مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
فالرسالة التي سنقرؤها إن شاء الله كما هو معروف للجميع رسالة الرد على الجهمية على الزنادقة والجهمية فيما شَكُّوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله.
فالرسالة لإمام السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-، وإمام أهل السنة كما هو معروف امتحن بهؤلاء الزنادقة والجهمية ووقف لهم المواقف المشهودة، وصمد أمامهم، ثبت أمام الحق حتى نصر الله به الحق وأهله، وقمع به أهل البدع
فهو إمام أهل السنة يقتدى به -رحمه الله -، صبر يوم المحنة، لما ابتلي في مسألة القول بخلق القرآن، فوقف وصبر على الحق ثابتًا صامدًا صمود الجبل لا يلين إلى أهل البدع حتى قال العلماء: إن أبا بكر الصديق صبر يوم الردة، وإن الإمام أحمد بن حنبل صبر يوم المحنة.
وهذه الرسالة وهي رسالة الرد على الزنادقة والجهمية رسالة عظيمة، افتتحها المؤلف بخطبة عظيمة ما زال العلماء يقتبسون منها وينقلونها في كتبهم، كالإمام شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله.
وهذه الرسالة ثابتة للإمام، وأنه كتبها -رحمه الله ورضي عنه.
لكن بعض الناس بعض أهل البدع في القديم والحديث يشككون في نسبة هذه الرسالة إلى الإمام أحمد وما ذاك إلا لزيغ في قلوبهم؛ لأنهم يريدون ألا تثبت هذه الرسالة حتى يثبت باطلهم؛ لأن هذه الرسالة شهب مرمية عليهم، على أهل البدع فلا يريدون أن تثبت هذه الرسالة حتى يبقى باطلهم وضلالهم وزيغهم؛ فلهذا يشككون في نسبة هذه الرسالة إلى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله.
والرسالة ثابتة، أثبتها العلماء والأئمة ونسبوها إلى الإمام، نسبها القاضي أبو يعلى وهو من علماء الحنابلة وقال: إن الخلال أثبتها، وكذلك الإمام شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- وحسبك به.
أثبت هذه الرسالة للإمام في مواضع من كتبه من كتبه المتعددة، في رسالة "بيان تلبيس الجهمية " وفي تفسير قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وفي غيرها من كتبه المتعددة، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - نقل أكثرها في كتبه، ولاسيما في "بيان تلبيس الجهمية ". نقل هذه الرسالة كلها، ونثرها في كتبه وعلق عليها، نقلها وعلق عليها نقل أغلبها أكثر نصوصها، ونقل الخطبة أيضًا، وكذلك العلامة ابن القيم أثبتها في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ". وغيرهم من أهل العلم.
والرسالة طُبعت طبعات، لكن في ظني أن أحسن الطبعات التي طبعت الطبعة التي حققها فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمة الله عليه-، فإنه قابلها قابل وَجَدَ مخطوطة لهذه الرسالة مع مطبوعتين، وقابلها، وقدم بمقدمة أثبت فيها أن هذه الرسالة للإمام أحمد وبين فيها بيانًا واضحًا.
نقل فيها نقول عن الأئمة: القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن هذه الرسالة للإمام أحمد فيستحسن أن نقرأ هذه المقدمة التي تثبت هذه الرسالة للإمام أحمد حتى لا يكون هناك مجال للشك؛ لأن هناك الجهمية والمعتزلة موجودون في كل زمان، هناك جهمية في هذا الزمان ومعتزلة وأشاعرة يشككون في نسبة هذه الرسالة للإمام أحمد
ولا نـزال نسمع أن كثيرًا من الرسائل وكثيرًا من الكتب كتب أهل السنة لا يزال بعض الناس يشكك فيها، نسمع أن رسالة فلان من الأئمة لم تثبت إليه وكذا وفلان، وفلان؛ وهذا لأنهم لا يريدون أن تثبت هذه الكتب التي فيها رد لباطلهم.
(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله تعالى-:
(الشيخ)
لفظ الجلالة تفخم إذا سبقها ضم وإذا سبقها كسر ترقق عبد الله ترقق ،عبد الله تفخم، عليهُ الله تفخم نعم
المتن:
الشيخ: إنما كَوَّنَ
المتن:
الشيخ:
هذه من شبههم كما سيأتي في بيان الرسالة، قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، وإنما كوّن شيئًا فتكلم، يعني: خلق شيئًا ، يقولون:إن الكلام مخلوق إن كلام الله مخلوق -والعياذ بالله - جعلوا كلام الله الذي هو صفة من صفاته مخلوقا، فقالوا إنما كون شيئًا فتكلم، وخلق صوتًا فأسمع، أما هو لم يتكلم، وهذا باطل، من أبطل الباطل.
الله تعالى تكلم بحرف وصوت، وكلامه صفة من صفاته ومن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، كما قرر ذلك أهل السنة
المتن:
الشيخ:
يعني: إن الله تعالى قال لموسى يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وقال الله لموسى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي فعلى قول هؤلاء الملاحدة إذا كان الكلام مخلوق يكون المخلوق يقول لموسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ؟!!! هل المخلوق يقول لموسى؟هل يستطيع أحد أن يقول لموسى إنني أنا الله، إنني أنا ربك.
المتن:
لا يجوز أن يقول: إنني أنا الله رب العالمين، وقال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. وقال: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وقال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وقال: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي.
فهذا منصوصُ القرآن، وأما ما قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي ؟ قال: قال رسول اللهﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ.
وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان.
(الشيخ)
والترجمان: هو الشخص الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، يقال له: ترجمان مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ. المعنى: أن الله تعالى سيكلم كل أحد، ليس بينه وبينه واسطة، لا يوجد واسطة يترجم، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ..
وترجمان هذه فيها لغات: تُرْجُمَان وتَرْجَمَان وتَرْجُمَان، قال بعضهم: فيها لغة رابعة: تُرْجَمان؛ ففيها لغات ثلاث بضم التاء والجيم، وفتح التاء والجيم، وفتح التاء وضم الجيم، ثلاث لغات. قال بعضهم: فيه لغة رابعة: وهي ضم التاء وفتح الجيم، وعلى هذا ما يغلط أحد في قراءتها.
(المتن)
وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. أليس قال الله تعالى للسماوات والأرض: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ؟ أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان؟! والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء.
وكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن يكون جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان، وذكر الرسالة بطولها.
(الشيخ)
يعني: أن هذا الرد على هذه الشبهة وهي قولهم: إن الله لو تكلم لَلَزِمَ أن يكون له جوف ولسان وشفتين، فالإمام رد عليهم: بأن هناك بعض المخلوقات تتكلم وليس لها لسان ولا شفتين، وإذا أمكن هذا في بعض المخلوقات فإمكان ذلك في الخالق، من باب أولى.
فالجلود تشهد يوم القيامة والألسن والأيدي... يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وكذلك أيضًا السماوات والأرض نطقتا قال الله لهما: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.
وثبت أيضًا تسبيح الحصى بيد الرسول -عليه الصلاة والسلام -، والطعام سبح بيده ، والجذع حن وليس له لسان ولا شفتان، هذه الشبهة باطلة.
(المتن)
(الشيخ)
لأنه يقول: (إيش) يقول القاضي أبو الحسين محمد في ترجمة خضر بن مثنى ؟ قال: نَقل عن عبد الله ابن إمامنا أشياء، منها الرد على الجهمية فيما قرأته عن المبارك بن عبد الجبار عن إبراهيم عن ابن العزيز بن أبي بكر الخلال قال: أخبرنا خضر بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فالسند متصل. نعم.
(المتن):
(الشيخ)
هذا شبهة لبعضهم، بعضهم طعن في السند، قال: السند فيه مجهول، خضر بن المثنى غير معروف، مجهول. الجواب كما سيأتي.
(المتن)
(الشيخ)
إذًا الخَضِر هذا أو الخِضْر ليس بمجهول؛ لأن الخلال يعرفه.
(المتن)
(الشيخ)
إذا هذا جواب آخر، وهو أن الخلال وجده بخط عبد الله بن أحمد وعبد الله ابن الإمام كتبها من خط أبيه، فالخلال يكون رواه عن الخضر بالسند وعنده الوجادة، حيث وجده في خط عبد الله فاجتمع له الأمران: السند والوجادة.
(المتن)
وله من الشيوخ وقد روى الخلال عنه غير هذا في جامعه، فقال في كتاب الأدب من الجامع: دفع إليَّ الخضر بن المثنى بخط عبد الله بن أحمد أجاز لي أن أرويه عنه، وذكر بعض ما روي عنه.
وقال أبو بكر الخلال كتاب الرد عل الجهمية كله في كتاب السنة الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، على منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه: "جامع النصوص من كلام الشافعي " وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم.
(الشيخ)
إذا الجواب على شبهة: وأن الخضر بن المثنى مجهول. أجاب الجواب بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أنه ليس بمجهول، قد عرفه الخلال.
الجواب الثاني: أن الخلال نفسه وجد الرسالة من خط عبد الله بن أحمد ورواها بالسند عن الخضر فاجتمع له الأمران.
الأمر الثالث: أن العلماء والأئمة أثبتوا هذه الرسالة ونسبوها للإمام أحمد كشيخ الإسلام ابن تيمية و ابن القيم وحسبك بهؤلاء الأئمة عدالةً وثقة.
(المتن)
ثالثًا: احتجاج أهل العلم به على أساس أنه للإمام أحمد بن حنبل فقد احتج به القاضي أبو يعلى في كتابه "إبطال التأويل" بما نقله منه عن أحمد
وذكره ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد ونقل عن أصحابه قديمًا وحديثًا، ونقل منه البيهقي وعزاه إلى أحمد وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد ولم يُسمع عن أحد من متقدمي أصحابه ولا متأخريهم طعنٌ فيهم.
هذا خلاصة ما دافع به الإمام ابن القيم عن نسبة كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية " إلى إمام السنة أحمد بن حنبل وقد راجعنا مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية فوجدنا فيها من التصريح بأنه للإمام أحمد من ناحية، ومن الاعتماد عليه من ناحية أخرى ما نوضح منه للقراء ما يلي:
أولا: قال في تفسير سورة الإخلاص في الطبعة المنيرية: بعد ذكر كثير من السلف -بأنهم يعلمون معنى المتشابه - قال: وقول أحمد فيما كتبه: في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله. وقوله عن الجهمية أنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه فهذا محمود، ليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف أن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا ما يعرفون معناه.
(الشيخ)
أشار بهذا الرد على المجهلة طائفة المجهلة الذين يجهلون الرسول -عليه الصلاة والسلام -، ويقولون: إن الرسول لا يعرف معاني القرآن، وكذلك جبريل هؤلاء يسمون: المجهلة وهناك طائفة يسمون: المؤولة هؤلاء ملاحدة -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أبطل الباطل، فالرسول ﷺ يعرف معناه، وكذلك جبريل وإنما المجهول كيفية الصفات كيفية لا يعلمها إلا الله، كما قال الإمام: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب. أما معاني القرآن معروفة، ما فيها إشكال، لكن كيفيات الأمور الغيبية، وكيفيات الصفات، لا يعلم كيفية صفات الله إلا هو، وكيفية ذاته وحقائق الجنة وحقائق النار وما يكون فيها من الحقائق على ما هي عليه، لا يعرف حقيقتها إلا الله .
(المتن)
وذكر أن تفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل من نصوص، مثبتة للصفات والقدر على غير ما أراد الله ورسوله، ثم قال: فإنكار السلف والأئمة لهذه التأويلات الفاسدة، كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله.
فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل كما ذكر شيخ الإسلام في أن الراسخين في العلم يعلمون علم تأويل المتشابه، وقال: وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارًا يفرقون به بين أهل السنة وأهل البدعة لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم في معاني المتشابه الذي اتبعه الزائغون إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله
(الشيخ)
(الزائغون بالغين الزائغون فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ.
(المتن)
الذي اتبعه الزائغون إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله آية آية، وبين معناها، وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى أن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبيّن معاني الآيات التي سماها متشابه، وفسرها آية آية.
وذكر: أن التشابه يراد به: ما هو صفة لازمة للآية، ويراد به ما هو الأمور النسبية، فقد يكون متشابهًا عند هذا ما لا يكون متشابهًا عند هذا.
وقال: وكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه، قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وقد فسر أحمد قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ .
فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا، وهي متشابهة عند من احتج بها، وكان عليه أن يردها هو إلى ما يعرفه من المحكم.
وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس وهو "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله"...
(الشيخ)
إذًا هنا فعلى هذا يكون الإمام أحمد -رحمه الله- صنف في الحبس وهو في الحبس صنف هذه الرسالة. نعم.
(المتن)
ثم فسر أحمد تلك الآيات آية آية، فبين أنها ليست متشابهة عنده، بل قد عرف معناها، وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه الذي هو تفسيره، وأما التأويل الذي هو حقيقته الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله.
واستدل شيخ الإسلام لتجنب ما ابتدعه المتكلمون في العقيدة، بما ورد في خطبة هذا الكتاب.
ونص عبارة شيخ الإسلام: قال الإمام أحمد في خطبته في كتابه في "الرد على الجهمية والزنادقة ": الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من أهل الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الضالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة. فهم مختلفون في الكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله
(الشيخ)
فهم مختلفون في الكتاب هنا في سقط فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجتمعون على مفارقة الكتاب ، سيأتي هذا كأن في الطبعة هذه فيها سقط ستأتي في المقدمة.
هذه مقدمة الرسالة للإمام أحمد نقلها شيخ الإسلام في مؤلفاته -رحمه الله- في مواضع، مما يدل على أن الإمام شيخ الإسلام -رحمه الله - ابن تيمية يجزم بأن هذه الرسالة للإمام أحمد؛ ولهذا نقلها في كتبه، ونثرها في كتبه، حتى نقل الخطبة نفسها.(هنا في سقط يأتيكم في خطبة الرسالة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب ).
(المتن)
يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس يما يشبهون عليهم -فنعوذ بالله من فتن المضلين.
ذكر شيخ الإسلام هذا كله في تفسير سورة الإخلاص، وقال في منهاج السنة في المطبعة الكبرى الأميرية بصدد اختلاف أهل الكلام في الكتاب قال : وقد قال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، قال:" الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى".
فساق خطبة الكتاب ثم قال: وهو كما وصفهم أي: الإمام أحمد -رحمه الله - فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلا مجردًا وإما نقلا وبتا وذكرًا للجدال مختلفون في الكتاب، كل منهم يوافق بعضه ويرد بعضه، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه.
ثالثًا: قال في الرسالة التدمرية: كان الأئمة كالإمام أحمد وغيرهم ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلام عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله: وإنما ذمهم بكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشبه على غيرهم.
وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق التأويل -كما تقدم- من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب، بل يُحمد، ويراد بالتأويل: الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذلك لا يعلمه إلا هو، هذا بعض ما ورد في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية من الاعتماد على كتاب الرد على الزنادقة والجهمية والتصريح بأنه للإمام أحمد بن حنبل يضاف إلى ذلك إتيان شيخ الإسلام في "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" أو نقض تأسيس الجهمية في كثير من نصوص هذا الكتاب: "الرد على الزنادقة والجهمية "، مع تعليقات قيمة على كل نص من تلك النصوص لشيخ الإسلام نفسه.
وقد اختار ابن القيم من لفظ نصوصه أي: الرد على الزنادقة والجهمية في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على قصد المعطلة والجهمية " فثبت في هذا كله ثبوتًا لا يدع مجالا للشك أن هذا الكتاب للإمام أحمد بن حنبل وجزاه عن تأليفه خيرًا.
والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(الشيخ)
رحمه الله وبهذا يتبين أن هذه الرسالة -لا شك- أنها للإمام أحمد وأن التشكيك في إثباتها والتشكيك في نسبتها للإمام أحمد لا وجه له، وإنما يشكك في ذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة حتى لا تثبت؛ لأنها رد عليهم، وإبطال لمعتقدهم وضلالهم.
والجهمية والمعتزلة والأشاعرة موجودون في كل زمان، وموجودون في هذا الزمان، وفي هذا الزمن أيضًا يشككون في نسبة هذه الرسالة، ويقولون: إنها ليست للإمام أحمد كما شكك من سبقهم من إخوانهم من الجهمية والمعتزلة نعم.
(المتن)
مقدمة المصنف : بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(الشيخ)
إذا هذا سند الرسالة متصل السند نعم.
(المتن)
(الشيخ)
هذه هي الخطبة خطبة الإمام أحمد -رحمه الله - في هذه الرسالة، وهي خطبة عظيمة، ما زال العلماء ينقلونها في كتبهم ويستشهدون بها، كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم من أهل العلم. كثير من أهل العلم يستشهدون بهذه الرسالة، قال الإمام أحمد في رسالة الرد على الزنادقة "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم… " ويسر دونها. فهي خطبة عظيمة، واستشهاد العلماء من أهل السنة والجماعة ونقل هذه الرسالة في كتبهم أيضًا من الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة للإمام -رحمه الله-.
قوله: "الحمد لله (الحمد ): هو الثناء على المحمود في صفاته وأعماله مع حبه وإجلاله وتعظيمه، هذا هو الحمد: ثناء على الصفات وعلى الأعمال والأفعال مع حبه وإجلاله وتعظيمه، بخلاف المدح المدح: فإنه ثناء بدون حب وإجلال، فأنت تمدح الأسد فتقول: قوي العضلات، ولا تحب الأسد، تثني عليه تمدح الأسد ولا تحبه، فهذا هو الفرق بين المدح وبين.. إيش؟ وبين الحمد. المدح: ثناء وإخبار بالصفات، لكن لا يلزم أن يكون معه حب وإجلال وتعظيم.
أما الحمد فهو ثناء في الصفات الاختيارية الجميلة والأفعال مع الحب والإجلال؛ ولهذا جاء الحمد..الله تعالى وصف نفسه بالحمد ولم يصف نفسه بالمدح، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ولم يقل: أمدح الله رب العالمين. الحمد الله رب العالمين الحمد: ثناء على الله مع حبه وإجلاله وتعظيمه .
والحمد أعم من الشكر من وجه وأخص من وجه، فالحمد والشكر بينهما عمومٌ وخصوصٌ وجهي، يجتمعان في شيء، ويختلفان. فالشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، هذا أعم، من هذه الجهة يكون الشكر أعم؛ ولهذا قال سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. فالشكر يكون بالقول ويكون بالعمل، ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، أما الحمد فإنه يكون باللسان مع اعتقاد القلب، مع القلب؛ ولهذا قال الشاعر:
أفادَتْكُمُ النَّعْماءَ مِنِّي ثَلاثَةٌ | يَدِي ولِسانِي والضَّمِيرُ المُحَجَّبا |
والحمد أيضًا يكون في مقابل الجميل وبدون مقابل، فالله تعالى يُحمد ؛ لِمَا اتصف به من الصفات العظيمة؛ ولما أنعم به على عباده من النعم العظيمة، خلقهم ووجدهم من عدم، ورباهم بنعمه، وهداهم وعلمهم وأعطاهم السمع والأبصار والأفئدة، فهو يستحق الحمد؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، والأفعال الجميلة، ويستحق الحمد؛ لإنعامه وإفضاله .
أما الشكر فإنه يكون في مقابل النعمة، تشكر الشخص في مقابل الإحسان، أما إذا لم يكن هناك إحسان فلا يكون هناك شكر، وبهذا يكون الحمد أعم من جهة، وأخص من جهة، الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والحمد يكون باللسان. الحمد يكون في مقابل النعمة، وفي غير مقابل النعمة. والشكر لا يكون إلا في مقابل النعمة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"، هذه الرسالة -كما سبق- سماها المؤلف -رحمه الله-: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله".
الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان ،جهم بن صفوان السمرقندي نسبت إليه الجهمية وهي نفي الصفات عن الله لأنه أظهر هذه البدعة، وإن لم يكن أول مَن تكلم في هذه البدعة، فإنه سبقه شخص آخر يقال له: الجعد بن درهم سبق الجهم وتكلم، أول من تكلم … أول من حُفظ عنه في الإسلام مقالة التعطيل هو الجعد بن درهم والتعطيل: إنما هو في كلمتين: قال: إن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. لكن هاتين الصفتين ترجع إليهم جميع الصفات، قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، أنكر الخلة والمحبة، وقال: ليس هناك خلة، ليس هناك محبة؛ لأنه لا نسبة؛ لأن المحبة لا بد أن تكون هناك نسبة بين المحب والمحبوب، ولا نسبة بين الخالق والمخلوق.معناه: قطع الصلة بين العباد وبين ربهم، وأنكر أن يكون الله كلم موسى تكليمًا، أنكر التكليم، وإنكاره التكليم معناه إنكار للرسالات والشرائع. الرسالات والشرائع بالكلام، الله تعالى تكلم، أرسل الرسل وأنـزل الكتب بالكلام، فإنكار الكلام إنكار للرسائل، إنكار للرسالات والشرائع.
فلهذا أفتى العلماء -وهم من التابعين - بقتل هذا الرجل، وأنه يستحق القتل والإعدام، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط لما أفتاه علماء أهل زمانه -وهم من التابعين - أفتوا باستحقاقه القتل، قتله، وذلك في يوم عيد الأضحى، خطب الناس بعدما صلى العيد صعد المنبر وخطب الناس، وقال في آخر الخطبة -وكان الجعد بن درهم عنده في أصل المنبر مقيدا -: فقال في آخر الخطبة ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نـزل فذبحه ذبح الشاة، شكره العلماء وأثنوا عليه. من ذلك العلامة ابن القيم في "الكافية الشافية "، قال:
وَلأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ | القَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ القُرْبَانِ |
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَهُ | كَلاَّ ولاَ مُوسَى الكَلِيمَ الدَّانِي |
ثم قال:
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ | للهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ |
ولا شك أن أهل السنة شكروه بهذا، ولا شك أن هذه الأضحية يعدل أجرها كثيرا من الضحايا؛ لأن في هذا قطع لدابر الفتنة والشر والفساد، فهي أفضل من الأضحية. الأضحية سنة سُنَّة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولكن هذا قطع لدابر الفتنة والبدعة والضلالة.
لكن الجهم بن صفوان كان قد اتصل به قبل أن يُقتل، اتصل به هذا الرجل - الجهم بن صفوان - فتقلد عنه هذه المقالة، وتبنى عقيدة نفي الصفات، ونشرها ودافع عنها حتى نسبت المقالة إلى الجهمية فقيل: الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان وإلا الأصل أن أول من تكلم: الجعد بن درهم الأصل أن يقال: الجعدية، لكن الجعد قتل في أول إظهارٍ لهذه البدعة، قبل أن تنتشر، ثم نشرها الجهم بن صفوان
وجهم بن صفوان أيضًا قيض الله له من يقتله، قتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها.
ولهذا سمى المؤلف الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- هذه الرسالة الرد على الجهمية والزنادقة الزنادقة جمع زنديق، وتطلق الزنادقة على...تطلق الزنديق: على الملحد الجاحد للخالق، المتحلل من الأديان، ويطلق على المنافق، يسمى زنديق، كما ذكر شيخ الإسلام وغيره: كان السابقون يسمونه منافق، الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان يسمى منافق، ثم اصطلح المتأخرون على تسميته بالزنديق، وهي كلمة فارسية معربة، زنديق: تطلق على الجاحد المعطل المتحلل من الأديان، وتطلق على المنافق.
ولهذا ذكر أهل اللغة -كما في المصباح المنير- قالوا: إن الزنادقة جمع زنديق، وهو والذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، وفي التهذيب: أنه هو الذي لا يؤمن بالآخرة، ولا بوحدانية الخالق، هذا الزنديق.
إذًا الزنديق: يطلق على الملحد الجاحد المعطل، ويطلق على المنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان والإسلام.
المؤلف يقول: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل " الزمان: معروف، جمع أزمنة، وهو الوقت، يطلق على الوقت القليل والكثير، والسنة: أربعة أزمنة، وهي الفصول الأربعة: الربيع والخريف والشتاء والصيف. الزمان: هو الوقت، والفترة: هي الانقطاع، والمعنى "على فترة من الرسل " يعني: على انقطاع بعثهم، ودروس أعلام دينهم. وتطلق الفترة على ما بين الرسولين، ما بين عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- يسمى فترة "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" يعني: في الوقت الذي يكون فيه انقطاع ودروس واندراس أعلام الدين يقيض الله من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الخير.
جاء في هذا المعنى، في معنى ما ذكره الإمام أحمد، حديث: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، هو حديث لا بأس بسنده، رواه أبو داود وغيره، فهذا يؤيد ما ذكره الإمام -رحمه الله- في هذه الخطبة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم". يعني: كلما اندرس الدين وضعف وحصل انقطاع ودروس من أعلام الدين فإن الله يهيىء من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الحق ويبصرونهم، ويردونهم إلى الصواب.
فالفترة: هي الانقطاع، وتطلق الفترة…. يقال: فتر عن العمل: انكسرت حدته، وفتر عن الحر: إذا انكسر. والفترة من الرسل يعني: انقطاع ودروس أعلام الدين، ففي هذا الوقت يقيض الله من يجدد للناس دينهم ويدعوهم إلى الهدى.
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى " يدعون الضال، يدعونه إلى الهدى، يردونه إلى الصواب. الضلال: هو الانحراف، الانحراف عن شرع الله ودينه يقال له: ضلال. والهدى: هو العلم النافع. والعلم النافع: هو المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. فالذين انحرفوا عن الحق وعن جادة الصواب يدعوهم هؤلاء البقايا من أهل العلم في وقت زمان الفترة، يدعونهم إلى الهدى، إلى العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
"ويصبرون منهم على الأذى"، هكذا شأن الدعاة والمصلحين، يتأسون بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- يصبرون على الأذى. لأن الداعية إذا دعا الناس إنما يقف في وجوههم ويصدهم عن رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم، وهم لا يرضون بذلك، فلا بد أن يؤذوهم، إما بقول أو بفعل، فلا بد من الصبر، فإذا لم يتسلح العالم و الداعية بسلاح الصبر فإنه لا يستطيع أن يقوم بالدعوة، لا بد من الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم ( بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، لا بد من الصبر، فالصبر لا بد منه في أداء الفرائض والواجبات، ولا بد منه في ترك المحرمات، ولا بد منه في الدعوة إلى الله، من لم يصبر لا يستطيع أن يقوم بالدعوة.
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إن هؤلاء العلماء هؤلاء البقايا من أهل العلم في الزمان الذي تندرس فيه أعلام الدين، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى يصبرون، إذا سبوهم أو شتموهم أو ضربوهم صبروا، لا بد من الصبر تأسيًا بالرسل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أوذوا وصبروا، في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ يحكي نبيًّا ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
ونوح -عليه الصلاة والسلام- أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم ويصبر هذه المدة الطويلة، وهم يردون عليه ردًّا سيئًا، ويقابلونه مقابلة سيئة، ويقولون: إنه مجنون، حتى أخبر الله عنه أنه قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا.
هكذا نبي الله -عليه الصلاة والسلام- يصبر، وأولوا العزم لهم من القوة والتحمل والصبر والجلد ما ليس لغيرهم، حتى قال الله لنبينا ﷺ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، نبينا صبر صبرًا عظيمًا، دعا قومه في مكة وضعوا على ظهره السلا وهو ساجد - سلا الجزور -، وأتاه أبو جهل مرة وخنقه -عليه الصلاة والسلام- حتى جاء أبو بكر وأطلقه وقال:( ) كسرت رباعيته يوم أحد وجُرحت وجنتاه، وسال الدم على وجهه -عليه الصلاة والسلام. فالصبر لا بد منه، الصبر هو الذي يتحلى به الرسل والدعاة والمصلحون أسوة برسل الله، ومنـزلة الصبر من الدين كمنـزلة الرأس من الجسد، من لا صبر له لا دين له.
ولهذا قال: " ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى" هكذا، هؤلاء الدعاة وهؤلاء العلماء أتباع الرسل يحيون بكتاب الله الموتى؛ لأن الكافر ميت ميت القلب، فإذا أسلم وآمن وقرأ كتاب الله وآمن به أحياه الله، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا فالكافر ميت ميت القلب، وإن كان يمشي حيًّا بين الناس؛ لأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب؛ ولهذا سمى الله القرآن: روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، سماه: نورًا؛ لتوقف الهداية عليه، قال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله " أهل العمى، هكذا الجاهل والضال والكافر أعمى القلب، وإن كان يبصر؛ لأنه لا يرى الحق ولا يعمل به، والعمى في الحقيقة عمى القلب ليس عمى البصر؛ لأن الإنسان إذا عمي بصره وقلبه حيّ ودينه صحيح فلا يضره، قال الله تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وقال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: " فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه" كم: للتكثير يعني: كثير، كم من قتيل، كم من شخصٍ قتله إبليس فأحياه أهل العلم، كيف قتله إبليس؟ قتله: يعني: قطع رقبته بالسيف؟ لا. قتله بالإضلال، قتل روحه وقتل قلبه وقتل اعتقاده، قتله، بأن سوّل له الكفر، سوّل له الضلال، سول له الانحراف، فكان بذلك قتيلا لإبليس، هذا هو القتيل الحقيقي. القتيل: هو الذي قتل قلبه، وهو الذي أزيل اعتقاده، ولم يعتقد اعتقادًا صحيحًا في الله وأسمائه وصفاته، هذا هو القتيل، أما القتيل قتيل الجسد: فهذا إذا قُتِلَ وعقيدته سليمة وأعماله مستقيمة ما يضره إذا كان مظلوم يكون شهيد، لكن المصيبة قتيل الروح والاعتقاد والدين.
"فكم من قتيل" يعني: قتيل … قتل دينه واعتقاده وتفكيره سليم، "فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه " يعني: ما أكثر الذين قتلهم إبليس وأحياه العلماء !؛ لأن "كم" هنا للتكثير، كما قال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، يعني: كثير. " فكم من قتيل لإبليس قد أحياه أهل العلم، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه " يعني: كثير من الضلال الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن طريق الحق قد هداه أهل العلم، ما أكثرهم! يعني يقول الإمام أحمد ما أكثر الذين قتلهم إبليس فأحياه أهل العلم، وما أكثر الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن الحق والهدى قد هداهم أهل العلم، هدوهم يعني: دَعَوْهُمْ إلى الحق، وبينوا لهم، وأوضحوا لهم، فهداهم الله بسببهم.
"فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم !" ما أحسن أثر العلماء على الناس! وما أقبح أثر الناس على العلماء !. قوله: "فما أحسن أثرهم " يعني: العلماء على الناس، "وأقبح أثر الناس عليهم " يعني: على العلماء، يعني: "ما أحسن" للتعجب. "ما أحسن أثر الناس على العلماء" ما هو أثرهم؟ ما أحسن أثر العلماء على الناس؟ ما هو أثر العلماء على الناس؟ دعوتهم وإرشادهم ونصيحتهم وتنبيههم والنصيحة لهم، ينقذونهم من ظلمات الشرك والجهل والبدعة إلى نور العلم واليقين والسنة، هذا أحسن أثر. فهم ينقذونهم من الضلالة، ينقذونهم من الكفر، ينقذونهم من البدعة، هذا أثر عظيم يفوق إطعامهم وكسوتهم والنفقة عليهم؛ لأن الإطعام والنفقة والكسوة وإن كان النفقة معروف فضلها، لكن هذه نفقة وإطعام وكسوة للجسد، والجسد في هذه الدنيا يهيئ الله له من يقيم أوده، ولكن التعليم والإنقاذ من الجهل والكفر والضلال والبدعة هذا أمر عظيم، يفوق الإحسان إلى الناس بالمال.
ولهذا قال الإمام أحمد "فما أحسن أثرهم " يعني: العلماء على الناس! أثرهم طيب، وفي المقابل قال: "وأقبح أثر الناس عليهم" ما أقبح أثر الناس على العلماء؟ ما هو أثر الناس على العلماء؟ يؤذون العلماء، ولاسيما الجهال، يسبونهم،يشتمونهم، يرمونهم بالبدعة، وقد يقتلونهم، حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ماذا فعل بهم أقوامهم وهم مقدمة العلماء؟ الأنبياء أعلم الناس بالله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وفي مقدمة العلماء الأنبياء والرسل -عليهم السلام- هم العلماء، هم أعلم الناس بالله، ثم أتباعهم من بعدهم، ما هو أثر الناس على الأنبياء ؟ ضربوا الأنبياء وجرحوهم وشتموهم وقتلوا بعضهم. قال الله تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ زكريا قُتِلَ، ويحيى -عليه الصلاة والسلام- قُتِلَ، قتلوهم، هذا أثرهم، أثر الناس عليهم ما هو؟ بعض العلماء وبعض الأنبياء يعدمهم الناس ويقتلونهم لماذا؟ لأنهم دعوهم إلى الله، هم يدعونهم إلى الله، وينقذونهم من الجهل والكفر وهم يقتلونهم ،وبعضهم ضربوهم، ضربه قومه حتى أدموه. بعض العلماء سُجِن، بعض العلماء ضُرب بالسياط كالإمام أحمد ضرب وسُحِب وسُجِن هذا أثر الناس على … إيش؟ على الإمام، على العلماء. إذًا أثر العلماء على الناس هذا حسن؛ ولهذا قال الإمام أحمد " ما أحسن أثر العلماء على الناس !"، وأما أثر الناس على العلماء؟ سيئ، بالعكس، "وأقبح أثر الناس على العلماء !".
الناس أثرهم على العلماء سيئ، يعني: من لم يوفق … القتل والضرب والسجن والإيذاء والشتم والرمي بالبدعة والتكفير … إلى غير ذلك، هذا أثر… إيش؟ هذا أثر الناس على العلماء. وأما أثر العلماء على الناس فهو إيش؟ الدعوة والإرشاد والإيضاح والإنقاذ من الجهل؛ ولهذا قال الإمام أحمد "ما أحسن أثر العلماء على الناس ! وما أقبح أثر الناس على العلماء ! ". هذا مرجع الضمائر "ما أحسن أثرهم" أي: العلماء "على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم" أي: العلماء. ثم قال -رحمه الله- يبين وصف العلماء وأعمالهم الجليلة.
قال: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين" هذه من أعمالهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، النفي: الإزالة، يعني: يزيلون ويبعدون عن كتاب الله تحريف الغالين. ما هو التحريف؟ التحريف: التغيير والتبديل، تحريف الكلام أن يعدل به عن جهته، وقول الله تعالى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أي: إلا مائلا لأجل القتال، لا مائلا هزيمة، فالتحريف معناه: التغيير كيف يغير الكتاب؟ "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ". كيف يحرف الكتاب؟ قد يحرف اللفظ، وقد يحرف المعنى، من تحريف اللفظ تحريف بعض الجهمية في قراءتهم، قرؤوا قول الله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قرؤوها: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا". تحريف… ليش لماذا؟ يريدون أن يكون الله هو المُكلَّم، وموسى هو المُكَلِّم، حتى ينفون الكلام عن الله لإن الله ما يتكلم. فإذا قلت: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قالوا: لا، معناها: "وكلم اللهَ" قراءتهم، "وكلم اللهَ موسى " لأن موسى هو المتكلم والله هو المُكَلَّم ولا يتكلم بزعمهم. " وكلمَ اللهَ موسى " فهذا تحريف هذا التحريف في المعنى.
ولما قال لهم بعض الجهمية لما استدل عليهم أهل السنة على إثبات الكلام في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قال الجهمي "وكلم اللهَ موسى " فالله هو المُكَلَّم لا يتكلم. فقال له: كيف تفعل بقول الله وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، فقال المعنى: جرحه بأظافر الحكمة، أوله، هذا تغيير المعنى، جرحه بأظافر الحكمة، قال: كلم معناها: الجرح، ومنه قول العرب: فلانٌ كلْمه يدمى، جرحه. قال: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي جرحه بأظافر الحكمة، هذا تغيير للمعنى، هذا التحريف تحريف الغالين، تحريف في المعنى، وتحريف في اللفظ.
ومن ذلك أيضًا تحريف الجهمية والمعتزلة معنى قوله: اسْتَوَى قالوا: معناه: استولى حرفوا. وكذلك تحريفهم … قالوا معنى الرحمة: الإنعام، إرادة الإنعام. والغضب: إرادة الانتقام. والرضا: إرادة الثواب، هذا تحريف المعنى. إذًا العلماء ينفون التحريف عن كتاب الله، هذا تحريف لكتاب الله، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، الغالي: هو الشيء الذي … هو الذي يزيد عن الحد، يقال له: غال، يقال: غلا في الدين غلوًّا أي: تصلب وشدد حتى جاوز الحد، ويقال: غلا في الدين، ومنه قول الناس: غلا السعر، أي: ارتفع، وغلت القدر، وغلا في الأمر غلوًا أي: جاوز الحد، ومنه قول الله تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ.
فالغلاة في هذا: الذين يغلون … كثيرون منهم من غلا في الصفات، منهم من غلا في القَدَر، ومنهم من غلا في الصحابة، فمثلا: الجهمية والمعتزلة ينفون الصفات عن الله والأسماء، هذا تعطيل وتقصير، بزعمهم أنهم ينـزهون الله، هذا غلو في التنـزيه، هذا يصلح مثال غلو في التنـزيه، غلوا في التنـزيه قالوا -بزعمهم-: نحن الآن نريد أن ننـزه الله، كيف تنـزهون الله؟ قالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوقين، فنحن ننـزه الله عن مشابهة المخلوقين، فننفي الأسماء والصفات. نقول: هذا غلو في التنـزيه، زدتم عن الحد، التنـزيه هو أن يقال: إن الله لا يشبه المخلوقين في شيء من صفاتهم، لكن لا تنفوا عنه الصفات، له صفات وأسماء تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه صفات المخلوقين، لا يشابه الله أحدًا من خلقه في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في ذاته.
أما هؤلاء غلوا فزادوا حتى نفوا الأسماء والصفات عن الله، هذا غلو، العلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، كذلك أيضًا المشبّهة الذين غلوا في الإثبات، قالوا: نحن نثبت لله الأسماء والصفات، لكن نقول: لله أسماء وصفات مثل صفات المخلوقين، ومثل أسماء المخلوقين، قالوا: إن الله يعلم كعلمنا ويقدر كقدرتنا، ويرى كرؤيتنا، حتى قالوا: إن الله مثل الإنسان، وعلى صورة الإنسان، حتى قال غلاتهم -وهم من الشيعة الغلاة الكفرة-: إن الله يندم ويحزن ويبكي، وأنه ينـزل عشية على عرفة ويُسامر ويُحاضر ويُصافح، وينـزل عشية عرفة على جبل –قبحهم الله- وأغلبهم من غلاة الشيعة، كفرة. هذا غلوّ، زادوا غلوا في الأسماء والصفات حتى قالوا: إن الله مثل المخلوقين تعالى الله عن ذلك ، فهذا الغلو ينفيه أهل العلم، هذا معنى قول الإمام: "وقد ينفون… " إيش؟ "… ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين". كذلك القَدَرية القَدَرية طائفتان: طائفة تنفي أفعال العباد، وتقول: إن … طائفة النفاة والغلاة، فالنفاة يقولون: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد وأن العباد خالقون لأفعالهم، هذا غلو في إثبات أفعال العباد، ويستدلون بالمتشابه.
كما قال الإمام أحمد يستدلون بالمتشابه... حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم ويستدلون بمثل قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. ويقولون: إن العبد يستحق الثواب على الله، كما يستحق الأجير أجره؛ لأنه هو الذي خلق فعله لقول الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، كما أن العاصي الذي يموت على الكبيرة يجب على الله أن يعذبه به وأن يخلده في النار، هكذا أوجبوا على الله، هذا غلوّ. وهناك القدرية الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله، وأنه ليس له أفعال، وأفعاله كلها اضطرارية، كحركات المرتعش والنائم، ونبض العروق، فهؤلاء الغلاة … هؤلاء غلوا في إثبات أفعال العباد، حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم. وأولئك غلوا في سلب العبد من أفعاله، حتى قالوا: إنه لا أفعال له، وأن أفعاله كلها اضطرارية، فهذا غلو وهذا غلو. فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين. إذًا هذا كله من التحريف، وهذا كله من الغلو الذي ينفيه العلماء عن كتاب الله . وهؤلاء وهؤلاء.. كلهم يستدلون بالقرآن، لكن كما قال الإمام أحمد يستدلون بالمتشابه، ويشككون الناس، ويتأولون القرآن على غير تأويله,
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين". الانتحال: نسبة الشيء، وهو أن ينسب إليه شيءٌ ليس فيه؛ ولهذا في اللغة: نحلته القول: إذا أضفت إليه قولا قاله غيره، وادعيته عليه، ونحله القول -في القاموس- كمنعه: نسبه إليك، وهم…
فالمبطلون ينسبون إلى القرآن ما ليس منه، كما سيأتي في الأمثلة الكثيرة التي يذكرها الإمام أحمد -رحمه الله- أنهم يقولون مثلا: إن في القرآن أن الناس يُعَذَّبُون في غير جرم، وأن هناك جلود تعذب لم تذنب، ويستدلون بمثل قوله تعالى: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا. هذا من المتشابه، هذا من نسبة المبطلين إلى القرآن ما ليس منه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ قالوا: إن القرآن فيه أن هناك أرضا ثانية غير هذه الأرض، ويستدلون بالآية، مثلا، وسيأتي الجواب على هذا. هذا من الباطل الذي نسبه المبطلون إلى القرآن، فالعلماء ينفون عن القرآن انتحال المبطلين، العلماء ينفون عن القرآن انتحال المبطلين.
لعلنا نقف الآن -إن شاء الله- وإن شاء الله المقدمة هذه إذا انتهينا من شرحها نمشي؛ لأن بعد ما تنتهي المقدمة تكون هناك … كلها نصوص متشابهة، ويبين الإمام أحمد -رحمه الله- الجمع بينها، لكن الخطبة هذه نتكلم على بعض فقراتها -إن شاء الله- ونترك إن كان هناك أسئلة.
وفق الجميع لطاعته ورزق الله الجميع بالعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.