المتن:
وَلِهَذَا كَانَت محبَّة هَذِه الْأمة لله أكمل من محبَّة من قبلهَا وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم.
وأكمل هَذِه الْأمة فِي ذَلِك هم أَصْحَاب مُحَمَّد ﷺ وَمن كَانَ بهم أشبه كَانَ ذَلِك فِيهِ أكمل.
الشرح:
وقوله:(ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها): بيَّن المؤلف - رحمه الله - أن محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها من الأمم وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم من الأمم، وما ذاك إلا لأن نبي هذه الأمة أفضل الأنبياء، وهذه الأمة أفضل الأمم.
فنبينا محمد ﷺ أكمل الناس محبة له، وهو أكملهم عبودية له، وهذه الأمة أكمل محبة لله وأكملهم عبودية لله .
وقد بيَّن المؤلف رحمه الله أن اتباع الشريعة والجهاد في سبيل الله من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه وبين من يدَّعي المحبة، وقد سبق قوله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، تسمى آية المحنة، فقد ادَّعى قوماً محبة الله فامتحنهم الله بهذه الآية.
وبين المؤلف - رحمه الله - أن إبراهيم وآل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام هم أئمة الحنفاء ونبينا ﷺ من آل إبراهيم، وأن فرعون وآل فرعون هم أئمة الكفـر والضلال، ومنهـم الاتحادية الذيـن يقولـون إن الوجود واحد، وهم على دين فرعون وعلـى مذهب فرعون.
المتن:
فَأَيْنَ هَذَا من قوم يدعونَ الْمحبَّة؟
وَفِي كَلَام بعض الشُّيُوخ: الْمحبَّة نَار تحرق فِي الْقلب مَا سوى مُرَاد المحبوب.
وَأَرَادُوا أَن الْكَوْن كُله قد أَرَادَ الله وجوده فظنوا أَن كَمَال الْمحبَّة أَن يحب العَبْد كل شَيْء حَتَّى الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَا يُمكن لأحد أَن يحب كل مَوْجُود بل يحب مَا يلائمه وينفعه وَيبغض مَا يُنَافِيهِ ويضره وَلَكِن استفادوا بِهَذَا الضلال اتِّبَاع أهوائهم ثمَّ زادهم انغماسا فِي أهوائهم وشهواتهم فهم يحبونَ مَا يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المَال والبدع المضلة زاعمين أَن هَذَا من محبَّة الله وَمن محبَّة الله بغض مَا يبغضه الله وَرَسُوله وَجِهَاد أَهله بِالنَّفسِ وَالْمَال.
وأصل ضلالهم: أَن هَذَا الْقَائِل الَّذِي قَالَ: إِن الْمحبَّة نَار تحرق مَا سوى مُرَاد المحبوب، قصد بِمُرَاد الله تَعَالَى: الْإِرَادَة الكونية فِي كل الموجودات.
أما لَو قَالَ مُؤمن بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله، هَذِه الْمقَالة، فَإِنَّهُ يقْصد الْإِرَادَة الدِّينِيَّة الشَّرْعِيَّة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى محبته وَرضَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تحرق من الْقلب مَا سوى المحبوب لله.
وَهَذَا معنى صَحِيح فَإِن من تَمام الْحبّ لله أَلا يحب إِلَّا مَا يُحِبهُ الله فَإِذا أَحْبَبْت مَا لَا يحب كَانَت الْمحبَّة نَاقِصَة. وَأما قَضَاؤُهُ وَقدره فَهُوَ يبغضه ويكرهه ويسخطه وَينْهى عَنهُ فَإِن لم أوافقه فِي بغضه وكراهته وَسخطه لم أكن محبا لَهُ بل محبا لما يبغضه.
الشرح:
قوله: (فأين هذا من قوم يدعون المحبة) : يعني يدعون المحبة من دون عمل؛ من اتباع لرسول الله ﷺ، وجهاد في سبيل الله، وعلى ذلك فهذه الدعاوي لا تنفع فلا بد لكل دعوى من دليل، ولهذا من ادعى محبة الله فليعمل بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. لأنها تُسمى آية المحنة أي الامتحان والاختبار، فإذا قال إنسان: أنا أحب الله، نقول له عندنا امتحان نختبرك به بأن ننتظر عملك إن كنت متبعاً للرسول فأنت صادق وإن كنت لا تتبع الرسول فأنت كاذب في دعواك.
وقوله: (وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب): هذه الكلمة صدرت من بعض شيوخ الصوفية، ووجه الغلط في ذلك:أنه أراد بهذه الإرادة الإرادة الكونية، القدرية وكل شيء في الوجود قد أراده الله كونه قدراً لا يقع في ملك الله إلا ما يريد، لكن الأشياء التي أرادها كونا وقدراً بعضها يحبها وبعضها يكرهها، إذ هناك إرادة ثانية تسمى الإرادة الدينية الشرعية، فالذي وقع في الكون من الكفر والفسوق والعصيان وقع كونا وقدراً، لكن الله لا يرضاه دينا وشرعاً فهو مراد بالإرادة الكونية لما في ذلك لله من الحكم والأسرار لكنه ليس مراداً للإرادة الدينية الشرعية.
فهؤلاء الشيوخ من الصوفية ظنوا أن المراد بالإرادة الكونية القدرية محبوب لله مطلقاً فلما رأوا أن الكفر والفسوق والعصيان كلها وقعت قالوا هذه مراده لله محبوبة فلم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية، وهذا وجه الغلط، والصواب: أن يُفرّق بين الإرادتين، فهناك إرادتان إرادة كونية قدرية هذه لا يتخلف مرادها، بل يقع بها كل شيء أراده الله، فكل شيء وقع في هذا الوجود فهو داخل تحت الإرادة الكونية.
لكن بعد ذلك ينقسم إلى قسمين:
قسم مراد لله بالإرادة الدينية الشرعية، وهو ما أمر به الله ورضي به وأحبهشرعاً
قسم ليس مراداً لله.
فلو قال هذا القائل: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادة الإرادة الدينية فالعبارة صحيحة، لكن إذا أراد الإرادة الكونية فتكون غلط.
قوله: (وأصل ضلالهم: أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب، قصد بمراد الله تعالى: الإرادة الكونية في كل الموجودات) وقع في بعض النسخ: "وأصل ضلالهم: أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب، قصد بمراد الله تعالى: الإرادة الدينية الشرعية" وهذا غلط لايستقيم به الكلام، وقد كنت علقت عليها النسخة الثانية- التي أثبتت العبارة الخطأ - : [لعل صواب العبارة: وأصل هذا الكلام].
فما في النسخة الثانية: تُغيّر أصل العبارة، المقصود: أن أصل الضلال كونه يريد الإرادة الكونية، أما لو أراد الإرادة الدينية الشرعية تكون العبارة سليمة.
المتن:
فاتباع هَذِه الشَّرِيعَة وَالْقِيَام بِالْجِهَادِ بهَا من أعظم الفروق بَين أهل محبَّة الله وأوليائه الَّذين يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَبَين من يَدعِي محبَّة الله نَاظرا إِلَى عُمُوم ربوبيته أَو مُتبعا لبَعض الْبدع الْمُخَالفَة لشريعته فَإِن دَعْوَى هَذِه الْمحبَّة لله من جنس دَعْوَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْمحبَّة لله بل قد تكون دَعْوَى هَؤُلَاءِ شرا من دَعْوَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى لما فيهم من النِّفَاق الَّذين هم بِهِ فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار كَمَا قد تكون دَعْوَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى شرا من دَعوَاهُم إِذا لم يصلوا إِلَى مثل كفرهم.
وَفِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من التَّرْغِيب فِي محبَّة الله مَا هم متفقون عَلَيْهِ حَتَّى إِن ذَلِك عِنْدهم أعظم وَصَايَا الناموس. فَفِي الْإِنْجِيل أعظم وَصَايَا الْمَسِيح: (أَن تحب الله بِكُل قَلْبك وعقلك ونفسك).
وَالنَّصَارَى يدعونَ قيامهم بِهَذِهِ الْمحبَّة وَأَن مَا هم فِيهِ من الزّهْد وَالْعِبَادَة هُوَ من ذَلِك وهم بُرَآء من محبَّة الله إِذْ لم يتبعوا مَا أحبه بل ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].
الشرح:
وقوله:(فاتباع هذه الشريعة والقيام بالجهاد بها من أعظم الفروق...): يعني:من يدعي محبة الله نظراً إلى عموم الربوبية من جنس دعوة اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، هذه دعوة ولهذا قال الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قال الله تعالى رداً عليهم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18]. إذا كنتم أحباب الله فاتبعوا شرعه واتبعوا رسوله.
وقوله: (بل قد تكون دعوى هؤلاء شراً من دعوى اليهود والنصارى....): هذا من إنصاف المؤلف رحمه الله، يقول: إن دعوى بعض الصوفية الذين يدعون محبة الله وهم منحرفون في العبادة ولا يتبعون شرع الله من جنس دعوى اليهود أنهم أحباب الله ولا يتبعون رسول الله، لكن أيهم أشر هل الصوفية أشر من اليهود والنصارى أم اليهود والنصارى أشر؟
المؤلف فصّل:
إذا كان هؤلاء الصوفية الذين يدعون محبة الله منافقون وصلوا إلى الشرك الأكبر،فيكونون أشر من اليهود والنصارى.
أما إذا كانوا لم يصلوا إلى درجة الشرك الأكبر فيكون اليهود والنصارى أشر منهم.
وبعض الصوفية منافق زنديق، والمنافق في الدرك الأسفل من النار فيكون شراً من اليهود والنصارى، لأن المنافقين في دركة في النار تحت دركة اليهود والنصارى فيكون أشر، أما إذا كان نفاقهم لا يصل إلى حد الشرك الأكبر فيكون اليهود والنصارى أشر منهم، وهذا من إنصاف المؤلف رحمه الله تعالى.
المتن:
وَالله يبغض الْكَافرين ويمقتهم ويلعنهم وَهُوَ سُبْحَانَهُ يحب من يُحِبهُ لَا يُمكن أَن يكون العَبْد محبا لله وَالله تَعَالَى غير محب لَهُ بل بِقدر محبَّة العَبْد لرَبه يكون حب الله لَهُ وَإِن كَانَ جَزَاء الله لعَبْدِهِ أعظم كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الإلهي عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ: مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ([1]).
وَقد أخبر الله سُبْحَانَهُ أَنه يحب الْمُتَّقِينَ والمحسنين وَالصَّابِرِينَ وَيُحب التوابين وَيُحب المتطهرين بل هُوَ يحب من فعل مَا أَمر بِهِ من وَاجِب ومستحب كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ([2]) الحَدِيث.
وَكثير من المخطئين الَّذين ابتدعوا أَشْيَاء فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة وَقَعُوا فِي بعض مَا وَقع فِيهِ النَّصَارَى من دَعْوَى الْمحبَّة لله مَعَ مُخَالفَة شَرِيعَته وَترك المجاهدة فِي سَبيله وَنَحْو ذَلِك ويتمسكون فِي الدَّين الَّذِي يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى الله بِنَحْوِ مَا تمسك بِهِ النَّصَارَى من الْكَلَام الْمُتَشَابه والحكايات الَّتِي لَا يعرف صدق قَائِلهَا وَلَو صدق لم يكن قَائِلهَا مَعْصُوما فيجعلون متبوعيهم شارعين لَهُم دينا كَمَا جعل النَّصَارَى قسيسيهم وَرُهْبَانهمْ شارعين لَهُم دينا ثمَّ إِنَّهُم ينتقصون الْعُبُودِيَّة وَيدعونَ أَن الْخَاصَّة يتعدونها كَمَا يَدعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيح والقساوسة ويثبتون لخاصتهم من الْمُشَاركَة فِي الله من جنس مَا تثبته النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَأمه والقسيسين والرهبان إِلَى أَنْوَاع أخر يطول شرحها فِي هَذَا الْموضع.
الشرح:
قوله: (وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين، والمحسنين، والصابرين) جاء في بعض النسخ: [يحب المتقين المحسنين] وهذا خطأ، فقد أخبر الله أنه يحب المحسنين، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ البقرة: ١٩٥وأنه يحب المتقين: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ التوبة: ٤
وقوله:(وكثير من المخطئين الذين ابتدعوا أشياء في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى...): يعني أن بعض الصوفية يشابهون النصارى في أن كلاً منهم يدعي محبة الله ووجه الشبه بينهما أن كلاً من النصارى والصوفية يدعي محبة الله مع كونه يخالف شرع الله ويترك الجهاد في سبيل الله ويتمسكون بما تمسك به النصارى من كلام متشابه ومن حكايات لا تعرف للنصارى يتمسكون بها وكلام متشابه، والصوفية عندهم حكايات، ولو صدق هذا القائل فليس هو بمعصوم مثل الأنبياء، يحكى عن فلان كذا وكذا عبد الله الصالح فعل كذا وكذا عبد الله الصالح حصل له كرامات، فيجعلون متبوعيهم مشرعين لهم من دون الله، كما أن النصارى يجعلون قسيسهم كذلك شارعين لهم أشياء يتعدون بها شريعة الله.
المتن:
وَإِنَّمَا الدَّين الْحق هُوَ تَحْقِيق الْعُبُودِيَّة لله بِكُل وَجه وَهُوَ تَحْقِيق محبَّة الله بِكُل دَرَجَة وبقدر تَكْمِيل الْعُبُودِيَّة تكمل محبَّة العَبْد لرَبه وتكمل محبَّة الرب لعَبْدِهِ وبقدر نقص هَذَا يكون نقص هَذَا وَكلما كَانَ فِي الْقلب حب لغير الله كَانَت فِيهِ عبودية لغير الله بِحَسب ذَلِك وَكلما كَانَ فِيهِ عبودية لغير الله كَانَ فِيهِ حب لغير الله بِحَسب ذَلِك.
وكل محبَّة لَا تكون لله فَهِيَ بَاطِلَة وكل عمل لَا يُرَاد بِهِ وَجه الله فَهُوَ بَاطِل فالدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لله ([3]) وَلَا يكون لله إِلَّا مَا أحبه الله وَرَسُوله وَهُوَ الْمَشْرُوع.
فَكل عمل أُرِيد بِهِ غير الله لم يكن لله وكل عمل لَا يُوَافق شرع الله لم يكن لله بل لَا يكون لله إِلَّا مَا جمع الوصفين: أَن يكون لله وَأَن يكون مُوَافقا لمحبة الله وَرَسُوله.
الشرح:
قوله: (وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه): هكذا يكون الدين الحق تحقيق العبودية لله بكل وجه، وتحقيق العبودية لله هو تحقيق محبة الله، فمن حقق عبودية الله فقد حقق محبة الله، ومن نقص تحقيقه للعبودية فإنها تنقص محبته لله، فبقدر تكميله للعبودية تكن محبة الله، وبقدر نقصه من العبودية تنقص محبته لله وهكذا، وبهذا يتبين أن دعوى محبة الله من غير ذلك لا يعوّل عليها ولا تُفيد صاحبَها، إذ لا بد من الدليل على الدعوى، والدليل تحقيق عبودية الله.
وقوله: (إلا ما جمع الوصفينأن يكون لله؛ وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله): وهذا الوصفان هما أصل الدين، وهما أن يكون لله. وهذا هو الإخلاص لله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهذا الأصل الثاني، وهو أن يكون عمله موافقاً لشرع الله وهو تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله.
فلا يصلح أي عمل إلا بهذين الأمريــن، أن يكـون العمل خالصاً لله،وأن يكون موافقاً لشرع الله، ولا يصح إلا بهما. والأدلة على هذا كثيرة كما سيذكر المؤلف.
المتن:
وَهُوَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فَلَا بُد من الْعَمَل الصَّالح وَهُوَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب وَلَا بُد أَن يكون خَالِصا لوجه الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112].
وَقَالَ النَّبِي ﷺ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ([4]) وَقَالَ ﷺ: إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ ([5]).
وَهَذَا الأَصْل هُوَ أصل الدَّين وبحسب تَحْقِيقه يكون تَحْقِيق الدَّين وَبِه أرسل الله الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُول وَعَلِيهِ جَاهد وَبِه أَمر وَفِيه رغب وَهُوَ قطب الدَّين الَّذِي تَدور عَلَيْهِ رحاه.
الشرح:
وقوله:(وهو الواجب والمستحب): فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] وهذا هو الإخلاص لله.
وقوله: (فلا بد من العمل الصالح...): الآية فيها الأصلان: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ[البقرة:112]. هذا إخلاص العمل لله، وَهُوَ مُحْسِنٌ. هذا الموافق لشرع الله، فالعمل الحسن هو الموافق لشرع الله.
وقوله:(وقال النبي ﷺ : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) : هذا يقرر الأصل الثاني وهو تحقيق شهادة أن محمد رسول الله، وهو أن، يكون العمل موافقاً لشرع الله، وفي الصحيحين: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ ([6]).
وقوله: إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ: هذا أيضاً يحقق الأصل الأول وهو: أن يكون العمل لله إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فالأعمال تنبني على النيات فإن كانت النيةخالصة لله صح العمل.
وقوله: (وهذا الأصل هو أصل الدين) وهذا أصل الملة، وهو: أن يكون العمل خالصاً لله، ثم أيضا لا بد أن يكون موافقاً لشرع الله حتى لا يكون فيه بدع وأهواء.
المتن:
الشرح:
بين المؤلف - رحمه الله - أن الدين الحق تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله وأن كل عمل لا يوافق شرع الله فإنه لا يكون لله، ولا يكون لله إلا ما جمع الوصفين أن يكون لله وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، ثم بين - رحمه الله - أن الشرك غالب على النفوس وكما في الحديث: أنه أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ .
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] قال: [الأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ، فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ، وَحَيَاتِكَ يَا فُلانَةُ، وَحَيَاتِي. وَيَقُولُ: لَوْلا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ. وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ:مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلا اللَّهُ وَفُلَانٌ. لَا تَجْعَلْ فِيهَا فلان، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِهِ شِرْكٌ.] رواه ابن أبي حاتم([10]).
ومن الشرك الخفي: اتباع الهوى مثل محبة المال ومحبة الجاه ومحبة الصور إلى غير ذلك.
المتن:
وَكَثِيرًا مَا يخالط النُّفُوس من الشَّهَوَات الْخفية مَا يفْسد عَلَيْهَا تَحْقِيق محبتها لله وعبوديتها لَهُ وإخلاص دينهَا لَهُ كَمَا قَالَ شَدَّاد بن أَوْس: يَا نعايا الْعَرَب يَا نعايا الْعَرَب إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الرِّيَاء والشهوة الْخفية،([11]).
وَقيل لأبي دَاوُد السجسْتانِي: وَمَا الشَّهْوَة الْخفية؟ قَالَ: حب الرِّئَاسَة ([12])
وَعَن كَعْب بن مَالك عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ ([13]) قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
فَبين ﷺ أَن الْحِرْص على المَال والشرف فِي إِفْسَاد الدَّين لَا ينقص عَن إِفْسَاد الذئبين الجائعين لزريبة الْغنم.
الشرح:
يُبيِّن النَّبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن حرص الإنسان على المال وعلى الجاه والشرف والمنصب يفسد دينه كما يفسد الذئبان الجائعان اللذان أُرسلا في زريبة غنم، فإنك لو أرسلت ذئبين جائعين على حظيرة غنم، فإنهما لا يتركانها بل لا بد أن يشقا بطونها كلها يأكلان ما يأكلان والباقي يتركانه فاسدًا، فالذئب من طبيعته الإفساد، فكيف إذا كانا ذئبين وكانا جائعين قد مضى عليهما مدة لم يأكلا ثم أطلقتهما في زريبة غنم، فإنهما لا بد أن يأتيا على هذه الغنم أكلًا وإفسادًا، فحرصُ الإنسان على المال وحرصه على الشرف والجاه والمنصب يفسد دينه مثل ما يفسد هذان الذئبان الجائعان الغنم إذا أُرسلا لزريبةوالزيبة والحظيرة هي: المكان الذي تكون فيه الغنم.
والحديث فيه تقديم وتأخير، والمعنى: ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف، أي: أن الإفساد من حرص المرء على المال والشرف والجاه لدين الرجل أفسد من إفساد هذين الذئبين.
المتن:
وَذَلِكَ بيّن فَإِن الدَّين السَّلِيم لَا يكون فِيهِ هَذَا الْحِرْص وَذَلِكَ أَن الْقلب إِذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته لَهُ لم يكن شَيْء أحب إِلَيْهِ من ذَلِك حَتَّى يقدمهُ عَلَيْهِ وَبِذَلِك يصرف عَن أهل الْإِخْلَاص لله السوء والفحشاء كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
فَإِن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله مَا يمنعهُ عَن عبوديته لغيره وَمن حلاوة محبته لله مَا يمنعهُ عَن محبَّة غَيره إِذْ لَيْسَ عِنْد الْقلب السَّلِيم أحلى وَلَا ألذ وَلَا أطيب وَلَا أسر وَلَا أنعم من حلاوة الْإِيمَان المتضمن عبوديته لله ومحبته لَهُ وإخلاص الدَّين لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي انجذاب الْقلب إِلَى الله فَيصير الْقلب منيبا إِلَى الله خَائفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33]. إِذْ الْمُحب يخَاف من زَوَال مَطْلُوبه أَو حُصُول مرغوبه فَلَا يكون عبد الله ومحبه إِلَّا بَين خوف ورجاء كَمَا قَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]
الشرح:
قوله:( وَذَلِكَ بيّن فَإِن الدَّين السَّلِيم لَا يكون فِيهِ هَذَا الْحِرْص) جاء في النسخة الثانية: [وذلك يبيّن أن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص]وهو أوضح.
قوله: (فلا يكون عبد الله ومحبه، إلا بين خوف ورجاء) هذه المحبة الصادقة يلزم منها الخوف والرجاء، فالإنسان يعبد الله بالمحبة والخوف والرجاء، أما يقوله بعض الزنادقة من الصوفية: أعبد الله بالحب وحده، فهذا خطأ، وكذلك بعض المرجئة يعبد الله بالرجاء، وبعض الخوارج يعبد الله بالخوف، ولا يكون عبد الله على الحقيقة حتى يكون محبًا لله خائفًا راجيًا.
والخوف والرجاء لا بد منهما، وكل محب فهو خائف، وكل خائف فهو راج، وكل راج فهو خائف؛لأن المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرهوبه، فلا بد له من الأمرين كما قال الله تعالى عن عباده ورسله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وكما في قوله سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16]، وكما في أول سورة الفاتحة فيها المحبة والخوف والرجاء، وفي أركان العبادة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]. هذا هو الركن الأول وهو المحبة.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، هذا الركن الثاني وهو الرجاء، ترجو رحمة الله من الرحمن.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]. وهـذا الركـن الثالث وهو الخوف، والتخوف من يوم القيامة.
ثم بعد ذلك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. ،فهذه أركان العبادة كلها ذُكرت في مطلع سورة الفاتحة.
المتن:
وَإِذا كَانَ العَبْد مخلصا لله اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إِلَيْهِ فَيَنْصَرِف عَنهُ مَا يضاد ذَلِك من السوء والفحشاء وَيخَاف من حُصُول ضد ذَلِك بِخِلَاف الْقلب الَّذِي لم يخلص لله فَإِن فِيهِ طلبا وَإِرَادَة وحبا مُطلقًا فيهوى مَا يسنح لَهُ ويتشبث بِمَا يهواه كالغصن أَي نسيم مر بِهِ عطفه وأماله فَتَارَة تجتذبه الصُّور الْمُحرمَة وَغير الْمُحرمَة فَيبقى أَسِيرًا عبدا لمن لَو اتَّخذهُ هُوَ عبدا لَهُ لَكَانَ ذَلِك عَيْبا ونقصا وذما.
وَتارَة يجتذبه الشّرف والرئاسة فترضيه الْكَلِمَة وتغضبه الْكَلِمَة ويستعبده من يثني عَلَيْهِ وَلَو بِالْبَاطِلِ ويعادي من يذمه وَلَو بِالْحَقِّ.
وَتارَة يستعبده الدِّرْهَم وَالدِّينَار وأمثال ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي تستعبد الْقُلُوب والقلوب تهواها فيتخذ إِلَهًا هَوَاهُ وَيتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله.
وَمن لم يكن خَالِصا لله عبدا لَهُ قد صَار قلبه معبدًا لرَبه وَحده لَا شريك لَهُ بِحَيْثُ يكون الله أحب إِلَيْهِ من كل مَا سواهُ وَيكون ذليلا لَهُ خاضعا وَإِلَّا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشَّيَاطِين فَكَانَ من الغاوين إخْوَان الشَّيَاطِين وَصَارَ فِيهِ من السوء والفحشاء مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله.
وَهَذَا أَمر ضَرُورِيّ لَا حِيلَة فِيهِ.
فالقلب إِن لم يكن حَنِيفا مُقبلا على الله معرضًا عَمَّا سواهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْركًا قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ إلَى قَوْلِهِ: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
الشرح:
قوله: (بخلاف القلب الذي لم يخلص لله....): سبب ذلك: أن هذا القلب الذي لم يخلص لله حصل فيه نقص عظيم، فلما حصل فيه نقص حصلت هذه العبودية، فالعبودية لغير الله تُنقص الإخلاص، فإذا نقص الإخلاص حل محله العبودية لغير الله، عبودية للصور وعبودية للشرف، وعبودية للدرهم والدينار، وعبودية للهوى، وإذا أخلص الإنسان عمله لله لم يحصل له نقص في العبودية لله.
وقوله:(ومن لم يكن خَالِصا لله، عبداً له)في النسخة الثانية: [ومن لم يكن مخلصا لله، عبداً له] وهو أوضح.
والمعنى: أن من لم يكن قلبه معبّدًا لله صار قلبه معبّدًا لغير لغير الله من المخلوقات ولا بد، فالقلب لا يكون فيه فراغ؛ إما فيه عبودية لله أو عبودية لغير الله، فإذا كانت العبودية لله كاملة لم يكن فيها محل لعبودية غير الله، وإذا كانت العبودية لله ناقصة حل محلها عبودية لغير الله، كالمشرك، خلا قلبه من عبودية الله فحّل محلّها عبودية غير الله، حتى ولو عبد الله وهو يعبد غيره فلا يُفيده.
والناس في هذا يتفاوتون تفاوتا عظيماً على حسب إخلاصهم وعلى حسب أعمالهم وعلى حسب الشرك الذي يحل في قلوبهم، والمخلصون الذين أخلصوا لله هؤلاء ليس فيهم عبودية لغير الله، والمراد بالشرك هنا: الشرك الأصغر والمعاصي وغيرها، ليس المراد الشرك الأكبر؛ لأن الشرك الأكبر لا يجامع التوحيد، فإذا وجد الوحيد والإخلاص زال الشرك، وإذا وجد الشرك الأكبر زال التوحيد والإخلاص، فلا يجتمعان في القلب، ولكنيجتمع في القلب عبودية لله وعبودية لغير الله، لكن فيما هو دون الشرك الأكبر.
فالشرك الأكبر فلا يجتمع في القلب مع التوحيد والإخلاص، بل هما ضدان إذا وجد أحدهما زال الآخر، فلايجتمعان: الشرك الأكبر مع التوحيد، لكن الشرك الأصغر مع التوحيد أو المعاصي مع التوحيد قد يجتمعان.
وقوله: (فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، كان مشركاً): فهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فلا يمكن أن يكون القلب فارغاً، فمن لم يكن حنيفاً مقبلا على الله معرضا عما سواه صار مشركًا، وليس هناك بيْن بيْن، إلا كما سبق أن المعاصي والشرك الأصغر قد تجتمع في القلب مع توحيد الله، لكنها تُضعِف التوحيد والإخلاص.
المتن:
وَقد جعل الله سُبْحَانَهُ إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم أَئِمَّة لهَؤُلَاء الحنفاء المخلصين أهل محبَّة الله وعبادته وإخلاص الدَّين لَهُ كَمَا جعل فِرْعَوْن وَآل فِرْعَوْن أَئِمَّة الْمُشْركين المتبعين أهواءهم قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيم وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:72-73]
وَقَالَ فِي فِرْعَوْن وَقَومه: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 41-42]، وَلِهَذَا يصير أَتبَاع فِرْعَوْن أَولا إِلَى أَلا يميزوا بَين مَا يُحِبهُ الله ويرضاه وَبَين مَا قدر الله وقضاه بل ينظرُونَ إِلَى الْمَشِيئَة الْمُطلقَة الشاملة ثمَّ فِي آخر الْأَمر لَا يميزون بَين الْخَالِق والمخلوق بل يجْعَلُونَ وجود هَذَا وجود هَذَا.
الشرح:
وقوله: (جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين): ونبينا محمد ﷺ من آل إبراهيم، فآل إبراهيم، فمقدَّمهم محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ثم سائر الأنبياء كلهم أئمة للناس.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً: أي: أئمة هدى.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً:: أي: أئمة ضلال، فإبراهيم وآل إبراهيم أئمة هدى، وفرعون وآل فرعون أئمة ضلال.
وقوله:(ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً): هؤلاء أتباع فرعون فهم أولا لا يميزون بين القدر وبين الشرع، لا يميزون بين ما قدره الله وما شرعه الله، أي: لا يميزون بين القـدر وبين الشريعـة، فيقولون: كل ما قدره الله من الزنا ومن السرقة وغيرها يحبه ويرضاه، يقولون: هذه قدَّرها الله إذاً يحبها الله، لا فرق عندهم بين القدر وبين الشريعة أعرضوا عن الشريعة، ثم بعد ذلك في نهاية الأمر يصلون إلى أنهم لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، يقولون المخلوق هو الخالق والخالق هو المخلوق فكل شيء تراه هو الله لا يميزون، فيصلون إلى القول بوحدة الوجود الذي هو النهاية والغاية في الكفر والعياذ بالله.
المتن:
الشرح:
الصوفية يقسمون الناس إلى ثلاث طبقات:عامة، خاصة، خاصة خاصة.
الطبقة الأولى: العامة، هم أهل الشريعة عندهم طاعات ومعاص، ومن العامة عندهم: جميع الأنبياء والمرسلين يسمونهم عامة لأن عندهم طاعات ومعاص.
الطبقة الثانية: الخاصة، وليس عندهم معاص كل ما يصدر منهم فهو طاعات ولو صدر الزنا يكون طاعة أو السرقة تكون طاعة، أو شرب الخمر يكون طاعة، لا توجد المعاصي عندهم، ولكن المعاصي عند أهل الشريعة أما أهل الحقيقة فلا لأنهم ألغوا صفاتهم وأفعالهم وجعلوها صفات لله فصار كل ما يصدر من الواحد يعتبره طاعة حقاً كان أو باطلاً حتى الكفر والعياذ بالله.
الطبقة الثالثة: خاصة الخاصة، وليس عندهم معاص ولا طاعات لأنهم وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، صار الوجود واحداً هو الرب وهو العبد فلا طاعات ولا معاص، الطاعات والمعاصي عند أهل الشريعة، وأما أهل الحقيقة فليس عندهم إلا طاعات بدون معاص، وأهل التحقيق هم خاصة الخاصة فليس عندهم لا طاعات ولا معاصي لأنهم وصلوا إلى القول بوحدة الوجود وهو غاية الكفر نعوذ بالله.
المتن:
وَأما إِبْرَاهِيم وَآل إِبْرَاهِيم الحنفاء من الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ بهم فهم يعلمُونَ أَنه لَا بُد من الْفرق بَين الْخَالِق والمخلوق وَلَا بُد من الْفرق بَين الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَأَن العَبْد كلما ازْدَادَ تَحْقِيقا لهَذَا الْفرق ازدادت محبته لله وعبوديته لَهُ وطاعته لَهُ وإعراضه عَن عبَادَة غَيره ومحبة غَيره وَطَاعَة غَيره.
وَهَؤُلَاء الْمُشْركُونَ الضالون يسوون بَين الله وَبَين خلقه والخليل يَقُول: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:75-77].
ويتمسكون بالمتشابه من كَلَام الْمَشَايِخ كَمَا فعلت النَّصَارَى.
مِثَال ذَلِك: اسْم (الفناء) فَإِن الفناء ثَلَاثَة أَنْوَاع:
نوع للكاملين من الْأَنْبِيَاء والأولياء.
وَنَوع للقاصدين من الْأَوْلِيَاء وَالصَّالِحِينَ.
وَنَوع لِلْمُنَافِقين الْمُلْحِدِينَ المشبهين.
الشرح:
قوله : (وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه): هم الاتحادية؛ يسوون بين الله وخلقه، ويجعلون الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق.
وقوله:(والخليل يقول...): فالخليل عليه الصلاة والسلام فرَّق وجعل ما يعبدون من دون الله عدواً له، وجعل محبوبه وخليله هو رب العالمين.
وقوله: (مثال ذلك: اسم:الفناء): بين المؤلف رحـمه الله مسألة الفناء، وتقسيم الناس للفناء عند الصوفية.
وأصل كلمة الفناء في اللغة: إفناء احدى المادتين في الأخرى مثل الدقيق والطحين إذا وضعتها في الماء فنيت إحدى المادتين فإذا وضعت الدقيق في ماء ثم ذاب صار مادة أخرى، فأفنيت مادة في مادة.
واصطلح الصوفية على أن المراد بالفناء هو: تجريد شهود الحقيقة الكونية والغيبية عن شهود الكائنات.
فالحقيقة الكونية: ربوبية الله الشاملة ككل شيء ومشيئته النافذة.
والغيبة أي: يغيب ويتناسى ما سوى الله من المخلوقات فلا يشهدها، فليس لها وجود بل يتناسها حتى لا تشوش عليه.
ويجعلون الفناء ثلاثة أقسام:
1- الفناء عن وجود السوى. 2- والفناء عن شهود السوى. 3- والفناء عن مراد السوى.
فالأول: الفناء عن وجود السوى، أي: يفنى عن وجود ماسواه، معناه: أن ينكر ما سوى الله، وهذا هو مذهب الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يُـفنون المخلوق في الخالق فليس هناك خالق ولا مخلوق بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، فهذا فناء الملاحدة.
والثاني: الفناء عن شهود السوى: بمعنى أنه يغيب عن المخلوقات ولا ينظر إلا إلى الله؛ أي: يتناسى ما سوى الله من الشهود ولا يذكره؛ لئلا تشوِّشَ عليه طريقه وسلوكه إلى الله، فهذا لا ينكر المخلوقات، وإنما ينكرها من الشهود ولا ينكرها من الوجود؛ حتى لا تشوش عليه، وتحصل لبعضهم غيبة ويسمون هذا اصطلام وسكر ومحو وجمع، وهذا نوع للقاصرين.
وأما الثالث: الفناء عن مراد السوى، بمعنى أنه يلغى مراد نفسه لمراد الله، ويلغى ما يريده وترغبه نفسه لمراد الله، بمعنى: أنك تقدم مراد الله ومحبة الله على مراد نفسك، فتحب ما يحبه الله وتبغض ما يبغضه الله وتوالي من يوالي الله وتعادي من يعادي الله وتعطي لله وتبغض ما يبغضه الله وتوالي من يوالي الله وتعادي من يعادي الله وتعطي لله وتمنع لله وتخاف الله، فيكون دينك ومحبتك لله، فيقدم محبة الله على محبة النفس ويقدم مراد الله ومحبوبات الله على مراد النفس ومحبوبتها وشهواتها، وهذا فناء خواص الكاملين الأولياء والمقربين، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان هناك فناء صحيح فهو هذا الفناء، ومن ذلك: كلمة التوحيد لا إله إلا الله فيها فناء وبقاء، لا إله هذا نفي، إلا الله هذا بقاء، فأنت تُفني من لم يكن وهو المخلوق، وتُبقي من لم يزل وهو الله، بمعنى أنك تنفي عبودية ما سوى الله وتثبت العبودية لله.
المتن:
فَأَما الأول: فَهُوَ الفناء عَن إِرَادَة مَا سوى الله.
بِحَيْثُ لَا يحب إِلَّا الله وَلَا يعبد إِلَّا إِيَّاه وَلَا يتوكل إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا يطْلب من غَيره وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي يجب أَن يقْصد بقول الشَّيْخ أبي يزِيد حَيْثُ قَالَ: (أُرِيد ألاّ أُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد) أَي المُرَاد المحبوب المرضي وَهُوَ المُرَاد بالإرادة الدِّينِيَّة.
وَكَمَال العَبْد أَلا يُرِيد وَلَا يحب وَلَا يرضى إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله ورضيه وأحبه وَهُوَ مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو اسْتِحْبَاب وَلَا يحب إِلَّا مَا يُحِبهُ الله كالملائكة والأنبياء وَالصَّالِحِينَ وَهَذَا معنى قَوْلهم فِي قَوْله: إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89] . قَالُوا: هُوَ السَّلِيم مِمَّا سوى الله أَو مِمَّا سوى عبَادَة الله أَو مِمَّا سوى إِرَادَة الله أَو مِمَّا سوى محبَّة الله فَالْمَعْنى وَاحِد وَهَذَا الْمَعْنى إِن سمي فنَاء أَو لم يسم هُوَ أول الْإِسْلَام وَآخره وباطن الدَّين وَظَاهره.
وَأما النَّوْع الثَّانِي: فَهُوَ الفناء عَن شُهُود السوى.
الشرح:
قوله: ( فأما الأول): هذا هو الفناء الصحيح، وتسميته فناء هذا على سبيل الإصطلاح.
وقوله: (وهو المعنى الذى يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد): أي: أريد أن يكون مرادي موافقاً لمراد الله ومحبتى موافقة لمحبة الله، وهذا المعنى صحيح، يقول المؤلف: يجب أن يُحمل كلام أبي يزيد البسطامي على هذا فيكون كلامه صحيحاً، فهو يقول أريد أن إلا أريد إلا ما يريده الرب، فالذي يريده الرب أنا أريده، والذي لا يريده الرب فأنا لا أريده، فالله تعالى يريد من العبد أن يخلص عمله لله، وأن يؤدي فرائض الله، وأن ينتهي عن محارم الله، وأن يقف عند حدود الله، وأن يستقيم على دين الله، فأنا أريد هذا. والذي لا يريده الله لا أريده.
وقوله: (وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه): أي: أن كونك توافق الله في محبوباته ومرضياته هذا هو باطن الدين وظاهره وهو دين الإسلام، سواء سميته فناء أو ما سميته فناء.
المتن:
وَهَذَا يحصل لكثير من السالكين فَإِنَّهُم لفرط انجذاب قُلُوبهم إِلَى ذكر الله وعبادته ومحبته وَضعف قُلُوبهم عَن أَن تشهد غير مَا تعبد وَترى غير مَا تقصد لَا يخْطر بقلوبهم غير الله بل وَلَا يَشْعُرُونَ إِلَّا بِهِ كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص:10]. قَالُوا فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى.
وَهَذَا كثيرا مَا يعرض لمن دهمه أَمر من الْأُمُور: إِمَّا حب وَإِمَّا خوف وَإِمَّا رَجَاء يبْقى قلبه منصرفا عَن كل شَيْء إِلَّا عَمَّا قد أحبه أَو خافه أَو طلبه بِحَيْثُ يكون عِنْد استغراقه فِي ذَلِك لَا يشْعر بِغَيْرِهِ.
فَإِذا قوي على صَاحب الفناء هَذَا فَإِنَّهُ يغيب بموجوده عَن وجوده وبمشهوده عَن شُهُوده وبمذكوره عَن ذكره وبمعروفه عَن مَعْرفَته حَتَّى يفنى من لم يكن وَهِي الْمَخْلُوقَات العَبْد فَمن سواهُ وَيبقى من لم يزل وَهُوَ الرب تَعَالَى وَالْمرَاد فناؤها فِي شُهُود العَبْد وَذكره وفناؤه عَن أَن يُدْرِكهَا أَو يشهدها وَإِذا قوي هَذَا ضعف الْمُحب حَتَّى يضطرب فِي تَمْيِيزه فقد يظنّ أَنه هُوَ محبوبه كَمَا يذكر أَن رجلا ألْقى نَفسه فِي اليم فَألْقى محبه نَفسه خَلفه فَقَالَ: أَنا وَقعت فَمَا أوقعك خَلْفي؟ قَالَ: غبت بك عني فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي.
الشرح:
قوله: (وهذا يحصل لكثير من السالكين): فإن الفناء عن شهود السوى بمعنى أن شهوده لله ينسيه ما سوى الله، فهو ينسى وجود الله بموجوده، وينسى شهود الله بمشهوده، وينسى ذكر الله بمذكوره، فينسى ذكر الله والعبادة لأن قلبه مشغول بشهود مذكوره وهو الله، وهذا كما سبق نوع للقاصرين.
وقوله: (وإذا قوي هذا، ضعف المحب حتى يضطرب في تمييزه،فقد يظن أنه هو محبوبه) قد يقوى شهود القلب وتقوى الغيبوبة عند بعضهم حتى ينسى كلَّ شيء فينسى نفسه ولا ينظر إلا إلى محبوبه حتى يظن أنه اتحد بمحبوبه وامتزج به، فهذا الذي ذكر المؤلف خبره من شدة ولَعِه بمحبوبه صار كأنه مغناطيس يجذبه، فسقط المحبوب في الماء فسقط المحب وراءه، فقال: أنا سقطت فما الذي أوقعك في الماء؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني، أي: جذبتني فلا أستطيع فأنا في غيبوبة. فصار هذا ينجذب إليه فإذا قام قام، وإذا قعد قعد، وإذا سقط سقـط؛ بسبب انجذاب القلب.
المتن:
وَهَذَا الْموضع زلت فِيهِ أَقوام وظنوا أَنه اتِّحَاد وَأَن الْمُحب يتحد بالمحبوب حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرق فِي نفس وجودهما وَهَذَا غلط فَإِن الْخَالِق لَا يتحد بِهِ شَيْء أصلا بل لَا يُمكن يتحد شَيْء بِشَيْء إِلَّا إِذا استحالا وفسدت حَقِيقَة كل مِنْهُمَا وَحصل من اتحادهما أَمر ثَالِث لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا إِذا اتَّحد المَاء وَاللَّبن وَالْمَاء وَالْخمر وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن يتحد المُرَاد والمحبوب وَالْمرَاد وَالْمَكْرُوه ويتفقان فِي نوع الْإِرَادَة وَالْكَرَاهَة فيحب هَذَا مَا يحب هَذَا وَيبغض هَذَا مَا يبغض هَذَا ويرضى مَا يرضى ويسخط مَا يسْخط وَيكرهُ مَا يكره ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي.
وَهَذَا الفناء كُله فِيهِ نقص.
وأكابر الْأَوْلِيَاء - كَأبي بكر وَعمر والسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار - لم يقعوا فِي هَذَا الفناء فضلا عَمَّن هُوَ فَوْقهم من الْأَنْبِيَاء وَإِنَّمَا وَقع شَيْء من هَذَا بعد الصَّحَابَة.
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا النمط مِمَّا فِيهِ غيبَة الْعقل وَعدم التَّمْيِيز لما يرد على الْقلب من أَحْوَال الْإِيمَان.
فَإِن الصَّحَابَة كَانُوا أكمل وَأقوى وَأثبت فِي الْأَحْوَال الإيمانية من أَن تغيب عُقُولهمْ أَو يحصل لَهُم غشي أَو صعق أَو سكر أَو فنَاء أَو وَله أَو جُنُون.
وَإِنَّمَا كَانَ مبادئ هَذِه الْأُمُور فِي التَّابِعين من عباد الْبَصْرَة فَإِنَّهُ كَانَ فيهم من يغشى عَلَيْهِ إِذا سمع الْقُرْآن وَمِنْهُم من يَمُوت كَأبي جهير الضَّرِير وزرارة بن أوفى قَاضِي الْبَصْرَة.
وَكَذَلِكَ صَار فِي شُيُوخ الصُّوفِيَّة من يعرض لَهُ من الفناء وَالسكر مَا يضعف مَعَه تَمْيِيزه حَتَّى يَقُول فِي تِلْكَ الْحَال من الْأَقْوَال مَا إِذا صَحا عرف أَنه غالط فِيهِ كَمَا يحْكى نَحْو ذَلِك عَن مثل أبي يزِيد وَأبي الْحُسَيْن النوري وَأبي بكر الشبلي وأمثالهم بِخِلَاف أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي ومعروف الْكَرْخِي والفضيل بن عِيَاض بل وَبِخِلَاف الْجُنَيْد وَأَمْثَاله مِمَّن كَانَت عُقُولهمْ وتمييزهم يصحبهم فِي أَحْوَالهم فَلَا يقعون فِي مثل هَذَا الفناء وَالسكر وَنَحْوه.
الشرح:
الفناء عن شهود السوى لم تحصل للأنبياء ولا للصحابة ولا لأكابر الأولياء؛ لأن المشاهدة هذه كلها نقص.
لكن حصل هذا لكثير من التابعين يصير عنده ضعف تمييز حتى الغشيان والغيبوبة، لكن الصحابة عندهم ثبات وقوة وكما قال الله توجل قلوبهم عند ذكر الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، ولكن لا يحصل لهم غيبوبة، ولكن هذا النقص حصل لبعض العباد في البصرة إذا سمع آية سقط وأغمى عليه، فلا يكون عنده تمييز، وإن كان هذا بغير استطاعته واختياره لكن من كان عنده ثبات وتجلد فيقشعر جلده ويلين قلبه من ذكر الله فهذا أثبت ممن يغمى عليه ولا يميز.
المتن:
الشرح:
هذه طريقة الكُمَّل من عبادة الله، ومقدَّمُهم: الأنبياء والرسل، ثم الصحابة والتابعون، والأئمة والعلماء، كلهم لم يكن عندهم هذا الشهود الذي يقوله الصوفية؛ بل عقولهم سليمة ليس فيها سوى محبة الله وإرادته، ويميزون بين الخالق والمخلوق، ويشهدون الخالق على أنه الخالق المدبِّر، ويشهدون المخلوقات على أنها مخلوقة مدبَّرة مسبِّحة بقدس الله، ويتبصرون ويعتبرون بها، وتكون مقوِّية لما في قلوبهم من إخلاص الدين، بخلاف الصوفية، فإنهم لضعفهم يقولون: أنا لا أتحمل مشاهدة المخلوقات شمس وقمر وليل ونهار وسموات وأرضين؛ كل هذه تشوش عليّ، بل أنساها ولا أنظر إلا إلى الله، وهـذا ضعف وعدم ثبات.
أما الصحابة والأئمة والعلماء يشهـدون الخالق، ويشهـدون المخلوق ولا يكون هناك تشويش وهم أكمل، هذه هي الحقيقة التي دعا إليها القرآن والتي قام بها أهل التحقيق من الرسل والأنبياء والصحابة والتابعون.
أما طريقة الصوفية ومسألة الشهود فهذه طريقة حصلت لهم بسبب ضعف قلوبهم وضعف تمييزهم وضعف إيمانهم فحصل لهم ما حصل.
المتن:
الشرح:
يُبَيِّن المؤلف - رحمه الله - أن حال نبينا ﷺ أكمل من حال موسى ولا شك، وكلاهما من أولي العزم، لكن نبيُّنا محمد ﷺ هو أكمل أولي العزم ثم يليه جده إبراهيم ثم يليه موسى .
وموسى حصل له تغشّي، أما نبينا ﷺ رأى من الآيات العظيمة لمّا أسري به وعرج به إلى السموات السبع ورأى سدرة المنتهى وغشيها ما غشيها، فحصل له أمور عظيمة ثم نزل بعدالإسراء والمعراج وحاله لم يتغير، ولا ظهر عليه شيء؛ لكمال ثباته عليه الصلاة والسلام.
المتن:
الشرح:
وهذا فناء الملاحدة وهو بأن يشهد ألا موجود إلا الله فيقول كل ما تراه هو الله، فالشمس يقولون هي الله، والقمر يقولون هو الله، والجدار هو الله، فهذه مظاهر لتجلى الحق، يتجلى في صورها والتعدد، هكذا يقولون، ألغوا عقولهم - نسأل الله السلامة والعافية - .
وهؤلاء الملاحدة من أعظم الناس كفرًا، فإنهم يقولون: الوجود واحد؛ فكل شيء تراه واحد،لكن التعدد وهْم –هكذا يقولون والعياذ بالله- فألغوا عقولهم، فإذا قيل لهم، قالوا: هذه أسماء وصفات لله، وهذه مظاهر لتجلّي الله؛ فهو شيء واحد وإنما يتجلى في صورة كذا وفي صورة كذا يتجلى في صورة معبود كما تجلى في صورة فرعون ويتجلى في صورة هادي كما تجلى في صورة الرسل وهو واحد، وكل هذا من كلام هؤلاء الملاحدة.
المتن:
وَهَذَا يبرأ مِنْهُ الْمَشَايِخ، إِذا قَالَ أحدهم: مَا أرى غير الله أَو لَا أنظر إِلَى غير الله وَنَحْو ذَلِك، فمرادهم بذلك مَا أرى رَبًّا غَيره وَلَا خَالِقًا وَلَا مُدبرا غَيره وَلَا إِلَهًا لي غَيره وَلَا أنظر إِلَى غَيره محبَّة لَهُ أَو خوفًا مِنْهُ أَو رَجَاء لَهُ؛ فَإِن الْعين تنظر إِلَى مَا يتَعَلَّق بِهِ الْقلب فَمن أحب شَيْئا أَو رجاه أَو خافه الْتفت إِلَيْهِ وَإِذا لم يكن فِي الْقلب محبَّة لَهُ وَلَا رَجَاء لَهُ وَلَا خوف مِنْهُ وَلَا بغض لَهُ وَلَا غير ذَلِك من تعلق الْقلب لَهُ لم يقْصد الْقلب أَن يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا أَن ينظر إِلَيْهِ وَلَا أَن يرَاهُ وَإِن رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَة مُجَرّدَة كَانَ كمن لَو رأى حَائِطا وَنَحْوه مِمَّا لَيْسَ فِي قلبه تعلق بِهِ.
والمشايخ الصالحون يذكرُونَ شَيْئا من تَجْرِيد التَّوْحِيد وَتَحْقِيق إخلاص الدَّين كُله بِحَيْثُ لَا يكون العَبْد ملتفتا إِلَى غير الله وَلَا نَاظرا إِلَى مَا سواهُ لَا حبا لَهُ وَلَا خوفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاء لَهُ بل يكون الْقلب فَارغًا من الْمَخْلُوقَات خَالِيا مِنْهَا لَا ينظر إِلَيْهَا إِلَّا بِنور الله، فبالحق يسمع وبالحق وبالحق يبصر، وبالحق يبطش وبالحق يمشي فيحب مِنْهَا مَا يُحِبهُ الله وَيبغض مِنْهَا مَا يبغضه الله ويوالي مِنْهَا مَا وَالَاهُ الله ويعادي مِنْهَا مَا عَادَاهُ الله وَيخَاف الله فِيهَا وَلَا يخافها فِي الله ويرجو الله فِيهَا وَلَا يرجوها فِي الله فَهَذَا هُوَ الْقلب السَّلِيم الحنيف الموحد الْمُسلم الْمُؤمن الْمُحَقق الْعَارِف بِمَعْرِفَة الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وتحقيقهم وتوحيدهم.
فَهَذَا النَّوْع الثَّالِث الَّذِي هُوَ الفناء فِي الْوُجُود هُوَ تَحْقِيق آل فِرْعَوْن ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
الشرح:
قوله: (وهذا يبرأ منه المشايخ إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله.....): أي: أن المشايخ المستقيمين إذا صدر منهم كلمات موْهِمة فهي محمولة على معنى صحيح، هذا هو حق؛ فإذا قال أحدهم: ما أرى إلا الله، فإنما يعني: أنه ما رأى غير الله ربا ولا خالقا ولا مدبراً، وليس المراد: أنه ينكر المخلوقات.
وقوله: (والمشايخ الصالحون يذكرون شيئاً من تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين كله...): هذا هو تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين لله ، بأن يكون العبد ملتفتاً لله ولا يلتف إلى غيره، ولا ينظر إلى ما سواه حباً له وخوفا ورجاءً، ولا ينظر إليها دون الله ولا ينكر المخلوقات كما يقول الصوفية، بل يراها ويشهدها على أنها مخلوقة مدبرة، ولكنه في تصرفه بالحـق يسمـع وبالحـق يبصر وبالحق يبطش وبالحق يمشي، يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله ويوالي ما يواليه الله ويعادي ما يعاديه الله، ويخاف الله فيها ولا يخافها في الله.
وقوله: (هو القلب السليم الحنيف الموحد المسلم المؤمن المحقق العارف بمعرفة الأنبياء والمرسلين وبحقيقتهم وتوحيدهم): فالقلب السليم الحنيف، لا ينكر المخلوقات ولكنه يثبتها على أنها مدبرة، ويعمل فيها وفق ما شرع الله، فالشيء الذي أحبه الله منها يحبه والشيء الذي أبغضه الله منها يبغضه وهكذا، أما إنكارها فهذا فناء الملاحدة، وأما نسيانها من الشهود فهذا نقص فيها عظيم حصل للصوفية.
والطريقة المثلى والطريقة الصحيحة هو أن يشاهد الخالق على أنه خالق ويشهد المخلوق على أنه مخلوق ولا ينكر المخلوقات ولكن يحب منها ما أحبه الله ويبغض منها ما أبغضه الله، هذا هو القلب السليم المؤمن الموحد.
الحواشي:
([1]) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ (7405)، وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار(2675).
([2]) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (6502).
([3]) كما جاء في حديث أبي هريرة ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ، أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزهد (2322)، وابن ماجه في سنن، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا (4112)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.ا.هـ
([4]) صحيح مسلم، كتاب الأقضية (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
([5]) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي (1)، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة (1907) عن عمر .
[6])) صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، صحيح مسلم، كتاب الأقضية (1718).
([7])انظر: الأدب المفرد للبخاري (716)، والمسند للإمام أحمد (19606)، والمصنف لابن أبي شيبة (6/70)، والمسند لأبي يعلى (58)، وحلية الأولياء (9/253)، وغيرهم.
([8]) الأدب المفرد للبخاري (716)، مسند أبي يعلى (58)، الإبانة الكبرى لابن بطة (2/723)، الأحاديث المختارة للمقدسي (63).
[9])) الزهد للإمام أحمد (617).
[10])) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 62) برقم (229) وإسناده لا بأس به .
([11]) رواه موقوفا عن شداد بن أوس ابن المبارك في الزهد (1114)، وأبو داود في الزهد (352)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/152-153)، وقد رواه مرفوعا عن النبي ﷺ البيهقي في شعب الإيمان (9/150)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/122)، والضياء المقدسي في المختارة (9/371)، وكأن شيخ الإسلام صحح الموقوف لاختياره له؛ والله أعلم.
[12])) انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (12/269).
([13]) سنن الترمذي، كتاب الزهد (2376)، المسند للإمام أحمد (15784)، سنن النسائي الكبرى (10/386)، صحيح ابن حبان (3228).