المتن:
الشرح:
قوله : (واعلم أن المتعة -متعة النساء- والاستحلال حرام إلى يوم القيامة) أراد المؤلف رحمه الله الرد على الرافضة الذين يرون شرعية المتعة ، والمتعة هي أن يتمتع الرجل بالمرأة مدة معينة، فيتفق معها ويتزوجها شهراً أو شهرين، أو يوماً أو يومين، ويشترط عليها شرطاً كأن يقول: أتزوجك يوماً أو يومين أو خمسة أيام أو عشرة أيام ثم أطلقك.
وكانت المتعة في أول الإسلام مباحة، وذلك لما اشتدت العزوبة على الصحابة في بعض الغزوات فأبيحت المتعة([1])، ثم حرم النبي ﷺ المتعة إلى يوم القيامة فالمتعة حرام ، كما في حديث سبرة بن معبد الجهني أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا. ([2])، وعليه فالمتعة تعتبر من الزنى والعياذ بالله، والشيعة يستحلون المتعة ويرون أنها حلال، وسبق في الحديث: لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا. ([3])، فالمتعة: هي يتفق الرجل مع المرأة على أن يتمتع بها أياماً، يعني: ينكحها أياماً، ثم يتركها، وقد قال النبي ﷺ: لَا يَحِلُّ نِكَاحٌ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. ([4])، وفي الحديث: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:«نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ»([5])
وشروط النكاح أربعة: ولي، وزوج، وشاهدا عدل، ولابد من مهر، وبسبب استحلال الشيعة للمتعة كثر عددهم، فهم يتمتعون بالنساء فيأتيهم من ذلك أولاد كثيرون، نسأل الله السلامة والعافية.
المتن:
الشرح:
قوله: (واعرف لبني هاشم فضلهم؛ لقرابتهم من رسول الله ﷺ)؛ لأن النبيﷺ من بني هاشم، وهو الهاشمي القرشي، ولهذا لا تكون الزكاة لبني هاشم ولا لبني عبد المطلب؛ لأنهم آل النبي ﷺ، فلا بد أن يعرف المسلم لبني هاشم فضلهم، قال الله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] أي: المحبة في القربى.
ولا بد من مودة بني هاشم وهي واجبة لقربهم من النبي ﷺ، ومحبتهم من محبة النبي ﷺ، فهم أشرف الناس نسباً، والنبيﷺ بعث في أشرف الناس نسباً، وكذلك الأنبياء تبعث في أحساب قومها، فقد جاء في حديث أن النبي ﷺ قال: وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّهُمْ لِلَّهِ َلِقَرَابَتِهِمْ مِنِّي. ([6]) ، والمراد ببني هاشم : قرابة النبي ﷺ المؤمنين، وكذلك بنو عبد المطلب .
قوله :(وتعرف فضل قريش والعرب)؛ لأن النبيﷺ من قريش، فقريش أفضل العرب نسباً، وكذلك العرب؛ لأن النبي ﷺ بعث في العرب، فجنس العرب أفضل من جنس العجم، ولكن الجنس لا يفيد إلا مع تقوى الله كما قال النبي ﷺ : لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى. ([7])، وقد يوجد شخص من العجم خير من ألوف من العرب، وإنما المراد الجنس، فجنس العرب أفضل من جنس العجم.
قوله : (وجميع الأفخاذ، فاعرف قدرهم [وحقوقهم] في الإسلام) وهي: جمع فخذ، وهو أقل من الشعب، فيقال: قبيلته ثم شعبه ثم فخذه .
قوله : (ومولى القوم منهم) أي: عتيقهم، فإذا أعتقوا أحداً صار منهم ، ولهذا نجد من يقول: إنه من قريش وهو مولى، وذلك لأنه أصبح عتيقاً، ولكنه لا يكون من نسبهم.
قوله:(وتعرف لسائر الناس حقهم في الإسلام) فكل مؤمن له حق في الإسلام، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ([8])، وقال عليه الصلاة والسلام: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. ([9]).
قوله: (وتعرف فضل الأنصار ووصية رسول اللهﷺ فيهم) فقد أوصى النبيﷺ بالأنصار، وقال: فَإِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ، يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ. ([10])، وقال للأنصار: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمُ الحَوْضُ. ([11])، يعني: ستجدون بعض الولاة وبعض الأمراء يؤثرون غيركم عليكم، ويمنعونكم حقكم، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.
فالأنصار هم كثير في الإسلام، وهم الذين آووا النبي ﷺ والمهاجرين، فلما عتبوا على النبي ﷺفي بعض الشيء جمعهم وقال لهم: أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ. ([12])، وقال ﷺ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. ([13])، فلا بد أن تعرف فضل الأنصار.
قوله: (وآل الرسول، فلا تنساهم تعرف فضلهم) وآل الرسول هم أتباعه على دينه، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً قرابته من جهة النسب، كـعلي وفاطمة والحسن والحسين والعباس، وزوجاته عليه الصلاة والسلام، وبناته وأعمامه وأقاربه المؤمنين، فلا بد للإنسان أن يعرف حقهم.
قوله: (وجيرانه من أهل المدينة فاعرف فضلهم) وهم الأنصار، أو جيرانه في المدينة، ومن كانوا حول المدينة من القبائل والقرى والبوادي، فكل هؤلاء لهم حق على المسلم لقربهم من النبي ﷺ ولجوارهم له.
المتن:
الشرح:
قوله:(واعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية) وذلك لكفرهم وضلالهم، والجهمية هم الذين أنكروا أسماء الله وصفاته، وقالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، فهم ينفون جميع الصفات والأسماء، وهم بهذا يصفون العدم، فالشيء الذي ليس له اسم ولا صفة يكون عدماً، ولهذا كفر العلماء الجهمية وأخرجوهم من الاثنتين والسبعين الفرقة وقالوا: هم كفار؛ لأنهم ما أثبتوا وجوداً لله، ونفوا الأسماء والصفات فأنكروا بقولهم وجود الله.
قوله: (حتى كان في خلافة بني فلان) يعني: بني العباس، وبالتحديد خلافة المأمون ، فإنه لما كانت خلافة المأمون ترجمت كتب اليونان والرومان، ودخل على المسلمين شر كثير، واعتنق المأمون مذهب المعتزلة وأثّروا عليه، وقرب المعتزلة فصاروا أقرباءه، حتى صار رئيس القضاة في زمن المأمون أحمد بن أبي دؤاد([14]) وهو من المعتزلة، وهو الذي امتحن الإمام أحمد إمام أهل السنة، وأراده على القول بخلق القرآن فامتنع، فضُرب الإمام أحمد وسُجن وسُحب حتى أُغمي عليه، ورفض رفضاً قاطعاً أن يقول: إن القرآن مخلوق، مع أنه مجبر ومكره له عذر؛ فبعض العلماء ترخص تحت وطأة الإكراه والإلزام والجبر، فهو معذور، والله تعالى عذر المكره إذا تكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]، فتأول بعض العلماء فسلموا من العذاب، حتى قال بعضهم للإمام أحمد : لك رخصة يا إمام! لو تأولت، فامتنع الإمام وثبت، وصبر على الأذى والسجن والضرب والسحب والإيذاء، وخشي أن يتأول فيضل الناس بسببه، وقد قال له أحدهم: لو تأولت يا إمام! فقال: انظر إلى هؤلاء الكتّاب، وكان هناك مساحة كبيرة من دار الخليفة كلها مملوءة من الكتّاب، وكل واحد معه قلم يريد أن يكتب مقالة الإمام أحمد ، أي: أنه ينتظر كلمة يتكلم بها فيكتبها، فقال: أتريد أن أضل هؤلاء؟ كلا، بل أموت ولا أضلهم. فثبت وأرضاه في المحنة.
كما حصل من الخليفة الراشد أبي بكر إذ ثبت يوم الردة، حتى أن عمر ، وهو من هو أشكل عليه وقال: يا خليفة رسول الله! كيف تقاتلهم وقد صلوا، فقال أبو بكر: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ،وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺلَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا"([15])، فشرح الله صدر عمر لرأي أبي بكر ، وثبت ثبوت الجبال الراسيات وأرضاه، فأجمع الصحابة على قوله وأخذوا برأيه وأنه على الحق، فشرحت صدورهم لذلك، حتى قال بعض المسلمين: لولا أن الله ثبت أبا بكر لما عبد الله في الأرض، ولأطبقت العرب على الردة إلا من ثبته الله.
وكان علي بن المديني رحمه الله يقول: "إن اللَّه أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث، أَبُو بَكْر الصديق يوم الردة، وأَحْمَد بْن حَنْبَل يوم المحنة".([16])، وقد اختبر المأمون الإمام أحمد بناءً على رأي المعتزلة الذين أثروا عليه، وألزموا أهل السنة أن يقولوا: إن القرآن مخلوق، وأمر الخليفة بأن يؤتى بالعلماء من أنحاء الخلافة مقيدين بالسلاسل، فمن لم يقل بأن القرآن مخلوق أوذي وسحب وضرب وألقي في السجون، فمنهم من تأول، ومنهم من مات في السجن، ومنهم من مات في الطريق، ومنهم الإمام أحمد الذي رفض وامتنع على الرغم من شدة ما لقي من العذاب.
قوله :(تكلم الرويبضة في أمر العامة)والرويبضة: الجاهل الذي ليس عنده علم فيتكلم في أمر العامة بسبب فساد أمر الناس، وإلا فإن الرويبضة لا يتكلم في وقت قوة الإسلام وظهوره.
قوله :(وطعنوا على آثار رسول الله ﷺ) يعني: الحديث، وأخذوا بالقياس والرأي، وهو يقصد المعتزلة الذين يأخذون بآرائهم وأهوائهم وشهواتهم ويتركون النصوص.
قوله :(وكفروا من خالفهم) فكل من لم يقل: القرآن مخلوق كافر عند المعتزلة.
قوله : (فدخل في قولهم الجاهل والمغفل) فالجاهل لجهله تبع المعتزلة والمغفل كذلك، أما صاحب البصيرة والفطنة فلا يقبل قولهم.
إذاً: دخل في قولهم ثلاثة أصناف من الناس: الصنف الأول: الجاهل، والثاني: المغفل، والثالث: الذي لا علم له.
قوله :(حتى كفروا من حيث لا يعلمون) أي: بهذه المقالة الشديدة .
قوله :(فهلكت الأمة من وجوه) أي: هلكت الأمة من هذا الوجه حيث إنهم صدقوهم وأخذوا بقولهم.
قوله:(وكفرت من وجوه) يعني: من تبعهم في القول بخلق القرآن.
قوله :(وتزندقت من وجوه) الزندقة هي النفاق، أي: أن من الناس من كفر، ومن الناس من تزندق وصار منافقاً، ومن الناس من ضل وصار مبتدعاً، والنتيجة أن الأمة هلكت من هذه الوجوه.
قوله:(إلا من ثبت على قول رسولﷺ وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم، ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم) أي: لم يرغب عنها بل رغب فيها.
قوله:(وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح) أي: تيقن أن الصحابة كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح.
قوله:(فقلدهم دينهم واستراح) يعني: اتبعهم، وليس معناه التقليد بغير بصيرة.
قوله :(وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد،والتقليد دين أصحاب محمد ﷺ) والمراد بالتقليد الاتباع، وإلا فالتقليد مذموم إذا كان بغير بصيرة.
المتن:
الشرح:
قوله: (واعلم أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدعومن سكت فلم يقل: مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو جهمي. هكذا قال أحمد بن حنبل) الإمام أحمد له عبارة مشهورة قريبة من هذه، وهي قوله: «من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهوجهمي ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهومبتدع» ([17])مذهب أهل السنة والجماعة أن كلام الله منزل غير مخلوق، والمقصود بكلام الله لفظه ومعناه، فقوله: "لفظي بالقرآن"أي:لفظك وأفعالك وأقوالك مخلوقة، فعندما تخصص وتقول: "لفظي بالقرآن" هذا بدعة، ومن قال ذلك فهو جهمي؛ لأنه وافق قول الجهمية، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع؛ لأنه ابتدع قولاً لم يقله أحد من السلف فقد سكتوا وما قالوا: اللفظ مخلوق ولا غير مخلوق، فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فقد ابتدع؛ لمخالفته طريقة السلف، والقرآن كلام الله أنزله على رسوله ﷺ، وأفعالك وأقوالك مخلوقة، لكن لا يصح أن تخصص اللفظ بالقرآن أنه مخلوق، ولا يصح أيضا أن تشك فتقول: لا مخلوق ولا غير مخلوق، بل اجزم بأن القرآن كلام الله أنزله على رسوله، فالشاك مبتدع مثل الجهمية، ولا فرق بين الجهمي وبين الشاك، فالذي يتكلم بالبدعة والذي يسكت ولا ينفي البدعة كلاهما مبتدع([18])، والواجب أن نقول ما عليه اتفاق السلف: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق لفظاً ومعنى([19]).
قوله :(وقال رسول اللهﷺ: مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فإنها ضلالة، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.)وله ألفاظ، فقد روي بلفظ: فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. ([20])، وفي هذا الحديث التحذير من البدع ومحدثات الأمور وأنها من الضلال، والحث على لزوم السنة، وسنة الخلفاء الراشدين إذا خفيت السنة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أما مع وجود السنة فلا، فإذا لم توجد سنة، ووجد قول للخلفاء الراشدين فهو السنة؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن سنة الخلفاء الراشدين سنة بقوله: تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، والنواجذ هي الأسنان التي تلي الأضراس، وفي كل فك أربعة نواجذ، اثنان من اليمين، واثنان من الشمال، والمعنى: تمسكوا به، فالشيء الذي يريد الإنسان أن يمسكه يعض عليه بالنواجذ حتى لا ينفلت.
المتن:
[95]واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية: أنهم فكروا في الرب ، فأدخلوا: لم؟ وكيف؟ وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاءوا بالكفر عِياناً، لا يخفى أنه كفر، وأكفروا الخلق، واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل.
وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل : الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم، لا يرث، ولا يورث؛ لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة ولا عيدين ولا صدقة، وقالوا: إن من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد ﷺ ، وخالفوا من كان قبلهم، وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطلوا الجهاد، وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة، والجنة والنار لم يخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله ﷺ ، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه؛ لأن من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله ﷺ فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة وأوهنوهما وصارتا مكتومين؛ لإظهار البدع والكلام فيها، ولكثرتهم، واتخذوا المجالس وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرياسة، فكانت فتنة عظيمة، لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه ، أو يتابعهم أو يزعم أنهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، فصار شاكاً ، فهلك الخلق، حتى كان أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل ، فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم ، مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا. والرسم وأعلام الضلالة قد بقي قوم يعملون بها، ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم، ولا أحد يحجزهم عما يقولون ويعملون.
الشرح:
قوله: (واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم فكروا في الرب) أي: فكروا في ذاته وأسمائه وصفاته، ثم قاسوا الخالق على المخلوق.
قوله: (فأدخلوا: لم؟ وكيف؟) أي قالوا: لم؟ واستفهموا في الأفعال: لم فعل كذا، واستفهموا في الصفات، حيث قالوا: كيف استوى؟ وكيف نزل؟ وهذا من جهلهم وضلالهم، وهذه أسئلة فاسدة، ولا يوجه هذا السؤال لأفعاله جل في علاه، فلا يقال: لم جعل هذا غنياً؟ لم جعل هذا فقيراً؟ لم جعل هذا طويلاً؟ لم جعل هذا قصيراً؟ لأن الله حكيم له الحكمة البالغة، فالجهمية هلكت بذلك، أما الصحابة والتابعون ومن بعدهم فهم في عافية من هذا، فلم يأتوا بمثل هذه الأسئلة.
قوله :(وتركوا الأثر ووضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم) يعني: تركوا النصوص وقاسوا الخالق على المخلوق، وقاسوا أمور الآخرة على أمور الدنيا([21])، وقاسوا الدين على آرائهم وشهواتهم.
قوله: (فجاءوا بالكفر عياناً، لا يخفى أنه كفر) العيان: المعاينة، فارتكبوا كفراً واضحاً بيناً، يعاينه كل أحد ولا يخفى على أحد أنه كفر.
قوله:(وكفروا الخلق واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل) أي: الجهمية، فقد كفروا من لم يوافقهم ، ووصل بهم الحال حتى عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، وقالوا: ليس له علم ولا سمع ولا بصر ولا إرادة ولا قدرة، وليس فوق العالم ولا تحت العالم، ولا مبايناً للعالم ولا محايداً للعالم، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عن العالم، وهذا تعطيل كامل .
قوله: (وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل : الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم، لا يرث ولا يورث) وهذا مشهور عن كثير من العلماء أنهم كفروا الجهمية، وقد كفّرهم خمسمائة عالم، قال ابن القيم في الكافية الشافية([22]):
وَلَقَد تَقَلَّدَ كُفرَهُم خَمْسُونَ فِي | عَشْرٍ مِـنَ الْعُلَمَاءِ فِي البُلدَانِ |
واللَّالَكَائِيُّ الإِمَامُ حَكَاهُ عَنـ | ـهُم بَل حَكَاهُ قَبلَهُ الطَّبَرَانِي |
وقوله: "خَمْسُونَ في عَشْرٍ مِـنَ الْعُلَمَاءِ"، أي: خمسمائة، ومن العلماء من كفر الغلاة والدعاة وعلماءهم، وفسق عامتهم، ومن العلماء من كفرهم جميعاً ومنهم من بدعهم جميعاً؛ وذلك لخبث معتقدهم وفساد قولهم؛ ولأنهم قالوا: إن الرب ليس له صفات ولا أسماء، حتى إنهم نفوا النقيضين عنه جل وعلا، فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولهذا كفّرهم العلماء.
ومِن كفرهم ما يعتقده الجهم حيث يقول: الإيمان معرفة الرب بالقلب([23])، فإذا عرفت ربك بقلبك فأنت مؤمن، كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب، فنقول: والكفر والنفاق في القلب أيضاً، وإذا وقر الإيمان في القلب عملت الجوارح، وإذا وقر الكفر في القلب لم تعمل الجوارح.
قوله :(لأنه قال لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين ولا صدقة، وقالوا: إن من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر) إذاً: الجهمية يكفرون من قال: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
قوله :(واستحلوا السيف على أمة محمد ﷺ وخالفوا من كان قبلهم) لأنهم يرون أنهم كفار، فاستحلوا دماء المسلمين، وخالفوا من كان قبلهم.
قوله :(وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول اللهﷺ ولا أحد من أصحابه) فالمعتزلة امتحنوا الناس في زمن المأمون، وكانوا يأتون إلى كل عالم يسألونه ماذا يقول في خلق القرآن؛ فمن لم يقل: إن القرآن مخلوق فإنه يزج به في السجون ويؤذى، ومن قال منهم: القرآن مخلوق سكتوا عنه، فيكفرون من قال: إن كلام الله منزل غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهذا هو المؤمن عند المعتزلة.
قوله :(وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع وأوهنوا الإسلام) لأنهم يزعمون أن الإيمان في القلب، فلا حاجة إلى الصلاة ولا حاجة إلى المساجد، فأرادوا تعطيل المساجد والجوامع ،وأضعفوا الإسلام.
قوله:(وعطلوا الجهاد وعملوا في الفرقةوخالفوا الآثار) يعني: حاولوا التفريق بين المسلمين، وخالفوا النصوص.
قوله:(وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم) أي: المتشابه من كلام الله وكلام رسوله ﷺ ، ومن ذلك قولهم بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، وإنما الذي لا يعلم معناه هي الكيفية، كما قرر أهل السنة والجماعة ([24]).
قوله :(وقالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض، ولا شفاعة، والجنة والنار لم يخلقا) وقول المعتزلة: إن الجنة والنار ليستا مخلوقتين، بحجة أن خلقهما الآن عبث، ولا أحد يستفيد منهما، وإنما تخلقان يوم القيامة. وما أعملوا عقولهم أن النصوص دلت على أن الجنة والنار مخلوقتان، قال تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال تعالى في حق النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] هذا الأول.
ثانياً: أن الجنة والنار ليستا معطلتين، فالجنة فيها الحور والولدان، ويفتح للمؤمن باب من الجنة في قبره، فيأتيه من روحها وطيبها، والنار تعذب فيها أرواح الكفرة، ويفتح للكافر باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، وبهذا يتبين أنهما ليستا معطلتين. وأنكروا عذاب القبر، مع أن النصوص كثيرة في إثباته. وحديث الحوض من الأحاديث المتواترة. وأنكروا الشفاعة وهي متواترة كذلك.
قوله: (وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله ﷺ ، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه) أي: من أجل أنهم كفروا وشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وأنكروا عذاب القبر والحوض والشفاعة وهي أمور متواترة، وردوا النصوص.
قوله:(لأن من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول ﷺ فقد رد الأثر كله) وهذا كفر وضلال، فمن رد آية أو حديثاً فهو كافر.
قوله: (فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان، معونة على ذلك ووضعوا السيف والسوط دون ذلك) أي: أن الجهمية دامت لهم المدة ووجدوا من السلطة في زمن المأمون، معونة على ذلك ، ووضعوا السيف على رقاب المسلمين حتى يوافقوا على آرائهم الباطلة، وكذلك ألهبوا ظهور العلماء بالضرب بالسوط؛ لأنهم لم يوافقوهم.
قوله: (فدرس علم السنة والجماعة وأوهنوهما وصارتا مكتومين) أي: خفي علم السنة والجماعة بسبب ظهور هؤلاء المبتدعة المعتزلة، وإيذائهم المسلمين وتعذيبهم لهم.
قوله :(لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم) فصار علم الكتاب والسنة مكتومين بسبب إظهار البدع والكلام فيها ولكثرتها.
قوله:(واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب) أي: أن المعتزلة صنفوا الكتب، فلهم كتب يقررون فيها آراءهم.
قوله:(وأطمعوا الناس، وطلبوا الرياسة) أطمعوا الناس في أن من تبعهم يولونه ويعطونه من رفدهم.
قوله: (فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله ، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه ، أو يتابعهم أو يزعم أنهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، فصار شاكاً ، فهلك الخلق) هذا هو أدنى ما يصيب الإنسان من مجالستهم، فإما أن يشك في دينه، وإما أن يتابع أهل البدع على بدعتهم، وإما أن يرى أن ما هم عليه هو الحق، فيرى أن آراءهم الفاسدة على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، فصار شاكاً.
قوله: (حتى كان أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة) المتوكل رحمه الله أوقف البدعة التي انتشرت في زمن المأمون وألزم الناس بقول الحق في القرآن، وأخرج الإمام أحمد رحمه الله، وأذن له بالدرس، فعادت المياه إلى مجاريها فرحمه الله.
قوله: (وطالت ألسنتهم) أي: أهل السنة، فصار لهم ظهر يحميهم وهو الخليفة .
قوله: (مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذاوالرسم وأعلام الضلالة قد بقي قوم يعملون بها، ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم ولا أحد يحجزهم عما يقولون ويعملون) أي: وإن كان المتوكل قد نصر أهل السنة إلا أنه بقي شيء لأهل البدع وهو الرسم والعلم فقط ، وبقي من المبتدعة في زمن جعفر المتوكل الذي أظهر السنة، وقد بقي لأهل البدع وأعلام الضلالة فيعملون بها ويدعون إليها دون وجود مانع ولا حاجز.
المتن:
الشرح:
قوله: (واعلم أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح) كبدعة الخوارج، وفتنة الجهمية، وبدعة القدرية، وبدعة المعتزلة، فلم تنشأ هذه إلا من الهمج، أي: الجهال الذين لا علم عندهم، والذين يتبعون كل ناعق، فكلما سمعوا شيئاً تبعوه سواء كان على الحق أو على الباطل فليس عندهم بصيرة ولا تمييز، فهؤلاء هم سبب انتشار البدعة؛ لعدم بصيرتهم.
قوله:(فمن كان هكذا فلا دين له، قال الله تبارك وتعالى:ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية:17]) أي: أهل الكتاب ما اختلفوا إلا بعد العلم، والذي حملهم على اختلافهم البغي، وهذا ذم لأهل الكتاب، وهو تحذير لنا -في نفس الوقت- حتى لا نفعل مثل فعلهم فيصيبنا ما أصابهم، وسبب الاختلاف هم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع من أهل الكتاب، ومن هذه الأمة أيضاً.
قوله:(وأصحاب الطمع والبدع) هم الذين يختارون الدنيا بالدين والذين يبيعون آخرتهم بدنياهم، فهؤلاء هم الذين تظهر بسببهم البدع، وفيه التحذير من البدع وتحذير أهل العلم من الزيغ والانحراف.
المتن:
الشرح:
قوله: (اعلم أنه لا يزال الناس في عصابة من الحق والسنة، يهديهم الله ويهدي بهم غيرهم ويحيي بهم السنن) أي: أن الأمة لا يزال فيها الخير، لا يرفع من هذه الأمة، وهذه بشارة من النبي ﷺ بقوله: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ([25])، وهي بشارة في أن الخير لا ينقطع من هذه الأمة ولا يرفع منها، بل لابد أن تثبت طائفة على الحق إلى يوم القيامة، إلى أن تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات.
فهذه الطائفة (الذين وصفهم الله مع قلتهم عند الاختلاف وقال: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]، فاستثناهم فقال: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]) فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل([26]) .
المتن:
الشرح:
قوله: (واعلم رحمك الله أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب) أي: كون الإنسان يروي الأحاديث، ويكون له شيوخ كثيرون، وأتباع، وقد يكون الإنسان لديه مكتبة كبيرة الحجم مليئة بالكتب، ولكن قد لا يستفيد ولا يقرأ فيها ولا يعمل بما فيها، كالحمار يحمل الأسفار وهي الكتب ولا يستفيد منها، وقد مثل الله تعالى أهل الكتاب بذلك، قال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5].
قوله: (إنما العالم من اتبع العلم والسنن) فالعالم هو الذي يتبع العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم والكتب.
إذاً: المهم في العالم اتباع السنة، فمن اتبع السنة فهو العالم، ولو كانت روايته وكتبه قليلة، ومن خالف السنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب.
المتن:
الشرح:
قوله:(واعلم رحمك الله أن من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأويله) كأن يفسر كلام الله برأيه وقياسه وتأويله الفاسد، وقد ثبت أن أبا بكر الصديق سئل عن آية في كتاب الله، فقال: «أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ».([27])
قوله: (من غير حجةمن السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم) فالقول على الله بما لا يعلم مرتبة فوق الشرك، قال الله : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل القول على الله بلا علم فوق الشرك؛ لأنه يشمل الشرك ويشمل غيره، فالشرك قول على الله بلا علم.
قوله :(ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين)وقد قال الله تعالى لنبيه ﷺ : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
قوله: (والحق ما جاء من عند الله) أي: في كتاب الله وسنة رسوله، فالقرآن وحي والسنة وحي، يقول النبي ﷺ: أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. ([28])، والله تعالى يقول عن نبيه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فالحق ما جاء من عند الله، مما أنزله في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ .
قوله: (والسنة: سنة رسول الله ﷺ، والجماعة: ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله ﷺ في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان) فإن كل حق فهو مأخوذ من كلام الله وكلام رسوله، ومن الكتاب والسنة، وسنة الرسول ﷺ هي: قوله وفعله وتقريره.
قوله: (ومن اقتصر على سنة رسول الله ﷺ وما كان عليه أصحابه والجماعة فلج على أهل البدع كلها) أي: ظفر وفاز بالمطلوب، وفلج غيره، أي: غلب غيره بحجة. والجماعة: هم المؤمنون الذين اجتمعوا على الحق، فإذا اقتصر الإنسان على ما جاء في القرآن والسنة، وعلى ما كان عليه الصحابة فإنه يفلج أهل البدع، أي: يغلبهم بالحجة ويظفر ويفوز ببغيته.
قوله :(واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله) وهكذا حال المؤمن الذي يَلزم الكتاب والسنة والجماعة، فهو يظفر بالمطلوب ويفوز به، ويغلب أهل البدع كلهم، ويستريح بدنه ويسلم له دينه.
قوله (لأن رسول الله ﷺ قال: سَتَفتَرِقُ أُمَّتِي، وبين لنا رسول الله ﷺ الناجي منها فقال: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي) جاء في الحديث السابق: كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً، قِيلَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي. ([29])
قوله: (فهذا هو الشفاء والبيان والأمر الواضحوالمنار المستنير) أي: هذا الذي بينته لك من أنه يجب الاقتصار على السنة والجماعة، والحذر من أهل البدعة هو الشفاء، وهذا هو البيان.
قوله:( وقال رسول اللهﷺ: إيَّاكُمْ وَالتَّعَمُق، وَإِيَّاكُم وَالتّنظع، وَعَلَيْكُمْ بدينَكُمُ العتيق.)هذا الأثر نسبه المؤلف إلى النبي ﷺ ، ولكنه من قول ابن مسعود ([30]) وسيأتي، والمعنى : أن يتعمق الإنسان ويريد أن يصل إلى ما لم يصل إليه غيره، فيتعمق في السؤال عن الأشياء التي لا يحتاج إليها، وهو قريب من معنى التنطع، فكون الإنسان يتنطع بلسانه ويتعمق بفكره، فيسأل عن أشياء لا حاجة له بهاخطأ.
ومعنى العتيق أي: القديم ، وقد استمر الدين صحيحاً لم تدخله البدع والمحدثات منذ وفاة رسول الله ﷺ إلى مقتل عثمان ، ثم افترق الناس وانتشرت الأهواء، ولذا ينبغي أن يحذر المسلم من أهل البدع ولا يجالسهم وأن يتبع أهل السنن والآثار.
الحواشي:
[1]-انظر صحيح مُسْلِم ، كتاب النكاح ، رقم (1438).
-[2]أخرجه مُسْلِم ، كتاب النكاح (1406) .
[3]- سبق تخريجه.
[4]- سبق تخريجه.
[5] - أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم (4216)، ومُسْلِم ، كتاب النكاح ، رقم (1407).
[6]- أخرجه ابنُ ماجَهْ: المقدمة ، رقم (140)، وأحمد في المسند ، رقم (1777)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/382)، والحاكم في المستدرك ، رقم (6960)، والطبراني في المعجم الكبير (11/433)، وقال الذهبي في السير (2/88): إسناده منقطع.
[7]- أخرجه أحمد في المسند ، رقم (23489)، والطبراني في المعجم الكبير (18/12)، وأبو نعيم في الحلية (3/100)، وقال الهيثمي في المجمع (3/266): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
[8] - أخرجه البخاري، كتاب الصَّلاَةِ ، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره ، رقم (481)، ومُسْلِم ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم (2585).
[9] - أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم ، رقم (6011)، ومُسْلِم واللفظ له ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم (2586).
[10] - أخرجه البخاري، كتاب الْجُمُعَةِ، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد ، رقم (927) .
[11] - سبق تخريجه .
[12] - أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف ، رقم (4330)، ومُسْلِم واللفظ له، كتاب الزكاة ، رقم (1061).
[13] - أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا. [المنافقون: 7] ، رقم (4906)، ومُسْلِم واللفظ له ، كتاب فضائل الصحابة ، رقم (2506).
[14]- هو أحمد بن دؤاد بن حريز – وقيل: جرير – ، القاضي أبو عبد الله الأيادي البصري ثم البغدادي، الجهمي، الفاتن، الذي حمل السلطان عَلَى امتحان الناس بخلق القرآن، توفي عام 239. انظر ترجمته في تاريخ بغداد ( 4/365)، والمنتظم في أخبار الملوك والأمم (11/273)، وتاريخ الإسلام (17/40)، والبداية والنهاية (14/362).
[15] - أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة ، رقم (1400)، ومُسْلِم ، كتاب الْأَيْمَانِ ،رقم (20).
[16] - انظر: تاريخ بغداد (6/90)، وتاريخ دمشق (5/278)، وتاريخ الإسلام (18/71)، والسير (11/196) .
[17]- أخرجه ابن بطة في الإبانة (5/339)، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّةِ ، رقم (181)، وكذا رواه ابن جرير في "صريح السنَّة" رقم (32)، وعنه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/392)، والآجري في الشريعة (ص535)، وسير أعلام النبلاء (11/ 288)، وانظر ما روي عن السلف بنحو ما قال الإمام أحمد: تاريخ بغداد (2/ 31 - 32) والسير (12/ 289)، والسنة للخلال (7/63-89)، وأصول الاعتقاد (2/ 362/540)، (2/ 388/589) والسنَّة لابن الطبري 1/ 179) .
[18]- انظر: في مسألة "اللفظ":خلق أفعال العباد للبخاري (ص 7-16)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/151- 185)، والشريعة للآجري (ص 75- 83)، درء التعارض (1/256-271) ، والتسعينية (ص:234-235) ، ومجموع الفتاوى (12/74-75)،(12/206-210)، (12/306-307)، (12/359-364، 374، 408-433)،(12/573-574)، (17/34-36)،وشرح العقيدة الأصفهانية (ص 31-36) .
[19]- انظر:السنة لعبدالله بن أحمد (1/ 281)، التوحيد لابن خزيمة (1/ 348)، السنة لابن أبي عاصم (1/ 412 - 416)، الشريعة للآجري ص75، وأصول اعتقاد أهل السنة(1/221- 306)، ومجموع الفتاوى (3/144)، (3/401)، (12/37)، (12/54)، ومنهاج السنة النبوية 1/296)، ومختصر الصواعق المرسلة 2/277- 332)، ولوامع الأنوار البهية(1/132- 143)
[20]-أخرجه أبو داود ، كتاب السُّنَّةِ ، باب في لزوم السنة ، رقم (4607)، والترمذي: أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع ، رقم (2676)، وابنُ ماجَهْ، المقدمة ، رقم (45)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم في المستدرك (329): هذا حديث صحيح ليس له علة.ا.هـ ووافقه الذهبي.
[21]- انظر: بيان تلبيس الجهمية (5/180) .
[22]- الكافية الشافية (ص42) .
[23]- انظر: مقالات الإسلاميين (1/214)، والسنة، لعبدالله بن أحمد (ص231)، والفصل في الملل والنحل (3/105-106)، الفرق بين الفرق (ص 202 - 207)، ومجموع الفتاوى (7/195)، (8/230) .
[24]- انظر: شرح حديث النزول (ص21)، ومجموع الفتاوى (5/347)، (13/285-286)، (294-305)، (17/379)، (17/429) .
[25] - أخرجه البخاري، كتاب المناقب ، رقم (3641)، ومُسْلِم ، كتاب الْإِمَارَةِ ، رقم (1920) .
[26] - مجموع الفتاوى (16/514) .
[27]-أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/136)، والبزار في مسنده (18/236)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1561)، والبيهقي في الشعب (3/540).
[28]- سبق تخريجه .
[29]- سبق تخريجه .
[30]- أخرجه ابن وضاح في البدع (1/59/60) ، والدارمي في سننه(1/251/144)، والمروزي في السنة (29/85) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/97/108)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2363)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (168).