شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب العبودية
  5. شرح كتاب العبودية_2 من قوله إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ إلى وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ

شرح كتاب العبودية_2 من قوله إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ إلى وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ

00:00
00:00
تحميل
171

وقوله: (وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد الله): أي: لا بمعنى أنهم معبَّدون العبودية العامة، ولا بمعنى أنهم عابدون العبودية الخاصة، فلا هذا ولا هذا، وبذلك تجاوزوا النوعين فشهدوا على أنفسهم أنهم هم الخالقون والمخلوقون، هم الرب والعبد جميعًا - نعوذ بالله -، وممن يقول بهذا القول: ابن عربي -رئيس وحدة الوجود- وابن سبعين، والملاحدة الذين جحدوا الوجود.

وخلاصة ما سبق:

أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

بيَّن المؤلف –رحمه الله–أن العبودية تنقسم إلى قسمين:

عبودية عامة، وعبودية خاصة.

والعبودية العامة هي ربوبية الله، شامل لكل مخلوق، كل مخلوق هو عبد لله بمعنى أنه معبَّد مدبر تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، رضي أو لم يرض.

أما العبوديـة الخاصـة فهي متعلقة بإلهيته وطاعـة أمره وأمر رسوله. والذي يعبد الله عن طواعيةٍ واختيارٍ هم المؤمنون، وهذه العبودية خاصة بالمؤمنين. أما العبودية العامة فهي شاملة للمؤمن والكافر.

بيَّن - رحمه الله - أن من الناس من يشهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية، والحقيقة الكونية هي: ربوبية الله العامة لكل شيء، فبعض الناس يشهد الحقيقة الكونية، أي: يشهد ربوبية الله لكل شيء وأنه تنفذ فيه قدرته ومشيئته، ويقف عند هذا الحد، ولا يتجاوزها إلى الحقيقة الدينية وهي عبادته المتعلقة بإلـهيته وطاعة أمره وأمر رسوله ﷺ.

المتن:

إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ

الشرح:

الذين يشهدون الحقيقة الكونية ويقفون عندها بيَّن المؤلفُ رحمه الله أنهم أقسام؛ وأنه قد يصل الحال ببعض الذين يشهدون الحقيقة الكونية إلى أن يصلوا إلى القول بوحدة وجودها، وهذا غاية الكفر، نسأل الله العافية.

القسم الأول: الذين يشهدون الحقيقة الكونية من غلاة الصوفية قد يصل بهم الأمر إلى القول بوحدة الوجود - نسأل الله السلامة والعافية - يعني يشهدون بربوبية الله في كل شيء وأن قدرته نافذة في كل شيء، وأنه لا خروج له عن إرادة الله، ثم يصل به الحال إلى أنه يتجاوز هذا فيرى نفسه أنه هو الله، وأنه هو الخالق والمخلوق، وهو العبد وهو المعبود، فتجاوزوا الحقيقة الدينية، وهؤلاء بلغوا الغاية في الكفر - نسأل الله السلامة والعافية - حيث يقولون بوحدة الوجود؛ وسبب ذلك: غلوهم في شهود الحقيقة الكونية.

القسم الثاني: يحتجون بالقدر في كل شيءيخالون فيه الشريعة؛ فيحتجون بالقدر احتجاجا مطلقًا عاما.

القسم الثالث: يرون أن الشريعة والتكاليف لازمة لمن أثبت لنفسه صفات وأثبت لنفسه أفعالا، فمن أثبت لنفسه أفعالاً وأثبت لنفسه صفات فالتكاليف لازمه له، أما من شهد إرادة الله الكونية ولم يجعل لنفسه صفات ولا أفعال فإنه يسقط عنه التكاليف، ويقسمون الناس إلى قسمين:

1-قسم الخاصة.                         2- قسم العامة.

فالعامة: لازمة عليهم التكاليف، والأوامر والنواهي.

والخاصة - الذين شهدوا الإرادة الكونية، وألغوا صفاتهم وأفعالهم وجعلوها صفة لله-: تسقط عنهم التكاليف.

القسم الرابع: يؤدون الواجبات وينتهون عن المحرمات إلا أنهم يتركون الأسباب التي أمروا بها شرعًا، وهذا نقص عظيم، وقد تكون الأسباب واجبة وقد تكون مستحبة.

القسم الخامس: يفعلون الواجبات لكن يتركون المستحبات، فهؤلاء يحصل لهم نقص عظيم ويفوتهم خير عظيم من الثواب ومن الأجر.

القسم السادس : يشتغلون بما يحصل لأحدهم من بعض خوارق العادات إما مكاشفة أو استجابة دعاء فيشتغل بذلك عما أمر به من عبادة الله وشكره.

هذه أقسام الناس الذين يحتجون بالقدر، وقد بيَّنهم المؤلف رحمه الله، فقال: (إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب "الفصوص" وأمثاله الملحدين المفترين، كابن سبعين، وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون) هذا هو القسم الأول ممن شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية يسوون بين الأجناس المختلفة، يسوون بين المؤمنين وبين الكفار، وبين الأبرار وبين الفجار، بل يسوون بين الله وبين الأصنام، بل يصل بهم الحال إلى أن يجعلوا وجوده واحدا، فيجعلون الخالق عين المخلوق، والمخلوق عين الخالق، والرب عين العبد، والعبد عين الرب، فلا يشهدون أنفسهم أنهم معبَّدون ولا عابدون، بل يشهدون أنفسهم هم المعبود وهم العابد، وهم الرب وهم العبد، وهم الخالق وهم المخلوق.

ومن هؤلاء الملاحدة رئيسهم: ابن عربي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني وغيرهم، حتى يقول ابن عربي من أبياته المشهورة:

العَبـــدُ رَبٌّ وَالـرَّبُّ عَبــدٌ يَا لَيتَ شِعرِيْ مَن المُكَلَّف
إِن قُلتَ: عَبدٌ فَذَاكَ رَبٌّ أَو قُلتَ: رَبٌّ أنَّى يُكَلَّف [1]

يقول ما الفرق بينهم؟ العبد هو الرب، والرب هو العبد، فأيهما المكلف؟

ومن كلماته يقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك.

ويقول أيضاً: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول علي على ماذا؟

وما سمي إلـه وعن ماذا وما هو إله، هكذا - والعياذ بالله -.

ويقول: إن كل شيء تراه في الوجود هو الله، سر حيث شئت فإن الله ثَمَّ، وقل ما شئت فيه فالواسع الله، كل شيء تراه هو الله، وهذا التعدد هو وحده[2].

هكذا يصل الحال بهؤلاء الذين يقولون بوحدة الوجود، يقولون ليس ثم رب ولا عبد، فأنت العبد وأنت الرب، وأنت الخالق وأنت المخلوق.

ويقولون: هذه مظاهر لتجلي الحق، فالله يتجلى بصورة معبود؛ كما تجلي في صورة فرعون، ويتجلى في صورة هادٍ؛ كما يتجلى في صورة الرسل.

ويقولون: كل من عبد شيئًا فهوعلى صواب، فالذي يعبد الأصنام على حق، والذي يعبد النار على حق، والذي يعبد الأشجار على حق، كل شيء يكون على حق -والعياذ بالله-.

ويقولون: الذي يخصص ويقول: لا يعبد إلا شيئاً واحدًا فهذا هو الكافر؛ فعندهم الكفر في التخصيص، يقولون: الله واسع كل شيء.

وابن عربي له معارضات يعارض فيه القرآن الكريم وقصة قوم نوح، وقصة قوم هود،ولهم معارضات ورموز -نسأل الله السلامة والعافية - حتى إنهم يقولون: إن فرعون حين قال: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، هو على حق وعلى صواب، وعباد الأصنام كذلك على صواب، ويعللون غرق فرعون فيقولون: لأنه ظن أنه هو المعبود فقط، فأغرق وطهر فصار إغراقه تطهيرًا له ليزول الحسبان والتوهم الذي توهم أنه هـو المعبود فقط.

هكذا يقولون - نعوذ بالله - وهذه هي الطائفة الأولى كما قال المؤلف رحمه الله، الذين شهدوا الحقيقة الكونية يسوون بين الخالق وبين المخلوق وبين العابد وبين المعبود يشهدون أنفسهم هي الحق، يعني هو الله.

المتن:

وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودِ لِحَقِيقَةِ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَوَامُّهُمْ وَخَوَّاصُهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ.

 فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ وَلَا وُجُودُهُ وَجُودُهُ.

وَ " النَّصَارَى " كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا: بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ.

الشرح:

هذا هو الذي عليه المؤمنون عوامّهم وخواصهم– أي: علماءهم وغير علمائهم - وأهل الله هم أهل القرآن؛ يفرقون بين الخالق والمخلوق، ويقولون: إن الخالق مباين للمخلوق منفصل عنه، ليس الله تعالى حال في شيء من مخلوقاته، بل هو فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن، فالله فوق العرش لم يدخل في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، هذا هو قول جميع الطوائف ما عدا هؤلاء الملاحدة نعوذ بالله، وهم أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوا الله في صورة عيسى، فالنصارى يقولون: إنهم رأوا الله في صورة عيسى، وهؤلاء الضلال يقولون: إنهم رأوه في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

المتن:

وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ. كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. ([4]) وَفِي الْحَدِيثِ إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ([5]).

فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ

الشرح:

هذه حال المؤمنين بالله يجاهدون أنفسهم في أداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحتجون بالقدر، وإن كان كل شيء مقدر، لكن يدفعون قدرًا بقدر.

فإذا وقعت في شيء من المنكر وإن كان مقدرًا فعليك أن تدفعه بقدر آخر وتزيله بالتوبة، وإن كان الواقع في المنكر غيرك فتقوم بالنصيحة وبتغيير المنكر، وهكذا... كما أن الإنسان مقدر عليه الجوع لكن هل يستسلم للجوع أم يأكل؟! فالجوع مقدروالشبع مقدر والأكل مقدر، فأنت تدفع قدرًا بقدر.

والبرد مقدر، لكن هل تستسلم للبرد ولا تستدفئ؟الجواب أنك تستدفئ فهذا قدر وهذا قدر.

فكذلك إذا وقعت المعصية لا تستسلم للمعصية بل تتوب إلى الله، وكذلك إذا وجدت أحدًا يعمل المعصية فإنك تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولا تقل: هذا مقدر، وتسكت. فكلٌ مقدر؛ الشيء وضده، كلاهما مقدر كما في الحديث إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ([6])، والدعاء والبلاء كلاهما مقدر، ومع ذلك أنت مأمور بالدعاء، والدعاء سبب من أسباب الإجابة، فالله قدر السبب والمسبب، فلا يخرج الدعاء عن القدر، والله تعالى قدر أن يكون شفاء المريض بهذا السبب وهو الدعاء، وقدر أن هذا لا يشفى بترك الدعاء.

المتن:

لا احتجاج بالقدر في مخالفة الشريعة

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ:

فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ.

وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ، وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ

الشرح:

هؤلاء في المرتبة الثانية بعد الاتحادية، فالاتحادية يتجاوزن الحقيقة الكونية فيجعلون أنفسهم هم الخالقون وهم المخلوقون، ثم يأتي هؤلاء يشهدون الحقيقة الكونية ويحتجون بالقدر في كل شيء يخالفون فيه الشريعة، فهؤلاء في المرتبة الثانية.

المتن:

وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا؛ بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلُّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاع أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ. فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِكَ وَبِغَيْرِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أصل قَوْلك: [إِن الْقدر] حجَّة.

وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ؛ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ.

الشرح:

هؤلاء الذين يحتجون بالقدر في كل شيء متناقضون، ولا يستطيعون أن يحتجوا بالقدر في كل شيء، بل هم يحتجون به في أمور الدين، فإذا تركوا الواجبات احتجوا بالقدر، وإذا فعلوا المحرمات احتجوا بالقدر، لكن في أمور دنياهم لا يحتجون بالقدر، لو جاء إنسان وضربه لا يقول هذا مقدر ويسكت، بل يطالب بحقه، ولو جاء إنسان وأخذ ماله فإنه يطالب بحقه، ولا يسكت، ولو جاء إنسان وقطع عضوا منه لا يسكت ولا يقول هذا مقدر، فيقال له لا تناقض إن كان القدر حجة فدع كل شيء يفعل بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك، فلماذا تحتج به في أمور الدين ولا تحتج به في أمور الدنيا؟!

وقوله:(وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية): أي: أنهم لا يطردون ولا يستمرون على مذهبهم يحتجون به في كل شيء، بل يحتجون به فيما يناسبهم ولا يحتجون به فيما لا يناسبهم، فإذا أراد أحدهم ترك الأوامر وفعل النواهي احتج بالقدر، وإذا أراد أن يطالب بحقوقه الدنيوية احتج به، فصار متناقضًا.

المتن:

وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا؛ أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ.

وَقَدْ يَقُولُونَ: مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ.

الشرح:

هذا أصلهم الثالث؛ وهو أنهم يقسمون الناس إلى قسمين: قسم عليهم التكاليف، وقسم ليس عليهم التكاليف.

فالقسم الأول العامة الذي عليهم التكاليف هم: الذين أثبتوا أفعالاً لأنفسهم، وهؤلاء يسمَّون: أهل الشريعة؛ عليهم أوامر وعليهم نواهي، ويجب عليهم أن يلتزموا بالشريعة.

والقسم الثاني الخاصة: الذين لم يثبوا لأنفسهم أفعالاً ولا صفات، بل جعلوا أفعالهم هي أفعال الله وشهدوا إرادة الله، يشهدون الإرادة يعني: يشهدون إرادة الله الكونية فقط، وينسون أنفسهم حتى إن صفاتهم يجعلونها من صفة الله، فهؤلاء تسقط عنهم التكاليف ولا تكون عليهم تكاليف لا أوامر ولا نواهي، يفعلون ما يشاؤون.

فهندهم أن الناس قسمين: فالعامة يلتزمون بالشريعة، والخاصة لا يلتزمون بل قد ارتفعوا وتجاوزوا الشريعة– سأل الله السلامة والعافية -.

ومن اعتقد هذا الاعتقاد فإنه يستتاب فإنه تاب وإلا قتل كافرًا؛ فليس هناك أحد يختص.

خاصة الناس هم الأنبياء والرسل وهم أكبر الناس توحيدًا وإيمانًا وتحقيقًا لعبودية الله ، فمن زعم أن هناك أحد يسقط عنه التكاليف وعقله ثابت معه ليس بصغير ولا مجنون ولا مخرف إلا الحائض والنفساء في سقوط الصلاة والصوم، فمن اعتقد ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا من قبل ولاة الأمور، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. أي:حتى يأتيك الموت.

المتن:

فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ.

وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ وَلَكِن [يسقطونه] عَمَّن يَشْهَدُهُ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ..

وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ.

الشرح:

قوله: (فهؤلاء يفرقون بين العامة والخاصة): أي: يفرقون بين من يعلم فقط ومن يشهد؛ فالذي يشهد: لا يثبت لنفسه صفة بينما يجعل صفته هي صفة الله، فهذا يسقط عنه التكليف. أما الذي يعلم في نفسه:إنما يثبت لنفسه صفات وأفعال، فهذا لا تسقط عنه التكاليف، وهذا أيضًا قول بعض الصوفية.

وقوله: (وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعًا من التكليف على هذا الوجه): يريد بيان أن المعتزلة أثبتوا الأمر والنهي الشرعيين، لكن أنكروا عموم مشيئة الله وقدرته في الكائنات حتى تشمل أفعال العباد، فقالوا: إن أفعالهم لم يخلقها الله، هم الذين خلقوها طاعات ومعاصي، حتى إذا عذب الله الإنسان على المعاصي يكون عذَّبه على أفعال هو التي خلقها وأوجدها بنفسه.

وأهل السنة والجماعة يقولون: الله تعالى خالق كل شيء، خالق العباد وخالق أفعالهم.

فالمعتزلة أثبتوا الأمر والنهي ولم يثبتوا عموم الإرادة والمشيئة، وأما الجبرية فأثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي.

المتن:

وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا.

وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ

الشرح:

قوله: (وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر): أي يعني أن هؤلاء الجبرية ضد المعتزلة؛ أثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي، فقالوا: الإنسان مجبور، وعلى هذا فلا يكلف ولا يؤاخذ بالمحرمات التي فعلها.

وقوله: (وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة): وجه ذلك: أن المعتزلة يعظمون الأمر والنهي، فهم يعظمون الشريعة بخلاف هؤلاء، فإنهم لا يعظمون الأوامر والنواهي، ولهذا صار قولهم شرا من قول المعتزلة، ولهذا لم يكن من السلف من هؤلاء أحد.

وقوله: (وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية) هؤلاء الذين يحتجون بالقدر يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين ما شهدوا الحقيقة الكونية فهؤلاء عليهم التكاليف، أما الخاصة الذين انفتح لهم الباب وألغوا صفاتِهم وجعلوها صفةً الله تسقط عنهم التكاليف، فالناس قسمان:

العامة: محجوبون عن شهود الإرادة فعليهم تكاليف.

الخاصة: غير محجوبين فتسقط عنهم التكاليف ـ نسأل الله السلامة والعافية.

وقوله: (ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي): أيصار من الخاصة وسقط عنه التكليف ووصل إلى الله، فألغى صفاته وأفعاله وجعلها صفة لله، فصار يشهد الإرادة الكونية.

أما العامة الذين لم يصلوا إلى هذه الدرجة فعليهم تكاليف.

وقوله: (وربما تأولوا على ذلك): أي ربما استدلوا على ذلك بقول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. فهم يستدلون بما يناسبهم، ويفسرون اليقين ب:العلم، فمن وصل إلى العلم شهد الإرادة سقط عنه التكليف، أي اعبد ربك حتى تصل إلى اليقين، وحتى تصل إلى العلم وإلى شهود الإرادة، وعند ذلك انتهت العبادة فلا تعبد، وهذا من أبطل الباطل، وهو استدلال غير صحيح، وإنما المراد باليقين: الموت، والمعنى: استمر على عبادة ربك حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك، لكن هؤلاء لهم تفسير باطل.

المتن:

وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ. وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ؛ وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ.

وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ.

وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ.

الشرح:

قوله: (وقول هؤلاء كفر صريح): قول هؤلاء كفر صريح والسبب أنهم خالفوا النصوص التي فيها أن جميع الناس مكلفون بعبادة الله، قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]فلم يستثن الله منهم أحدًا، ولا قال: إن هناك قسم لا يعبدونه وهم الذين وصلوا إلى الله وصاروا من الخاصة، فهؤلاء قولهم كفر صريح، وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر.  

ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام، شيء يعلمه كل أحد؛ أن الأمر والنهي والتكاليف لازمة لكل عبد ما دام العقل معه ثابت، فإذا فقد العقل سقط التكليف، وإذا صار الإنسان مجنونًا أو مخرِّفًا لكبر سنه أو كان صغيرًا ولما يبلغ، فهذا ليس عليه تكليف، فمن قال إن أحدًا هناك يسقط عنه التكليف يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا من قِبل ولاة الأمور، فمن لا يعرف ذلك فإنه كما قال المؤلف: (فمن لا يعرف ذلك عُرِّفه وبُيِّن له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي، فإنه يقتل): يعني:يقتل من قِبل ولاة الأموربعد أن يثبت عليه الحكم الشرعي, فإذا ثبت عليه هذا الاعتقاد حكم عليه بالقتل ويُقتل.

فيُرفع أمره إلى المحكمة حتى يقام عليه الحد، فليس لكل أحد أن يقتله؛ حتى لا تكون المسألة فوضى ,كل من رأى أحدٌأحداً قتله.

قال المؤلف في مجموع الفتاوى: [هؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل وهم أسوأ حالا من المجوس وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد][7]، وقال رحمه الله: [ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله؛ وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله][8].

وقوله: (وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين): هكذا يزعم بعض الصوفية، يزعمون المعرفة والحق، لكنهم هم من أبطل الباطل، أما المتقدمون فلا يسوغون أن أحدا يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف[9].

المتن:

وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ؛ وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ؛ وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

الشرح:

وهذه اعتقادات فاسدةعند الصوفية، حيث يعتقدون أن قسمًا منهم تسقط عنهم التكاليف، وهذا اعتقاد باطل بل من أبطل الباطل -وإن كانوا لا يعلمون هذا- فإن اعتقادات الصوفية التي يعتقدون تخالف أمر الله وأمر رسوله ﷺ مما هو معلوم بالدين بالضرورة وهي تخالف ما أجمع عليه المسلمون من أن التزام الشريعة وامتثال الأوامر والنواهي لازم لكل أحد، إلا من زال عقله فإنه يرفع عنه التكليف.

وقد بين المؤلف أن من اعتقد أن أحدا يسقط عنه التكليف وعقله معه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، وهذا أمر مجمع عليه.

وفي قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ  أن العبادة لازمة على كل أحد حتى الموت وأما اعتقاد الصوفية أن اليقين هو العلم وأن من علم أن ما قدر سيكون وألغى صفاته وجعلها صفات لله، فيسقط عنه التكليف، فهذا أمر مصادم لما أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب من وجوب عبادة الله على كل مكلف، وأن العبادات لا تسقط عن المكلف إلا إذا زال عقله، وهذا -كما تقدم- أمر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، كما قرره المؤلف وغيره من أهل العلم.

المتن:

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فَهَذِهِ الْأَصْنَاف فِيهَا شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ

وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ... إلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إلَى قَوْلِهِ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ إلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ إلَى قَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ۝ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ إلَى قَوْلِهِ: قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

الشرح:

هذا كله من بدع المشركين ومن شركياتهم، فكذلك هؤلاء يجمعون بين البدعة وبين الشرك فهم يشبهون المشركين الأولين. كذلك هؤلاء الصوفية الذين يحتجون بالقدر فيما يناسب أهواءهم، يشبهون المشركين في احتجاجهم على القدر بالمشيئة؛ كما قال الله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ الأنعام: ١٤٨فكل من احتج على المعاصي بالقدر فهو من هؤلاء، وفيه شبه بالمشركين.

والله تعالى قد أخبرنا عن أفعال المشركين بالتحذير منهم والبعد عن أوصافهم، ويأبى هؤلاء الصوفية إلا أن يوافقوا المشركين وذلك لما في تجانس قلوبهم من الشر والبلاء؛ كما قال الله: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ البقرة: ١١٨ فالواجب على المسلم أن يبتعد عن أوصاف المشركين وأفعالهم، وأن يكون له أسوة برسول الله وأصحابه لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا الأحزاب: ٢١.

المتن:

وَهَؤُلَاء قد يسمّون مَا أحدثوه من الْبدع حَقِيقَة كَمَا يسمّون مَا يشْهدُونَ من الْقدر حَقِيقَة وَطَرِيق الْحَقِيقَة عِنْدهم هُوَ السلوك الَّذِي لَا يتَقَيَّد صَاحبه بِأَمْر الشَّارِع وَنَهْيه وَلَكِن بِمَا يرَاهُ ويذوقه ويجده فِي قلبه مَعَ مَا فِيهِ من غَفلَة عَن الله جلّ وَعلا وَنَحْو ذَلِك.

وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا؛ بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَجَعْلِهِمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوَوْنَهُ حَقِيقَةً وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ.

ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ بَلْ يَقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ.

وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ جهليات وَاعْتِقَادَاتٌ فَاسِدَةٌ.

الشرح:

قوله:(وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة): هؤلاء هم أهل السلوك، كما يسمون أنفسهم، وهم الصوفية: الذين بزعمهم أنهم يسرون إلى الله، لكن يسيرون على حسب أدواتهم ومواجدتهم وأهوائهم، ولا يتقيدون بالشرع.

وقوله: (عمدتهم اتِّبَاع آرائهم وأهوائهم وجعلُهم مَا يرونه وَمَا يهوَونه حَقِيقَة ويأمرون باتباعها دون اتِّبَاع أَمر الله وَرَسُوله نَظِير بدع أهل الْكَلَام من الْجَهْمِية وَغَيرهم): أي أن هؤلاء يشبهون الجهمية، من حيث أن الجهمية يجعلون ما يبتدعون من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة: حقائقَ وقواطعَ عقلية وبراهينَ يقينية، وأما نصوص الكتاب فيقولون: هذه أدلة لفظية لا تفيد اليقين، فهم إما أن يحرفوها وإما أن يفوضوا معناها ويتمسكون بزعمهم بما دلت عليه العقول، والعقول متفاوتة متضاربة وهذا من جهلهم.

فكذلك هؤلاء الصوفية يسمون ما تراه أنفسهم ذوقًا ووجدًا ويسيرون بحسب أهوائهم وشهواتهم.

المتن:

وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ

وأصل ضلال من ضل هُوَ بِتَقْدِيم قِيَاسه على النَّص الْمنزل من عِنْد الله وَتَقْدِيم اتِّبَاع الْهوى على اتِّبَاع أَمر الله فَإِن الذَّوْق والوجد وَنَحْو ذَلِك هُوَ بِحَسب مَا يُحِبهُ العَبْد ويهواه فَكل محب لَهُ ذوق وَوجد بِحَسب محبته وهواه.

فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ([10]) وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا ([11]).

الشرح:

قوله:(وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزَّل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله) فأصل الضلال هو من تقديم القياس على النص المنزل من عند الله، وتقديم الهوى على اتباع أمر الله، قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، فيقدمون آراءهم، وأقيستهم، وما تهواه نفوسهم، وما يجدونه في نفوسهم من الآراء، وما يزعمونه من العقليات: على كتاب الله وسنة رسوله.

وأمر الله وأمر رسوله يتلقى بالتصديق والقبول والامتثال، ولا تتبع فيه الأهواء فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: ٢٦] والغواية هي: اتباع الهوى.

وكذلك الصوفية أصل ضلالهم: بترك الكتاب والسنة وجعل بديل لها من الأهواء والآراء والبدع والأذواق والمواجيد والأقيسة والعقول.

المتن:

وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسَبِهِ.

قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة: مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ فَقَالَ أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ.

فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَقَالَ: إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى

وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطْلَقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ وَمُحِبُّ المردان وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ.

الشرح:

جواب سفيان بن عيينة لمن قال: (ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟) بيانه:أن الذين عبدوا العجل من بني إسرائيلكان حبهم الشديد للعجل سبب كفرهم، قال قتادة: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وقد جاء في سنن أبي داود مرفوعًا: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ [12]وهذا الحديث بسنديه ضعيف، فسند الحديث الذي عند الإمام أحمد، فيه: أبو بكر بن أبي مريم، وسند أبي داود، فيه: أبو بكر بن أبي مريم أيضا، وفيه: بقية بن الوليد، وهو مدلس وقد عنعن، ولكن المعنى صحيح[13].

ومعنى: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ ، أي: يعمي عن نظر الحق، ويصم عن سماعه، ويبكم عن التكلم به، وفي الغالب أنه إذا ضعف الإيمان فإن حب الإنسان للشيء يعميه عن الحق، فلا يراه واضحا، ويصمه فلا يسمعه، ويبكمه فلا يتكلم به.

فهم عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري وهم ينظرون، ثم قال: هذا ربكم فاعبدوه - نسأل الله العافية-،وذلك لما ذهب نبي الله موسى لميقات الله ، كما في الآيات من سورة طــه.

المتن:

فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينِ شَرَعَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۝ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إلَى قَوْلِهِ. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ

وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.

الشرح:

قوله:(فالمخالف لما بعث الله به رسوله من عبادته وحده، وطاعته وطاعة رسوله، لا يكون متبعًا لدين شرعه الله أبدًا): الشاهد: أن الله تعالى أمرهم باتباع الشريعة ونهاهم عن اتباع الأهواء، وليس هناك إلا الشريعة أو اتباع الهوى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:٥٠]، فكل ما خالف الشريعة فهو من الهوى، وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18].

المتن:

وَمن هَؤُلَاءِ طَائِفَة هم أعلاهم عِنْدهم قدرا وَهُوَ مستمسكون بِمَا اخْتَارُوا بهواهم من الدَّين فِي أَدَاء الْفَرَائِض الْمَشْهُورَة وَاجْتنَاب الْمُحرمَات الْمَشْهُورَة لَكِن يضلون بترك مَا أمروا بِهِ من الْأَسْبَاب الَّتِي هِيَ عبَادَة ظانين أَن الْعَارِف إِذا شهد الْقدر أعرض عَن ذَلِك مثل من يَجْعَل التَّوَكُّل مِنْهُم أَو الدُّعَاء مِنْهُم وَنَحْو ذَلِك من مقامات الْعَامَّة دون الْخَاصَّة بِنَاء على أَن من شهد الْقدر علم أَن مَا قدر سَيكون فَلَا حَاجَة إِلَى ذَلِك وَهَذَا ضلال مُبين.

فَإِن الله قدر الْأَشْيَاء بأسبابها كَمَا قدر السَّعَادَة والشقاوة بأسبابهما كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ ([14])  وكما قَالَ النَّبِي ﷺ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ([15]).

فَكل مَا أَمر الله بِهِ عباده من الْأَسْبَاب فَهُوَ عبَادَة

وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَفِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ

الشرح:

هذه الطائفة الرابعة: يؤدون الفرائض وينتهون عن المحارم، لكن يغلطون في ترك الأسباب التي شرعها الله، ويتركون الأسباب الشريعة، سواء كانت الأسباب دينية أو دنيوية وإن كانوا يؤدون الفرائض المشهورة ويجتنبون المحرمات المشهورة لكن قد يتركون بعض الواجبات غير المشهورة، ولا يتركون بعض المحرمات غير المشهورة، ويتركون ما أمروا به من الأسباب الشرعية.

فمثلًا: الإنسان مأمور بأن بتوحيد الله وإخلاص الدين لله وأن يؤدي الفرائض وأن ينتهي عن المحارم، وهذا سبـب شرعـي في دخول الجنة، وغير ذلك من الأسباب الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وصلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إلى الأقارب والمماليك والبهائم والجيران إلى غير ذلك من الأسباب الشرعية، كذلك الأسباب الدنيوية؛ فالإنسان يطلب الرزق يبيع ويشتري يحرث ويبذر يزرع.

فهؤلاء قد يتركون بعض الأسباب الشرعية سواء كانت دينية أو دنيوية، وهؤلاء هم الطائفة الرابعة.

وقوله: (يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة...): يزعمون أن من شهد القدر وشهد الإرادة فلا حاجة به إلى فعل الأسباب.

وقوله: (فإن الله قَدَّر الأشياء بأسبابها): الله تعالى ربط المسببات بأسبابها سواء كانت دينية أو دنيوية؛ فربط الله تعالى الآخرة والدنيا كلها بالأسباب، فالجنة مربوطة بالأسباب، ومنها: العمل الصالح، والنار مربوطة بالأسباب، ومنها: العمل السيء، والدنيا مربوطة بالأسباب، فيزرع الإنسان، والزرع مربوط بالسبب، فالإنسان يبدر ويغرس ويسقي الماء فيحصد، كذلك الجوع لا يزول إلا بالأكل وهذا سبب، والعطش لا يزول إلا بالشرب، والبرد لا يزول إلا بالاستدفاء وهكذا كل شيء مربوط بالأسباب، فالله تعالى ربط المسببات بأسبابها دنيوية وأخروية.

المتن:

وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ فَتَنْقُصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلَ مُكَاشَفَةٍ؛ أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الشرح:

قوله: (ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات) هذه الطائفة الخامسة، وهي: التي تترك المستحبات دون الواجبات، وهؤلاء ليس عليهم شيء؛ لأنهم أدوا الواجبات، وإنفاتهم وحصل عليهم نقص عظيم بفوات الثواب والأجر المترتب على فعل المستحبات، فهؤلاء من حرمانهم أنهم فعلوا الواجبات لكن تركوا المستحبات، فحُرموا أجرها.

وقوله:(ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة): هذه الطائفة السادسة، وهم:  الذين يشتغلون بما يحصل لهم من خرق العادات عن عبادة الله وشكره، فإذا حصل لأحدهم أن أجيبت دعوته، أو كشف له عن شيء، أو ما أشبه ذلك: اشتغل بذلك عن عبادة الله وشكره.

المتن:

فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ؛ وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ ([16]).

وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ ([17]).

وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَلَّا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ.

وَالثَّانِي أَلا يعبده إِلَّا بِمَا أَمر وَشرع لَا يعبده بِغَيْر ذَلِك من الْأَهْوَاء والظنون والبدع قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وَقَالَ تَعَالَى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

الشرح:

قوله: (فهذه الأمور ونحوها كثيرًا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه): فسبب النجاة هو: ملازمة أمر الله الذي بعث الله به رسله، فإذا أردت النجاة فالزم أمر الله وأمر رسوله، وأخلص العبادة لله، أدِّ الفرائض لله، والزم أمر الله وأمر رسوله ﷺ، فهذا سبيل النجاة، فالشريعة هي سفينة الرحمن من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومن عمل بالشريعة فقد ركب السفينة، ومن ترك الشريعة لم يركب السفينة،ولا شك أنه غرق.

إذن فطريق النجاة: لزوم أمر الله وأمر رسوله ﷺ.

وقولـه: (والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد...):

هـذان أصـلان لابد منهما في العبادة، لا تصح العبادة إلا بهذين الأصلين:

الأصل الأول: ألا يعبد إلا الله، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

الأصل الثاني: أن يعبد الله بما شرعه، وبما أمر به، لا بالبدع والأهواء، وهذا هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله.

 فإذا تخلى أحد عن هذين الأصلين لم تصح منه العبادة، فلا يعبد إلا الله، وأن يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع، فالأصل الأول هو تحقيق شهادة ألا إله إلا الله، والأصل الثاني هو تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله.

وقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا : فالآية فيها الأصلان: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا. هذا هو الأصل الثاني، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا . هذا هو الأصل الأول.

وقوله سبحانه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ : إسلام الوجه هو إخلاص الدين لوجه الله،وَهُوَ مُحْسِنٌ  : إحسان العمل:إتقانه وأن يكون العمل موافقًا للشريعة.

وقول الله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ: فمن أسلم لله، هذا هو الأصل الأول، وهو محسن هذا هو الأصل الثاني.

المتن:

فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ. و " الْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ.

فَمَا كَانَ من الْبدع فِي الدَّين الَّتِي لَيست فِي الْكتاب، وَلَا فِي صَحِيح السّنة، فَإِنَّهَا - وَإِن قَالَهَا من قَالَهَا، وَعمل بهَا من عمل - لَيست مَشْرُوعَة؛ فَإِن الله لَا يُحِبهَا وَلَا رَسُوله، فَلَا تكون من الْحَسَنَات وَلَا من الْعَمَل الصَّالح. كَمَا أَن من يعْمل مَا لَا يجوز، كالفواحش وَالظُّلم لَيْسَ من الْحَسَنَات وَلَا من الْعَمَل الصَّالح.

وَأَمَّا قَوْلُهُ. وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وَقَوْلُهُ: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. ([18]).

وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. ([19]).

الشرح:

المقصود مما ذكره المؤلف بيان العمل والعبادة لله .

ولا يصح عند الله شيء حتى يتحقق فيه الأصلان:

الأصل الأول: إخلاص الدين لله.

الأصل الثاني: موافقة دينه الذي بعث به رسله، وهو متابعة الرسول ﷺ.

قوله تعالى: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا : المقصود بها : إخلاص الدين لله وحده.

وقول عمر : فيه تحقيق الأصلين؛ (اللهم اجعل عملي كله صالحاً): هذا الأصل الثاني، (واجعله لك خالصًا): هذا هو الأصل الأول.

وقول الفضيل فيه – أيضا –هذان الأصلان: الخالص الأصل الأول، والصواب هو الأصل الثاني.

المتن:

فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛ كَقَوْلِهِ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَقَوْلِ نُوحٍ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ؟

قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.

الشرح:

إذا كان جميع ما يطلبه الله داخلاً في العبادة فلماذا يعطف بعض الواجبات وبعض المستحبات على العبادة كما مرَّ في قوله: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، عطف الإسلام على العبادة مع أن الإسلام مبني على العبادة. وقد أجاب المؤلف رحمه الله بأجوبة -كما سيأتي-وملخصه:

أنه حينما يعطف عليه فإنما ذلك لبيان أهميته، فيكون خصه لبيان أهميته.

أو لأنه إذا لم يعطف عليه يكون ليس داخلاً، أما إذا عطف عليه فيكون داخلاً كالفقير والمسكين، فالفقير إذا أفرد دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أفرد دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا صار الفقير: أشد حاجة.

المتن:

وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

وَتَارَةً تَكُونُ دِلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ فَإِذَا أُفْرِدَ عَمَّ وَإِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " لَمَّا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ. وَلَمَّا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَارَا نَوْعَيْنِ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.

وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابِ مُتَنَوِّعَةٍ: تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فَقَوْلُهُ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ؛ يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.

الشرح:

قوله: (وهذا الباب: يكون تارة من كون أحدهما بعض الآخر فيعطف عليه تخصصيا له بالذكر، لكونه مطلوبًا بالمعنى العام، والمعنى الخاص): يعني: يكون مطلوب مرتين، مرة بالمعنى العام ومرة بالمعنى الخاص على هذا القول.

وقوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ : عطف جبريل وميكال على الملائكة وهم من الملائكة.

المتن:

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ

و " تِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا.

الشرح:

التلاوة تنقسم إلى قسمين:

تلاوة بمعنى العمل.

تلاوة بمعنى القراءة.

والمراد بالآية هنا:التلاوة الحكمية، بمعنى: اتباعه والعمل به، وهي التلاوة الحقيقية التي تنفع الإنسان، التي عليها مدار السعادة والشقاء، وذلك بتصديق أخباره وتننيفذ أحكامه، وفعل أوامره، واجتناب نواهيه، والانزجار بزواجره، والاتعاظ بمواعظه، والوقوف عند حدوده، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه.

المتن:

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى: إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا وَقَوْلُهُ اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ

الشرح:

قوله: (وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته) فكل مخلوق كماله في العبودية فكلما حقق العبودية كَمُل عند الله وازداد قربًا منه، وإذا نقصت عبوديته نقص كماله ونقص قربه من الله، وهذا شامل للأنبياء والرسل والملائكة والجن والإنس، فكل ما حقق المخلوقُ العبوديةَ كلَّما كان أقرب إلى الله وازداد درجة وعلوًا من الله، وإذا ضعف تحقيقه للعبودية بَعُدَ من الله ونزلت درجته ومرتبته عنده سبحانه.

المتن:

وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بل من أضلهم قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا إلَى قَوْلِهِ: إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ۝ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۝ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ: إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ۝ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وَقَالَ تَعَالَى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا إلَى قَوْلِهِ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ

الشرح:

قوله تعالى: إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًاالشاهد أن كل من في السماوات والأرض يأتي يوم القيامة عبدًا، وما هناك أحد يخلو من عبودية.

وقد سرد المؤلف آيات كثيرة ليبين أن ليس هناك أحد يخلو من العبودية، وأن الله وصف أكابر المخلوقات بالعبادة.

ووصف الله سبحانه المسيحَ بالعبودية إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِوهو نبي كريم مع ذلك لم يخرج عن العبودية.

وقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ۝ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ : مَن عنده؟ هم الملائكة،فوصفهم الله بالعبادة وأنهم لا يستكبرون عن العبادة.

وقوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ: أي: ليس أحد يستنكف عن العبادة لا المسيح ولا الملائكة، فكلهم عباد الله، بل إنهم يعبدون الله وتطمئن نفوسهم إلى ذلك ويرتاحون ويتلذذون بالعبودية لله، ولا يستنكفون عن عبادة الله مع شرفهم وكمالهم، وما شرفوا وما كملوا إلا بتحقيق العبودية لله، ثم قال تعالى: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا : هذا وعيد لمن استكبر عن عبادة الله بأنه يعذب بالعذاب الأليم.

وقوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ: هذا وعيد للمستكبرين عن عبادة الله بأنهم سيدخلون جهنم داخرين أي أذلة صاغرين.
المتن:

وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ.

 وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ

الشرح:

قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ : الشاهد وصف الملائكة بالعبادة فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: الملائكة.

وقوله سبحانه:وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون: الشاهد أمر رسوله بالعبادة ووصف الملائكة بالعبادة.

المتن:

وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ. فَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَالَ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ۝ قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ۝ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي. وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ تَعَالَى: إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَقَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.

الشرح:

أرسل الله الرسل تأمر الناس بعبادته وتوحيده وطاعته، وقد ذكر المؤلف الأدلة على ذلك من الكتاب العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ  بيّن الله أنه بعث في كل أمة رسولاً، يأمر الناس بأن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويجتنبوا الطاغوت، والطاغوت: هو كل ما عبد من دون الله.

وقوله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، وقوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] يعني: اعبدوني ولا تعبدوا غيري، وخصوني بالعبادة والتقوى.

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : هذا أمر بالعبادة لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وفي قوله :فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. أمر للمؤمنين بالعبادة.

وقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ : ومعنى يعبدون يوحدون،وهنا بيّن الله أنه خلق الجن والإنس لعبادته، أي: لتوحيده وطاعته، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.

وقوله: قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ۝ قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ۝ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ.: وهذا رسول الله أكمل الخلق مأمور بعبادة الله.

وقوله:(وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله): فكل نبي كان يأمر قومه ابتداءً بعبادة الله وتوحيدهوإخلاص الدين له، كما قال سبحانه في سورة الأعراف وفي هود وفي المؤمنون: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، وقال: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، وقال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85].

وقوله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ : صرف الله السوء عن يوسف بسبب إخلاصه لله .

وقوله سبحانه: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ :فالذي يتولاه الشيطان يكون له عليه سلطان،وليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين، فالله تعالى يسلطهم على من يشاء، ويعصم من كيدهم ومكرهم من يشاء إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.[الإسراء: ٦٤ – ٦٥].

المتن:

نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ۝ إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ۝ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ: نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ وَعَنْ أَيُّوبَ: نِعْمَ الْعَبْدُ وَقَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ وَقَالَ نُوحٌ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَقَالَ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا وَقَالَ فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى وَقَالَ: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ وَقَالَ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ.

الحواشي:

[1] الفتوحات المكية (2/ 1)، وانظر في الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (2/111-120) و(14/ 11-12) .

[2]انظر فيما ذكر من كلام ابن عربي في: الفتوحات المكية (2/ 604) والفصوص، ص(374).

([3]) سنن ابن ماجه، المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (215)، وسنن الإمام أحمد (12279)، وسنن النسائي الكبرى (7/263)، والمستدرك للحاكم (2046)، من طريق عبد الرحمن بن بُديل عن أبيه بديل بن ميسرة عن أنس بن مالك به؛ قال السخاوي في المقاصد الحسنة (249): وصححه الحاكم، وقال: إنه روي من ثلاثة أوجه، عن أنس هذا مثلها.ا.هـ

([4])  أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية (2148)،وقال: حديث حسن.ا.هـ وابن ماجه في سننه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء (3437)، والإمام أحمد في مسنده (15472)، من رواية أبي خزامة، ورواه ابن حبان في صحيحه (6100) من رواية كعب بن مالك ، ورواه الحاكم في المستدرك (8223) من رواية حكيم بن حزام ، وسكت عنه الذهبي.

[5])) مسند البزار (8149)، من رواية أبي هريرة ، ورواه الحاكم (1813)، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.ا.هـ والطبراني في (الدعاء) (33)، من رواية عائشة رضي الله عنها، ولا يخلو سند منهما من مقال، قال الهيثمي في المجمع (7/209): رواه البزار، وفيه إبراهيم بن خثيم وهو متروك.ا.هـ وقال عن سند الحاكم والطبراني: فيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور.ا.هـ

[6])) سبق تخريجه قريبا.

[7]- مجموع الفتاوى: (8/ 453).

[8]- المرجع السابق: (10/ 167).

[9]- انظر: جامع الرسائل والمسائل لابن تيمية، جمع: محمد رشاد سالم: (2/ 145).

([10]) صحيح البخارى، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (16) ، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان (43).

([11]) صحيح مسلم (34).

[12]- أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب في الهوى: (5130) وأحمد: (21694) و (27548)، والبزار (4125)، (546)، والطبراني في "الأوسط" (4359)، وفي "مسند الشاميين" (1454)، وابن عدي في "الكامل" 2/ 472، وابن بشران في "أماليه" (524)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (219)، والبيهقي في "الشعب" (411) من طرق عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي مريم.

[13]- وقد جاء الحديث موقوفاً كما عند البيهقي في "الشعب" (412) من طريق حريز بن عثمان، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه. وإسناده صحيح، وهو أيضا عند البخاري في التاريخ:(2/ 107)

([14])هذا الحديث أصله عند مسلم في صحيحه، كتاب القدر (2662)، بلفظ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ؛ وزاد شيخ الإسلام لفظ وبعمل أهل الجنة يعملون ولفظ وبعمل أهل النار يعملون، وهذان اللفظان في حديث آخر من رواية عمر بن الخطاب أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في القدر (4703)، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأعراف (3075)، وقال: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر.ا.هـ والإمام أحمد في مسنده (311)، وابن حبان في صحيحه (6166)، والحاكم في المستدرك (4001)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.ا.هـ ووافقه الذهبي.

([15]) صحيح البخاري،كتاب تفسير القرآن، باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (4949)، وصحيح مسلم، كتاب القدر (2647).

[16])) انظر: سنن الدارمي (97)، والإبانة الكبرى لابن بطة (1/319) (159)، وشرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1/106) (136)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3//369)، والمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (860)، وغيرهم

([17]) انظر: تاريخ بغداد (7/347)، وذم الكلام وأهله للهروي (5/81) (873)، وتاريخ دمشق (14/9).

[18])) أخرجه الإمام أحمد في الزهد (617)، عن الحسن البصري أن عمر كان يقول..

[19])) حلية الأولياء لأبي نعيم (8/95).

([20]) انظر: تفسير عبد الرزاق (1/288) (113)، وتفسير ابن جرير الطبري (2/567) تحقيق الشيخ/ أحمد شاكر.

([21])جاء في حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ: فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ. رواه البزار في المسند (10/77)، وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله ﷺ من وجه من الوجوه بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد وإسناده حسن.ا.هـ ورواه البيهقي في شعب الإيمان (6/39)، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (6/30) من طريق البزار.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد