باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
الشرح: أي ولا عذاب.
قلت: تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.[1]
قال الله تعالى: '16 : 120'
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين) وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:
الأولى: أنه كان (أُمَّةً)، أي قدوةً وإمامًا معلمًا للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين، الذَين تنال بهما الإمامة في الدين.[2]
الثانية: قوله: (قَانِتًا) قال شيخ الإسلام: القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت.
قال تعالى: '39 : 9' (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) انتهى ملخصًا.
الثالثة: أنه كان (حَنِيفًا).
قلت: قال العلامة ابن القيم: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه[3].
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبُعْده عن الشرك. قلت: يوضح هذا قوله تعالى: '60 : 4' (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير رحمه الله تعالى.[4]
(إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْء رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر: '19 : 48 49' (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) فهذا هو تحقيق التوحيد وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم، فالله المستعان[5].
قال المصنف رحمه الله في هذه الآية: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)؛ لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين.[6]
قال المصنف رحمه الله تعالى في هذه الآية: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)؛ لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين. (قَانِتًا لِلَّهِ) لا للملوك ولا للتجار المترفين، (حَنِيفًا) لا يميل يمينًا ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين) خلافًا لمن كثّر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. انتهى.
وقد روى ابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) على الإسلام، ولم يكن في زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان إمامًا يُقتدى به في الخير.[7]
وقوله تعالى: '23 : 57 - 59' (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ)[8]
وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها أنهم بربهم لا يشركون، ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه من شرك جلي أو خفي نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلت: قوله: حسنت وكملت، هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر، ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم.[9]
قال ابن كثير: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحّدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحد صمد، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنه لا نظير له[10].
عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمة، قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياء، ثم خرج عيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عُكّاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة". أخرجاه.
هكذا أورده المصنف غير معزو وقد رواه البخاري مختصرًا ومطولاً، ومسلم واللفظ له، والترمذي، والنسائي.
قوله: عن حصين بن عبد الرحمن، هو السلمي أبو الهذيل الكوفي، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
وسعيد بن جبير، هو الإمام الفقيه، من جُلّة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبى موسى مرسلة، وهو كوفي، مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.
قوله: انقضّ، هو بالقاف والضاد المعجمة أي: سقط، والبارحة هي أقرب ليلة مضت.[11]
قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال[12].
قال: أما إني لم أكن في صلاة، قال في مغني اللبيب: أما بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا، وإذا وقعت إنّ بعدها كسرت.
الثاني: أن تكون بمعنى حقًا أو أحق[13].
وقال آخرون: هي كلمتان، الهمزة للاستفهام، وما اسم بمعنى شيء، ذلك الشيء حق، فالمعنى أحقًا، وهو الصواب، و موضع ما النصب على الظرفية، وهذه تفتح أنّ بعدها. انتهى.[14]
والأنسب هنا هو الوجه الأول، القائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي فنفى عن نفسه إيهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم على الرياء والتزين بما ليس فيهم.
وقوله: ولكني لدغت، بضم أوله وكسر ثانيه، قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم إذا أصابته بسمِّها وذلك بأن تأبره بشوكتها.[15]
قوله: قلت: ارتقيت، لفظ مسلم استرتقيت أي: طلبت من يرقيني.[16]
قوله: فما حملك على ذلك فيه طلب الحجة على صحة المذهب.[17]
وقوله: حديث حدثناه الشعبي، اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم، مات سنة ثلاث ومائة.
قوله: عن بريدة، بضم أوله وفتح ثانيه، تصغير بردة ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير، مات سنة ثلاث وستين، قاله ابن سعد.
قوله: "لا رقية إلا من عين أو حمة" وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه مرفوعًا, ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، عن عمران بن حصين به مرفوعًا. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه، والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها.[18]
قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي[19].
قوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع أي: من أخذ بما بلغه من العلم، وعمل به فقد أحسن، بخلاف من يعمل بجهل، أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم[20].
وفيه فضيلة علم السلف، وحسن أدبهم.
قوله: ولكن حدثنا ابن عباس هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فكان كذلك، مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف رحمه الله: وفيه عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا، فعُلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.[21]
قوله: "عرضت على الأمم" وفى الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن، أن ذلك كان ليلة الإسراء قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا[22].
قلت: وفي هذا نظر.[23]
قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط" والذي في صحيح مسلم الرهيط بالتصغير لا غير وهم: الجماعة دون العشرة قاله النووي.
قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد" فيه الرد على من احتج بالكثرة.[24]
قوله: "إذ رفع لي سواد عظيم" المراد هنا: الشخص الذي يرى من بعيد.[25]
قوله: "فظننت أنهم أمتي"؛ لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة، وفى صحيح مسلم: "ولكن انظر إلى الأفق" ولم يذكره المصنف، فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه، والله أعلم.[26]
قوله: "فقيل لي هذا موسى وقومه" أي: موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه : أتباعه على دينه من بنى إسرائيل.
قوله: "فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب" أي: لتحقيقهم التوحيد، وفى رواية ابن فضيل: "ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا" وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة: "فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفًا" قال الحافظ: وسنده جيد[27].
قوله: ثم نهض أي: قام، قوله: فخاض الناس في أولئك، هذا من العام الذي أريد به الخصوص أي جملة الحاضرين[28].
خاض بالخاء والضاد المعجمتين وفي هذا، إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق[29].
وفيه عمق علم السلف؛ لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.[30]
وفيه حرصهم على الخير ذكره المصنف.
قوله: فقال "هم الذين لا يسترقون" هكذا ثبت في الصحيحين، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد، وفي رواية لمسلم: "ولا يرقون" قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهْمٌ من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقون.[31]
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل على الرقى: "من استطاع[32] منكم أن ينفع أخاه فلينفعه". وقال: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا".
قال: وأيضًا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.[33]
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه. والراقي، محسن.
[34]قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم وكذا قال ابن القيم.
قوله: "ولا يكتوون" أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم[35] أن يرقيهم؛ استسلامًا للقضاء وتلذذًا بالبلاء.[36]
قلت: والظاهر أن قوله لا يكتوون أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم.[37]
[38]أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه.[39]
وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي، وروي عن الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زُرارة من الشوكة.
[40]وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار، وأنا أنهى عن الكي" وفى لفظ: "وما أحب أن أكتوي".[41]
قال ابن القيم رحمه الله: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله.[42]
فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.[43]
قوله: "ولا يتطيرون" أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.[44]
قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرّعت عنه هذه الأفعال والخصال،
[45]وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد، الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والرجاء والخوف والرضا به ربًا وإلهًا والرضا بقضائه[46].
.وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسَبَّبات، وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها.[47]
لأن بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل.[48]
وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا.[49]
قال الشارح رحمه الله – : وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل أو مستحب أو واجب؟[50]
فالمشهور عند أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه.
[51]والمشهور عند الشافعية الثاني[52].
حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفّر، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب، قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.[53]
وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد.[54]
قوله: فقام عكاشة بن محصن، هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن حرثان - بضبم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة – الأسدي، من بني أسد بن خزيمة، كان من السابقين إلى الإسلام، ومن أجمل الرجال، هاجر وشهد بدرًا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.[55]
قوله: فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، وللبخاري في رواية: "فقال اللهم اجعله منهم".
[56]وفيه طلب الدعاء من الفاضل[57].
قوله: ثم قام رجل آخر، ذكر مبهمًا ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه.
قوله: فقال: "سبقك بها عكاشة" قال القرطبي: لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة؛ فلذلك لم يجبه، إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك. انتهى.[58]
قال المصنف – رحمه الله – وفيه استعمال المعاريض، وحسن خُلُقه صلى الله عليه وسلم[59].
وقول الله عز وجل: "4 : 48 و 116 " (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[60].
قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أي لا يغفر لعبدٍ لقيه وهو مشرك (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) أي من الذنوب لمن يشاء من عباده . انتهى.
[1] هذا التحقيق، التحقيق بمعنى التخليص والتصفية والتنقية من شوائب الشرك والبدع، فمن حقق التوحيد، وحّد الله وأخلص له العبادة، ولم يقع في عمله شرك ولا بدعة، لا شرك أصغر ولا أكبر، ولا بدع، ونقّاه، وخلّصه وصفّاه، دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، فضلاً من الله وإحسانًا.
[2] نعم بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
[3] هذا الحنيف: المقبل على الله المعرض عما سواه، سمي حنيف؛ لميله وإعراضه عما سوى الله، وإقباله على الله، ومنه الحنيفية, تسمى الملة الحنيفية، سميت حنيفية؛ لميلها عن الأديان الباطلة، وإلا ففي نفسها مستقيمة، (دِينًا قِيَمًا) لكن سميت حنيفية لكونها مائلة عن الأديان الباطلة، هنا حنيفًا يعني مقبلاً على طاعة الله معرضًا عما سواه.
[4] (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني: على دينه من إخوانه من النبيين والمرسلين، ما هو دينه؟ما هي الأسوة؟ هو أنهم براءتهم من الشرك وأهله قالوا: (إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) هذه ملة إبراهيم والذين معه من إخوانه من الأنبياء، البراءة من كل معبود سوى الله، براءة من المشركين ومن دينهم.
[5] فالله المستعان على أن تحقيق هذه الصفات عزيز.
[6] (أُمَّةً) يعني: وحده؛ حتى لا يستوحش الإنسان من كونه على الحق وحده، إبراهيم أُمة، سماه الله أُمّة تعظيمًا له وتفخيم، يعني جمعت فيه صفات الأمة وهو وحده، فارق الناس كلهم حتى أباه، وعاداهم، وقاطعهم، وبقي أُمّةً وحده، وآمنت به زوجته سارة، فلما مرّ على ملك مصر الظالم في ذلك الزمان، وأمر بأخذ سارة،
[7] كشف الله له عنها، قال لها: إني سأقول إنك أختي، فلا تُكذِّبيني، فأنت أختي في الإسلام، فليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك في ذلك الوقت! فهو أُمّة عليه الصلاة والسلام، وحده، قاطع أهل الشرك جميعًا.
[8] يقتدي به من بعده في الخير؛ ولهذا قال الله لنبيه: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين).
[9] لاشك أنه لا تنفع الأعمال ولا تكمل إلا بترك الشرك، وترك الشرك يلزم منه التوحيد، من ترك الشرك فقد وحّد الله، ومن وحّد الله فقد ترك الشرك.
[10] هذا قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن، الشيخ عبد الرحمن بن حسن لخّص تيسير العزيز الحميد، وحذف بعض الأشياء، وهذا من حذقاته، وفي مسألة الجمع بين "لا يورد ممرض على مصح" وبين "لا عدوى ولا طيرة" أطال الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد، والشيخ عبد الرحمن لخّصها، وذكر المهم منها، وحذف، ما فيه إطالة، ولها تعليق، له بعض التعليق.
[11] سعيد بن جبير رحمه الله إمام معروف، يقال إنه قُتل وكل الناس بحاجة إلى علمه، قتله الحجاج ظلمًا، يقال أن الحجاج ما عاش بعده وأنه رؤي في المنام فقال: قُتلت في كل قتيل قتلة، إلا سعيد بن جبير قُتلت بها كذا وكذا من القتلات.
[12] البارحة لأنها زالت ومضت.
[13] يعني حقًا إني لم أكن في صلاة، أو أحقًا.
[14] قال: أما أني لم أكن في صلاة على الوجه الثاني، الوجه الأول مكسورة أما إني.
[15] والسمّ: مثلثة, يقال سَم سُم سِم، لدغته بسُمِّها أو بسَمِّها أو بسَمها.
[16] هذا في قصة سعيد ابن جبير لما قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قال حصين: أنا، ثم قال: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال فما فعلت؟ قال: ارتقيت.
[17] يعني ما دليلك؟ لأن الإنسان إذا فعل شيء يقال هات الدليل، مطالبة الإنسان بالدليل، عندك دليل أو لماذا تفعل هكذا؟.
[18] العين إصابة العائن بعينه، وهو أمرٌ داخلي، أمرٌ باطني، يصيبه بعينه يعني يتفطن ينظر إليه يتفطن بشيء فيه ثم يصيبه بعينه، يخرج من نَفَسه إذا تكيفت الروح, يخرج نَفَس مقارن بالشر فيصيب المعين بالداء.
[19] رقى النبي صلى الله غيره ورقاه جبريل.
[20] من يعمل بجهل مثل النصارى، ومن يترك العمل بما علم مثل اليهود وأشباههم.
[21] يعني الحديث الأول "لا رقية إلا من عين أو حمة" لا يخالف حديث السبعين، هذا له حال وهذا له حال.
[22] والصواب أنه لم يتعدد، الصواب أن الإسراء مرة واحدة، أسري بروحه وجسده، يقظة لا منامًا، هذا هو الصواب، وأنه وقع في مكة قبل الهجرة، بعض العلماء قال إنه تعدد الإسراء، وهذا قول ضعيف، وقال بعضهم إن الإسراء كان في المنام، وهذا أيضًا ضعيف، بعضهم قال كان الإسراء بروحه بلا جسده، وهذا ضعيف، والصواب أن الإسراء مرة واحدة، لم يتكرر، وهو في اليقظة لا في المنام، مرة واحدة بروحه وجسده، هذا هو الصواب الذي دلّت عليه النصوص، ولم يتعدد.
[23] نعم، لاشك أن في هذا نظر، القول بالتعدد قول ضعيف، الصواب أنه ما تعدد الإسراء، مرة واحدة، في مكة، والإسراء والمعراج في ليلة واحدة في مكة قبل الهجرة.
[24] نعم، الكثرة ليس بدليل، قال الله تعالى- في الغالب تكون هالكة-: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) بعض الأنبياء ما تبعه إلا الرهيط، من ثلاثة إلى تسعة، بعضهم ما تبعه إلا اثنين، بعضهم ما تبعه إلا واحد، بعضهم ما معه أحد! فلا يضره هذا أدى ما عليه، بعضهم قُتل، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون)،
[25] فالكثرة ليست دليل على الحق؛ ولهذا قال الله في إبراهيم: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) وحده، قاطع أهل الشرك جميعًا.
[26] ولكن انظر إلى الأفق الآخر، لما رأى السواد الأول كان موسى وقومه، ثم قيل انظر إلى الأفق الآخر.
[27] مع كل ألف سبعون ألف، هذا فضل عظيم، سبعون ألف مع كل ألف سبعون ألف.
"فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفًا، وثلاث حثيات من حثيات ربي" والحثية لا يعلم مقدارها إلا الله، وجاء في رواية: مع كل واحد سبعون ألفًا لكنها ضعيفة، وهذه ثابتة "مع كل ألف سبعين ألفًا وثلاث حثيات من حثيات ربي".
[28] خاض الناس في أولئك يعني ليس كل الناس بل أغلبهم.
[29] من قوله: فخاض الناس، بحث يبحثون في الحق كلٌ يطلبون الخير، فإذا خاض العلماء وتباحثوا على وجهٍ لا يكون فيه أذية لأحد ولا جرح شعور لأحد، قصدهم الحق هذا مطلوب.
[30] نعم، لا ينالون بالكسل والنوم، لابد من عمل، يريدون أن يبحثوا عن هذا العمل حتى يعملوا، أسبابها يعني هذا الخير الذي حصل لهم بعمل، لم يحصل لهم وهم نائمون.
[31] هذا في رواية مسلم: لا يرقون ولا يسترقون، هذه خاصة لكن عند أحمد وفي الصحيحين لا يسترقون، ما فيه لا يرقون، لكن مسلم عنده زيادة لا يرقون ولا يسترقون، هذه حكم عليها شيخ الإسلام بالوهم، كلمة لا يرقون، قال هذا غلط، وهم بعض الرواة، وذلك أن هناك فرق بين الراقي والمسترقي: الراقي محسن، يأتي
[32] إنسان ويقرأ على شخص، كيف لا يدخل في السبعين ألف، هذا محسن، بخلاف المسترقي، المسترقي يطلب غيره، قد مال شعبة من قلبه إليه، أما الراقي محسن، فكيف يُجعل بمنزلة المسترقي؟! ولهذا حكم شيخ الإسلام عليه بالوهم، اعترض عليه الحافظ وقال لها وجه لكن المعتمد كلام شيخ الإسلام في هذا، الحافظ اعترض على شيخ الإسلام في قوله إنها وهم وقال توهيم الحفّاظ بالأمر الهيّن..
[33] فكيف يكون الراقي ليس من السبعين ألفًا؟! الراقي محسن، والنبي رقى ورُقي، رقاه جبريل ورقى غيره، فكيف لا يكون داخل في السبعين ألفًا؟! فدلّ على أنها وهم.
[34] سائل يعني يسأل غيره، مستعط يطلب منه العطية، ملتفت إلى غيره التفت قلبه إلى المخلوق فرق بينهما، والراقي محسن، الراقي جاء وقرأ على الشخص،هذا محسن، أما الذي يستعط يقول تعال اقرأ علي يا فلان هذا مستعط يطلب يميل قلبه إلى المخلوق، فرق بين وهذا، كيف يجعل حكمهما واحد؟
[35] يعني فرق بينهما، هذا من تمام توكلهم على الله لا يسألون أحد يرقيهم ولا أحد يكويهم من تمام توكلهم على الله، أما الراقي شأن آخر.
ربما يقال إن كلمة يرقون هي بضم الياء وفتح القاف على البناء المجهول فلا وهم ولا تناقض والله أعلم.
التعليق ذكره ابن القيم في مدارج السالكين........
ليس ظاهر هذا ربما يقال تأويل، إذا كان نقله عن غيره ينسب وإلا لا نقله
[36] هذا في قصة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".
[37] هناك فرق: "لا يسترقون" يعني لا يطلبون أحدًا يرقيهم لما فيه من الميل القلبي إلى الغير، ومن صدق أن هؤلاء السبعين ألفًا يتركون الأسباب المحرمة كالطيرة، والأسباب المكروهة كالكي، والأسباب التي هي خلاف الأولى كالاسترقاء، فهم لا يسترقون لا يطلبون أحد يرقيهم، حتى لا يميلون إلى أحد من المخلوقين، لكن لو رقاهم أحد بدون طلب لا يدخل في هذا، أما الكي "لا يكتوون" فالظاهر أنهم لا يكتوون سواء طلبوا أحد أو لم يطلبوا من أحد حتى لا يأتي أحد يرقيهم من دون طلب فهو يمتنعون من هذا، الكي يختلف عن الرقية، الرقية إذا طلب من يرقيه هذا هو الاسترقاء، وإذا رقاه أحد بدون طلب لا يدخل في هذا، أو رقى نفسه، أما الكي
[38] سواء طلب أو لم يطلب، لا يقوم أحد يكويه ولا يكوي نفسه، والسبب أم الكي فيه بعض التعذيب بالنار وهو من الأسباب المكروهة، فينبغي أن يكون آخر العلاج، كما قيل: آخر الطب الكي، وإذا احتاج إليه فلا حرج، وثبت في صحيح البخاري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "الشفاء في ثلاثة: كية بالنار أو لعقة من عسل.." فقد يكون الشفاء في الكي.
[39] وكما اكتوى خبّاب بن الأرت سبعة كيات.
[40] يعني مرض يقال له الشوكة، فهذه الأدلة كلها تدل على جواز الكي، وأنه لا حرج فيه وليس بحرام لكنه مكروه للتنزيه، ينبغي أن يُترك إذا وُجد غيره، وإذا تعيّن، ثبت للعلاج فلا بأس.
[41] وهذا النهي للتنزيه ليس للتحريم، والصارف له عن التحريم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كوى بعض الصحابة وأمر بكيّهم، فدل على أنه ليس للتحريم وإنما للتنزيه، "وأنا أنهى أمتي عن الكي" يعني نهي تنزيه.
[42] فعل الكي فعله لبيان الجواز، فأمر بكي بعض الصحابة، ونهى عنه للتنزيه، وكذلك أيضًا بيّن فضل من تركه من السبعون ألفًا هذا لبيان الفضل، والنهي لبيان التنزيه والفعل لبيان الجواز.
عدم محبته لما فيه من نفس الطبيعة التي تنافي الكي؛ لما فيه من التعذيب بالنار.
[43] كيف يستوي الاختيار والكراهة؟ يعني النهي على سبيل الاختيار والكراهة يعني عدم الاختيار، يكرهه بما أنه لا يختاره.
[44] وهذه من الأسباب المحرمة التطير،السبعون ألفًا تركوا الأسباب المحرمة كالطيرة والأسباب المكروهة كالكي، والأسباب التي هي خلاف الأولى كالاسترقاء.
[45] كونهم "لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" ناشئ عن توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وتفويضهم أمورهم إليه.
[46] قال: نهاية تحقيق التوحيد، يثمر هذه الثمرات، أثمر الصدق والإخلاص والمحبة، وإذا وجد الصدق والإخلاص والمحبة فلا تتخلف خدمة العبد لربه وعبوديته له، لأن الصدق والإخلاص والمحبة يثمر العمل، والعبودية الكاملة لله عز وجل.
[47] هذه كلها أسباب، دفع الجوع بالأكل، ودفع الظمأ بالشرب، ودفع الحر بالمبردات، كل هذا فعل الأسباب، فالأسباب لا ينكرها إلا إنسان في عقله نقص، فقد أنكر الأسباب بعض الطوائف المنحرفة كالجبرية، قالوا: الإنسان مجبور، أنكروا الأسباب والطبائع والغرائز، وقالوا: الأفعال أفعال الله، هذا من أبطل الباطل، كما أن المعتزلة قابلوهم القدرية واعتمدوا على الأسباب وركنوا إليها، وقالوا: يجب على الله عقلاً أن يثيب المطيع، وأن يعاقب العاصي؛ لأنه هو الذي خلق أفعال نفسه! وقالوا: المطيع يستحق الأجر على الله كما يستحق الأجير أجره! هذا في مقابلة هؤلاء الذين أنكروا الأسباب .
[48] لأن التوكل يجمع شيئين:
فعل الأسباب النافعة المأمور بها شرعًا، ثم الاعتماد على الله، ما في توكل إلا بفعل الأسباب.
[49] فلا يجعل العبد عجزه توكلاً: إذا عجز عن فعل الأسباب قال توكلت على الله، مثل إنسان سقط عبده في البئر فلما سقط قال أنت حر لوجه الله! هذا بعد العجز ما يفيد، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً.
ولا توكله عجزًا: يعني يتوكل على الله ويعطل الأسباب.
[50] مستحب، أو مباح، يعني متساوي الطرفين، أو تركه أفضل.
[51] يعني: مباح وتركه أفضل، لهذا الحديث حديث السبعين ألف.
[52] أنه مستحب.
[53] فيكون مباح، والأرجح أنه مستحب، الراجح أنه مستحب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عباد الله تداووا، ولا تداووا بالحرام" هذا أمر، وأقلّ أحواله الاستحباب، أقل أحوال الأمر الاستحباب، أبو حنيفة يداني به الوجوب، يكاد يداني به الوجوب يعني يجعله مؤكّد حتى يقرب من الوجوب، وهو مستحب؛ لأن هذا من فعل الأسباب، ولأن العلاج فيه خير للإنسان، فيه فائدة أن يتعالج الإنسان حتى يستطيع أن يؤدي ما أوجب الله عليه، إذا كان أيضًا يتعدّى نفعه للآخرين كذلك، إذا تعالج وشفي من مرضه يشفع إذا كان صاحب شفاعات للناس، أو صاحب صدقات، أو إرشاد وتوجيه أو غير ذلك، فالعلاج فيه خير، لكن ليس بواجب، الصحيح ليس بواجب، بعض الناس يجبر بعض المرضى، بعض الأبناء يجبرون آبائهم على العلاج، تجدهم يسحبونه يصيح يقول ما أبي العلاج، يقولون لا، لابد تتعالج! هذا ما ينبغي اتباعه، إذا كان رشيد معه عقله العلاج مباح،إذا أحب يتعالج فالحمد لله، إذا ما أحب لا يجبر، أما إذا كان ما معه شعور هذا يجتهد وليه، أما إذا كان معه شعور ولا يريد العلاج لا يجبر؛ لأنه مباح أو مستحب، ما ترك شيئًا واجبًا حتى يجبر .
[54] الجماهير على أنه مستحب، بعضهم أوجبه، على القول بالوجوب يأثم إذا لم يتعالج .
[55] طليحة ادعى النبوة ثم منَّ الله عليه بالإسلام، تاب من ردته، ثم جاهد .
[56] وفي لفظ أنه قال: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: "أنت منهم" وفي لفظ قال:أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم".
[57] نعم، من الحي الحاضر لا بأس أن يدعو له، حي حاضر.
[58] يحتمل أنه منهم، يحتمل أن الثاني منهم، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم أراد سدّ الباب؛ لأنه لو فتح الباب لتسلسل، لصار كل واحد يقول ادعوا الله أن يجعلني منهم، كل واحد يريد لنفسه الخير.
[59] من قوله: "سبقك بها عكاشة" ما قال أنت لست منهم، ما واجهه؛ لأنه محتمل أن يكون منهم، ومحتمل أن لا يكون منهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عرّض قال: "سبقك بها عكاشة" سدّ الباب بكلام لا يجرح شعوره.
[60] يعني: أن الإنسان إذا عرف التوحيد، وفضله، وحقَّق التوحيد، لا يأمن، يخاف على نفسه، ويسأل ربَّه الثَّبات والاستقامة، فهذا إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - وهو إمام الحنفاء خاف على نفسه وبنيه وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) وهو الذي كَسّرَ الأصنام بيده، ومع ذلك خاف قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) فالإنسان الموحِّد، ولو كان موحِّدًا يسأل ربه الثبات، ويبتعد عن الشرك وأسبابه، وذرائعه، ولو كان موحِّدًا.