شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي_5 الكلام على صفة النفس ورؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وصفة الكلام

00:00
00:00
تحميل
99

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد وقفنا على بحث في النفس في قول المؤلف رحمه الله: ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النَّفْس. وقلنا البارحة: - في الليلة الماضية - إن جمهور العلماء على أن النفس هي الله هي ذاته المتصفة بالصفات، وأن من قال: إنها صفة، أو قال: إنها الذات المجردة فقد غلط كما بين ذلك الأئمة، مثل الشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره -رحمه الله-.

فتكون النفس هي الله هي ذات الله المتصفة بالصفات والمؤلف هنا مشى على أنها صفة من الصفات وهو قول، وهناك قول آخر بأنها الذات المجردة، وهذا أيضا لا شك أنه باطل فهما قولان خلاف الصواب، وأن الصواب أن النفس هي الله، وهي ذاته المتصفة بالصفات.

استدل المؤلف -رحمه الله- على أن لله نفسا بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ قال الله إخبارا عن عيسى أنه قال لربه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فأقره الله على قوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي فأثبت لله نفسا وقال  كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ فأثبت لنفسه نفسا، وقال لموسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.

واستدل من السنة بحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه وراوه الإمام مسلم أيضا والترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند أن النبي ﷺ قال يقول الله وهو حديث قدسي أضافه النبي ﷺ إلى ربه فهو من كلام الله، قال يَقُولُ اللهُ  فهو من كلام الله لفظا ومعنى كالقرآن - الحديث القدسي - من كلام الله لفظا ومعنى، يَقُولُ اللهُ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ اقتَربَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ اقتَرَبتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ اقتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقترَبتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.

هذا حديث قدسي رواه الشيخان وغيرهما، وهو من كلام الله وفيه إثبات أن لله نفسا في قوله: إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وهذا هو الشاهد من الحديث.

وقوله: وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي فيه إثبات المعية لله، صفة أخرى أيضا، في إثبات النفس لله وإثبات المعية.

وهذه معية خاصة لأن المعية نوعان: معية عامة ومعية خاصة.

المعية العامة هي معية الله لجميع الخلق، فالله -تعالى- مع خلقه بإحاطته واطلاعه ونفوذ قدرته ومشيئته، ورؤيته لهم من فوق عرشه، وسمعه لكلامهم، هذه المعية العامة، ومقتضاها الاطلاع والإحاطة وتأتي في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف لقوله سبحانه: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تأتي في سياق المحاسبة والمجازاة، وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وهو معهم هذه معية عامة، وتكون للمؤمن والكافر عامة، المعية العامة تكون للمؤمن والكافر، ومقتضاها الاطلاع والإحاطة، وتأتي في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف.

أما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمن خاصة بالمؤمنين معيته سبحانه مع الصابرين قوله: وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وتكون للمتقين إنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ مع المقسطين إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ مع المتقين ومع المحسنين، ويكون مع الذاكرين كما في هذا الحديث: وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي هذه معية خاصة للذاكرين، فهي خاصة بالمؤمن ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وتأتي في سياق المدح والثناء وكقوله  لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا لما كان النبي ﷺ في الغار هو وأبو بكر يوم الهجرة، أبو بكر قال يا رسول الله: "لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا" فقال النبي ﷺ له: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا وهذه معية خاصة وكقوله سبحانه لموسى وهارون: قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ، فلما دخل فرعون معهم في الخطاب جاءت المعية العامة إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ لما دخل فرعون معهم في الخطاب جاءت المعية العامة إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ولما انفرد موسى وهارون انفردت المعية الخاصة إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ، هذه المعية الخاصة وهو مع المتقين ومع المحسنين ومع الصابرين، ومع الناس كلهم بعلمه وإحاطته، ومع المتقين ومع المحسنين ومع الصابرين بعونه ونصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، ومع الناس كلهم باطلاعه وإحاطته وهو فوق العرش ، لا منافاة بين المعية وبين الفوقية لا منافاة، لأن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج المعية في لغات العرب يعني: مطلق المصاحبة.

أما أهل البدع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فإنهم ضاقت صدورهم وضاقوا ذرعا في الجمع بين النصوص، وضربوا النصوص بعضها ببعض -نعوذ بالله-، فأبطلوا نصوص الفوقية والمعية التي تزيد نصوص الفوقية والعلو التي تزيد على ثلاثة آلاف دليل من نصوص المعية، وقالوا: إن المعية توجب الاختلاط والامتزاج، وأن الله مع الخلق مختلط بهم، وأنكروا نصوص الفوقية والعلو، وهذا من جهلهم وضلالهم وانحرافهم وزيغهم و اتباعهم الهوى.

فالحديث فيه إثبات المعية الخاصة وهي معية مع الذاكرين وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ وهم الملائكة وقوله في آخر الحديث: وَإِنْ اقتَربَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ اقتَرَبتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ اقتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقترَبتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. وفي لفظ: وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا هذا فيه إثبات القرب لله، هذا فيه إثبات القرب لله، والحديث فيه إثبات المعية، وفيه إثبات النفس .

والقرب جاء خاصا ولم يأت عاما، عند بعض أهل العلم، عند المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن القرب لا يكون إلا خاصا، ولا يكون عاما وخاصا كالمعية ؛ لأنها تكون عامة وخاصة، وأما القرب فإنه لا يكون إلا خاصا.

وهو نوعان: قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة.

فالأول مثل قوله  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يعني: قريب من إجابة دعاء الداعين وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ولم يقل: إنه قريب من كل أحد، قريب من السائلين ، قريب من السائلين بالإجابة.

ومثله ما ثبت في الصحيح أو في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال كنا مع النبي ﷺ في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي ﷺ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ، فهو قريب من الداعين، تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ -أيها الداعون-، فهو قريب من الداعين، وليس فيه أنه قريب من كل أحد.

ومثله قول الله -تعالى-: وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِاعْبُدُوااللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. للمستغفرين التائبين، هذا النوع الثاني وهو القرب من العابدين بالإثابة فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ من المستغفرين التائبين ليس قريبا من كل أحد، وهو كقوله سبحانه عن شعيب: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ فهو رحيم ودود بالمستغفرين التائبين كما أنه قريب مجيب للعابدين وللسائلين.

وأما قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فهذا قرب الملائكة، قرب العبد من الملائكة، فالملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، بدليل أنه قيده بوقت تلقي الملكين فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۝ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ يعني: نحن أقرب إليه وقت تلقي المتلقيين، ولو كان المراد قرب الله لم يقيد بوقت تلقي الملكين.

ومثله قوله تعالى في سورة الواقعة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ. قال العلماء: المعنى أن الملائكة أقرب إلى قلب العبد من أهله وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ ولكن لا تبصرون الملائكة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ.

وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عاما وخاصا كالمعية تكون عامة وخاصة، ومثل القرب الخاص مثل ما سبق وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ وحديث أبي موسى.

ومن القرب قرب العبد من الإثابة قوله تعالى: واسْجُدْ وَاقْتَرِبْ واسجد واقترب فالساجد قريب من الله واسْجُدْ وَاقْتَرِبْ فالساجد قريب من الله ؛ لأنه عابد لله.

ذهب آخرون من أهل العلم إلى أن القرب يكون عاما ويكون خاصا، وقالوا ومثلوا للقرب العام بقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقالوا: هذا قرب الله والمعنى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بالعلم مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، وقال بعضهم، نحن أقرب إليه بالعلم والرؤية، وقال بعضهم: بالعلم والرؤية والقدرة ، وكذلك قالوا : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ.

 ولكن المحققين كشيخ الإسلام وابن القيم قالوا: إن القرب لا يأتي إلا خاصا ولا يأتي عاما، وأما القرب في الآيتين فهو قرب الملائكة.

فهذا الحديث القدسي فيه إثبات أن لله نفسا، وفيه إثبات المعية، وفيه إثبات القرب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن قرب العباد بالتقرب إليه هذا يقر به جميع الطوائف، جميع من يثبت العلو، ومن أنكر علو الله فهم ينكرون هذا القرب، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله -تعالى-: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.

 قال: وقربه من العباد تقربهم إليهم مما يقر به جميع من يقول، إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك إنه تقوم به الأفعال الاختيارية أو لم يقولوا، وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابونه من بعض الوجوه فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.

الدليل الثاني من السنة الذي استدل به المؤلف -رحمه الله- على إثبات أن لله نفسا حديث أبي هريرة قال: وروى أبو هريرة  قال: قال رسول الله ﷺ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوضُوعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ووجه الدلالة من قوله: فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فأثبت لله نفسا.

كما أن الحديث فيه إثبات الرحمة وفيه إثبات الغضب، والحديث سبق في مبحث العلو، في مبحث العلو سبق، ذكره المؤلف -رحمه الله- قرأناه لو رجعنا إليه في حديث العلو هناك في صفة العلو ذكر هناك قال ورواه أبو هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ وهنا قال ذكر نفس الحديث لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوضُوعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي هل ترون في سياق الحديثين سواء أم مختلف ؟ مختلف، فالأول ساق هناك إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ ما في فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وهنا قال  لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِ، فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ هناك استدل به على العلو، وليس فيه فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ هنا استدل به على إثبات النفس فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ .

والمحقق قال: رواه الشيخان هنا وهناك، رواه البخاري ومسلم، ولكن بعد البحث لم أجد كلمة فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ في الصحيحين، بل ولا في السنن ولا في الكتب التسعة كلمة فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فكيف المحقق يقول: إنه رواه البخاري ورواه مسلم ولم ينبه على هذه اللفظة، هذه اللفظة ليست موجودة في الحديث وإنما كما ساقه الأول، كما ساقه المؤلف الأول: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ . هنا أتى بزيادة فَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ هذه الزيادة لم أجدها في الصحيحين ولا في السنن ولا في الكتب التسعة، وعلى هذا فيكون الحديث ليس فيه دليل في إثبات أن لله نفسًا، ويُكْتَفَى بالأدلة من الكتاب ومن السنة، نعم، هذا ما وقفنا عليه في القراءة.

(المتن)

وأجمـع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله -تعالى- يُرى في الآخـرة، كما جـاء في كتابه، وصح عن رسوله ﷺ قال الله  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.

وروى جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا ليلة مع رسول الله ﷺ فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ وفي رواية: سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا.

(الشرح)

نعم انتقل المؤلف -رحمه الله- إثبات صفة الرؤية، وصفة الرؤية من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدعة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، وقلت لكم إن هذه الصفات مثل صفة العلو وصفة الرؤية وصفة الكلام، هذه الصفات الثلاث اشتد في هذا النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع، صفة العلو صفة الكلام صفة الرؤية هذه الثلاث ينكرها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، الأشاعرة يثبتون الرؤية لكن ما يثبتونها على وجهها يثبتونها في غير جهة، الأشاعرة يقولون: إن الله يرى لكن من أين يرى ؟ من فوق ؟ يقولون: لا، من تحت ؟ لا، أمام ؟ لا، خلف ؟ لا، يمين ؟ ا، شمال ؟ لا، أين يرى ؟ لا في جهة هل هذا معقول ؟ لا يعقل.

ولهذا أنكر جمهور العقلاء على الأشاعرة، وضحكوا منهم وقالوا: كيف تثبتون الرؤية بدون مقابلة ؟ ما في رؤية إلا مقابلة الرؤية، لا بد لها من مقابلة للمرئي، فكيف تثبتون الرؤية ولا تثبتون المقابلة، قالوا: هذا باطل بداهة العقول تنكر هذا  لأن الأشاعرة الآن مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هم يريدون أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية ويريدون أن يكونوا مع المعتزلة في نفي الجهة ونفي العلو فلم يستطيعوا، فأثبتوا الرؤية ونفوا العلو، ولهذا ألزمهم سلط عليهم المعتزلة وألزموهم قالوا: أنتم الآن مذهبكم مذبذب غير معقول غير متصور، فأنتم بين أحد أمرين، فإما أن تثبتوا العلو مع الرؤية فتكونوا أعداء لنا مثل أهل السنة، وإما أن تنفوا الرؤية فتكونوا أصحاب لنا فتكونوا معنا، أما أن تكونوا هكذا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هذا غير معقول وغير متصور.

وكذلك الكلام أثبته الأشاعرة لكن ما أثبتوه على وجهه، الكلام يقولون هو معنى قائم بالنفس، مثل العلم ما في حرف ولا صوت الكلام في نفسه كما أن العلم في نفسه فالكلام في نفسه، كيف تكلم ؟ كيف يعرف الكلام؟ قالوا: اضطر جبريل اضطرارا، ففهم المعنى القائم بنفسه فتكلم بهذا القرآن، هذا الكلام كلام جبريل، اضطره الله اضطرارا ففهم ما في نفسه فعبر عنه، جعل الله أخرس نعوذ بالله.ومنهم من قال الذي عبر عنه محمد ﷺ لا جبريل، ومنهم من قال: أخذه جبريل من اللوح المحفوظ.

إذن ما أثبتوا الكلام على وجهه، والعلو أنكروه، بهذا يتبين أن الرؤية ما أثبتها هؤلاء الطوائف الثلاث الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فإنها العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، أجمع عليها أهل السنة.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: وأجمـع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله -تعالى- يُرى في الآخـرة، صدق -رحمه الله-: وأجمـع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق وهم أهل السنة والجماعة، وهم الصحابة وهم الرسل والصحابة والتابعون والأئمة وأتباعهم ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة إلى يوم القيامة، اتفقوا على إثبات الرؤية أهل الحق، وخالفهم أهل الباطل وأجمـع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله -تعالى- يُرى في الآخـرة، كما جـاء في كتابه، وصح عن رسوله ﷺ.

أما الكتاب استدل المؤلف -رحمه الله- بقول الله  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ بالضاد أخت الصاد من النضرة والبهاء والحسن إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ بالظاء أخت الطاء إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: تنظر إلى ربها فالمراد بها تنظر إلى ربها بأبصارها، ووجه الدلالة أن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، وعداه بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وأخلاه من قرينة تدل على خلاف موضوعه وحقيقته، فدل على أن المراد بها النظر بالعين التي في الوجه إلى الرب سبحانه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.

المؤلف -رحمه الله- اقتصر على آية، وهناك أدلة أخرى تدل من القرآن غير الآية هذه، مثل قوله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ، وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ جاء في تفسير المزيد أنه النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ جاء تفسيرها في صحيح مسلم بأن الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ يعني: الكفار قال الشافعي -رحمه الله-: فلما انحجب هؤلاء بالسخط دل على أن أولياءه يرونه في الرضا وإلا لو كان المؤمنون لا يرونه لتساوى الأعداء والأولياء ! فلما حجب الله الأعداء عن الرؤية، دل على أن الأولياء يرونه ولو كان المؤمنون لا يرونه لتساووا هم والأعداء في الحجب ولكن الله حجب الكفرة، فدل على أن المؤمنين يرونه لا يحجبون كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ الآية فيها إثبات الرؤية للمؤمنين، المؤلف اقتصر على آية واحدة.

وأما الأحاديث فهي متواترة، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- قال: إن الأحاديث متواترة، رواها من الصحابة نحو ثلاثين نفسا في الصحاح والسنن والمسانيد، فهي متواترة، ومن ذلك ما استدل به المؤلف -رحمه الله- حديث جرير بن عبد الله البجلي قال:  كنا جلوسا عند النبي ﷺ فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة قال: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ الحديث راوه البخاري في كتاب التوحيد، ورواه ابن خزيمة أيضا في كتاب التوحيد، ورواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وفيه أن المؤمنين يرون ربهم كرؤيتهم للقمر، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، وليس تشبيها للمرئي بالمرئي ، والمعنى أنكم ترون ربكم رؤية واضحة، كما ترون القمر ليلة البدر رؤية واضحة، وليس المراد تشبيه الله بالقمر، الله -تعالى- لا يشبه أحدا من خلقه، بل المراد تشبيه الرؤية بالرؤية كما يقول العلماء: الحديث فيه تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، وقوله: لاَ تُضَامُون  يروى بالتخفيف أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء، فإنهم قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته، وقيل: لاَ تُضَامُّونَ بالتشديد أي: لا يضم بعضكم إلى بعض.

أما الأشاعرة الذين أنكروا العلو ففسروه بما ينسجم مع مذهبهم القائل بنفي العلو مع إثبات الرؤية، هذه فسروا تُضَامُّونَ بالتشديد ؛ لأن معناه لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة أي: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، وأنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو يتعالى عن الجهة. وقول النبي ﷺ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا 

وجاء في أحاديث كثيرة أن النبي ﷺ قال: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيلَةَ البَدرِ  وفي بعضها: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ من حديث أبي هريرة وغيره. فالأحاديث صريحة في هذا، ومع صراحتها أنكرها أهل البدع.

وفي الحديث يقول النبي ﷺ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ ٍلَّمَحْجُوبُونَ  فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ما هي ؟ صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِهَا؟ صلاة العصر.ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ صلاة الفجر وصلاة العصر، فيه الحث على العناية بهاتين الصلاتين بزيادة العناية مع بقية الصلوات، وفيه دليل أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله في الجنة؛ ولهذا لما أخبر النبي ﷺ بالرؤية قال:  فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا فإن ذلك من أسباب رؤية الله وفي رواية سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا. يعني: معاينة مواجهة، نعم.

(المتن)

قال -رحمه الله-:

وروى صهـيب عن النـبي ﷺ قال: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، نُودُوا: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُ، فَقَالُوا: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟، قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَيهِ، ثم تلا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ رواه مسلم.

الشرح:

نعم، وهذا الحديث حديث صهيب رواه مسلم في صحيحه، وفيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم وفيه تفسير الآية تفسير الزيادة بأنها الرؤية، وهذا مما فسرت فيه السنةُ الكتابَ العزيزَ، فسر الحديث في قوله: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ بالنظر إلى وجه الله الكريم، فالحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ الذين أحسنوا هم المؤمنون، الذين أحسنوا في عبادة الله، وأحسنوا إلى الخلق لهم الحسنى، وهي الجنة ولهم الزيادة وهي النظر إلى وجه الله الكريم، إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، نُودُوا: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُوفي راوية: يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟، قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَيهِ.

هذا فيه دليل على أن رؤية الله أعظم نعيم، يعطاه أهل الجنة حتى إنهم ينسون ما هم فيه من النعيم، ينسون ما هم فيه من نعيم الجنة عند رؤيتهم لله، وهذا يدل على أنه لا يراه أحد في الدنيا، هذا يؤيد القول الصحيح أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا، وأن النبي ﷺ لم ير ربه ليلة المعراج ؛ لأنها نعيم وادخرت للمؤمنين في الجنة، رؤية الله نعيم ادخرت للمؤمنين في الجنة، فلا يراه أحد في الدنيا لا الرسل ولا غيرهم، ولأن البشر أو الناس أو الخلق لا يستطيعون الثبات لرؤية الله لبشريتهم الضعيفة في الدنيا، نعم.

(المتن)

وقال مالك بن أنس الناس ينظرون إلى الله -تعالى- بأعينهم يوم القيامة.

(الشرح)

هذا دليل من الآثار، من أقوال السلف والإمام مالك بن أنس -رحمه الله- الإمام المشهور يقول: الناس ينظرون إلى الله -تعالى- بأعينهم يوم القيامة، هذا رواه الآجري في كتاب الشريعة، نعم وهذا هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، كلهم يقولون مثلما قال الإمام مالك: الناس ينظرون إلى الله -تعالى- بأعينهم يوم القيامة، وقصده من هذا الرد على المعتزلة، المعتزلة يقولون يفسرون الرؤية بالعلم، ينظرون إلى الله يعني: يعلمون الله بقلوبهم، ويقولون إن معنى قوله: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ ستعلمون ربكم كما تعلمون أن القمر قمر، وهذا من أبطل الباطل، والأشاعرة يفسرون الرؤية بغير الجهة، ومنهم - من الأشاعرة - من وافق المعتزلة وقال: إن المراد بالرؤية زيادة العلم، زيادة العلم في القلب، وهذا باطل، نعم.

(المتن)

  وقال أحمد بن حنبل: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر.

(الشرح)

نعم، هذا فيه أن السلف كفروا من أنكر الرؤية، من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، هذا قول أئمة السلف، والتكفير لما هو على العموم يقال: من أنكر رؤية الله فهو كافر، من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، أما الشخص المعين فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، فلان ابن فلان لا يكفر إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لكن على العموم يقال: من أنكر رؤية الله فهو كافر، من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وهكذا لكن الشخص المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، وبعد وجود الشروط وانتفاء الموانع ؛ لأن الشخص المعين لا يدرى ما حاله ؟ قد يكون دخل في الإسلام من جديد، قد يكون ما بلغته الأدلة، قد يكون عنده شبهة ولو أزيلت لرجع، قد يكون قال قولا مجملا، فالشخص المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لكن على العموم نعم، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، هكذا، من ترك الصلاة فهو كافر، لكن المعين لا بد من قيام الحجة عليه، نعم.

(المتن)

ومن مذهب أهل الحق أن الله لم يزل متكلمًا بكلام مسمـوع مفهوم مكتـوب، قال الله  وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا.

(الشرح)

نعم انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى إثبات صفة الكلام، وسيطيل فيها وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، بيَّن مذهب أهل الحق قال: ومن مذهب أهل الحق وهم الرسل وأتباعهم الصحابة والتابعون وأتباعهم والأئمة والعلماء وأهل السنة والجماعة يقول: إن الله لم يزل متكلمًا بكلام مسمـوع مفهوم مكتـوب فأهل السنة يقولون: إن الله -تعالى- متكلم بكلام بحرف وصوت مسموع، مفهوم، كلام الله مسموع سمعه جبرائيل منه والله -تعالى- ينادي الناس يوم القيامة ويسمعون كلامه، كلام الله مسموع، مفهوم يفهم، مفهوم في القلوب، تفهمه القلوب وتعلمه، وكلام الله مقروء بالألسن أيضا، مكتوب في المصاحف، كل هذا حق، وكونه في هذه المواضع كلها حق، فكلام الله إذا قرأه قارئ فهو مقروء له، وإذا سمعه السامع فهو مسموع له، وإذا حفظه الحافظ فهو محفوظ له، وإذا علمه وفهمه في قلبه فهو مفهوم له ومعلوم، وهو في هذه المواضع كل الحق، والمصحف فيه كلام الله، والقارئ يقرأ كلام الله فهو مقروءكلام الله مقروء مسموع مكتوب معلوم محفوظ في الصدور وهو في هذه المواضع كلها حق في المواضع كلها حقيقة وليس مجازا  لأن المجاز يصح نفيه فيقال ما قرأ القارئ كلام الله، ما سمع القارئ كلام الله ما فهم كلام الله هذا باطل ما ينفع هذا، دل على الحقيقة يقال: قرأ القارئ كلام الله، سمع السامع كلام الله، كتب الكاتب كلام الله، حفظ الحافظ كلام الله، نظر في كلام الله كتب من كلام الله في المصحف قرأ كلام الله من المصحف، نظر في كلام الله في المصحف، فهو حق حقيقة في هذه المواضع كلها، ولو كان مجازا لصح نفيه، لكن لا يصح نفيه.

استدل المؤلف -رحمه الله- من الكتاب العزيز بقوله  وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا اقتصر على هذه الآية، وهناك أدلة منها قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أيضا وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا إثبات النداء، النداء هو الكلام من بعد وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا موسى هذا النداء والتقريب وقربناه نجيا، المناجاة الكلام من قرب، والنداء الكلام من بُعْدٍ، ونادى الله الأبوين وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا  فالأدلة في هذا كثيرة، النداء والقرب، لكن المؤلف -رحمه الله- اقتصر على وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا .

وأهل البدع أنكروا الكلام قالوا: لو كان الله يتكلم لكان الكلام بحرف وصوت لحل لصار محلا للحوادث، يحدث الكلام والحروف في ذاته، وهذا لا يليق به، إنما يليق بالمخلوق الحادث، نقول إنما هذا باطل، لأن هذا كلام المخلوق، وكلام الله لا يشابه كلام المخلوق، إنما يحل الحوادث في ذاته المخلوق، والرب يتكلم بكلام ليس فيه كلام المخلوقين لا نعلم كيف يتكلم ؟ قالوا: لو قلنا إن الله يتكلم للزم من ذلك أن يكون له شفتان وأضراس وأسنان لأن الذي يتكلم فالحروف تخرج من الشفتين، ومن الأضراس ومن الثنية العليا ومن الثنية السفلى وحافة اللسان، والله منزه عن ذلك، نقول: من قال إن هذا يلزم ؟ من قال إن هذا يلزم ؟ نرى بعض المخلوقات تتكلم وليس لها أضراس ولا لسان، الجلود تنطق: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الجلود لها لسان؟ تتكلم؟، وقال النبي ﷺ: إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ الحجر له لسان ؟ كلا، يسلم على النبي ﷺ وسمع تسبيح الطعام بين يدي النبي ﷺ وكان النبي ﷺ يخطب على جذع ثم أتي له بمنبر، فلما خطب على المنبر صاح الجذع، صاح حتى كاد أن ينشق، فنزل النبي ﷺ وجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى سكت، الجذع له لسان ؟ له صوت ؟ له أضراس ؟ إذا كان بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم ؟ فكيف تنكرون أن الله يتكلم، ولا نعرف كيف يتكلم، لكن أهل البدع - والعياذ بالله - ابتلوا بمخالفة النصوص والإعراض عنها وتأويلها ودفعها، نسأل الله السلامة والعافية.

والآية هي تأكيد بالمصدر وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا قال العلماء: إن التأكيد بالمصدر ينفي المجاز، ينفي المجاز وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا  فهذا المصدر ينفي التأويل وينفي المجاز، وحاول بعض أهل البدع وبعض الجهمية شق عليهم هذه الآية والآيات التي فيها أن الله يتكلم حتى تمنى بعضهم أن يحكها من المصحف، يحك آيات الكلام -والعياذ بالله- تمنى أن يحكها من المصحف، آيات العلو ونصوص العلو وحرَّف قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا قرأها بعض أهل الجهمية " وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا " فجعل الرب هو المكلَّم وموسى هو المتكلم حتى ينفي عن الرب الكلام حرفها قرأها "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا " يعني: موسى هو المتكلم والله لا يتكلم، فقال له بعض أهل السنة: هب يا عدو الله أنك استطعت أن تحرف هذه الآية فكيف تقول في قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ما تستطيع تحرفها، قال معنى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جرحه بأظافير الحكمة، فقال: معنى "كَلَّمَه" الكلام معناه الجرح، نقول: ظل فلان كَلْمه يدمَى، يعني جرحه، قصده من ذلك إنكار الكلام وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا لا حيلة في من أضله الله، نعم.

(المتن)

وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ.

(الشرح)

هذه اللفظة فيها أقوال: "تُرْجُمان" بضمتين، و "تَرْجَمان" بفتحتين، و "تَرْجُمان" بالفتح والضم، ورُوي أيضا رواية رابعة "تُرْجَمان"، وعلى هذا فلا يغلط أحد فيها، تُرْجُمان، تَرْجَمان تَرْجُمان تُرْجَمان، والترجمان: هو الواسطة الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، يترجم، ينقل الكلام من شخص إلى شخص أو من لغة إلى لغة . نعم . ماذا؟

(السؤال)

(36:53) إلى (36:55)

(الجواب)

هي فيها وجهان: "تَرْجَمان" و "تُرْجُمان" ما فيها إشكال، و "تَرْجُمان"، أما "تُرْجَمان" ففيها كلام واللفظ صحيح الرواية الرابعة، نعم .

(المتن)

ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ.

(الشرح)

نعم، وهذا الحديث حديث عدي بن حاتم وهو حديث صحيح رواه البخاري في مواضع، في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، ورواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والآجري في الشريعة، وغيرهم، وفيه إثبات رؤية الله .

يقول النبي ﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيه إثبات لكلام الله،  إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ فيه إثبات لكلام الله، وأن الله يكلم كل أحد، ليس بينه وبينه واسطة، يعني بدون واسطة، ليس هناك واسطة ينقل الكلام بين الله إلى العبد أو من العبد إلى الله، قال: الله يكلمه بدون واسطة، ليس بينه وبينه واسطة، ترجمان يعني واسطة، الذي ينقل الكلام من شخص إلى شخص أو من لغة إلى لغة ، وفي اللفظ الآخر: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُحَاضِرَهُ رَبُّهُ مُحَاضَرَةٌ، يَقُولُ فَعلَتَ كَذَا يَومَ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلتَ كَذَا يَومَ كَذَا وَكَذَا، وَسَتَرتُ عَلَيكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَم تَغفِرهَا لِي؟ قَالَ: بَلَى، قَد غَفَرتُهَا لَكَ.

وهنا يقول النبي ﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ تنظر عن يمينك ما ترى إلا عملك من أمامك، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشأَمَ مِنْهُ يعني جهة الشمال فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ إلى الأمام فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ.

هذا في فضل الصدقة، وأن الصدقة تقي من النار، شق تمرة: نصف تمرة، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ، يجعل بينه والنار حجاب، بشق تمرة، تصدق على الفقير بنصف تمرة، فَلْيَفْعَلْ. نصف تمرة تنفع الفقير، الفقير إذا أعطيته أنا نصف تمرة وهذا أعطاه نصف تمرة وهذا أعطاه نصف تمرة تجمّع عنده شيء سَدَّ جوعته.

وفي اللفظ الآخر:  فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ إذا كنت لا تستطيع ولا شيء قليل فالكلمة الطيبة تقوم مقام الصدقة، ترد الفقير بكلام طيب، فتقول له: لا يا أخي ما عندي شيء الآن، ولكن -إن شاء الله- تأتينا في المستقبل سيأتينا خير -إن شاء الله- وتأتينا في يوم كذا أو بعد كذا، كلمة طيبة تقوم مقام الصدقة عند عدمها، أو عند عدم القدرة عليها

فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ يعني نصف تمرة  فَلْيَفْعَلْ. وفي اللفظ الآخر: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

والحديث صريح في إثبات الكلام لله  وأن الله -تعالى- يكلم الناس يوم القيامة، نعم، وفيه الرد على أهل البدع الذين أنكروا كلام الله، الجهمية والمعتزلة وغيرهم.

(المتن)

 وروى جابر بن عبد الله قال: لما قُتِلَ عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله ﷺ يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟ قال: بلى، قال: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ  وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. رواه ابن ماجة.

(الشرح)

نعم، وهذا الحديث لا بأس بسنده، رواه ابن ماجة في المقدمة في باب ما أنكرت الجهمية في كتاب الجهاد، ورواه الترمذي أيضا في كتاب التفسير، وابن أبي عاصم في السنة، وأخرجه الحافظ في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، وإسناده حسن لا بأس به.

فيه إثبات الكلام لله وفيه منقبة لعبد الله بن حرام، وهو والد جابر وقُتِل شهيدا يوم أحد، في غزوة أحد، فقال النبي ﷺ لابنه جابر: يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟ عبد الله بن حرام. قال: بلى، قال: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا يعني: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ يعني من وراء واسطة، ووَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا : يعني مواجهة، ليس بينه حجاب ولا واسطة، هذه منقبة، منقبة لعبد الله بن حرام، أن الله كلمه بدون واسطة. وأما غيره فهم من وراء حجاب، قال لابنه جابر: إن الله ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب إلا أباك فإن الله كلمه كفاحا من دون حجاب.

ما الذي قال الله له؟ قال الله لعبد الله بن حرام: يَا عَبْدَ اللهِ، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، هذه منقبة عظيمة، يقول الله لعبد الله بن حرام: تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ،. فقال عبد الله بن حرام: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، لَمّا رأى فضل الشهادة، وأن الشهادة منزلة عالية، وأن الشهيد له فضل عظيم، تمنى أن يُعاد للدنيا مرة ثانية حتى يُقتل شهيدا مرة ثانية، حتى يضاعف له الأجر، يصير بأجر شهيدين، فقال الله: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، لا يَرْجِعون إلى الدنيا أو لا يُرْجَعُونَ.

وهذا أيضا قاله الشهداء الذين قُتلوا في بعض الغزوات، سألوا الله أن يرجعهم فقال الله: إني كتبت أنهم إليها لا يُرْجَعون، قال: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، وهذا جاء أيضا في قصة الشهداء، سألوا الله أن يبلغ من ورائهم فأنزل الله  وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ بَلَّغ الله عن عبد الله بن حرام، وبلغ عن الشهداء، أخبر الله أن حالهم أنهم في عيش طيب، وأنهم أحياء يرزقون عند الله، ليسوا أمواتاً، لا تحسبنهم أنهم أموات، بل هم أحياء، يعني غير الحياة الحقيقية، حياة برزخية، غير الحياة الحقيقية، زالت عنهم الهموم التي في الدنيا، والأكدار والأنكاد، والأمراض والأسقام، والخوف والفتن التي في الدنيا، كل شيء زال عنهم، وتحققوا السعادة الأبدية.

ولهذا جاء في الحديث أنه مَا مِنْ مُسلِمٍ يَمُوتُ يَكُونُ لَهُ خَيرٌ عند الله فَيَوَدُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، أي مسلم يموت وله منزلة ويرى مكانه في الجنة ما يحب أن يرجع إلى الدنيا، إلا الشهيد؛ فإنه يتمنى أن يرجع حتى يُقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة، ما من أحد يموت مَا مِنْ مُؤمِنٍ يَمُوتُ ولَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ فَيَوَدُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ؛ فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا مرة أخرى حتى يقتل شهيدا مرة أخرى.

فالمؤمن إذا رأى ما أعد الله له من الكرامة ما يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، ولا يود أن يرجع إلى الدنيا أبدا؛ لأنه زالت عنه جميع -يعني المكدرات الهموم، والأسقام والأمراض، وخوف الموت والفتن التي في الدنيا- كلها زالت عنه في الدنيا معرّض للأسقام، معرض للفتن، معرض للهموم معرض للمصائب وللأمراض، كل شيء هذه كلها زالت عن المؤمن والشهداء لهم منزلة عالية عند الله، ولهذا جاء في الحديث، ثبت في الحديث ( أن أَروَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، تَرِدُ أنْهارَهَا، وتَأْكُلُ مِن ثِمارِها، وتَأْوِي إلى قَنادِيلَ مُعَلَّقَةٍ في العَرْشِ وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، تأخذ شكل طائر، كما في الحديث الآخر نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ.

أما الشهداء لما بذلوا أجسادهم وأجسامهم لله حتى قُتِلُوا عَوّض الله أرواحهم أجسادا تتنعم بواسطتها، وهي حواصل طير خضر، فكان تَنَعُّم الشهيد أكمل من تنعم المؤمن غير الشهيد، وإن كان كل منهما روحه في الجنة، نعم.

(المتن)

والقرآن كلام الله ووحيه وتنزيله والمسموع من القارئ كلام الله قال الله  فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ.

(الشرح)

والشهداء حياتهم حياة برزخية، يعني الله -تعالى- قال: بَلْ أَحْيَاءٌ يعني: حياة برزخية، ولكنهم هم أموات، أموات بالنسبة إلى أهل الدنيا والأحكام، وحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء، حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء، والله -تعالى- قال لنبيه الكريم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ أخبر أنه ميت قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ومع ذلك روحه جسده طري لا يبلى، وقال -عليه الصلاة والسلام-: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَن تَأكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ وقال: مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.

وحياة الشهداء حياة البرزخية، وهي أكمل من حياة غير الشهداء، ولكن حياة الأنبياء أكمل منهم، وهل يبقى جسد الشهيد كما يبقى جسد الأنبياء؟ الله أعلم، لكن وُجد بعض الشهداء من تبقى أجسادهم مدة، مدة طويلة لم تبلَ، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل كلما كان بقاء جسده أطول، وأما الأنبياء فإن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ لأن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ومع ذلك فهم ميتون في أحكام الدنيا، وهم أحياء حياة برزخية لأن الحياة أنواع لأن تعلق الروح بالبدن أنواع تتعلق الروح بالبدن في بطن أمه لها تعلق، ولها تعلق به بعد خروجه من بطن أمه، ولها تعلق به عند الموت عند النوم ولها تعلق به بعد الموت في البرزخ، ولها تعلق به بعد البعث، خمس تعلقات، وأكملها تعلق الروح به يوم القيامة, لأنه في الدنيا الآن الأحكام على البدن أكثر منها على الروح ، ولهذا يتألم البدن ويتنعّم أكثر من الروح، وفي البرزخ إذا مات الإنسان بالعكس، يكون الألم والنعيم على الروح أكثر، الأحكام على الروح أكثر من الجسد، وفي يوم القيامة سيكون الأحكام على الروح والبدن على حد سواء، فهي أكمل الحالات.

وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد