(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الحافظ تقي الدين عبد الغني المقدسي في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد:
ومن صفاته -سبحانه- الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسول الله المصطفى الأمين ﷺ: اليدان، قال الله بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وقال مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: التَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسجَدَ لَكَ المَلاَئِكَةَ، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى، كَلَّمَكَ اللَّهُ تَكلِيماً، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، فَبِكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ قَالَ: بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ: فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قال النبي ﷺ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "ومن صفاته -سبحانه- الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله ﷺ عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان.
سبق الكلام على بعض الصفات؛ صفة الاستواء، صفة العلو، صفة الوجه، وكذلك أيضًا صفة النزول، ثم تكلم المؤلف -رحمه الله- على صفة اليدين، قال: "ومن صفات الله الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان" من صفات الله اليدان، واليدان صفة لله .
وهذه الصفة ثابتة بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة، استدل المؤلف -رحمه الله- بآيتين من كتاب الله :
الأولى قوله -تعالى-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ. فيه إثبات اليدين لله وأن لله يدين، تثنية، وأضاف الضمير إليه -سبحانه-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
الآية فيها الرد على اليهود -قبحهم الله- الذين قالوا يد الله مغلولة، قال الله -تعالى-: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
والآية الثانية قوله -تعالى: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
فالآيتان فيهما إثبات اليدين لله، ووجه الدلالة أن الله -تعالى- أثبت لنفسه يدين اثنتين، وأضافهما إلى نفسه الكريمة بضمير الإفراد: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يعني الرب والآية الأخرى: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
وأما قول الله -تعالى-: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فليست من آيات الصفات وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ يعني بقوة وقدرة، من آد يئيد، ولم يضفها الرب إلى نفسه بضمير الإفراد، فقال وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ بصفة الجمع بأيد تدل على القوة والعظمة، ومعنى الآية والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ يعني بقوة وقدرة، وليست من آيات الصفات لأنها من آد يئيد، ولأن الله أتى بصيغة الجمع التي تقتضي التعظيم بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ولم يضفها لنفسه بضمير الإفراد ، بخلاف هاتين الآيتين فإن الله -تعالى- قال: بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أتى باليدين بصيغة التثنية، وأضافها إلى نفسه بضمير الإفراد، وكذلك الآية الأخرى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خطاب خاطب الله -تعالى- إبليس لما امتنع من السجود لآدم، قال الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ.
واستدل أيضًا المؤلف -رحمه الله- على إثبات صفة اليدين لله بالسنة، استدل بحديث أبي هريرة في احتجاج آدم وموسى، وهذا الحديث رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه في عدة مواضع، في كتاب التفسير، وفي كتاب القدر، وفي كتاب التوحيد، وكذلك رواه مسلم في كتاب القدر، باب احتجاج آدم وموسى -عليهما السلام- ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة، والترمذي في كتاب القدر، باب ما جاء في احتجاج آدم وموسى، وابن ماجة أيضا في مقدمة في باب القدر.
ووجه الدلالة من الحديث في قول موسى -عليه الصلاة و السلام- لأبيه آدم: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ هذا وجه الدلالة، قال: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ فأضاف اليد إلى نفس إلى الله بضمير الإفراد بِيَدِهِ ، قال موسى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، فهذا الحديث رواه في حديث احتجاج آدم وموسى، التَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ يذكر فضائله وخصائصه، التَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسجَدَ لَكَ المَلاَئِكَةَ ثلاثة أوصاف كلها اختص الله بها آدم، خلقه الله بيده، فالله -تعالى- خلق الخلق كلهم بقدرته إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ لكن آدم له ميزة وله خصوصية، أن الله خلقه بيده، هذه ميزة وخصوصية لآدم، هي تشريف له وتكريم له من بين المخلوقات، خلقه الله بيده، وكذلك نفخ فيه من روحه، يعني من الروح التي خلقها ، فالإضافة -إضافة المخلوق إلى خالقه- تقتضي التشريف والتكريم، نفخ فيه من الروح التي خلقها، وأضاف إليه التشريف، كما يقال: عيسى روح الله، روح من الأرواح التي خلقها الله، وكما يضاف الكعبة إلى بيت الله والناقة -ناقة صالح- ناقة الله، إضافة مخلوق إلى خالقه للتشريف والتكريم، كذلك: وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ الروح التي خلقها وأضافها إلى نفسه للتشريف، وَأَسجَدَ لَكَ المَلاَئِكَةَ هذه كلها خصائص.
يقول: لما التقى آدم وموسى، قال موسى: يا آدم، أنت ميزك الله بهذه المميزات، خصك بهذه الفضائل العظيمة، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسجَدَ لَكَ المَلاَئِكَةَ، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، وفي لفظ آخر: لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، مع إن الله أعطاك هذه الخصائص، وهذه من غيرة موسى يريد يقول: أنت السبب في خروجنا من الجنة، وإلا كان بقينا في الجنة. فقال آدم -عليه الصلاة والسلام-: أَنْتَ مُوسَى، كَلَّمَكَ اللَّهُ تَكلِيماً، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، موسى أيضًا ذكر خصائص موسى قال: كَلَّمَكَ اللَّهُ تَكلِيماً، كلمه الله من وراء حجاب، من غير واسطة، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وهذا فيه إثبات صفة اليد أيضًا.الحديث فيه إثبات صفة اليد في موضعين؛ في قول موسى: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وفي قول آدم: وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، فموسى ذكر لآدم ثلاث خصائص، وذكر آدم لموسى ثلاث خصائص؛ كَلَّمَكَ اللَّهُ تَكلِيماً، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، فَبِكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ قَالَ: بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟
وهذا تقدير خاص مأخوذ من القدر السابق، وهو ما كتب في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح المحفوظ مكتوب فيه كل شيء، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي ﷺ قال: كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ والكتاب لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، قال الله -تعالى-: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ وهو اللوح المحفوظ، وقال -تعالى-: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ. وهو اللوح المحفوظ، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، كل ما يكون، في الحديث: لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة من الذوات والصفات والحركات والسكون: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، لكن هذا تقدير مأخوذ من القدر السابق، بأربعين سنة فَبِكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ قَالَ: بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ هذا تقدير خاص، كما أن الإنسان يُكتب عليه تقدير خاص، له تقدير خاص، التقدير العمري؛ وذلك أنه إذا مضى عليه أربعة أشهر في بطن أمه أرسل الله بالملك، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيا أو سعيدا، وهناك تقدير سنوي، وهو التقدير في ليلة القدر، يقدّر الله ما يكون في تلك السنة من صحة ومرض، وإعزاز وإذلال، وإشقاء وإسعاد، وفقر وغنى، وهناك تقدير يومي كل يوم، قال -سبحانه-: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كل يوم في شأن، يعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويغني ويفقر، ويحيي ويميت فهذا تقدير خاص، تقدير مأخوذ من القدر السابق.
قال آدم لموسى: فَبِكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ قَالَ: بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ: فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قال النبي ﷺ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وفي لفظ أنه كررها ثلاثا قال: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى؛ يعني غلبه بالحجة.
ما هو الشيء الذي لام موسى عليه، هل موسى لام آدم على الذنب؟ لا؛ لأن آدم قد تاب منه، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، هل لامه عليه؟ ما الذي لامه عليه؟ إذًا اللوم إنما لامه من أجل المصيبة التي حصلت له ، مصيبة حصلة له بسبب خروجه من الجنة، وهذه مصيبة، لا شك أنها مصيبة، فاحتج آدم بالقدر، قال: المصيبة مكتوبة علي، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس، جائز، يحتج الإنسان بالقدر، إذا أصابته مصيبة قال إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإن إليه راجعون ، قدر الله وما شاء فعل لكن الاحتجاج بالقدر على الذنب لا، ممنوع، ليس بحجة، لو كان الذنب حجة لكان حجة للكفرة وبطل التشريع.
وهذا الحديث فيه إثبات اليد لله في موضعين؛ في قول موسى: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وفي قول آدم: وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ففيه إثبات اليد لله.
وهذا الحديث أيضًا فيه إثبات القدر، احتج به بعضهم على رفع الذنب والعقاب عن من عصى الله، وهم الجبرية وهذا باطل وبعضهم قال: إن هذا الحديث يقتضي رفع الذنب والعقاب عن من عصى الله وهذا باطل كلٌ من الطائفتين قد ضلت سواء السبيل ،بعض المبتدعة استدل بهذا الحديث على الاحتجاج بالقدر، وقال: القدر حجة للعاصي وهم الجبرية، قالوا: الإنسان مجبور على أفعاله فلا يلام على أفعاله. وهذا من أبطل الباطل وطائفة أخرى رفعوا اللوم والذنب والعقاب عن العاصي وطائفة أخرى -وهم القدرية- طائفة رفعت اللوم والذنب عن العاصي، واحتجوا بالقدر، وطائفة كذبت بالقدر وقالوا: إن الله -تعالى- لم يقدر أفعال العباد، وإنما العباد هم الخالقون لأنفسهم، وهم المعتزلة، قالوا: العباد هم الخالقون لأنفسهم خيرًا أو شرًا، طاعة ومعصية، والله -تعالى- لم يخلق أفعال العباد؛ فلهذا إنما يلام ويعذب على فعله، وقابلتهم الجبرية فقالوا: الإنسان مجبور على أفعاله .
ولهذا علق شيخ الإسلام -رحمه الله- على هذا الحديث، قال: إن هذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت بالقدر لما ظنوا أنه يقتضي لرفع الذنب والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شر من هؤلاء جعلوا القدر حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوا، وهم والصوفية، الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الحقيقة، الذين لا يرون أن لهم فعلًا، يلغون أفعالهم ويجعلونها أفعالا لله، ويقولون: إن الإنسان إذا شهد الحقيقة رفع عنه التكليف، وصار لا يُؤمر ولا يُنهى، وصار من الخاصة الذين تجاوزوا مرتبة العامة، فلا تكليف عليه ، وهذا من أبطل الباطل، من قال: إن أحدًا يسقط عنه التكليف وعقله معه، ما عدا الحائض والنفساء في الصلاة خاصة، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا؛ ما في أحد يسقط عنه التكليف إلا إذا زال العقل رفع التكليف، كالصبي والشيخ المخرِّف والمجنون، هذا مرفوع عنه القلم، ومن عداه فليس هناك أحد يرفع عنه التكليف، كل واحد مكلف حتى يموت، قال -تعالى-: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فمن اعتقد أن أحدًا يسقط عنه التكليف وعقله معه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا ،هؤلاء الجبرية وهؤلاء الملاحدة -من الصوفية وغيرهم- يرون أن الإنسان إذا تجاوز مرتبة العامة، وصار من أهل الحقيقة، وألغى صفاته وأفعاله، وجعلها صفات لله؛ سقط عنه التكليف، ويستدلون بقول الله -تعالى- وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويفسرون اليقين بالموت.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: من الناس من يقول -في هذا الحديث- إنما حج آدم موسى؛ لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة أخرى؛ لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة، وكل هذا باطل، والصواب أن وجه الحديث أن موسى -عليه الصلاة والسلام- لام أباه لأجل المصيبة التي لحقتهم، من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه؛ فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب يستغفر ويتوب، قال الله -تعالى-: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ.
ولا يزال أهل العلم يبينون معنى الحديث ويردون على من لم يفهم هذا الحديث، من المعتزلة الذين يقولون بخلق أفعال العباد، ومن الجبرية الذين يقولون إن العباد مجبورون على أفعالهم، كالإمام ابن القيم -رحمه الله- فإنه بيّن أن في هذا الحديث.. قال: إن هذا الحديث فيه رد على من لم يفهمه من المعتزلة، كأبي علي الجبائي ومن وافقه، وقال: لو صح لبطلت نبوة الأنبياء، لو صح الاحتجاج بالقدر لبطلت نبوة الأنبياء؛ فإن القدر لو كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي -إذا صحت له حجة بالقدر السابق- ارتفع اللوم عنه، وهذا من ضلال أهل البدع وجهلهم بالله ورسوله ﷺ وسنته.
وأهل البدع يؤولون اليد، بعضهم يؤولها بالقدرة، وبعضهم يؤولها بالنعمة، وهذا باطل؛ إذا أولها بالقدرة يكون المعنى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يعني بقدرتي، يفسد المعنى، والقدرة واحدة، ليست القدرة اثنتين، وكذلك إذا فسرها بالنعمة: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتيّ"، النعم كثيرة ليست اثنتين، فنعم الله لا تعد ولا تحصى وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا فتأويل أهل البدع لليد بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى ولا يستسيغه عاقل أن يقال: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ نعمتي أو قدرتي، نعم.
(المتن)
قال -رحمه الله-:
فلا نقول يد كيد، ولا نكيف ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين -كما يقول أهل التعطيل والتأويل- بل نؤمن بذلك، ونثبت له الصفة من غير تحديد ولا تشبيه.
ولا يصح حمل اليدين على القدرتين؛ فإن قدرة الله واحدة، ولا على النعمتين؛ فإن نعم الله لا تحصى، كما قال وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا.
(الشرح)
المؤلف -رحمه الله- من أهل السنة والجماعة، الحافظ عبد الغني، ويقول: إننا معشر أهل السنة والجماعة، لا نقول يد الله كيد المخلوق، هذا تشبيه تمثيل والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، ولا نكيف، لا نقول: إن يد الله كيفيتها كذا، ولا نشبه نقول: إن يد الله تشبه كذا وكذا، كل هذا باطل، كل هذا من طريقة أهل التمثيل والتكييف والتشبيه.
قال: ولا نتأول اليدين على القدرتين هذه طريقة أهل التأويل والتحريف، لا نتأول اليدين على القدرتين، كما يقول أهل التعطيل والتأويل من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، بعضهم يتأول اليد بالقدرة، واليدين بالقدرتين، اليدان القدرتان أو النعمتان، وهذا من أبطل الباطل كما بين المؤلف رحمه الله.
وتأويل اليد بالقدرة فيه إبطال للخصائص التي خص الله بها بعض مخلوقاته؛ فآدم خصه الله بأن خلقه بيده، فإذا فسرت اليد بالقدرة يكون المعنى: ما خلقت بقدرتي، فتزول الخصيصة، إبليس مخلوق بقدرة الله، فإذا كان إبليس مخلوقا بقدرة الله، وآدم مخلوقا بقدرة الله؛ زال التفضيل لآدم والله -تعالى- فضل آدم لقوله -تعالى-: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وكذلك خط الله التوراة لموسى بيده، فإذا قيل اليد القدرة، خط الله التوراة بقدرته، زالت الخصوصية.
وكذلك أيضا تأويل اليد بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى لأن التثنية في القدرة والتثنية في النعمة يفسد بها المعنى، لما خلقت بنعمتيّ أو بقدرتيّ، النعم ليست اثنتين، وإنما نعم الله لا تعد ولا تحصى، والنعم -نعم الله- مخلوقة، وأما يداه فهما صفة له وكذلك القدرة، القدرة صفة أخرى غير اليد، والقدرة واحدة؛ فلا يقال: خلقت بقدرتي، القدرة ليست اثنتان، بل هي قدرة واحدة.
وبهذا يتبين أن تأويل أهل الباطل لليد بالقدرة أو النعمة تأويل باطل ،كما أن تمثيل وتكييف أهل التمثيل لليد بأيدي المخلوقين، المشبهة من غلاة المشبهة من الشيعة كالبيانية والسالمية -البيانية أتباع بيان بن سمعان التميمي، والسالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي وداود الجوارمي- وغيرهم من غلاة الشيعة من المشبهة، هؤلاء يقول أحدهم: لله يد كيدي، ووجه كوجهي، واستواء كاستوائي وهذا من أبطل الباطل.
وهم من الكفار، من شبه الله بخلقه كفر؛ ولهذا قال أئمة أهل السنة والجماعة: من شبه الله بخلقه كفر، من مثّل الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ ذلك تشبيهاً، هذا مروي عن نعيم بن حماد الخزاعي وغيرهم من أئمة السلف، كلهم قالوا: من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ كفر.
المؤلف -رحمه الله- يقول: بل نؤمن بذلك، ونثبت له الصفة، نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من غير تحديد؛ يعني من غير تحديد لكيفية الصفة، يعني لا نحدد كيفيتها؛ لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله. فالسلف يثبتون الصفة، ويثبتون معاني الصفات الظاهرة، وينفون عنه المشابهة والكيفية، ولا تشبيه يعني لا نشبه، لا نقول: إن يد الله تشبه يد المخلوق، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين كما يقول أهل التأويل من المعتزلة والأشاعرة؛ فإن قدرة الله واحدة، قال المؤلف: قدرة واحدة، واليد هنا اليدان اثنتان، فكيف تؤول اليدان بالقدرتين؛ فإن قدرة الله واحدة.
ولا على النعمتين يقول المؤلف: فإن نعم الله لا تحصى لأن إذا أولت اليدين بالنعمتين -لما خلقت بنعمتي- صار فيه حصر للنعم بأنها اثنتان، ونعم الله لا تعد ولا تحصى.
ثم إن النعم مخلوقة، وصفات الله ليست مخلوقة -كما قال وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا نعم.
(المتن)
قال -رحمه الله-:
(الشرح)
نعم، يقول المؤلف -رحمه الله-: "وكل ما قال الله في كتابه، وصح عن رسوله ﷺ بنقل العدل عن العدل؛ فإنا نؤمن بها -يعني من الصفات- نثبتها لله ونقبلها ،كل ما قال الله في كتابه من الصفات، وكل ما صح عن رسول الله ﷺ في السنة الثابتة بنقل العدل عن العدل، يعني الرواة، الرواة يكون عدل عن عدل، ويكون السند متصلا، ولا يكون الحديث شاذًّا ولا معلولا، هذا الحديث الصحيح، الصحيح أن يرويه عدل عن عدل، والعدل هو ما اجتمع فيه أمران العدالة في الدين، وفي الضبط، يعني إذا كان ضابطًا، ولم يكن مجروحًا في دينه، وكان ضابطًا في النقل، فهذا العدل الضابط السليم في دينه، فإذا كان الرواة كلهم عدولا من أول السند إلى آخره، وكان السند متصلا، ولم يكن شاذًّا ولا معللا، فإن الحديث يكون صحيحا ويكون مقبولا. المؤلف يقول: إذا كان الحديث صحيح بأن رواه العدل عن العدل، واتصل السند مع كمال الضبط، مع الضبط، ولم يكن شاذًا ولا معللًا؛ فإننا نقبله ونثبت الصفات التي وردت في هذا الحديث.
ومثّل لهذا قال: مثل المحبة والمشيئة والإرادة، والضحك والفرح والعجب، والبغض والسخط، والكره والرضا، هذه أمثلة للصفات، وهذه الصفات ثابتة بالكتاب والسنة، بعضها ثابت بالكتاب والسنة، وبعضها ثابت بالسنة فقط.
مثل المحبة، المحبة ثابتة في الكتاب والسنة، في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومن أدلة إثباتها قول الله : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وقال -سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وفي الحديث الذي رواه الشيخان: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ. رواه البخاري في صحيحه في مواضع في كتاب بدء الخلق، في كتاب الأدب، في كتاب التوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة.
فنثبت المحبة لله لأنها ثابتة بالكتاب والسنة خلافًا لأهل البدع، نقول: إن الله يحب، نثبت المحبة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل المخلوقين في محبته.
وأما أهل البدع فإنهم تأولوها؛ المعتزلة أنكروها، والجهمية والأشاعرة أولوها بالإرادة، قالوا: أحبَّ يعني أراد، أولوها بالإرادة؛ لأنها من الصفات السبع التي يثبتونها، الأشاعرة يثبتون سبع صفات: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع، والعلم، والقدرة، والإرادة، وما عدا هذه الصفات فإنهم يسلكون فيها أحد مسلكين: إما أن يردوها إلى الصفات السبع، وإما أن يتأولوها بأثر الصفات ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات؛ فمثلًا الرضا يؤولونها بالثواب، والثواب أثر عن الرضا، الغضب يؤولونها بالانتقام، والانتقام أثر عن الغضب، الثواب مخلوق والانتقام مخلوق، فهم أولوها ببعض المخلوقات، أو يردونها إلى الصفات السبع، وهنا يقول: المحبة يعني معناها أراد أن يحب؛ حتى أولوها بالإرادة ، والمشيئة.
كذلك المشيئة ثابتة أيضًا في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة، ومن أدلتها قول الله -تعالى-: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
وكذلك الإرادة ثابتة: وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ قال -سبحانه-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
والإرادة تنقسم إلى قسمين -بخلاف المشيئة- الإرادة تنقسم إلى قسمين، أو الإرادة نوعان:
النوع الأول: إرادة كونية خِلقية ترادف المشيئة، مرادفة للمشيئة، المشيئة والإرادة الكونية واحدة، إرادة كونية خلقية قدرية ترادف المشيئة، وهي تتعلق بكل ما يشاء الله فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئا وشاءه كان عقب إرادته له، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ هذه الإرادة الكونية الخلقية ترادف المشيئة.
والثانية: إرادة دينية شرعية، تتعلق بما يأمر الله به عباده، مما يحبه ويرضاه، وهذه هي المذكورة في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وفي قوله إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا هذه إرادة دينية شرعية.
وقد جمع الله بين الإرادتين في قوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ هذه الإرادة الكونية فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ هذه إرادة كونية.
والإرادتان تجتمعان في حق المؤمن، في حق المؤمن المطيع تجتمعان، وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي والكافر، في حق العاصي تكون الإرادة الكونية، وفي حق المؤمن يجتمع الإرادتان، فالله -تعالى- أراد الإيمان من أبي بكر كونا وقدرا ودينا وشرعا فوقع، الإرادتان تجتمعان في حق المؤمن، وتنفرد الكونية في حق العاصي.
الإرادة الكونية لا يتخلف متعلقها ومرادها فلا يمكن أن يتخلف، بخلاف الإرادة الدينية الشرعية قد تحصل وقد لا تحصل، فالله -تعالى- أراد الإيمان من أبي بكر كونا وقدرا، وأراده من أبي بكر دينا وشرعا فوقع، وأراد الإيمان من أبي لهب دينا وشرعا، ولم يرده كونا وقدرا فوقعت الإرادة الكونية، ولم تقع الإرادة الدينية، فالله -تعالى- أراد من العباد أن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة، أراد منهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، لكن هذا دينا وشرعا، أما كونا وقدرا فله الحكمة البالغة، من الناس من أراد منهم أن يعبدوه لحكمة بالغة، ومنهم من أراد منهم ألا يعبدوه، فوقعت الإرادة الكونية والإرادة الدينية في حق المؤمن المطيع، وتخلفت الإرادة الدينية في حق العاصي والكافر.
ولهذا فإن قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا إرادة دينية شرعية، ولو كانت إرادة كونية لكان كل أهل البيت أسلموا، بل نجد من أهل البيت من لم يسلم، أبو لهب من أهل بيت النبي ﷺ ولم يسلم، وأبو جهل ولم يسلم فإرادة دينية شرعية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وبهذا يتبين الفرق بين الإرادتين.
وأهل السنة والجماعة قسموا الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية عملا بالنصوص، فسلموا من التناقض، وأما أهل البدع فإنهم لم يعملوا إلا ببعض النصوص، فالجبرية من الأشاعرة والجهمية ما أثبتوا إلا الإرادة الكونية، وأنكروا الإرادة الدينية الشرعية فضلوا، والمعتزلة بالعكس أثبتوا الإرادة الدينية الشرعية وأنكروا الإرادة الكونية فضلوا، الجبرية كالأشاعرة والجهمية استدلوا بالنصوص التي فيها إثبات الإرادة الكونية فقط، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي فيها إثبات الإرادة الدينية الشرعية، والمعتزلة استدلوا بالنصوص التي فيها إثبات الإرادة الدينية الشرعية، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي تثبت الإرادة الكونية القدرية وأهل السنة ماذا عملوا ؟ أخذوا النصوص التي تثبت الإرادة الكونية القدرية وصفعوا بها وجوه المعتزلة وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الإرادة الدينية الشرعية، وصفعوا بها وجوه الجبرية من الأشاعرة والجهمية فأبطلوا مذهبهم، واستدلوا بأدلة هؤلاء وهؤلاء، وأثبتوا الإرادتين فسلموا من التناقض فهداهم الله للحق وللصراط المستقيم الذي هو هدى بين ضلالتين.
ومن الصفات -يقول المؤلف- ومن الصفات التي نثبتها ودلت عليه النصوص الضحك، الضحك هذا من الصفات التي ثبتت في السنة المطهرة، ولم تأت في الكتاب العزيز، من أدلتها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ والحديث صحيح رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، ومسلم أيضا في كتاب الإمارة.
ومعنى هذا أن رجلين يقتتلان في الجهاد، مسلم وكافر فيقتل الكافر المسلم فيكون شهيدا، ثم يمن الله على الكافر بالإسلام بعد ذلك فيسلم ويموت على الإسلام، فيدخل الجنة فكلاهما يدخل الجنة.
ومن الأدلة أيضا حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا، والحديث طويل رواه الشيخان البخاري ومسلم، أو رواه البخاري في الصحيح في كتاب التوحيد، وفيه أن هذا الرجل إذا خرج من النار، وكذا ولا تزال وجهه مصروفة إلى النار يقول: َيَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فيأخذ الله عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فلا يسأل فيعطيه، فيصرف الله وجهه عن النار، ثم بعد ذلك ترفع له شجرة فيها كذا وكذا، فيسكت ما شاء الله، ثم يقول: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فيقول الله ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْ الشَّجَرَةِ، فيسكت ما شاء الله، ثم ترفع له شجرة، وهكذا حتى يصل إلى باب الجنة فيقول في النهاية: يا رب قرب لي باب الجنة فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، يا رب لا أكون أشقى خلقك بك، فإذا وصل إلى الجنة انفتحت له الجنة، ورأى ما فيها من النعيم، وكذا فيسكت ما شاء الله، فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيضحك الله له قال: فيقول أيضا لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال: ادخل الجنة. هذا فيه إثبات الضحك لله .
وكذلك الفرح من الصفات التي جاءت في الكتاب العزيز، في حديث أنس بن مالك المتفق على صحته، يقول النبي ﷺ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إذا استيقظ عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ أَضَلَّهُ بأَرْضِ فَلَاةٍ) رواه البخاري في الصحيح في كتاب الدعوات ورواه الإمام مسلم في كتاب التوبة في بعضها وصف لهذا الرجل أنه كان في أرض فلاة مهلكة، وفقد بعيره وبحث عنه فلم يجده، وعليه طعامه وشرابه وهو في صحراء، ما يستطيع ما يهتدي إلى شيء، فأيس فلما أيس نام تحت شجرة ليموت، أيس ما وجد البعير من جميع الجهات، نظر تعب ولا حوله بلد، ولا يستطيع المشي، ولا ماء ولا شيء، فنام تحت شجرة ليموت، فنام فلما استيقظ وجد الراحلة قائمة عند رأسه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، هي حياته، فشهق وَأَخَذَ من شدة الفرح، وجعل ينادي ربه يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك فأخطأ فقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ؛ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.
هذه كلمة كفرية قال: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ لكن إذا تكلم بكلمة الكفر ذاهلا غير متعمد فلا يؤاخذ، ولو قالها عن عمد صار كفرا، هذه كفر هذا يدل على أن حاكي الكفر لا يكفر، والمتكلم بكلمة الكفر عن غير عمد لا يكفر قال: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ يقول: (اللَّهُمَّ أَنْتَ ربي وَأَنَا عبدك ) أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.ذهل فقال الله -تعالى- ففي الحديث: لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل بفرحه براحلته فيه إثبات صفة الفرح لله كما يليق بجلال الله وعظمته لا يشبه فرح المخلوق.
وكذلك العجب أيضا، صفة العجب ثابتة في السنة المطهرة، في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عَجِبَ اللَّهُ مِن قَومٍ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بالسَّلَاسِلِ رواه البخاري في كتاب الجهاد، ورواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود .
وفيه أيضا ثبت في صحيح البخاري - حديث آخر - في قصة الأنصاري الذي استضافه فقير، وذلك أن رجلا فقيرا جاء استضافه النبي ﷺ، فسأل أزواجه -بيوت النبي ﷺ متعددة تسع أبيات- وسأل كل بيت هل عندكم شيء ؟ قالوا: لا والله إلا ماء ما عندنا إلا ماء، تسع أبيات من أبيات النبي ﷺ ما وجدوا شيئا للضيف، كل بيت يقول: هل عندكم شيء للضيف ؟ قالوا: يا رسول الله إلا ماء، فقال النبي ﷺ من يضيف هذا وله الجنة، قال رجل من الأنصار: أنا أضيفه يا رسول الله، فذهب به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، قالت: والله ما عندنا إلا طعام الصبيان -ما عندنا شيء إلا طعام الصبيان، طعام يكفي الأطفال-، فقال نوميهم وعلليهم فنومتهم، ثم أطفأ السراج وأوهمه أنه يأكل، وجعل الضيف يأكل حتى شبع وأصبح الرجل وامرأته وأطفاله ضاوين، فلما أصبح وجاء إلى النبي ﷺ قال له النبي ﷺ لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ - أَوْ ضَحِكَ - مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ وفي لفظ: مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا البَارِحَةَ لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ - أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ - مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا البَارِحَةَ.هذا فيه إثبات العجب.
وأيضا جاء العجب في القرآن العزيز قال في بعض القراءات في سورة الصافات: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ في قراءة بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ يكون الضمير لله على هذه القراءة يكون فيه إثبات صفة العجب بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ قراءة حفص معروفة بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ لكن على القراءة بَلْ عَجِبْتُ فيه إثبات صفة العجب.
وكذلك أيضا إثبات صفة البغض، وهي تقابل المحبة، وهذه ثابتة أيضا في الحديث الصحيح: إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ وفي رواية: وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ،قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ رواه الإمام مسلم في صحيحه هذا فيه إثبات البغض لله.
وكذلك - من - من الصفات الثابتة في الكتاب العزيز السخط الثابتة في القرآن قال الله -تعالى-: ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فيه إثبات السخط قال سبحانه: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وهي ثابتة أيضا في السنة المطهرة في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ يقول لأهل الجنة: هَل تُرِيدُونَ أَزِيدَكُم؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا أَلَم تُبَيِّض وُجُوهَنَا؟ أَلَم تُجِرنَا مِن النَّارِ؟ فَيقُولُ اللَّهُ : أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ:أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا وهذا الحديث رواه الشيخان -رواه الإمام البخاري ورواه الإمام مسلم- في إثبات السخط لله ثابت هذه الصفة ثابتة في القرآن وفي السنة.
والكره كذلك إثبات الكره ثابت في القرآن العزيز، قال الله -تعالى- في حق المنافقين: وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ.
وثابتة أيضا في السنة المطهرة في الحديث الذي رواه الشيخان، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
والرضا أيضا هذه من الصفات الثابتة في القرآن وفي السنة، في القرآن العزيز قال الله -تعالى-: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وقال سبحانه: وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ.
وهي ثابتة أيضا في السنة المطهرة، في صحيح البخاري في قصة الأقرع والأبرص والأعمى قصة طويلة وفيه قال في آخر الحديث الملك للأعمى: فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ، فيه إثبات الرضى والسخط ، كذلك ثبت في صحيح مسلم في الدعاء المشهور قول النبي ﷺ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ استعاذ بصفة الرضى من صفة السخط، استعاذ بصفة الرضى من صفة السخط، هذه كلها ثابتة.
قال المؤلف -رحمه الله-: "وسائر ما صح عن الله ورسوله ﷺ من الصفات نثبتها لله، وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين" ( نبت نبا ينبو إذا تجافى يعني تجافت عنها أسماع بعض الجاهلين ) لأنها لا توافقهم ولا توافق أهواءهم، فبعض الجاهلين من المبتدعة وغيرهم تنبو أسماعهم عن بعض الصفات فلا يثبتونها كالجهمية والمعتزلة وغيرهم، يقول: وإن نَبَتْ عنها أسماع بعض الجاهلين، واستوحشت منها نفوس المعطلين، المعطلة تستوحش نفوسهم تستوحش، ولذلك بعضهم إذا سمع آيات الصفات ارتعد، فالمؤلف يقول: نحن نثبتها ما دام أن الله أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله ﷺ، وإن تجافت عنها أسماع بعض الجاهلين، وإن استوحشت منها نفوس المعطلين فلا يضرنا هذا، نعم.
(المتن)
قال -رحمه الله-:
ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النَّفْس، قال الله إخبارًا عن نبيه عيسى أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وقـال كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقال لموسى : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي.
(الشرح)
نعم، وهذا المقطع من كلام المؤلف، يقول المؤلف: ومما نطق به القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النَّفْس، ذكر المؤلف أن من صفات الله النفس، ويثبت لله نفسا وجعلها من الصفات، وهذا قول لبعض العلماء فقالوا: إن من الصفات النفس، ومنهم من قال: إن النفس هي الذات المجردة عن الصفات، وكل من القولين ليس بصحيح، والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن المراد بالنفس الله، المراد بالنفس الله نفسه المتصلة بالصفات المراد بالنفس الله، يعني: ذاته سبحانه المتصلة بصفاته، ليس المراد بها ذاتا مجردة عن الصفات، وليس المراد بالنفس صفة للذات، بل المراد بالنفس الله ، يعني: المراد بالنفس الله التي هي ذاته المتصلة بالصفات، ليس المراد بالنفس ذاتا مجردة عن الصفات -كما قاله بعضهم- وليس المراد وليست النفس صفة للذات، بل النفس هي الذات نفس الله، النفس هي الله أي: ذاته متصفة بالصفات، هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء كما حقق ذلك أهل العلم من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره من المحققين.
وأما القول بأن الصفات من النفس كما ذهب إليه أصحاب هذا المذهب قول لبعض أهل العلم، وهو كأن الدارمي أيضا في رده على بشر المريسي يميل إلى هذا القول وأنها صفة، لكن الصواب أن النفس هي الذات، هي الذات المتصفة بالصفات.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوي في الجزء التاسع صفحة 292 قال: ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، كما يقال رأيت زيدا نفسه وعينه، وقد قال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ وقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفي الحديث الصحيح أنه قال لأم المؤمنين: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ.
وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي ﷺ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ هذه النصوص التي ذكرها انظر تعليق الشيخ -رحمه الله- قال: فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه التي هي ذاته، فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ، وكلا القولين خطأ ، ما هما القولان ؟ الذي يقول: إن النفس صفة للذات خطأ، والذي يقول إن النفس هي الذات المجردة عن الصفات خطأ، والصواب أن النفس هي الله، وهي نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، فالنفس هي الله، هي ذات الله المتصفة بالصفات، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون خلافا لما ذهب إليه المؤلف هنا من أن النفس هي الصفات، النفس هي الله ذات الله المتصفة بالصفات، الصفات كلها صفة للنفس، الصفات العلم والرحمة والقدرة والحب والبغض والكراهة والسخط كلها صفات للنفس، النفس نفس الله موصوفة بالغضب بالرضى بالسخط بالفرح بالعجب ، إذن نفس الله هي الله وهي ذاته المتصفة بالصفات، ليست ذاتا مجردة عن الصفة، وليست النفس ذاتا مجردة عن الصفات، وليست النفس صفة للذات بل النفس هي الذات، هي ذات الله المتصفة بالصفات نعم.
(الشيخ)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
البارحة الحديث الذي في الكتاب الذي كتبه الرب على نفسه، الذي جاء به الإخوان الذي أخرجه مسلم، وجدنا في كتاب التوبة كما ذكر الإخوان بهذا اللفظ: لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي. لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، وفي لفظ آخر: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ. لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ، وفي اللفظ الآخر: لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي.
بارك الله في الإخوان الذين أتوا بالحديث، والمؤلف -رحمه الله- أتى بلفظ الذي ذكره المؤلف: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ، ولم أجد هذا اللفظ في مسلم كما ذكر الإخوان: كَتَبَ فِي كِتَابٍ عَلَى نَفْسِهِ وفي اللفظ الذي ذكره المؤلف: كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وأنا عهدت بتخريج الحديث لأحد الإخوان، وخرجه من الجهاز وقال اعتذر بأنه مستعجل، وأنه تعلق بهذا اللفظ فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، قال: لم أجد هذه اللفظة، لكن المقصود إثبات الكتاب، وأن الله كتبه على نفسه، والمقصود في النهاية إثبات النفس، هذا المقصود، بأي لفظ كان.
فالأخ الذي عهدت إليه بتخريج الحديث قال: ما وجده في التسعة، اعتذر بأنه تعلق باللفظة التي في الحديث: فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، واعتذر بأنه مستعجل أيضا، والإخوان -جزاهم الله خيرا- أتوا به بهذا الحديث من صحيح مسلم، فجزاهم الله خيرا، ووفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، نعم، أحسنت.