروان أن يذهب إلى عبدالله بن الزبير ليبايعه فمنعه قومه، ودعا لنفسه بالشام، ثم جعل يأخذ بلدة بلدة حتى أخذ الشام، ثم لما توفي مروان خلفه ابنه عبدالملك استولى على العراق وولىّ عليها الحجاج بن يوسف، وعهد إليه بقتال عبدالله بن الزبير، فجعل يقاتل عبدالله بن الزبير ويرسل إليه الجيوش من العراق إلى مكة، وجعل يضرب الكعبة بالمنجنيق حتى قتل عبدالله بن الزبير وصلبه على خشبة ثلاثة أيام عام ثلاث وسبعين.
قوله: «لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ» ، أي: لما كان عبيدالله بن زياد أميرًا بالبصرة ليزيد بن معاوية «وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ» ؛ مروان: هو الخليفة، «وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ» ، يعني: تولى على مكة وما حولها، «وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ» ، قيل: المراد بالقراء: الخوارج، وقيل: المراد بهم الذين بايعوا على قتال من قتل الحسين لما غُدر به أهل العراق، فبايع جماعة بقيادة سليمان بن صرد رضي الله عنه على قتال من قتل الحسين، وكان سليمان بن صرد رضي الله عنه مجيدًا للقراءة، وهذا أقرب، فسموا قُرّاء؛ لأن قائدهم قارئ.
فمروان بالشام دعا لنفسه، وعبدالله بن الزبير أميرًا على الحجاز، والقراء عقدوا جيشًا بقيادة سليمان بن صرد رضي الله عنه، فذهب أبو المنهال مع أبيه إلى أبي برزة الأسلمي وسألوه عن هذه الأحوال وهذه الفتن من المصيب فيها؟
قوله: «فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ» ، يعني: غرفة مشرفة، «مِنْ قَصَبٍ» ، أي: نوع من أنواع الخشب.
قوله: «فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ» ؛ القائل هو أبو المنهال، والمعنى: يستفتح الحديث، ويطلب منه أن يحدثه.
قوله: «يَا أَبَا بَرْزَةَ أَلاَ تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟» ، أي: من الفتن، حروب في الحجاز، وحروب في الشام، وحروب في العراق، ما رأيك؟ قال: «فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ» ، يعني: أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه «إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ» يقول: أحتسب وأرجو الثواب من الله أني أصبحت ساخطًا عليهم، ومنكرًا لأفعالهم بسبب تغييرهم وتبديلهم «إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلاَلَةِ» يعني: في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا قيمة لهم ولا وزن، وليس بأيديهم قوة وليس عندهم ملك «وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإِْسْلاَمِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ» ، أي: أعزكم الله به، ثم بعد ذلك أنتم تتقاتلون وتتحاربون على الدنيا التي تفسد الأديان بطلب المال وطلب الرئاسة وطلب العلو.
قوله: «إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا» ، يريد أبو برزة رضي الله عنه بالذي بالشام: مروان بن الحكم حينما دعا لنفسه بالخلافة أنه لا يقاتل إلا على الدنيا ومن أجل الرئاسة، إذًا فقتالهم فتنة ولا يجب مشاركتهم، فكلهم يقاتلون على الدنيا والرئاسة، فمروان بن الحكم يقاتل على الدنيا بالشام، وعبدالله بن الزبير يقاتل على الدنيا حتى يحصل على الرئاسة، والقراء أيضًا يقاتلون على الدنيا.
وهذا الذي قاله أبو برزة رضي الله عنه اجتهاد منه؛ لأنه يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في شيء من قتال المسلمين، ولاسيما إذا كان ذلك في طلب الملك، لكن الصواب أن عبدالله بن الزبير لا يقاتل على الدنيا والحق معه، وهو صحابي جليل بويع له بالخلافة في الحجاز والعراق والشام بعد موت يزيد بن معاوية سنة خمس وستين من الهجرة، وكادت تتم له البيعة على جميع الأقطار، ولم يبق إلا الشام، فصار بذلك وليًّا لأمر المسلمين، تجب طاعته، ويحرم الخروج عليه، وتمت له البيعة من أهل الحل والعقد.
ثم خرج عليه مروان بن الحكم بالشام، ولما خرج عليه بايعه بنو أمية بعد أن هم بالذهاب إلى عبدالله بن الزبير ومبايعته، فمنعه قومه، ثم مات مروان وعهد بالأمر والخلافة إلى ابنه عبدالملك، ثم جعل أميره على العراق الحجاج بن يوسف فقاتل عبدالملك بن مروان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما بأن أمّر على الجيش الحجاج بن يوسف، بعد أن أخذ العراق من عبدالله بن الزبير، فقاتله عبدالله بن الزبير؛ لأنه يرى أنه هو الخليفة، فلم يقاتل على الدنيا، وإنما قاتل لأنه يرى أن هؤلاء خرجوا عليه، وأنه يجب قتالهم فهو لم يقاتل للدنيا كما ظنه أبو برزة رضي الله عنه، إنما يقاتل لأن الله أمره بقتال الفئة الباغية؛ لقوله تعالى: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}. ومروان بن الحكم وابنه عبدالملك وأمراؤهم كلهم بغاة على ولي الأمر عبدالله بن الزبير، وانتهت هذه الحرب بقتل عبدالله بن الزبير على يد الحجاج بن يوسف عام ثلاث وسبعين من الهجرة، وبعد أن قتل عبدالله بن الزبير استقرت الأحوال، وتمت البيعة والأمر لعبدالملك بن مروان، والله تعالى يحكم بينهم يوم القيامة بحكمه العدل، ولما تمت البيعة بايعه الصحابة رضي الله عنهم، وبايعه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وغيره ممن توقف في البيعة لأنه زال الخلاف.
}7113{ قوله: «عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ» ، يعني: أنهم كانوا أشر من المنافقين السابقين، وهذا هو مناسبة الحديث للترجمة أن المنافق يسر غير ما يظهر، فهو يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويقول شيئًا ثم يخرج فيقول بخلافه.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال أنه قال: «إنما كانوا شرًا ممن قبلهم؛ لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة، ويوقعون الشر بين الفرق فيتعدى ضررهم لغيرهم، قال: ومطابقته للترجمة من جهة أن جهرهم بالنفاق وشهر السلاح على الناس هو القول بخلاف ما بذلوه من الطاعة حين بايعوا أولاً من خرجوا عليه آخرًا».
ثم قال الحافظ: «قال ابن التين: أراد أنهم أظهروا من الشر ما لم يظهر أولئك غير أنهم لم يصرحوا بالكفر».
}7114{ قوله: «إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِْيمَانِ» ، يعني: أن المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخفون كفرهم، وأما اليوم فإنهم يظهرون الكفر لقوتهم فهم مرتدون؛ ولهذا قال ابن التين: «كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وأما من جاء بعدهم فإنه ولد في الإسلام وعلى فطرته فمن كفر منهم فهو مرتد».
ثم قال: «ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين» والحافظ استظهر شيئا غير ذلك فقال: «والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم» أي: لم يرد نفي الوقوع؛ لأن المنافقين موجودون في كل وقت حتى في زماننا، فالعلمانيون هم المنافقون الآن، لأن المنافق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمى منافقًا، ثم كان بعد ذلك يسمى زنديقًا، والآن يسمى علمانيًا وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويريدون نشر الفساد والشر والرذيلة والتفسخ والعري بين المسلمين بعبارات التقدم والمدنية والحضارة، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بكفرهم.
وهذا الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر تجرى عليه أحكام الإسلام، وأما من أظهر الكفر فإنه يعامل معاملة المرتد.
ثم قال: «وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم، ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئًا فإنه يؤاخذ به، ولا يترك لمصلحة التآلف لعدم الاجتماع على ذلك، وقيل: غرضه أن الخروج عن طاعة الإمام جاهلية، ولا جاهلية في الإسلام، أو تفريق للجماعة فهو بخلاف قول الله تعالى: [آل عِمرَان: 103]{وَلاَ تَفَرَّقُوا}، وكل ذلك غير مستور فهو كالكفر بعد الإيمان».