شعار الموقع

شرح كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي_3 الكلام على صفتي الوجه والنزول

00:00
00:00
تحميل
163

(المتن)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

قال الإمام عبد الغني المقدسي في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد":

ومن الصفات التي نطق بها القرآن وصحت بها الأخبار الوجه، قال الله  كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. قال  وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وروى أبو موسى عن النبي ﷺ قال: جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

من الصفات التي جاءت في القرآن العزيز، وثبتت في السنة المطهرة، صفة الوجه لله ؛ ولهذا قال المؤلف: "ومن الصفات التي نطق بها القرآن قول الله -تعالى- هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ نطق بها القرآن، يعني: أثبتها الله -تعالى- في كتابه، وصحت بها الأخبار، يعني الأخبار: الأحاديث عن رسول الله ﷺ في صفة الوجه، استدل على ذلك بالأدلة من الكتاب العزيز، ومن السنة المطهرة، قال الله -تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ نقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ  فيها إثبات الوجه لله، إثبات الوجه والذات.وقال وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ 

وأهل البدع ينكرون صفة الوجه لله الجهمية والمعتزلة والأشاعرة أيضا، وإن صفة الوجه من الصفات الذاتية الثابتة لله والأشاعرة يتأولونها، منهم من يؤولها بالذات، منهم من يقول: بالذات. وَجْهُ رَبِّكَ، أي: ذاته. تجدون هذا في تفسير الجلالين، يقول: وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ أي: ذاته. قصدهم بذلك إنكار للوجه، والآية فيها إثبات الوجه والذات.وكذلك أيضا بعض الأشاعرة: البغدادي و الآمدي وغيرهم من الأشاعرة، أولوا الوجه بالذات.

ومنهم من فوض، بعض الأشاعرة المحدثين كالبيهقي وغيره، فإنهم بما معناه فوضوا هذه الصفة ، والتفويض معناه: تفويض المعنى. يقولون: لا نعلم معنى هذه الصفة، نفوضها إلى الله، لا نعلم معناها. التفويض هو عدم إثبات معنى لنصوص الصفات.

وهذا باطل، قال بعض أهل العلم: إن التفويض شر من التعطيل، المفوضة شر من المعطلة، المفوضة الذين لا يثبتون معاني الصفات، يقولون: لا ندري معنى الاستواء، معنى اليدين، معنى الوجه، يقولون: لا ندري معناها، كأنها حروف لاتينية، كأنها حروف أعجمية لا نفهم معناها، وهذا غلط؛ لأن الله أمر نبيه أن يتدبر القرآن كله، ولم يستثن شيئا، قال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وقال -تعالى-: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ.

ومن الأشاعرة من أثبتها كابن فورك، وكذلك البيهقي -رحمه الله-، وإن كان من الأشاعرة أثبتوها، بخلاف البغدادي والآمدي، فإنهم أولوها بالذات، ومنهم من فوض الصفة، المفوضة طائفة تقابل المعطلة، المعطلة الذين عطلوا الرب من صفات كماله وتأولوا الصفات، أولوا صفة الاستواء بالاستيلاء، أولوا صفة الوجه بالذات، هؤلاء المعطلة، وأما المفوضة فهم الذين يفوضون المعاني (معاني الصفات)، يقولون: لا ندري ما معناها. يقول: لا ندري ما معناها؟ لا نعلم معناها.

وأهل الحق أثبتوا الصفات، أثبتوا الصفات وأثبتوا معانيها، وفوضوا الكيفية. الكيفية لا يعلمها إلا الله، كما قال الإمام مالك -رحمه الله- لما سئل عن الاستواء، قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب". نعرف معنى العلم وأنه ضد الجهل، نعرف السمع وأنه ضد الصمم، نعرف البصر وهو ضد العمى، نعرف المعنى نثبت المعنى، المفوضة يقولون: لا ندري إيش معناها؟ معنى البصر، ولا ندري معنى السمع، وما ندري معنى العلم، ما ندري، حروف نلوكها بألسنتنا، لا ندري ما معناها، نفوض معناها إلى الله. هذا باطل، المعاني معلومة، إنما الذي لا يعلم هو الكيفية (كيفية الصفات)، كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله، كيفية صفة العلم، كيفية صفة السمع، كيفية صفة الاستواء، كيفية صفة الوجه، لا يعلمها إلا الله، أما المعنى فهو معلوم.

ولهذا المؤلف -رحمه الله- قال: "من الصفات التي نطق بها القرآن وصحت بها الأخبار الوجه". استدل بآيتين من كتاب الله، الآية الأولى قول الله -تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فيه إثبات الوجه، والمؤولة يقولون: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته، قصدوا من هذا إنكار الوجه، وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.هذا من القرآن العزيز.

واستدل من السنة بأدلة، منها حديث أبي موسى الأشعري الذي رواه الشيخان وغيرهما، أن النبي ﷺ قال: جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.

يقول: إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ. فيه إثبات الوجه، وفيه إثبات الرؤية، وأن الله -تعالى- يرى يوم القيامة، وفيه إثبات الكبرياء (إثبات الكبرياء لله )، قال الله -تعالى-: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فهذا الحديث فيه إثبات ثلاث الصفات: صفة الوجه، وصفة الرؤية، وصفة الكبرياء. والرؤية سيتكلم عنها المؤلف -رحمه الله-، صفة الرؤية سيأتي الكلام عليها، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وأهل البدع.

يقول: وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ. هذا خاص بالمؤمنين، المؤمنين يرون ربهم في الجنة، وفي موقف القيامة أيضا يرونه، وأما غير المؤمنين اختلف العلماء في رؤيتهم لله في موقف القيامة: من العلماء من قال: يراه أهل الموقف كلهم مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفرة. ومن العلماء من قال: إنه لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون؛ لأن المنافقين صاروا مع المؤمنين في الدنيا، وجرت عليهم أحكام الإسلام، فصاروا معهم في الآخرة، ثم بعد ذلك ينفصل المؤمنون عن الكفار، ويضرب بينهم بسور له باب.

وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يراه إلا المؤمنون، وأما الكفار فإنهم يحجبون عن الله، قال الله -تعالى-: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ. والذين قالوا: إن الكفار يرون ربهم يوم القيامة، قالوا: هذه الرؤية لا تفيدهم، ولكن يستزيدون بها عذابا إذا حجبوا، وهذا مثل السارق حين يرى السلطان ثم يعاقبه، فإنه لا يستفيد من هذه الرؤية إلا عقوبة.

وفيه إثبات الجنة، إثبات الجنة وأن المؤمنين يتفاوتون في درجاتهم جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا هذه للمقربين السابقين المقربين وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا  للمقتصدين أصحاب اليمين، كما قال الله -تعالى- في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ هذه للمقربين، ثم قال: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ هذه للمقتصدين، وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، مُدْهَامَّتَانِ يعني أربع جنات، فالمؤمنون يتفاوتون في درجاتهم في الجنة على حسب أعمالهم.

وفيه الرد على من أنكر الجنة والنار كالجهمية، فالجهمية أنكروا الجنة والنار، وقالوا: إن الجنة والنار إنهما المعتزلة يقولون: إنهما لا توجدان إلا يوم القيامة. المعتزلة قالوا: إن الجنة والنار تخلقان يوم القيامة، وأما الآن فهما عدم. وهذا من أبطل الباطل؛ الله -تعالى- أخبر أن الجنة موجودة، والنار أعدت للكافرين. (ويفتح باب إلى المؤمن باب إلى الجنة، يأتيه منه روحها وطيبها، والكافر يفتح له باب إلى النار، يأتيه بحرها وعذابها)  والأرواح (أرواح المؤمنين) في الجنة تنعم، وأرواح الكفار في النار تعذب، وفي الجنة الولدان والحور، قول المعتزلة من أبطل الباطل، وكذلك الجهمية يقولون: إنهما يوم القيامة تفنيان، الجنة والنار تفنيان جميعا. وهذا من أبطل الباطل. نعم.

(المتن)

وروى أبو موسى قال: قام فينا رسول الله ﷺ بأربع فقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، ثم قرأ: أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا. رواه مسلم.

(الشرح)

نعم، ورد الحديث ورواه الإمام مسلم كما قال المؤلف -رحمه الله-، ورواه أيضا الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وفي لفظ لمسلم قال: قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ فيه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ لأن الله منزه عن النوم، فالنوم ضعف يحتاج إليه الضعيف، المخلوق يحتاجه إلى النوم حتى يستريح، والله -تعالى- لا يتعب ولا يلحقه تعب، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.   يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ العدل،  يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النَّارُ، -وفي لفظ: حِجَابُهُ النَّورُ، لَوْ كَشَفَهَا، أو لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، وفي لفظ: لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، ثم قرأ: أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا.

وهذا الحديث استدل به المؤلف على إثبات الوجه، قوله: لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ فيه إثبات الوجه لله -تعالى-، وفيه أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا؛ لأنه احتجب عن خلقه بالنار أو النور، ولو كشف الحجاب لاحترق الناس لاحترق الخلق، ولا يستطيع الناس أن يثبتوا لرؤية الله في الدنيا؛ ولهذا لما سأل موسى الرؤية، كلم الله موسى بدون واسطة (من وراء حجاب)، فلما كلمه طمع موسى -عليه الصلاة والسلام- في الرؤية قال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قال: الآن يا رب سمعت كلامك من دون حجاب، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قال الله لَن تَرَانِي، ما تستطيع ببشريتك هذه، ما تتحمل، ما تستطيع أن تثبت للرؤية، قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الجبل صم صخر عظيم، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي إن كان الجبل ثبت للرؤية فأنت تستطيع، وإلا فلا، فلما تجلى الله للجبل تدكك الجبل، اندك وساخ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا يغمى عليه، فَلَمَّا أَفَاقَ موسى قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات، ولا جبل إلا تدكك.

ولهذا الصواب أن النبي ﷺ لم ير ربه ليلة المعراج، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة من وراء حجاب، ولا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، لا جبريل ولا غيره من الملائكة ولا غيرهم.

احتجب الله من خلقه في هذا الحديث -في صحيح مسلم- بالنار والنور، وجاء في الآثار: أنه احتجب من خلقه بنار ونور وظلمة وثلج، فلا يستطيع أحد أن يرى الله، ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية الله في الدنيا، بل يحترقون، لو كشف الحجاب لاحترقوا، ولكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين نشأة قوية، يتحملون فيها رؤية الله، فلينظر المؤمنون إلى ربهم يوم القيامة، ينشؤون نشأة قوية، ينزل الله مطرا يثبت من أجساد الناس، وينشأ الناس نشأة قوية، الذات هي هي ، لكن الصفات تتبدل الصفات، والذات هي هي، الجسد هو الذي يعاد، يبلى كله إلا عجب الذنب، ثم يعيده الله، يعيد الذرات التي استحالت هي هي، إلا أن الصفات هي التي تتبدل، فينشئهم الله نشأة قوية، فيتحملون رؤية الله في الدنيا؛ ولهذا قال الله -تعالى-: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِحِجَابٍ ويدخل في هذه المقولة: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ يدخل نبينا -عليه الصلاة والسلام-؛ فإنه بشر كلمة الله من وراء حجاب، هذا هو الصواب.

قال بعض أهل العلم: إن النبي ﷺ رأى ربه ليلة المعراج ببصره. والصواب أنه رآه بعين قلبه ولم يره بعينيه، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون من الصحابة وغيرهم.

فهذا الحديث فيه تنزيه الله عن النوم، وفيه أن الله احتجب من خلقه بالنار أو النور، وفيه أن الله لا يراه أحد في الدنيا؛ لقوله: لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ ومحمد شيء، وفي لفظ آخر: مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، من خلقه: جميع الخلق، ومحمد ﷺ من الخلق. فلم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه، وإنما رآه بعين قلبه، ولكنه سمع كلام الله، كلمة الله من دون واسطة، من وراء حجاب. نعم.

(المتن)

فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها والتسليم كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات

(الشرح)

نعم، فهذه يعني: صفة الوجه، فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب كما سمعنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وخبر الصادق الأمين يجب الإقرار بها والتسليم، يجب على كل مسلم أن يقر بهذه الصفة (بصفة الوجه)، ويثبت الوجه لله كسائر الصفات الثابتة، خلافا لمن أنكر الصفات: كالجهمية والمعتزلة، أنكروا الصفات، قالوا: ليس لله وجه ولا علم ولا سمع ولا بصر. وخلافا للأشاعرة الذين تأولوها بالذات، وبعض الأشاعرة أثبتها كالبيهقي وغيره. نعم.

(المتن)

وتواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيجب الإيمان به والتسليم له، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول.

(الشرح)

انتقل المؤلف إلى إثبات صفة النزول، انتهى الكلام على إثبات صفة الوجه، انتقل إلى إثبات صفة النزول، قال: "وتواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا". المؤلف يقول: إن صفة النزول ثابتة بالتواتر، والتواتر دليل قطعي، ويقابل دليل التواتر يقابله دليل آخر دليل الآحاد.

الأدلة نوعان: متواتر وآحاد.

فالمتواتر: هو الذي يرويه عدد كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى آخره، ويكون مستندا إلى حس (إلى الرؤية أو السماع).

وما دون ذلك فهو أخبار فهو آحاد، والآحاد أنواع: قد يكون غريبا، وقد يكون عزيز، وقد يكون مشهور، فالغريب الذي يرويه واحد عن واحد، والعزيز الذي يرويه اثنان، والمشهور الذي يرويه ثلاثة فأكثر ما لم يصل إلى حد التواتر.

فالمؤلف يقول: إن صفة النزول ثابتة بالتواتر، بالنصوص المتواترة، رواه عدد من الصحابة رواه جمع غفير من الصحابة، وصحت الآثار بأن الله -تعالى- ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وهذا النزول يليق بجلال الله وعظمته، لا نكيفه ولا نعلم كيفية النزول، فإذا قال قائل: ما كيفية النزول؟ نقول كما قال الإمام مالك -رحمه الله، نقول-: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. النزول معلوم معناه في اللغة العربية، وأما كيفية نزول الرب فلا تكيف، لا نقول: على كيفية كذا. وسيأتي أن المؤلف يقول: لا نقول: يخلو من العرش أو لا يخلو. يأتي الكلام في هذا.

فيقول المؤلف: "وتواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا". وجاء في الأخبار تواترت بأنه ينزل فِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، وفي بعضها: فِي الثُلُثِ الأَوَّلِ  أو فِي النِّصفِ الأَوَّلِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ حتى يطلع الفجر.

فيجب على كل مؤمن الإيمان بصفة النزول والتسليم لله، وترك الاعتراض له، وإمراره من غير تكيف ولا تمثيل، لا نكيف، ولا تأويل، فلا تكيف، ولا تقول: ينزل على كيفية كذا. ولا تقول: ينزل مثل نزول المخلوق. ولا تأويل كما أول المبتدعة، قالوا: ينزل أمره، أو ينزل ملك. هذا تأويل باطل، ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول.

المؤلف يقول: "ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول". يشير إلى الرد على الذين أولوا صفة النزول بنفي حقيقة هذه الصفة، وذلك أنهم يدعون أنهم يدعون أن الإثبات الحقيقي يتنافى مع التنزيه، وأن التنزيه يقتضي نفي الصفة، نقول: هذا باطل. فالمؤلف يقول: ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول. فهذا التنزيه الذي ينفي حقيقة النزول باطل، فالتنزيه الذي يزعم صاحبه أنه ينفي حقيقة التنزيه هو باطل، التنزيه الحقيقي هو إثبات الصفة على ما يليق بجلال الله وعظمته. نعم.

(المتن)

  فروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطلُعَ الفَجرِ وفي لفظ: يَنْزِلُ اللَّهُ .

ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة ولا نزول الملك.

(الشرح)

نعم، وهذا الحديث صحيح رواه الإمام مالك في موطئه، ورواه البخاري -رحمه الله- في مواضع في "كتاب التهجد"، وفي "كتاب الدعوات"، وفي "كتاب التوحيد"، يقول الله -تعالى-: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ورواه الإمام مسلم في "كتاب صلاة المسافرين"، ورواه الإمام أحمد في مواضع، ورواه أبو داود في سننه كتاب "السنة"، وباب الرد على الجهمية، ورواه الترمذي في "كتاب الدعوات"، ورواه ابن ماجه في كتاب الإقامة، ورواه غيرهم، وهو من الأحاديث المتواترة، وفيه: أن الله -تعالى- يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطلُعَ الفَجرِ.

ولا يتكلف الإنسان ويتحذلق كما يقول بعض الناس: إن الليل يختلف في الأماكن، فيكون في مكان يكون عندنا الآن ثلث الليل الآخر، يكون في البلاد الأخرى عندهم النهار، عندهم في الضحى أو بعد الظهر، ثم يأتي ثلث الليل الآخر، فلا يزال الرب ينزل. هذا بعض الناس استشكل هذا، وهذا نشأ من كونه مثل نزول الرب بنزول المخلوقات، نقول: الإشكال الذي في ذهنك الآن وقع بسبب التمثيل، ألغ التمثيل من ذهنك ويزول الإشكال.

نقول: إن الله ينزل، ولا نعرف كيف ينزل، لا تكيف، هذا نزول المخلوق الإشكال، وإن معناه: لا يزال الرب ينزل في كل مكان في البلد الفلاني ينزل ثلث الليل، وإذا انتهى جاء ثلث الليل في مكان ثاني ينزل، وإذا انتهى جاء ثلث الليل في المشرق، وإذا جاء ثلث الليل في المغرب، ولا يزال الرب ينزل.

نقول أنت الآن هذا الإشكال وقع في ذهنك بسبب التشبيه والتمثيل، شبهت نزول الخالق بنزول المخلوق؛ فأشكل عليك الأمر، أما إذا ألغيت من ذهنك التمثيل والتشبيه، نعلم ولا نعرف كيف ينزل، فعل يفعله على وجه كما يليق بجلاله وعظمته، لا نكيف ولا ندرى ما الكيفية، فأنت في أي مكان من أرض الله إذا جاء ثلث الليل الآخر هذا وقت التنزل الإلهي، تضرعْ إلى الله وادعه سبحانه.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "ولا يصح حمله على نزول القدرة، ولا الرحمة، ولا نزول المَلَك"، هذا تأويل المتأولين، المتأولون بعضهم قال: يَنْزِلُ اللَّهُ ، قال: ينزل قدرته، وبعضهم قال: تنزل الرحمة، وبعضهم قال: ينزل الملك، وهذا من أبطل الباطل؛ الرحمة في كل وقت، نزولها ما يخصص في ثلث الليل، وكذلك الملك، الملك يقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هل يستطيع أحد أن يقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هل الملك يقول هذا الكلام؟ هل يمكن لمخلوق أن يقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ لا يمكن أن يقول هذا إلا الله، الله هو الذي يقول مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ وبهذا يبطل تأويل المبتدعة بأن المعنى نزول أمره، أو نزول رحمته، أو نزول الملك، هذا من أبطل الباطل. نعم.

(المتن)

لما روى مسلم بإسناده عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: يَنْزِلُ اللَّهُ  إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَمضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يُضِيءَ الفَجرُ.

(الشرح)

نعم، وهذه إحدى طرق الحديث، إحدى طرق رواية الإمام مسلم، ورواه أيضاً الترمذي في سننه، قال: حَتَى يَمضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ وفي بعضها: حَتَى يَمضِي نِصفُ اللَّيْلِ كما سيأتي- هذه إحدى الروايات، نعم، وسهيل بن أبي صالح هو ذكوان، ذكوان السمّان، نعم.

(المتن)

وروى رفاعة بن عرابة الجهني أن رسول الله ﷺ قال: إِذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَالَ: ثُلُثَا اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي أَحَدًا غَيْرِي، مَنْ ذَا يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يَدْعُونِي فأَستَجِيبُ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ رواه الإمام أحمد وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول.

(الشرح)

هذا الحديث -يقول المؤلف- رواه الإمام أحمد يعني في مسنده -رحمه الله- ورفاعة بن عرادة، ويقال عرادة الجهني، ويقال إن عرادة هو اسم جده، والحديث رواه الإمام أحمد -كما قال المؤلف- في مسنده، ورواه ابن ماجة في سننه، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية، وذكر في هذا الحديث ثلاث روايات قي وقت النزول: حَتَى يَمضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ ، وحَتَى يَمضِي نِصفُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ ، وحَتَى يَمضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ ، والأحاديث -أكثر الأحاديث- على أنه حَتَى يَمضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، الأحاديث متواترة في هذا.

ورواية النصف والثلث انفرد بها مسلم في بعض طرقه -كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- قال: إن رواية أنه ينزل حَتَى يَبقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ  هذه متواترة أخرجها الشيخان وغيرهما، وأن رواية الثلث والنصف انفرد بها مسلم في بعض الأحاديث، وهنا رواها أيضًا الإمام أحمد في مسنده.

وأخبار النزول متواترة في الجملة؛ ولذلك يقول ابن عبد البر: إنه حديث كثير الطرق متواتر من جهة النقل؛ ولهذا اتفق السلف على إثبات صفة النزول لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وأن نزوله سبحانه لا يشبه نزول المخلوقات، وأن الله مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه وهو فوق المخلوقات، وهو ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف.

وأئمة السنة كلهم أطبقوا على هذا، واستدلوا بالنصوص كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل يوم القيامة لفصل القضاء.

ولا منافاة بين نزوله واستوائه على العرش؛ لأنه -سبحانه- ينزل نزولًا لا يشابه نزول المخلوقين، يليق بجلاله وعظمته، لا تُعلم كيفيته، لا نعلم كيفيته، ولا ندري كنهها.

ولهذا قال الإمام الآجري -محمد بن الحسين الآجري-: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يرد هذا إلا المعتزلة، وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف؛ لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله ﷺ أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا لنا هذه الأخبار هم الذين نقلوا لنا الأحكام من الحلال والحرام، فكيف تقبل الأخبار التي روت في الحلال والحرام ولا تقبل الأحكام التي روت في الصفات؟ الأخبار التي نقلوها إلينا من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والحج والجهاد، وكما قبل العلماء منهم ذلك، كذلك قبلوا منهم هذه السنن. قال الآجري: إن من ردها فهو ضال خبيث، يحْذَرونه ويحَذِّرون منه.

ومن الأئمة أبو بكر ابن خزيمة -رحمه الله- له كتاب التوحيد، كتاب عظيم، اعتمده أهل الحق، وأهل السنة والجماعة ينقلون عنه، قال بعد أن ذكر هذه الأخبار قال: نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأن النبي  المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعْلَمَنا أنه ينزل، والله -جل وعلا- لم يترك -ولا نبيه عليه الصلاة والسلام- بيان ما بالمسلمين إليه حاجة من أمر دينهم؛ فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو من صفته الكيفية؛ إذ النبي ﷺ لم يصف لنا كيفية النزول، وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله -جل وعلا- فوق السماء الدنيا، الذي أخبرنا نبينا ﷺ أنه ينزل إلينا؛ إذ محال في لغة العرب أن يقول ينزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل. نعم، وبهذا يتبين أن صفة النزول أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وتواترت بها الأخبار عن رسول الله ﷺ نعم.

(المتن)

وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول، ويدحضان حجة كل مبطل.

(الشرح)

نعم، الحديثان يقطعان تأويل كل متأول، من يقول: إنه ينزل أمره أو ينزل الملك، بصراحته فيه أن الله هو الذي ينزل بنفسه، ويقول: من يسألني؟ من يدعوني؟ من يستغفرني؟ نعم.

(المتن)

وروى حديث النزول: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجبير بن مُطْعِم، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عَبَسَة، وأبو الدرداء، وعثمان بن أبي العاص، ومعاذ بن جبل، وأم سلمة زوج رسول الله ﷺ وخلق سواهم.

(الشرح)

يعني يبين المؤلف -رحمه الله- أن أحاديث النزول متواترة، رواها عدد، جمع من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، أخرج روايته اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وابن ماجه مقيدًا بليلة النصف من شعبان.

وعبد الله بن مسعود عند الإمام أحمد في مسنده، والشريعة للآجري، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة.

وجبير بن مطعم أخرج روايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والسنن لابن أبي عاصم، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي، والتوحيد لابن خزيمة.

وجابر بن عبد الله أخرج روايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والتوحيد لابن خزيمة.

وأبو سعيد الخدري في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والسنن لابن أبي عاصم، وسنن الترمذي.

وعمرو بن عبَسة بن خالد بن حذيفة حديثه عند الإمام أحمد في المسند، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة.

وأبو الدرداء أخرج روايته ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة.

وعثمان بن أبي العاص أخرج روايته البخاري في التاريخ الكبير، وسير أعلام النبلاء، والإمام أحمد في المسند، وابن خزيمة في التوحيد.

وعثمان بن أبي العاص روايته عند ابن أبي عاصم في السنة.

ومعاذ بن جبل في روايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة.

وأم سلمة في شرح أصول اعتقاد أهل السنة.

وبعض الروايات قد يكون فيها ضعف، ومنها ما اتفق عليه الشيخان، ولكن مجموعها يشد بعضها بعضا، حتى في الروايات والآثار التي فيها ضعف يشد بعضها بعضًا، ويقوي بعضها بعضًا، وتشهد لها الأحاديث الصحيحة؛ فقد ذكر اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة أن حديث النزول رواه عن النبي ﷺ عشرون نفسًا، فهي لكثرتها بلغت حد التواتر، التي بلغت حد التواتر تجعل هذا الأمر من الأمور المسلمة المعلومة من الدين بالضرورة، التي لا يسع أحدًا أن ينكر، وأن يكابر إلا من غلب عليه الهوى، ومن كان إلهه هواه فلا حيلة فيه، نعم.

(المتن)

ونحن مؤمنون بذلك مصدقون، من غير أن نصف له كيفية، أو نشبهه بنزول المخلوقين.

(الشرح)

نعم، يقول المؤلف: نحن -يعني معشر أهل السنة والجماعة- مؤمنون بذلك، مصدقون بصفة النزول، من غير أن نصف له كيفية، ما نقول: إن الكيفية على كذا أو على كذا مثل نزول المخلوق، أو نكيف، نقول: الله أعلم بالكيفية، لا نشبه صفة النزول بنزول المخلوقين، ولا نكيفه نقول: إنه على كيفية كذا، وإنما علم الكيفية موكول إلى الله نعم.

(المتن)

وقد قال بعض العلماء: سُئل أبو حنيفة عنه -يعني عن النزول- وقال: ينزل بلا كيف.

(الشرح)

المؤلف -رحمه الله- أراد بعد أن ذكر النصوص والأحاديث المتواترة، أراد أن يذكر أقوال أهل العلم من أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا هذه الصفة، وقد سئل أبو حنيفة -وهو من أحد الأئمة الأربعة- عن النزول، فقال: ينزل بلا كيف، يعني ينزل الرب بلا كيف، روى هذا البيهقي في الأسماء والصفات، ينزل يعني أثبت النزول، ينزل بلا كيف، هذا قول أهل السنة والجماعة، ما نقول على كيفية كذا أو يشبه نزول المخلوق، الكيف منفي، نعم، لا يعلمه إلا الله، نعم.

(المتن)

وقال محمد بن الحسن الشيباني -صاحبه-: الأحاديث التي جاءت أن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ونحو هذا من الأحاديث، أن هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها.

(الشرح)

نعم، هذا القول لمحمد بن حسن الشيباني، الصاحب الثاني لأبي حنيفة، والصاحب الأول للإمام، الأكبر، أبو يوسف، وهذا الصاحب الثاني يقول: الأحاديث التي جاءت في أن الله يهبط إلى سماء الدنيا ونحوها من الأحاديث، هذه الأحاديث قد روتها الثقات يعني الرواة الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها، يعني لا نفسرها تفسير الجهمية، تفسير أهل البدع، تفسير المؤولين الذين يؤولونها، ويفسرون النزول بنزول الملك أو نزول القدرة أو نزول الرحمة، لا نفسرها ولا نفسر الكيفية، وإنما نرويها ونؤمن بها ونصدق بها، ونكِل العلم بالكيفية إلى الله نعم.

(المتن)

ورويْنا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمع قاصًّا يقص بحديث النزول فقال: إذا كانت ليلة النصف من شعبان ينزل الله إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال. فارتعد أبي -رحمه الله- واصفر لونه ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخوِّض، فلما حاذاه قال: يا هذا، رسول الله أغير على ربه منك، قل -كما قال رسول الله ﷺ وانصرف.

(الشرح)

نعم، وهذه القصة رواها عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمعنا قاصًا يقص، القاص هو الواعظ، والغالب أن هؤلاء القاصين الذين يقصون -يعظون الناس- في الغالب أنهم ليس عندهم علم، يعظونهم بالقصص والحكايات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل مر بأبيه في المسجد، وسمع واعظا -الذي يعظ الناس يسمى قاصا- فقال في حديثه: هذا القاص يقص عليهم، يتكلم في حديث النزول، فقال: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله -هذا كلام القاص- ينزل الله إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، الإمام أحمد أنكر قوله: بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، قال عبد الله: فارتعد أبي -رحمه الله- واصفر لونه، ولزم يدي، وفي لفظ: وأمسك يدي، من كان بالله أعرف فهو منه أخوف.

تغير الإمام أحمد، اصفر لونه وارتعد، قال ابنه عبد الله: حتى أمسكت يديه، يمسكها حتى سكن، فلما سكن مسكه ومر به على القاص، فلما حاذه قال: يا هذا، رسول الله أغير منك على الله قل -كما قال رسول الله وانصرف، الرسول ﷺ قال: يَنْزِلُ رَبُّنَا، ولم يقل: بلا تغير ولا انتقال ولا زوال، أنت أغْير وإلا الرسول ﷺ أغير على الله؟ الرسول ﷺ أغير منك، والرسول ﷺ ما قال: لا زوال ولا انتقال ولا تغير، لكن لا تتجاوز كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وانصرف الإمام أحمد، ما قال غير هذا.

يعني يقول المحقق: لم أجد ذكرًا لهذه القصة، نعم.

(المتن)

 قال حنبل: قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-: يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قلت نزوله بعلمه أو بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا، ما لك ولهذا؟ أَمْضِ الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، على ما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب.

(الشرح)

هذه القصة رواها اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وحنبل هذا هو حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن (...) أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا.

يقول حنبل: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل: يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا  قلت نزوله بعلمه أو بماذا؟ فأنكر الإمام أحمد عليّ وقال لي: اسكت عن هذا، لا تقل به، ما لك ولهذا؟ امضِ الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، لا تزِد على الحديث على ما جاءت به الآثار وما جاء به الكتاب، يعني بما جاء به الكتاب العزيز، والمعنى أن النصوص نصوص الصفات من الآيات والأحاديث تُمضى، يمضيها المسلم ويمررها كما جاءت، ولا يتأول تأويلا يخالف ظواهر النصوص، بل يؤمن بها من غير تعرض للكيفية، نعم.

(المتن)

وقال الإمام إسحاق بن راهوية: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله ﷺ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير! لا يقال لأمر الرب  كيف، إنما ينزل بلا كيف.

ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع ورأى مخترع.

الشرح:

نعم، وهذه المقالة عن الإمام إسحاق بن راهوية الإمام المعروف، هو إمام كبير من الحفاظ، وهو أبو يعقوب الحنظلي، ومن أئمة أهل السنة والجماعة، قال له الأمير عبد الله بن طاهر، وهذا عبد الله بن طاهر بن الحسين أبو العباس أمير خراسان في زمانه، من أشهر ولاة العصر العباسي، يقول الأمير لإسحاق بن راهوية الإمام المشهور: يا أبا يعقوب، أبو يعقوب كنية الإمام أبي إسحاق، يا أبا يعقوب، الأمير يسأل الإمام الأمير يسأل إسحاق، إسحاق كنيته أبو يعقوب: هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله ﷺ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، كيف ينزل؟ الأمير يسأل الإمام إسحاق بن راهوية، يقول له، يقول الأمير، كيف ينزل؟ تروي أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، كيف ينزل؟ تأدب الإمام مع الأمير قال: قلت: أعز الله الأمير! لا يقال لأمر الرب كيف، إنما ينزل بلا كيف، هذا كلام الإمام ردًا على الأمير، قال: أعز الله الأمير دعاء له، لا يقال لأمر الرب كيف، إنما ينزل بلا كيف، انتهى الكلام هنا.

من قول المؤلف هذا: "ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع ورأى مخترع"، إذًا المؤلف عبد الغني يرى أنه لا يقال إنه يخلو العرش ولا يقال لا يخلو، وأن هذا من المبتدع، هذا قول مبتدع؛ فنقول أنه ينزل الرب ولا نقول يخلو العرش ولا ما يخلو العرش.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن للعلماء ثلاثة أقوال في هذه المسألة:

القول الأول: أنه لا يخلو العرش عند نزوله، أن الله ينزل ولا يخلو العرش؛ لأن نصوص الفوقية والعلو محكمة، وأما النزول فهو فعل يفعله، الله أعلم بكيفيته.

والقول الثاني للعلماء، الذي اختاره المؤلف: لا يقال يخلو ولا يقال لا يخلو، السكوت.

والقول الثالث الذي قال يخلو منه العرش، وهذا أضعفها.

وذكر شيخ الإسلام أن أقوى هذه الأدلة وأصح هذه الأقوال القول الأول، وهو أن يقال لا يخلو منه العرش، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: منهم من ينكر أن يقال يخلو أو لا يخلو منه العرش، ونقل هذا عن الحافظ المقدسي، عبد الغني المقدسي، ومنهم من قال بل يخلو منه العرش، وهذا أضعفها، وصنف ابن مندة في الإنكار على من قال لا يخلو منه العرش، وقال شيخ الإسلام -رحمه الله، ابن تيمية، لما ذكر الأقوال في هذه المسألة: القائلون بأنه يخلو منه العرش طائفة قليلة من أهل الحديث، وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش، وهو المأثور عن الأئمة المعروفين بالسنة، ولم ينقل عن أحد منهم بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه.

إذًا شيخ الإسلام يبيّن أن قول جمهور المحدثين أنه لا يخلو منه العرش، وهناك قول قليل، قول طائفة قليلة، أنه يخلو منه العرش، والقول الثالث أنه لا يقال يخلو ولا يخلو، كما اختار عبد الغني وغيره، وقالوا: أن القول بأنه يخلو أو لا يخلو قول مبتدع، بهذا يتبين أن جمهور المحدثين على أنه لا يخلو منه العرش، ثم يليه القول الثاني أن يقال لا يخلو أو يخلو، والثالث -وهو أضعفها- وهو القول بأنه يخلو من العرش، نعم.

(المتن)

  ومن صفاته -سبحانه- الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين، اليدان، قال الله : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ.

(الشرح)

باب صفة اليدين، نقف على هذا؛ لأن البحث في صفة اليدين طويل، نعم. ...

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد