شعار الموقع
شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. العقيدة
  4. شرح كتاب العبودية
  5. شرح كتاب العبودية_4 من قوله فالإنسان لَهُ إِرَادَة دَائِما وكل إِرَادَة فَلَا بُد لَهَا من مُرَاد إلى وَطَاعَة الرَّسُول ومتابعته لَا تكون إِلَّا بتحقيق الْعُبُودِيَّة

شرح كتاب العبودية_4 من قوله فالإنسان لَهُ إِرَادَة دَائِما وكل إِرَادَة فَلَا بُد لَهَا من مُرَاد إلى وَطَاعَة الرَّسُول ومتابعته لَا تكون إِلَّا بتحقيق الْعُبُودِيَّة

00:00
00:00
تحميل
114

قوله: (وكل من استكبر عن عبـادة الله لا بـد أن يعبـد غيـره، فـإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة):

بيَّن المؤلف - رحمه الله - أن الاستكبار عن عبادة الله يلزم منه الشرك، فكل مستكبر مشرك وذلك لأن من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد الشيطان فإن كل إنسان حسّاس متحرك له إرادة، والإنسان حارث وكاسب وهمام، والهمام: فعال، صيغة مبالغة من الهمّ، والهمّ أول الإرادة، فالإنسان له إرادة، فمن لم يكن الله مراده ومحبوبه فلا بد له من مراد ومحبوب ينتهي إليه وهو ما سوى الله، سواء كان شمسا أو قمرًا أو صورًا أو مالاً أو شخصًا أو غير ذلك. فمن لم يعبد الله لابد أن يعبد غير الله، ولهذا كان فرعون مستكبرًا عن عبادة الله، وكان مشركًا وكان له إله يعبده، ولهذا قال الله عن فرعون: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]. فأخبر الله أن لفرعون آلهة.

إذن فالكبر مستلزم للشرك، والشرك ضد الإسلام، والشرك هو الذنب الذي لا يغفره الله .

المتن:

فالإنسان لَهُ إِرَادَة دَائِما وكل إِرَادَة فَلَا بُد لَهَا من مُرَاد تنتهى إِلَيْهِ فَلَا بُد لكل عبد من مُرَاد مَحْبُوب هُوَ مُنْتَهى حبه وإرادته فَمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عَن ذَلِك فَلَا بُد أَن لَهُ مُرَاد مَحْبُوب يستعبده غير الله فَيكون عبدا لذَلِك المُرَاد المحبوب إِمَّا المَال وَإِمَّا الجاه وَإِمَّا الصُّور وَإِمَّا مَا يَتَّخِذهُ إِلَهًا من دون الله كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والأوثان وقبور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ أَو من الْمَلَائِكَة والأنبياء الَّذين يتخذهم أَرْبَابًا أَو غير ذَلِك مِمَّا عبد من دون الله.

الشرح:

بيَّن المؤلف رحمه الله أن الكائنات كلها مُسْلمة لله- بمعنى أنها معبَّدة -فكل الكائنات المخلوقات كلها أسلمت لله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].بمعنى أنها معبّدة مدَّبرة، يَنْفُذُ فيها قدرُ الله وتنفذ فيها مشيئتُه.

وهذه هي العبادة العامة أي: التعبيد العام لله.

أما العبادة الخاصة فهي التي يأْلَه فيها العبد باختياره ويعبد الله ويطيع أوامره ويجتنب نواهيه.

وبين - رحمه الله -: أن الخلة والمحبة فيهما تحقيق عبودية الله ، وأن الخلة والمحبة إنما يعرف معناهما ويحقق ما دلت عليهما من عرف الله وعلم عظمة الله .

ودعوى هؤلاء المحبةَ باطلٌ، والله تعالى امتحن قومًا ادعو المحبة بهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] ، فدعوى محبة الله لا بد لها من دليل.

ودليلها هو: اتباع الرسول ﷺ والجهاد في سبيل الله، فمن جاهد في سبيل الله حـق الجهاد واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو صادق في محبته، وإذا تخلف هذان الأمران فهو كاذب في دعوى محبته كالصوفية وأشباههم.

المتن:

وَإِذا كَانَ عبدا لغير الله يكون مُشْركًا وكل مستكبر فَهُوَ مُشْرك وَلِهَذَا كَانَ فِرْعَوْن من أعظم الْخلق استكبارا عَن عبَادَة الله وَكَانَ مُشْركًا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24]  إِلَى قَوْله: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27]، إِلَى قَوْله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35].

وَقَالَ تَعَالَى وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت: 39]، وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ   [النمل:14] وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير.

وَقد وصف فِرْعَوْن بالشرك فِي قَوْله وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127].

الشرح:

المعنى: أن من لم يعبد الله فلابد أن يعبد غيره، فليس هناك أحد ليس له معبود مطلقًا، وهذه قاعدة عامة:ليس هناك أحد ليس له معبود ، فمن لم يعبد الله عبد الشيطان والهوى، حتى الملاحدة المتحللين من الأديان هم يعبدون الشيطان ويعبدون أهواءهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرتهم بذلكبعبادة هواه، فالملحد المتحلل من الأديان مشرك؛ لأنه يعبد الشيطان.

فعلى ذلك: يكون من استكبر عن عبادة الله مشركًا ولا بد.

فمثلًا:فرعون مستكبر عن عبادة الله لكنه مشرك؛ لأنه عبد هواه وعبد الشيطان.

وكذلك إبليس مستكبر لأنه عبد هواه.

فكل أحدمن المخلوقين له معبود شاء أم أبى، فإن لم يعبد الله عبد الشيطان والهوى.

وما ذكره المؤلف من الأدلة يقرر عبادة فرعون لهواه، فلما كان فرعون يعبد الهوى ويعبد الشيطان علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً، ولما استكبر عن توحيد الله وعن عبادة الله وعن اتباع رسول الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، كان مستكبرًا عن عبادة الله وكان مشركًا يعبد هواه ويعبد الشيطان، وكان له آله من دون الله كما قال الله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وهذا هو الشاهد، فإذن فرعون له آلهة يعبدها من دون الله؛ لأن الملأ وهم الأشراف من قومه قالوا له يخاطبونه: كيف تترك موسى يفسد في الأرض ويتركك ويترك آلهتك التي تعبدها.

وانظر كيف انقلبت الموازين؛ حين جعلوا موسى يفسد في الأرض، وموسى يأمره بعبادة الله وتوحيده!

وقد أخبر الله عنالمنافقين تسميتهم الإفساد إصلاحًا،فقال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12]. فسموا فسادهم صلاحًا، وهكذا هؤلاء سمَّوا دعوة موسى إلى توحيد الله واتباع الحق: إفسادًا في الأرض.

فهذه عادة أهل الباطل يرمون أهل الحق بدائهم- نسأل الله السلامة والعافية -.

المتن:

بل الاستقراء يدل على أَنه كلما كَانَ الرجل أعظم استكبارا عَن عبَادَة الله كَانَ أعظم إشراكا بِاللَّه لِأَنَّهُ كلما استكبر عَن عبَادَة الله ازْدَادَ فقرا وحاجة إِلَى المُرَاد المحبوب الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود مَقْصُود الْقلب بِالْقَصْدِ الأول فَيكون مُشْركًا بِمَا استعبده من ذَلِك.

وَلنْ يَسْتَغْنِي الْقلب عَن جَمِيع الْمَخْلُوقَات إِلَّا بِأَن يكون الله هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يعبد إِلَّا إِيَّاه وَلَا يَسْتَعِين إِلَّا بِهِ وَلَا يتوكل إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا يفرح إِلَّا بِمَا يُحِبهُ ويرضاه وَلَا يكره إِلَّا مَا يبغضه الرب ويكرهه وَلَا يوالى إِلَّا من وَالَاهُ الله وَلَا يعادي إِلَّا من عَادَاهُ الله وَلَا يحب إِلَّا لله وَلَا يبغض شَيْئا إِلَّا لله فَكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عَن الْمَخْلُوقَات وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الْكبر والشرك.

والشرك غَالب على النَّصَارَى وَالْكبر غَالب على الْيَهُود قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].

الشرح:

قوله: (ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات، إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه): وبهذا يكون القلب قد استغنى عن جميع المخلوقات إذا اتصف بهذه الأوصاف بأن يكون الله هو مولاه ولا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا بالله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يحب إلا ما يحبه.

فدلالة ذلك: أنه وافق الله في محابه ومراضيه ومساخطه، فيحب ما يحبه الله، ويرضى ما يرضاه الله، ويسخط ما يسخطه الله، فهو موافق لوليه ومحبوبه.

والنصارى غلوا في أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أربابا من دون الله، وعبدوا العجل أيضا فوقعوا في الشرك.

المتن:

وَقَالَ فِي الْيَهُود وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. وَقَالَ تَعَالَى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146].

وَلما كَانَ الْكبر مستلزما للشرك والشرك ضد الْإِسْلَام وَهُوَ الذَّنب الَّذِي لَا يغفره الله قَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116].

الشرح:

الغالب على فرق اليهود: العلم وتخلف العمل، فهم يعصون على بصيرة، كما قال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وإن كان يوجد منهم من ليس عنده علم؛ كما قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]. يعني: لا يعلمون الكتاب إلا مجرد التلاوة، وهؤلاء جهال، ولكن يغلب عليهم العلم وتخلف العمل.

أما الذي يغلب على طوائف النصارى فهو الجهل والضلال، ومع أن منهم: علماء، ومنهم: رهبان وقسيسين، ولكن الغالب عليهم الجهل.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا : فسمَّى الله الشركَ ضلالاً بعيدًا، يعني: وصل إلى حد الغاية في البعد، وهو فرية عظيمة، فالشرك أعظم الذنوب ولهذا لا يغفره الله، فمن لقي الله يشرك به الشرك الأكبر فإنه من أهل النار الخالدين فيها ولا نصيب له في الرحمة - نسأل الله العافية - وهو يائس من رحمة الله، أما من لقيه بما دون الشرك فهو تحت المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.

المتن:

كَانَ الْأَنْبِيَاء جَمِيعهم مبعوثين بدين الْإِسْلَام فَهُوَ الدَّين الَّذِي لَا يقبل الله غَيره لَا من الْأَوَّلين وَلَا من الآخرين قَالَ نوح فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]. وَقَالَ فِي حق إِبْرَاهِيم وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:130-132] وَقَالَ يُوسُف تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ   [يوسف:101]. وَقَالَ مُوسَى وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]. وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]. وَقَالَت بلقيس قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44]. وَقَالَ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111]. وَقَالَ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]. وَقَالَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران :85]. وَقَالَ تَعَالَى أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].

الشرح:

هذه النصوص كلها تدل على أن الأنبياء جميعًا كلهم مبعوثون بدين الإسلام فدين الإسلام وهو: دين الأنبياء جميعًا، فهو دين نوحودين هود ودين صالح ودين لوط ودين شعيب ودين إبراهيم ودين موسى ودين عيسى ودين محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم، بمعنى: أنهم جميعًا جاؤوا بتوحيد الله وإخلاص الدين له ونهوا عن الشرك، والإيمان بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأن يعظموا أوامر الله ويمتثلوها ويعظموامحارم الله ويجتنبوها، أما الشرائع والتكاليف فإنها تختلف من شريعة لأخرى.

فمثلًا: في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام يجوز الجمع بين الأختين، وفي شرعتنا الكاملة: منع ذلك.

وكذلك في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام جاء ما يدل على أن القصاص يجب، وفي شريعة النصارى يجب العفو، وفي شريعتنا يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجانًا.

فالشرائع تختلف من شريعة لأخرى  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

فالإسلام دين الله ودين الأنبياء جميعًا، كلهم أَمروا بتوحيد الله، فكل نبي يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.

فدين الإسلام في زمن نوح : توحيد الله والعمل بما جاء به نوح من الشريعة، ودين الإسلام في عهد هود : توحيد الله واتباع ما جاء به هود من الشريعة، ودين الإسلام في زمن إبراهيم : توحيد الله والعمل بما جاء به من الشريعة، ودين الإسلام في زمن موسى : توحيد الله والعمل بما جاء به موسى من الشريعة، وهكذا.. حتى بعث الله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت شريعته خاتمة لجميع الشرائع.

فتوحيد الله وإخلاص الدين له والإيمان بالله وملائكته ورسوله واليوم الآخر والقدر فهو دين الله في كل زمان وفي كل مكان.

المتن:

فَذكر إِسْلَام الكائنات طَوْعًا وَكرها لِأَن الْمَخْلُوقَات جَمِيعهَا متعبدة لَهُ التَّعَبُّد الْعَام سَوَاء أقرّ الْمقر بذلك أَو أنكرهُ وهم مدينون لَهُ مدبرون فهم مُسلمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكرها لَيْسَ لأحد من الْمَخْلُوقَات خُرُوج عَمَّا شاءه وَقدره وقضاه وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ وَهُوَ رب الْعَالمين ومليكهم يصرفهم كَيفَ يَشَاء وَهُوَ خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم.

وكل مَا سواهُ فَهُوَ مربوب مَصْنُوع مفطور فَقير مُحْتَاج معبد مقهور وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْوَاحِد القهار الْخَالِق البارئ المصور.

وَهُوَ وَإِن كَانَ قد خلق مَا خلقه بِأَسْبَاب فَهُوَ خَالق السَّبَب والمقدر لَهُ وَهَذَا مفتقر إِلَيْهِ كافتقار هَذَا وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَات سَبَب مُسْتَقل بِفعل خير وَلَا دفع ضرّ بل كل مَا هُوَ سَبَب فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى سَبَب آخر يعاونه وَإِلَى مَا يدْفع عَنهُ الضِّدّ الَّذِي يُعَارضهُ ويمانعه.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحده الْغنى عَن كل مَا سواهُ لَيْسَ لَهُ شريك يعاونه وَلَا ضد يناوئه ويعارضه قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38]. وَقَالَ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]. وَقَالَ تَعَالَى عَن الْخَلِيل إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى قَوْله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:79-82].

الشرح:

قوله:(وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له) المعنى: أن هناك أسبابًا ربطها الله بالمسببات، وليس هناك سبب واحد يستقل في حصول المطلوب، بل كل شيء ربطه الله بأسباب وموانع، فإذا وجدت الأسباب وانتفت الموانع حصل المطلوب، وليس هناك شيء له تأثير مستقل إلا مشيئة الله؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أما المخلوقات فليس هناك شيء يستقل منها في حصول المطلوب، بل كل سبب لابد له من أسباب تعاونه ولا بد من موانع تمنعه، فإذا وُجدت الأسباب وانتفت الموانع حصل المطلوب.

مثلاً: إذا كان لك أرض تريد أن تزرعها فلا بد أن تفعل الأسباب، ولا يكفي سبب واحد، فكونك تبذر لا بد أن تحرث الأرض وتجري عليها الماء، وتسقيه، ثم أيضًا: لا بد من صرف الموانع والآفات التي تصيب الزرع، فقد يصيبها آفات، فإذا وجدت الأسباب وانتفت الموانع حصل الزرع وإلا فلا يحصل، وهكذا جميع الأسباب، فكل الأسباب ربطها الله بالمسببات وليس هناك سبب واحد يستقل في حصول المطلوب إلا مشيئة الله، بل كل سبب لابد له من أسباب تعينه ولا بد له من موانع تمنع، فإذا وجد السبب ووجدت الأسباب المعينة وانتفت الموانع حصل المطلوب وإلا فلا يحصل.

المتن:

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "([1]) عَن عبد الله بن مَسْعُود أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت شقّ ذَلِك على أَصْحَاب النَّبِي ﷺ وَقَالُوا: يَا رَسُول الله أَيّنَا لم يلبس إيمَانه بظُلْم؟ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ:​​​​​​​ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

وَإِبْرَاهِيم الْخَلِيل إِمَام الحنفاء المخلصين حَيْثُ بعث وَقد طبق الأَرْض دين الْمُشْركين قَالَ الله تَعَالَى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. فَبين أَن عَهده بِالْإِمَامَةِ لَا يتَنَاوَل الظَّالِم فَلم يَأْمر الله سُبْحَانَهُ أَن يكون الظَّالِم إِمَامًا وَأعظم الظُّلم الشّرك.

الشرح:

الظلم ثلاثة أنواع :

النوع الأول: وهو أعظمها، هو: الشرك بالله ، وهذا هو الظلم الأكبر، وهذا الذي من لقي الله به فإنه مخلد في النار ليس له نصيب في الرحمة؛ قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وسُمي ظلمًا؛ لأن الظلم معناه هو: وَضْعُ الشيء في غير موضعه، فالمشرك: وَضَعَ العبادة في غير موضعها؛ حيث صرف محض حق الله الذي لا يستحقه غيره إلى مخلوق ناقص ضعيف فعبد غير الله، ودعا غير الله، وذبح لغير الله، فصرف العبادة التي لا يستحقها إلا الله لغيره، وهذا أعظم الذنب.

النوع الثاني :ظلم العباد بعضهم لبعض، كالاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فهذه مبنية على المشاحة ولا بد من أداء المظالم إلى أهلها، فإن لم يؤدها في الدنيا أديت في الآخرة من حسناته، وهو المفلس كما في الحديث: أَتَدْرُونَ مَنَ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ([2]).

النوع الثالث: ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين الله، وذلك بما يتعلق بحقوق الله التي لم تصل إلى حد الشرك وليست من حقوق العباد، كأن يقصر في بعض الواجبات، أويفعل بعض المحرمات التي لا تتعلق بحقوق الآخرين.

المتن:

وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] وَالْأمة هُوَ معلم الْخَيْر الَّذِي يؤتم بِهِ كَمَا أَن الْقدْوَة الذى يقْتَدى بِهِ.

وَالله تَعَالَى جعل فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب وَإِنَّمَا بعث الْأَنْبِيَاء بعده بملته وَقَالَ تَعَالَى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران :68] وَقَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ   [آل عمران:67]، وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:135-136].

الشرح:

بعث الله الأنبياء بعد إبراهيم بملته وكلهم من ذريته، فكل الأنبياء الذين جاؤا بعد إبراهيم من ذريته ومنسلالته، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27].

وإبراهيم عليه الصلاة والسلام رزقه الله تعالى بنين وهما نبيان كريمان؛ الأول: إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهذا هو بكره، وأمه: هاجر ويقال لها: آجر، وهي التي أهداها ملك مصر في ذلك الزمن إلى ساره، هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي، إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ وهذا من حماية الله لأوليائه قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ،  فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ فَيُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً ([3])، فأعطتها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فتسرّاها فولدت له إسماعيل، وكانت زوجته سارة وهي بنت عمه عقيمًا لا تلد، فلما تسرى هاجر ولدت له إسماعيل، وكانت كريمة على الله، ومن كرم سارة على الله أن الله تعالىأمر إبراهيم- بما أراد من الحكمة - أن يذهب بهاجر وابنها إلى مكة وكانوا في الشام، فذهب بهما ثم رزق الله سارة بعد ذلك بولد صار نبيا وهو إسحاق–وهو الثاني- بعد مدة بينهما تقرب من اثنتي عشرة سنة.

وإسماعيل عليه الصلاة والسلام من سلالته نبينا محمد ﷺ، وهو الأب الثاني، فالأب الأول: إبراهيم ، والأب الثاني:إسماعيل وهو أبو العرب.

وأما إسحاق فقد أنجب يعقوبًا، ويعقوب هو: إسرائيل،فأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالته، ويعقوب أنجب يوسف فكان يوسف نبيًا، وأبوه يعقوب نبيًا، وإسحاق نبيًا، وجده الثاني إبراهيم نبيًا، ولهذا جاء في صحيح البخاري أنه ﷺ قال: الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ. ([4]).

 فصار إسماعيل وإسحاق عليهما السلام أخوان، وصار أولاد إسماعيل وأولاد إسحاق أبناء عم، فيكون بنو إسرائيل والعرب هم أبناء العم في الأصل، فعلى هذا يكون جميع الأنبياء الذين بعثوا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلهم من سلالته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]؛ لأن إسماعيل من سلالته نبينا عليه الصلاة والسلام، وإسحاق من سلالته جميع أنبياء بني إسرائيل الذين آخرهم عيسى عليه الصلاة والسلام.

المتن:

وَقد ثَبت فِي " الصَّحِيح " عَن النَّبِي ﷺ: أَن إِبْرَاهِيم خير الْبَريَّة ([5]) فَهُوَ أفضل الْأَنْبِيَاء بعد النَّبِي ﷺ وَهُوَ خَلِيل الله تَعَالَى.

وَقد ثَبت فِي " الصَّحِيح " عَن النَّبِي ﷺ من غير وَجه أَنه قَالَ: إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ([6]). وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ ([7]) يعْنى نَفسه.

وَقَالَ: لَا يَبْقَيَن فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ ([8]). وَقَالَ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ.([9]) وكل هَذَا فِي " الصَّحِيح " وَفِيه أَنه قَالَ ذَلِك قبل مَوته بأيام ([10]) وَذَلِكَ من تَمام رسَالَته فَإِن فِي ذَلِك تَمام تَحْقِيق مخالته لله الَّتِي أَصْلهَا محبَّة الله تَعَالَى للْعَبد ومحبة العَبْد لله خلافًا للجهمية([11]).

وَفِي ذَلِك تَحْقِيق تَوْحِيد الله وَألا يعبدوا إِلَّا إِيَّاه ردا على أشباه الْمُشْركين

الشرح:

قال ﷺ: إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا على هذاتكون الخلة ثابتة لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهما أفضل الرسل وأفضل الخلق، ونبينا محمد ﷺ أكمل الخليلين، فهو أكمل وأفضل من جده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ويليه جده إبراهيم في الفضيلة، فكلاهما خليل الله.

وأما زعم بعض الناس- كما سيبين المؤلف- أن إبراهيم خليل الله ومحمدًا ﷺ حبيب الله، فهذا ضعيف، لأن الخلة كمال للمحبة، وهي أعلى مراتب المحبة.

فالخلة تستلزم من العبد: كمال العبودية لله فإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وصلا إلى كمال العبودية، وتستلزم من الرب: كمال الربوبية لهما.

قوله: "فإن في ذلك تمام تحقيق مخاللته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد ومحبة العبد لله خلافاً للجهمية وفى ذلك تحقيق توحيد الله أن لا يعبدوا إلا إياه ردا على أشباه المشركين." فالخلة والمحبة صفتان لله كسائر صفاته التي تليق بجلاله وعظمته لاتكيَّف،لكن تستلزم كمال الربوبية من الرب، أما بالنسبة للمخلوق - إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام هما خليلي الله- والخلة لهما تستلزم كمال العبودية منهما لله .

أما الجهمية فقالوا: لا خلة، ولا محبة؛ لأن الخلة والمحبة لابد أن تكون لمناسبة أو لمشاكلة بين المحب والمحبوب، وليس هناك مشاكلة بين الرب والعبد، وهذا من جهلهم وضلالهم.

ومذهب أهل السنة والجماعة أن الخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه([12]).

المتن:

وَفِيه رد على الرافضة الَّذين يبخسون الصّديق حَقه وهم أعظم المنتسبين إِلَى الْقبْلَة إشراكا بِعبَادة عَليّ وَغَيره من الْبشر.

الشرح:

وقوله:(وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بعبادة عليّ وغيره من البشر) وجه كون الرافضة أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكًا: أن الرافضة يعبدون آل البيت، ويتوسلون بآل البيت، ويزعمون أن النبي ﷺ نص على اثني عشر إماما بعده، وأن أولهم: علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضى، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن الخلف الحجة المهدي المنتظر؛ الذي دخل سرداب سمراء في سنة ستين ومائتين وما خرج إلى الآن، يقول شيخ الإسلام بلغ أربعمائة سنة وما خرج ([13])، ونحن الآن نقول: له مائتان وألف سنة وما خرج.

وهم في أوقات معينة من كل سنة يأتون بدابة ويقفون على باب السرداب وينادون بصوت جهوري يا مولانا أخرج.

 هكذا ذكره شيخ الإسلام وذكره غيره، وقد أخبرني بعض الإخوان الطيبين من أهل البلاد هناك أنه إلى الآن يُفعل ذلك، وهناك أناس يقفون في هذا الوقت في أماكن من الدنيا ويعيدة عن المشهد -بعضهم في الشرق، وبعضهم في الغرب، وبعضهم في المدينة، وفي غيرها-لا يصلون؛ يقولون: نخشى أن يخرج المهدي المنتظر ونحن في الصلاة مشتغلين عن خدمته، هذا من جهلهم- نسأل الله السلامة والعافية-.

وهم يتوسلون إلى الآن-كما هو معروف عنهم- : بآل البيت، بعلي وبالحسين، فيقولون: يا حسين يا علي ولي الله كن لي شفيعاً عند الله، حتى بعض الحجاج الآن من الخمينيين وغيرهم: يتوسلون بهم، فيبدأون بعلي حتى ينتهون بالمهدي المنتظر، ويتوسلون بهم واحدًا بعد واحد، فهذا لا يخفى أنه شرك أكبر؛ لأنه عبادة لهم من دون الله.

كذلك دعواهم أن القرآن طار ثلثيه هذه ردة- نسأل الله العافية- ، ومن ادعى منهم هذا كان كافرًا ومرتدًا؛ لأنه مصادم لقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

وكذلك سبّ الصحابة أواعتقاد كفرهم؛ لأن هذا سب للدين الذي حملوه، فإذا كان الذين حملوا الدين كلهم كفار وكلهم فسقة فكيف يوثق بهذا الدين؟!

المتن:

والخلة هِيَ كَمَال الْمحبَّة المستلزمة من العَبْد كَمَال الْعُبُودِيَّة لله وَمن الرب سُبْحَانَهُ كَمَال الربوبية لِعِبَادِهِ الَّذين يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.

وَلَفظ الْعُبُودِيَّة يتَضَمَّن كَمَال الذل وَكَمَال الْحبّ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ قلب متيم إِذا كَانَ متعبدا للمحبوب.

والمتيم المتعبد وتيم الله عبد الله وَهَذَا على الْكَمَال حصل لإِبْرَاهِيم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم.

وَلِهَذَا لم يكن لَهُ ﷺ من أهل الأَرْض خَلِيل إِذْ الْخلَّة لَا تحْتَمل الشّركَة فَإِنَّهُ كَمَا قيل فِي الْمَعْنى:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الخَليلُ الخَلِيلاَ

الشرح:

قوله: "ولهذا لم يكن له ﷺ من أهل الأرض خليل" فليس ثَمّ مكان؛ إذ لا يتسع القلب لأكثر من خليل؛ فإن الخليل هو الذي امتلأ قلبه بخلة خليله، فنبينا عليه الصلاة والسلام امتلأ قلبه بخلة الله ، وليس فيه متسع لأحد، ولو كان فيه متسع لكان لأبى بكر،ولهذا قال النبي ﷺ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. ([14])يعني: لو كان في قلبي متسع لكان لأبي بكر، ولكن قلبي امتلأ بخلة الله .

لكن القلب يحب أكثر من واحد، فيتّسع القلب لمحبة كثيرين، ولهذا كان النبي ﷺ يحب كثيرين فيحب أبا بكر ، ويحب عائشة رضي الله عنها، ويحب الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويحب أسامة ، ويحب غيرهم، أما الخلة فمـا اتسع قلبه إلا لخلة الله .

وقوله: "إذ الخلة لا تحتمل الشركة" هـذا بالنسبـة للمخلوق كنبينـا عليـه الصلاة والسـلام، أمـا الخلـة بالنسبة للهفوصف يليق بعظمته وجلاله لا يكيّف، ولكن من مسلتزماتها تحقيق الربوبية للخليل.

المتن:

بِخِلَاف أصل الْحبّ فَإِنَّهُ ﷺ قد قَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي الْحسن وَأُسَامَة: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا ([15]). وَسَأَلَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ: أَي النَّاس أحب إِلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَة. قَالَ: فَمن الرِّجَال؟ قَالَ: أََبُوَهَا. ([16]). وَقَالَ لعَلي : لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ([17]). وأمثال ذَلِك كثير.

وَقد أخبر تَعَالَى أَنه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وقال فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]. فقد أخبر بمحبته لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ ومحبة الْمُؤمنِينَ لَهُ حَتَّى قَالَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:265].

وَأما الْخلَّة فخاصة وَقَول بعض النَّاس: إِن مُحَمَّدًا حبيب الله وَإِبْرَاهِيم خَلِيل الله وظنه أَن الْمحبَّة فَوق الْخلَّة قَول ضَعِيف فَإِن مُحَمَّدًا أَيْضا خَلِيل الله كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المستفيضة([18]).

وَمَا يرْوى أَن الْعَبَّاس يحْشر بَين حبيب وخليل وأمثال ذَلِك فأحاديث مَوْضُوعَة لَا تصلح أَن يعْتَمد عَلَيْهَا

الشرح:

بين المؤلف - رحمه الله - : أن الخلة أكملُ من المحبة وأنها أكمل مراتب المحبة، وأن إبراهيم خليل الله ومحمد خليل الله كلاهما خليل الله.

وبين - رحمه الله - : أن بعض الناس يقول: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، ويظن أن المحبة فوق الخلة وهذا ضعيف، فالخُلّة من العبد تتضمن تحقيق كمال العبودية لله، وكمال الخلة هي كمال المحبة، وهي تستلزم من العبد كمال العبودية لله، وتستلزم من الرب كمال الربوبية لعبادة الذين يحبهم؛ والنبي ﷺ لم يتخذ أحدًا من الناس خليلًا وإنما اتخذ ربه خليلاً، لكن أخبر أنه يحب كثيرين.

قوله: "وما يروى أن العباس يحشر بين حبيب وخليل، وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها" أي: أن ما يروى من أن العباس– يعني: ابن عبد المطلب– يحشر بين حبيب وخليل، والحبيب هو محمد، وبين خليل وهو إبراهيم، وهذا كذب، لأن محمدا أيضاً خليل الله عليه الصلاة والسلام، فمحمد وإبراهيم كلاهما خليل الله.

المتن:

وَقد قدمنَا أَن محبَّة الله تَعَالَى هِيَ محبته ومحبة مَا أحب كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.([19])

أخبر النَّبِي ﷺ أَن من كَانَ فِيهِ هَذِه الثَّلَاث وجد حلاوة الْإِيمَان لِأَن وجد الْحَلَاوَة بالشَّيْء يتبع الْمحبَّة لَهُ فَمن أحب شَيْئا أَو اشتهاه إِذا حصل لَهُ مُرَاده فَإِنَّهُ يجد الْحَلَاوَة واللذة وَالسُّرُور بذلك واللذة أَمر يحصل عقيب إِدْرَاك الملائم الَّذِي هُوَ المحبوب أَو المشتهى.

الشرح:

يعني: حلاوة الإيمان التي تتضمن اللذة والفرح بما يجده المؤمن تتبع كمال المحبة، وهذه الحلاوة التي تتبع كمال المحبة تكون بثلاثة أمور - تكميل المحبـة وتفريغها عما سواه ودفع ضدها عما سواه- :

أولاً: يحتاج إلى تكميل هذه المحبة، وتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

ثانيًا: تفريغها وذلك بأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله.

ثالثًا: دفع ضدها وذلك بأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار.

فهذه الأمور الثلاثة ذكرها النبي ﷺ تتضمن حصول الحلاوة التى تتبع كمال محبة الله، فالذي يحب الله ورسوله أحب مما سواهما والذي يحب المرء لا يحبه إلا لله والذي يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه يحصل له كمال المحبة وتحصل له حلاوة الإيمان لأنه كمَّل المحبة وفرّغها ودفع ضدها.

المتن:

وَمن قَالَ: إِن اللَّذَّة إِدْرَاك الملائم - كَمَا يَقُوله من يَقُوله من المتفلسفة والأطباء([20]) فقد غلط فِي ذَلِك غَلطا بَينا فَإِن الْإِدْرَاك يتوسط بَين الْمحبَّة واللذة فَإِن الْإِنْسَان مثلا يَشْتَهِي الطَّعَام فَإِذا أكله حصل لَهُ عقيب ذَلِك اللَّذَّة فاللذة تتبع النّظر إِلَى الشَّيْء فَإِذا نظر إِلَيْهِ التذ بِهِ واللذة الَّتِي تتبع النّظر لَيست نفس النّظر وَلَيْسَت هِيَ رُؤْيَة الشَّيْء بل تحصل عقيب رُؤْيَته وَقَالَ تَعَالَى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف:71].

وَهَكَذَا جَمِيع مَا يحصل للنَّفس من اللَّذَّات والآلام من فَرح وحزن وَنَحْو ذَلِك يحصل بالشعور بالمحبوب أَو الشُّعُور بالمكروه وَلَيْسَ نفس الشُّعُور هُوَ الْفَرح وَلَا الْحزن.

فحلاوة الْإِيمَان المتضمنة من اللَّذَّة بِهِ والفرح مَا يجده الْمُؤمن الْوَاجِد حلاوة الْإِيمَان تتبع كَمَال محبَّة العَبْد لله وَذَلِكَ بِثَلَاثَة أُمُور: تَكْمِيل هَذِه الْمحبَّة وتفريقها وَدفع ضدها. فتكميلها أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا فَإِن محبَّة الله وَرَسُوله لَا يكْتَفى فِيهَا بِأَصْل الْحبّ بل لابد أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا كَمَا تقدم، وتفريقها أَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَدفع ضدها أَن يكره ضد الْإِيمَان أعظم من كَرَاهَته الْإِلْقَاء فِي النَّار.

فَإِذا كَانَت محبَّة الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ من محبَّة الله وَكَانَ رَسُول الله ﷺ يحب الْمُؤمنِينَ الَّذين يُحِبهُمْ الله لِأَنَّهُ أكمل النَّاس محبَّة لله وأحقهم بِأَن يحب مَا يُحِبهُ الله وَيبغض مَا يبغضه الله والخلة لَيْسَ فِيهَا لغير الله نصيب بل قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ([21])  علم مزِيد مرتبَة الْخلَّة على مُطلق الْمحبَّة.

الشرح:

قوله:(تكميل هذه المحبة، وتفريغها، ودفع ضدها):فإنه إذا صارت محبوباته كلها تابعة لمحبة الله، فقد فرّغ المحبة مما يشوبها فصارت كل المحبة لله، فيحب الله ويحب ما يحبه الله من الأنبياء والصالحين، فإذا كانت المحبوبات الأخرى كلها تابعة لمحبة الله فمعناه أنه فرغها من غيرها، ثم يدفع ما يضادها بأن يكره الكفر كما يكره الإلقاء في النار.

وقوله: (والخلة ليس لغير الله فيها نصيب): لأن الخلة آخر مرتبة في المحبة فهي نهاية المحبة، والمحبة كما سبق مراتب: أولها العلاقة ثم الصبابة والغرام...إلخ ثم النهاية وكمال مراتبها الخلة، وهي آخر مرتبة في المحبة، فالخلة هي كمال المحبة ونهايتها.

المتن:

وَالْمَقْصُود هُوَ أَن الْخلَّة والمحبة لله تَحْقِيق عبوديته وَإِنَّمَا يغلط من يغلط فِي هَذِه من حَيْثُ يتوهمون أَن الْعُبُودِيَّة مُجَرّد ذل وخضوع فَقَط لَا محبَّة مَعَه وَأَن الْمحبَّة فِيهَا انبساط فِي الْأَهْوَاء أَو إدلال لَا تحتمله الربوبية.

وَلِهَذَا يذكر عَن ذِي النُّون أَنهم تكلمُوا عِنْده فِي مَسْأَلَة الْمحبَّة فَقَالَ: أَمْسكُوا عَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا تسمعها النُّفُوس فتدعيها.

وَكره من كره من أهل الْمعرفَة وَالْعلم مجالسة أَقوام يكثرون الْكَلَام فِي الْمحبَّة بِلَا خشيَة.

وَقَالَ من قَالَ من السّلف: من عبد الله بالحب وَحده فَهُوَ زنديق وَمن عَبده بالرجاء وَحده فَهُوَ مرجئ وَمن عَبده بالخوف وَحده فَهُوَ حروري وَمن عَبده بالحب وَالْخَوْف والرجاء فَهُوَ مُؤمن موحد.

الشرح:

الناس أقسام أربعة:

-من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق متحلّل من الديانة، فيدّعي أنه يعبد الله بالحب، لكن ما يخاف الله ولا يرجوه، ولهذا يُذكر عن بعض الصوفية – كما في كتاب الوعظ- وينسب إلى رابعة العدوية: [ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعًا في جنته فأكون كأسير السوء، وإنما عبدته حبًا لذاته وشوقًا إليه] كأنها تقول: لأنني إذا عبدته خوفاً وطمعاً أكون مثل الإنسان النفعي، ما يعبده إلا لأجل شيء ينفعه، بل أنا أعبده حبًا لذاته فقط لا خوفًا ولا رجاءً. حتى قال بعضهم:[إنه يحب العذاب ويحب النار] فقيل له لِمَ؟ فقال: [لأنني إذا تمتعت بالجنة معناه صارت نفسي تميل إليه، فكنت مع هواي، أما إذا عذبت في النار صرت مخالفاً لهواي]. فهو يرغب في عذاب النار - نسأل الله السلامة والعافية- .

والله تعالى قد أخبر عن أنبيائه ورسوله لما ذكر الأنبياء إبراهيم ولوطا ونوحا وداود وسليمان وأيوب وزكريا ويحيى وعيسى قال : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، خوفاً ورجاء ويدعون ربهم خوفا وطمعاً، لا بد أن تعبد الله بالحب وبالخوف والرجاء.

ومن عبد الله بالخوف وحده فهذا حروري، على طريقة الحرورية الخوارج.

ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.

ومن عبده بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمن موحد.

وهذا يوجد في كتب الصوفية كثير وأن يعبد ربه بالحب وحده وهكذا.

المتن:

وَلِهَذَا وجد فِي الْمُتَأَخِّرين من انبسط فِي دَعْوَى الْمحبَّة حَتَّى أخرجه ذَلِك إِلَى نوع من الرعونة وَالدَّعْوَى الَّتِي تنَافِي الْعُبُودِيَّة وَتدْخل العَبْد فِي نوع من الربوبية الَّتِي لَا تصلح إِلَّا لله فيدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حُدُود الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ أَو يطْلب من الله مَا لَا يصلح بِكُل وَجه إِلَّا لله لَا يصلح للأنبياء وَلَا للمرسلين.

وَهَذَا بَاب وَقع فِيهِ كثير من الشُّيُوخ وَسَببه ضعف تَحْقِيق الْعُبُودِيَّة الَّتِي بيّنها الرُّسُل وحررها الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي جَاءُوا بِهِ بل ضعف الْعقل الَّذِي بِهِ يعرف العَبْد حَقِيقَته وَإِذا ضعف الْعقل وقلص الْعلم بِالدّينِ وَفِي النَّفس محبَّة طائشة جاهلة انبسطت النَّفس بحمقها فِي ذَلِك كَمَا ينبسط الْإِنْسَان فِي محبَّة الْإِنْسَان مَعَ حمقه وجهله وَيَقُول: أَنا محب فَلَا أؤاخذ بِمَا أَفعلهُ من أَنْوَاع يكون فِيهَا عدوان وَجَهل فَهَذَا عين الضلال وَهُوَ شَبيه بقول الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]. قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:18]، فَإِن تعذيبه لَهُم بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنهم غير محبوبين وَلَا منسوبين إِلَيْهِ بِنسَب الْبُنُوَّة بل يَقْتَضِي أَنهم مربوبون مخلوقون.

الشرح:

هؤلاء الشيوخ الذين يقصدهم المؤلف هم شيوخ الصوفية، وهذه هي دعواهم، وقوله: (وسببه ضعف تحقيق العبودية) أي: أن السبب ضعف تحقيق العبودية عندهم التي تحريرها الأمر والنهي، أي: أوامر الله  ونواهيه، بل ضعف العقل، فحصل عندهم ضعف العبودية وضعف العلم وضعف العقل، فصدرت منهم هذه الأقوال والأفعال السيئة.

قوله (وإذا ضعف العقل، وقل العلم بالدين.....): أي: أن هذه دعوى باطلة، فقوله إنه لا يؤاخذ بما يفعله يعني أنه محبوب لله فلا يؤاخذه بالمعاصي، وهذه كقول اليهود والنصارى : نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قال الله رداً عليهم : قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ليكون العدوان: سبباً لبغض المحبوب له، ونفوره عنه، بل سبباً لعقوبته.

المتن:

فَمن كَانَ الله يُحِبهُ اسْتَعْملهُ فِيمَا يُحِبهُ ومحبوبه لَا يفعل مَا يبغضه الْحق ويسخطه من الْكفْر والفسوق والعصيان وَمن فعل الْكَبَائِر وأصر عَلَيْهَا وَلم يتب مِنْهَا فَإِن الله يبغض مِنْهُ ذَلِك كَمَا يحب مِنْهُ مَا يَفْعَله من الْخَيْر إِذْ حبه للْعَبد بِحَسب إيمَانه وتقواه.

وَمن ظن أَن الذُّنُوب لَا تضره لكَون الله يُحِبهُ مَعَ إصراره عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَة من زعم أَن تنَاول السم لَا يضرّهُ مَعَ مداومته عَلَيْهِ وَعدم تداويه مِنْهُ لصِحَّة مزاجه وَلَو تدبر الأحمق مَا قصّ الله فِي كِتَابه من قصَص أنبيائه وَمَا جرى لَهُم من التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار وَمَا أصيبوا بِهِ من أَنْوَاع الْبلَاء الَّذِي فِيهِ تمحيص لَهُم وتطهير بِحَسب أَحْوَالهم علم بعض ضَرَر الذُّنُوب بأصحابها وَلَو كَانَ أرفع النَّاس مقَاما.

الشرح:

قوله: (ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره....) هذا من غرور الشيطان، وقد زعم بعض الصوفية أن الذنوب لا تضره، فيقول: أنا بلغت مرتبة عند الله وأنا محبوب لله فلا تضرني الذنوب ولا المعاصي ولا التقصير في الواجبات، مثل البحر الذي لا يضره ما تضع فيه من النجاسة ولا تكدره الدلاء، وبعضهم يقول: أنا وصلت إلى الله وبلغت درجة من المحبة لا تضرني معها المعاصي، وهذا من غرور الشيطان، واستحواذه عليهم مثل من يقول إنه يتناول السم ولا يضره لأن مزاجه صحيح وعنده مَنَعَةٌ وقوةٌ، وهذا لا يقول به عاقل.

وقوله: (ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه...):لو تدبر قصة آدم عليه الصلاة والسلامفَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۝ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122]، وكذلك قال الله عن موسى : قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، وقال عن داود : وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وقال عن نبيه محمد عليه الصلاة والسلام : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ۝ يَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]وقال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:19] فكيف يقول هؤلاء الصوفية إنهم لا تضرهم الذنوب، والأنبياء أرفـعالناس مقاماً ومع ذلك أخبر الله أنهم مُحّصوا وأنهم طُهّروا وأن الله تاب عليهم.

المتن:

فَإِن الْمُحب للمخلوق إِذا لم يكن عَارِفًا بمحابّه وَلَا مرِيدا لَهَا بل يعْمل بِمُقْتَضى الْحبّ وَإِن كَانَ جهلا وظلما كَانَ ذَلِك سَببا لِبُغْض المحبوب لَهُ ونفوره عَنهُ بل سَببا لعقوبته.

وَكثير من السالكين سلكوا فِي دَعْوَى حب الله أنواعا من أُمُور الْجَهْل بِالدّينِ: إِمَّا من تعدِي حُدُود الله وَإِمَّا من تَضْييع حُقُوق الله وَإِمَّا من ادِّعَاء الدَّعَاوَى الْبَاطِلَة الَّتِي لَا حَقِيقَة لَهَا.

الشرح:

من كان يعمل بمقتضى هواه - ولو كان جهلًا وظلمًا - فلا يكون هذا سببًا في محبة الله، بل يكون سببا لبغضه وعقوبته إما في الدنيا أو في الآخرة.

قوله: "وكثير من السالكين" يعني المؤلف رحمه الله بالسالكين هنا: الصوفية، فهم يُسمَّون سالكين؛ لأنهم سالكون إلى الله بزعمهم.

وهذا الذي ادَّعَوه: من استحواذ الشيطان عليهم، فبعضهم يرى أنه إذا وصل إلى مرتبة من العلم، وعلم أن ما قُدِّرَ سيكون، وألغى صفاته وجعلها صفة الله، سقط عنه التكليف ولا يبالي ولا تضره المعاصي، وأن المعاصي للعامة، أما هو فهو من الخاصة الذين لا تضرهم المعاصي، فهذا من استحواذ الشيطان عليهم، فيضيِّع حقوق الله ويتعدى، ويقول: إنه لا يضره هذا، وتصدر منه مثل هذه الدعاوى الباطلة وهذه الأقوال التي سيذكرها المؤلف رحمه الله.

المتن:

كَقَوْل بَعضهم: أَي مُرِيد لي ترك فِي النَّار أحدا فَأَنا برِئ مِنْهُ، فَقَالَ الآخر: أَي مُرِيد لي ترك أحدا من الْمُؤمنِينَ يدْخل النَّار فَأَنا مِنْهُ بَرِيء.

فَالْأول جعل مريده يخرج كل من فِي النَّار.

وَالثَّانِي جعل مريده يمْنَع أهل الْكَبَائِر من دُخُول النَّار.

وَيَقُول بَعضهم: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نصبت خَيْمَتي على جَهَنَّم حَتَّى لَا يدخلهَا أحد.

وأمثال ذَلِك من الْأَقْوَال الَّتِي تُؤثر عَن بعض الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين وَهِي إِمَّا كذب عَلَيْهِم وَإِمَّا غلط مِنْهُم.

وَمثل هَذَا قد يصدر فِي حَال سكر وَغَلَبَة وفناء يسْقط فِيهَا تَمْيِيز الْإِنْسَان أَو يضعف حَتَّى لَا يدْرِي مَا قَالَ. وَالسكر هُوَ لَذَّة مَعَ عدم تَمْيِيز وَلِهَذَا كَانَ من هَؤُلَاءِ من إِذا صَحا اسْتغْفر من ذَلِك الْكَلَام.

الشرح:

هذه كلها أقوال كفرية نسأل الله العافية، (أيُّ مريد لي) يقصد ربه (ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برئ) يعني: تبرأ من الله.

والثاني: يقول: (أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء)، تبرأ من الله إذ الصواب أن أهل الكبائر جملة منهم يدخلون النار، وقسم يعفى عنهم، فليس كلهم يدخلون وليس كلهم يعفى عنهم، بل لا بد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر؛ لأنه قد تواترت الأخبار والأحاديث عن النبي ﷺ أنه لابد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر وهم مؤمنون مصلون، ولا تأكل النار وجوههم، فهذا يدخل النار لأنه زنى ولم يتب، وهذا يدخل النار لأنه عاق لوالديه، وهذا يدخل النار لأنه تعامل بالربا، وهذا يدخل النار لأنه اغتاب الناس أو نم عليهم أو أكل أموال الناس بالباطل.

إذن نقول: لا وجه لهذا القول، لا بد أن تجزم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر.

والثالث: كذلك ادعى أنه إذا كان يوم القيامة نصبت خيمته على جهنم حتى لا يدخلها أحد.

وهذه الأقوال كفرية، لكن المؤلف - يرحمه الله – يلتمس لهم العذر فيقول: إن هذه الأقول أحيانًا تصدر منهم وقد حصل لهم حالة سكر وغلبة وفناء، أي: من شدة الشهود حصل له غيبوبة فتصدر منه هذه الأقوال وليس عنده عقل ولاتمييز، فيكون من جنس المجانين، فيكون معذورًا؛ لأنه مرفوع عنه القلم، وإلا لو قالها ومعه عقله فيكون كافرًا.

فالمؤلف رحمه الله يبين أنه قد تصدر منهم هذه الأقوال وأحدهم في غيبوبة بسبب السكر والاصطلام والمحو والجمع، فمن شدة الشهود ينسى كل شيء حتى ينسى نفسه، حتى إن بعضهم من شدة شهوده لربه بزعمه ينسى كل شيء ولا يتحرك، وتقع عليه الطيور ولا يتحرك فلا يعقل شيئًا، ويعصب عينه ويدعي أنه تحصل له أنوار وهي: أنوار شيطانية، -نسألة الله العافية والسلامة-  هكذا تستحوذ عليهم الشياطين.

فهذه الأقوال أقوال كفرية من قالها وعقله معه فهو كافر مرتد؛ لأنه تبرأ من الله، وادعى أنه يتصرف في يوم القيامة،-نسأل الله العافية-.

قال المؤلف في الاعتذار لهم: (إما كذب عليهم، وإما غلط منهم):يعني أن ما حصل إما أن يكون كذبا عليهم وإما غلطًا منهم بسبب قوة الشهود والغيبوبة التي حصلت لهم وعدم التمييز.

وقوله:(ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء) : هذه أحوال الصوفية، السكر، يعني: السكر من شدة الحب، يسكر حتى ينسى نفسه، وغلبه الفناء أي كونه يُفنى نفسه في ربه ولا يحصل له تمييز بين الخالق والمخلوق - نسأل الله السلامة والعافية- وهذه أحوال الصوفية.

وقوله:(يسقط فيه تمييز الإنسان): وإذا سقط التمييز صار مجنوناً ورفع عنه القلم؛ لأنه لا يعقل.

وقوله:(ولهذا كان من هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام) : إذا صحا أو زال عنه السكر زالت عنه الغيبوبة استغفر.

المتن:

وَالَّذين توسعوا من الشُّيُوخ فِي سَماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام.

كَانَ هَذَا أصل مقصدهم فَإِن هَذَا الْجِنْس يُحَرك مَا فِي الْقلب من الْحبّ كَائِنا مَا كَانَ وَلِهَذَا أنزل الله محنة يمْتَحن بهَا الْمُحب فَقَالَ: قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. فَلَا يكون محبا لله إِلَّا من يتبع رَسُوله.

الشرح:

وقوله:(والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد...):من جهلهم أنهم يتوسعون في سماع القصائد التي تتضمن الحب والشوق واللوم والعذل والغرام، فيتعبدون لله بسماع هذه القصائد والغناء.

وقوله: (ولهذا أنزل الله محنة يمتحن بها المحب): وهذه الآية تسمى آية المحنة والاختبار ادَّعى أناس أنهم يحبون الله فاختبرهم، فأخبر الله أن ميزان ذلك اتباع الرسول، فمن ينطبق عليه الميـزان فهـو محب لله، قال تعالى: قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ​​​​​​​ [آل عمران:31]، فمن اتبع الرسول فهو صادق في المحبة، ومن خالف الرسول ﷺ فهو كاذب في المحبة، واتباع الرسول ﷺ بالتزام ما جاء به من الشريعة فامتثل أوامر الله وأخلص أعماله لله، وأخلص الدين لله، وأدى فرائض الله، وانتهى عن محارم الله، ووقف عند حدود الله، واستقام على دين الله، فمن كان كذلك فهو صادق في محبته ومن خالف ذلك فهو كاذب.

المتن:

وَطَاعَة الرَّسُول ومتابعته لَا تكون إِلَّا بتحقيق الْعُبُودِيَّة وَكثير مِمَّن يَدعِي الْمحبَّة يخرج عَن شَرِيعَته وسنته ﷺ وَيَدعِي من الْحَالَات مَا لَا يَتَّسِع هَذَا الْموضع لذكره حَتَّى قد يظنّ أحدهم سُقُوط الْأَمر وَتَحْلِيل الْحَرَام لَهُ وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ مُخَالفَة شَرِيعَة الرَّسُول وسنته وطاعته.

بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رَسُوله الْجِهَاد فِي سَبيله وَالْجهَاد يتَضَمَّن كَمَال محبَّة مَا أَمر الله بِهِ وَكَمَال بغض مَا نهى الله عَنهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي صفة من يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54].

الشرح:

وقوله: (حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته) يعني: أنه يظن أنه إذا وصل إلى مرتبة العلم وإلى حالة يلغي صفاته ويجعلها لله، ويلغى أفعاله ويجعلها أفعالا لله، صار من الخاصة، وسقط عنه الأمر والنهي،فليس عليه أوامر ولا نواهٍ ولا طاعاتٍ ولا معاصٍ لأنه وصل إلى الله، ويستدل بقول الله : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]فيفسرون اليقين بالعلم، فيزعمون أن كلَّ ما يفعلونه فهو مباح لهم - نعوذ بالله -، ومن اعتقد هذا فهو مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

وقوله: (بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله، الجهاد في سبيل الله):فالجهاد في سبيله هو أساس المحبة؛ لأن المجاهد يبذل نفسه وماله لله ، في الغيرة لدين الله، والدعوة إلى دينه، فهو يقاتل ويبذل مهجته ويبذل نفسه لإعلاء كلمة الله، وهذا هو الأصل وأساس المحبة لله ولرسوله، وهذه هي المحبة لله حقيقة.

الحواشي:

([1]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم (32)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان (124).

([2]) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب (2581).

[3])) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2217)

[4])) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب باب قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (3390)

([5]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل (2369)، من حديث أنس بن مالك قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ .

([6]) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي .

([7]) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2383)، من حديث عبد الله بن مسعود ، ولفظه: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا

([8]) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة (3904)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2382)، من حديث أبي سعيد الخدري ، ولفظه: لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ.

([9]) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي .

([10]) قال جندب بن عبد الله البجلي : سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس يقول ... ثم ذكر الحديث، تنظر: المرجع السابق.

([11]) انظر: درء تعارض العقل (6/59-63).

([12]) انظر: الفتوى الحموية الكبرى (ص458).

[13])) انظر: منهاج السنة (1/114)، ومجموع الفتاوى (28/480)، وحقوق آل البيت صــ54.

[14])) سبق تخريجه قريبا.

([15]) صحيح البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما (3747).

[16])) صحيح البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب باب قول النبي ﷺ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا (3662)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2384).

([17]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي ﷺ الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله (2942)، صحيح مسلم، كتاب فصائل الصحابة (2406).

([18]) كما في حديث جندب بن عبد الله أنه سمع النبي قبل أن يموت بخمس يقول: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532).

([19]) سبق تخريجه.

([20]) انظر: درء تعارض العقل والنقل (6/69-75).

([21]) سبق تخريجه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد