باب ما جاء في قول الله تعالى:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون).
عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ قال: جاءَ حَبْرٌ من الأحبارِ إلَى رسولِ اللهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فقالَ: "يا مُحَمَّدُ، إنَّا نَجِدُ أنَّ اللهَ يجعلُ السَّماواتِ علَى إصْبعٍ، والأرَضينَ علَى إصْبعٍ، والشَّجَرَ علَى إصْبعٍ، والماءَ علَى إصْبعٍ، والثَّرَى علَى إصْبعٍ، وسائرَ الخلْقِ علَى إصْبعٍ فيقول: أَنا الْمَلِكُ؟!" فَضَحِكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حتَّى بَدَتْ نواجِذُهُ تصديقًا لقولِ الْحَبْرِ، ثمَّ قرأَ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآيَةَ. متَّفقٌ عليهِ.
وفي روايَةٍ لمسلمٍ: "والجِبالَ والشَّجَرَ علَى إصبعٍ، ثُمَّ يهُزُّهنَّ فيقولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ".
وفي رِوايَةٍ للبُخاريِّ: "يَجْعَلُ السَّماواتِ عَلَى إصبَعٍ، والماءَ والثَّرَى علَى إصبَعٍ، وسائرَ الْخَلْقِ علَى إصبعٍ" أخرجاهُ.[1]
بابُ ما جاءَ في قولِ اللهِ تعالَى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًـا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أيْ: من الأحاديثِ والآثارِ في مَعنَى هذه الآيَةِ الكريمةِ.
قالَ العِمادُ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: يقولُ تعالَى: ما قَدَرَ الْمُشرِكونَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حتَّى عَبَدُوا معه غيرَهُ، وهوَ العظيمُ الذي لا أَعْظَمَ منهُ؛ القادرُ علَى كلِّ شيءٍ، المالِكُ لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ تحتَ قَهْرِهِ وقُدرتِهِ.
قالَ السُّدِّيُّ: ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمتِهِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ: لوْ قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ ما كَذَّبُوهُ.
وقالَ عليُّ بنُ أبي طَلحةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ: هم الكُفَّارُ الذينَ لم يُؤْمِنوا بقُدرَةِ اللهِ عليهم، فمَنْ آمَنَ أنَّ اللهَ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، فقدْ قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدْرِهِ؛ ومَنْ لم يُؤْمِنْ بذلكَ فلم يَقْدِرِ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وقدْ وَرَدَتْ أحاديثُ كثيرةٌ مُعَلَّقَةٌ بهذه الآيَةِ، الطريقُ فيها وفي أمثالِها منْ مَذْهَبِ السلَفِ؛ وهوَ إِمرارُها كما جَاءتْ منْ غيرِ تَكييفٍ ولا تَحريفٍ، وذَكَرَ حديثَ ابنِ مَسعودٍ كما ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ، قالَ: ورواهُ البخاريُّ في (صحيحِهِ) في غيرِ مَوْضِعٍ.
ومسلمٌ، والإِمامُ أحمدُ، والتِّرمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، كلُّهم منْ حديثِ سُليمانَ بنِ مِهرانَ وهوَ الأَعْمَشُ، عنْ إبراهيمَ، عنْ عَبِيدَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ، بنحوِهِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنا مُعاويَةُ، حَدَّثَنا الأعمشُ، عنْ إبراهيمَ، عنْ عَلقمةَ، عنْ عبدِ اللهِ قالَ: جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا أَبا القاسِمِ، أَبَلَغَكَ أنَّ اللهَ تعالَى يَحمِلُ الخلائِقَ عَلَى إِصبعٍ، والسَّماواتِ عَلَى إِصْبعٍ، والأَرَضِينَ علَى إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ علَى إِصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ؟ فَضَحِكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى بَدَتْ نواجِذُهُ.
قالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآيَةَ.
وهكذا رواهُ البخاريُّ، ومسلِمٌ، والنَّسائيُّ، منْ طُرُقٍ عن الأَعْمَشِ بهِ.
وقالَ الإِمامُ أَحمدُ: حَدَّثَنا الْحُسَيْنُ بنُ حَسَنٍ الأَشْقَرُ، حَدَّثَنا أبو كُدَيْنَةَ، عنْ عَطاءٍ، عنْ أبي الضُّحَى، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جالِسٌ، فقالَ: كَيْفَ تقولُ يا أبا القاسِمِ يومَ يَجْعَلُ اللهُ السَّماواتِ علَى ذِهِ -وَأَشارَ بالسَّبَّابةِ- والأرضَ عَلَى ذِهِ، والجبالَ عَلَى ذِهِ، وسائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ كلُّ ذلكَ يُشيرُ بِأُصْبُعِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وكذا رواهُ التِّرمذيُّ في التفسيرِ بسَنَدِهِ، عنْ أبي الضُّحَى مسلمِ بنِ صُبَيْحٍ بهِ، وقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلاَّ منْ هذا الوَجْهِ.
ثم قالَ البخاريُّ: حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنا الليثُ، حَدَّثَني عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ مُسافِرٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنَّ أبا هُريرةَ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: "يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيطْوِي السَّماءَ بِيَمينِهِ، فَيقولُ: أَنا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟" تَفَرَّدَ بهِ مِنْ هذا الوَجْهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.[2]
وقالَ البُخارِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنا مُقدَّمُ بنُ محمَّدٍ، حَدَّثَنا عَمِّي القاسمُ بنُ يَحْيَى، عنْ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: "إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ، وتَكُونُ السَّماءُ بِيمينِهِ، ثُمَّ يقولُ: أَنَا الْمَلِكُ" تَفَرَّدَ بهِ أيضًا منْ هذا الوجهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.
وقدْ رواهُ الإِمامُ أحمدُ منْ طريقٍ آخَرَ بلَفْظٍ أَبْسَطَ منْ هذا السياقِ وأَطولَ، فقالَ: حَدَّثَنا عَفَّانُ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ؛ أنبأنا إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طَلْحَةَ، عنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ، عن ابنِ عُمَرِ: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرأَ هَذهِ الآيَةَ ذاتَ يومٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ هَكَذا -بِيَدِهِ يُحَرِّكُها، يُقْبِلُ بِها ويُدْبِرُ– يُمَجِّدُ الرَّبُّ تَعَالَى نَفْسَهُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الْمَلِكُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْكَريِمُ" فَرَجَفَ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَى قُلْنا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ. انتهَى.
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: ولِمُسْلِمٍ، عن ابنِ عمَرَ مرفوعًا: "يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ بيَدِهِ الْيُمنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَينَ الْجَبَّارُونَ؟ أينَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟".
ورُويَ عنِ ابنِ عباسٍ قال: ما السَّماواتُ السبْعُ، والأَرْضونَ السَّبْعُ في كَفِّ الرّحمنِ إلاَّ كَخَرْدَلةٍ في يَدِ أحَدِكُم.
وقال ابنُ جريرٍ: حدَّثني يونُس، أخبرنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ: حدَّثني أبي قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلم: "مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ".
وقال: قال أبو ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ".
وعَنِ ابنِ مسعودٍ قال: بَيْنَ السَّماءِ الدُّنيا والَّتي تَليها خَمسُمائةِ عامٍ، وبَيْنَ كلِّ سماءٍ وسماءٍ خمسُمائةِ عامٍ، وبينَ السماءِ السابعةِ والكرسيِّ خمسُمائةِ عامٍ، وبينَ الكرسيِّ والماءِ خمسُمائةِ عامٍ، والعرشُ فوْقَ الماءِ، واللهُ فوْقَ العرشِ، لا يَخْفَى عَليْهِ شيءٌ مِنْ أعمالِكُم. أخرجهُ ابنُ مهديٍّ، عنْ حمَّادِ بنِ سلَمةَ، عنْ عاصِمٍ، عَنْ زرٍّ، عنْ عبد اللهِ.
ورواهُ بنحوِهِ المسعوديُّ، عنْ عاصمٍ، عنْ أبي وائلٍ، عَنْ عبدِ اللهُ؛ قالَهُ الحافِظُ الذَّهبيُّ رحمه اللهُ تعالَى، قال: ولَهُ طُرُقٌ.
وعنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟"
قُلنا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ.
قالَ: "بيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ومِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ" أخرجه أبو داودَ وغيرُهُ.
قولُهُ: ولِمسلمٍ عن ابنِ عُمَرَ -الحديثَ- كذا في روايَة مسلِمٍ، وقالَ الْحُمَيْدِيُّ: وهيَ أَتَمُّ، وهيَ عندَ مُسلِمٍ منْ حديثِ سالِمٍ، عنْ أبيهِ.
وأَخْرَجَهُ البخاريُّ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عمرَ قالَ: "إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ وتَكُونُ السَّماءُ بِيمِينِهِ" وأخرَجَهُ مسلِمٌ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ.
قلتُ: وهذه الأحاديثُ وما في معناها تَدُلُّ علَى عَظَمَةِ اللهِ، وعَظيمِ قُدْرَتِهِ، وعِظَمِ مَخلوقاتِهِ.[3]
وقدْ تَعَرَّفَ سُبحانَهُ وتعالَى إلَى عِبادِهِ بصِفاتِهِ، وعَجائبِ مَخلوقاتِهِ، وكُلُّها تُعَرِّفُ وتَدُلُّ علَى كَمالِهِ، وأنَّهُ هوَ الْمَعبودُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ في رُبوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ، وتَدُلُّ علَى إثباتِ الصفاتِ علَى ما يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ، إثباتًا بلا تَمثيلٍ، وتَنزيهًا بلا تَعطيلٍ؛ وهذا هوَ الذي دَلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ والسنَّةِ، وعليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ وأَئِمَّتُها، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ، واقْتَفَى آثَارَهم علَى الإِسلامِ والإِيمانِ.
وتَأَمَّلْ ما في هذه الأحاديثِ الصحيحةِ منْ تَعظيمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِذِكْرِ صِفاتِ كَمالِهِ علَى ما يَليقُ بعَظَمَتِهِ وجَلالِهِ، وتَصديقِهِ اليهودَ فيما أَخْبَرُوا بهِ عن اللهِ من الصفاتِ التي تَدُلُّ علَى عَظَمَتِهِ،[4][5]
وتَأَمَّلْ ما فيها منْ إثباتِ عُلُوِّ اللهِ علَى عَرْشِهِ، ولم يَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شيءٍ منها: إنَّ ظاهرَها غيرُ مُرادٍ، أوْ أنَّها تَدُلُّ علَى تَشبيهِ صِفاتِ اللهِ بصِفاتِ خَلْقِهِ،[6]
فلوْ كان هذا حقًّا بَلَّغَهُ أَمِينُهُ أُمَّتَهُ، فإنَّ اللهَ أَكْمَلَ بهِ الدِّينَ، وأَتَمَّ بهِ النِّعْمَةَ، فبَلَّغَ البَلاغَ الْمُبينَ، صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهِ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُم إلَى يومِ الدِّينِ.
وتَلَقَّى الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عنْ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وَصَفَ بهِ رَبَّهُ منْ صِفاتِ كَمالِهِ، ونُعوتِ جَلالِهِ، فآمَنُوا بهِ، وآمَنُوا بكتابِ اللهِ ومَا تَضَمَّنَهُ منْ صِفاتِ رَبِّهم جَلَّ وعَلاَ، كما قالَ تعالَى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران:7]، وكذلكَ التابعونَ لهم بإحسانٍ وتابِعُوهُم، والأَئِمَّةُ من الْمُحَدِّثينَ والفُقَهاءِ، كلُّهم وَصَفَ اللهَ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، ووَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَجْحَدوا شيئًا من الصفاتِ، ولا قالَ أحدٌ منهم: إنَّ ظاهِرَها غيرُ مُرادٍ، ولا أنَّهُ يَلْزَمُ منْ إثباتِها التشبيهُ، بلْ أَنْكَرُوا علَى مَنْ قالَ ذلكَ غايَةَ الإنكارِ، فصَنَّفُوا في ردِّ هذه الشُّبُهاتِ الْمُصَنَّفَاتِ الكِبارَ المعروفةَ الموجودةَ بأَيْدِي أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.[7]
قالَ شيخُ الإِسلامِ أحمدُ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: وهذا كِتابُ اللهِ منْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وسُنَّةُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلامُ الصحابةِ والتابعينَ، وكلامُ سائرِ الأَئِمَّةِ، مملوءٌ بما هوَ نصٌّ أوْ ظاهِرٌ أنَّ اللهَ تعالَى فوقَ كلِّ شيءٍ، وأنَّهُ فوقَ العَرْشِ فوقَ السماواتِ مُسْتَوٍ علَى عَرْشِهِ، مثلُ قولِهِ تعالَى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10].
- وقولِهِ تعالَى: (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران:55].
- وقولِهِ تعالَى: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء:158].
- وقولِهِ تعالَى: (ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج:3،4].
- وقولِهِ تعالَى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) [السجدة:5].[8][9]
- وقولِهِ تعالَى: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل:50].
- وقولِهِ تعالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [البقرة:29].[10]
- وقولِهِ تعالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54].[11]
- وقولِهِ تعالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [يونس:3].
- فذَكَرَ التوحِيدَيْنِ في هذه الآيَةِ،[12]
وقولِهِ تعالَى: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الرعد:2].
- وقولِهِ تعالَى: (تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:4،5].[13]
- وقولِهِ تعالَى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان:58،59].[14]
- وقولِهِ تعالَى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة:4،5].
- وقولِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:4].[15][16]
- فذَكَرَ عُمومَ عِلْمِهِ، وعُمومَ قُدْرَتِهِ، وعُمومَ إحاطتِهِ، وعُمومَ رُؤْيَتِهِ، وقولِهِ: (أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [المُلك: 16 - 17].[17]
- وقولِهِ تعالَى: (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].[18]
- وقولِهِ تعالَى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجاثيَة: 2].
- وقولِهِ تعالَى: (وَقَالَ فَرْعَوْنُ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا) [غافر: 36 - 37]. انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.[19][20]
قلتُ: وقدْ ذَكَرَ الأئِمَّةُ رَحِمَهم اللهُ تعالَى فيما صَنَّفُوهُ في الردِّ علَى نُفاةِ الصفاتِ -من الْجَهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ والأشاعرةِ ونحوِهم- أقوالَ الصحابةِ والتابعينَ.
فمِنْ ذلكَ ما رواهُ الحافظُ الذهبيُّ في كتابِ (العُلُوِّ) وغيرِهِ بالأسانيدِ الصحيحةِ، عنْ أمِّ سَلَمَةَ زوجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّها قالَتْ في قولِهِ تعالَى: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قالتْ: الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكَيْفُ غيرُ مَعقولٍ، والإقرارُ بهِ إيمانٌ، والْجُحودُ بهِ كُفْرٌ. رواهُ ابنُ الْمُنْذِرِ واللالكائيُّ وغيرُهما، بأسانيدَ صِحاحٍ.
قالَ: وثَبَتَ عنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ قالَ - لَمَّا سُئِلَ رَبيعةُ بنُ أبي عبدِ الرحمنِ: كيفَ الاستواءُ؟
قالَ: الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكيْفُ غيرُ مَعقولٍ؛ ومن اللهِ الرسالةُ، وعلَى الرسولِ البَلاغُ؛ وعلينا التصديقُ.[21]
[22]وقالَ ابنُ وَهْبٍ: كُنَّا عندَ مالِكٍ، فدَخَلَ رجُلٌ فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيفَ استوَى؟
فأَطْرَقَ مالِكٌ وأَخَذَتْهُ الرُّحَضاءُ وقالَ: الرحمنُ علَى العرشِ استوَى، كما وَصَفَ نفسَهُ.
ولا يُقالُ: كيفَ؟
و(كيفَ) عنه مرفوعٌ، وأنت صاحبُ بِدعةٍ، أَخْرِجُوهُ. رواهُ البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، ورواهُ عنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى أيضًا، ولَفْظُهُ قالَ: الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ؛ والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدعةٌ.[23]
قالَ الذهبيُّ: فانْظُرْ إليهم كيفَ أَثْبَتُوا الاستواءَ للهِ، وأَخْبَرُوا أنَّهُ مَعلومٌ لا يَحتاجُ لفْظُهُ إلَى تفسيرٍ، ونَفَوْا عنه الكَيْفِيَّةَ.
قالَ البخاريُّ في (صحيحِهِ): قالَ مُجاهِدٌ: (استوَى) علا علَى العَرْشِ.
وقالَ إسحاقُ بن رَاهُويَهُ: سَمِعْتُ غيرَ واحدٍ من الْمُفَسِّرِينَ يقولُ: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: ارْتَفَعَ.
.
[24]قالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ الطبريُّ في قولِهِ تعالَى: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أيْ: علا وارْتَفَعَ.
وشواهدُهُ في أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم، فمِنْ ذلكَ قولُ عبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
شـَهـِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ وأنَّ الـنارَ مثْوَى الكافِرينـَا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماءِ طافٍ وفـوقَ العرشِ ربُّ العالَمِينَا
وتَحْمِلُهُ مَلائكةٌ شِدادٌ ملائِكةُ الإلـهِ مُسَوَّمِينَا[25]
وروَى الدارِمِيُّ، والحاكِمُ، والبيهقيُّ، بأَصَحِّ إسنادٍ إلَى عليِّ بنِ الحسَنِ بنِ شَقيقٍ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ الْمُبارَكِ يَقولُ: نَعْرِفُ رَبَّنَا بأنَّهُ فَوقَ سَبْعِ سَماواتِهِ، علَى العَرْشِ اسْتَوَى، بائنٌ منْ خَلْقِهِ، لا نَقولُ كما قالَتِ الْجَهْمِيَّةُ.[26]
[27]قالَ الدارِمِيُّ: حَدَّثَنَا الحسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ البَزَّارُ، حَدَّثَنَا عليُّ بنُ الْحَسَنِ بنِ شَقيقٍ، عن ابنِ الْمُبَارَكِ: قيلَ لهُ: كيفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟
قالَ: بأنَّهُ فوقَ السماءِ السابعةِ، علَى العَرْشِ، بائنٌ منْ خَلْقِهِ.[28]
وقدْ تَقَدَّمَ قولُ الأوزاعيِّ: كُنَّا -والتابعون مُتَوَافِرُونَ- نقولُ: إنَّ اللهَ تعالَى ذِكْرُهُ فوقَ عَرْشِهِ، ونُؤْمِنُ بما وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ.
وقالَ أبو عُمَرَ الطلمنكيُّ في كتابِ (الأصولِ): أَجْمَعَ المسلمونَ منْ أهلِ السُّنَّةِ علَى أنَّ اللهَ استوَى علَى عَرْشِهِ بذاتِهِ.
وقالَ في هذا الكتابِ أيضًا: أَجْمَعَ أهلُ السُّنَّةِ علَى أنَّ اللهِ تعالَى استوَى علَى عَرْشِهِ علَى الحقيقةِ لا علَى الْمَجَازِ؛ ثمَّ ساقَ بسَنَدِهِ عنْ مالِكٍ قولَهُ: اللهُ في السماءِ، وعِلْمُهُ في كلِّ مكانٍ.[29]
ثمَّ قالَ في هذا الكتابِ: أَجْمَعَ المسلمونَ منْ أَهْلِ السُّنَّةِ أنَّ معنَى قولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ونحوَ ذلكَ من القرآنِ: أنَّ ذلكَ عِلْمُهُ، وأنَّ اللهَ فوقَ السماواتِ بذَاتِهِ مُسْتَوٍ علَى عَرْشِهِ كيفَ شاءَ. وهذا لَفْظُهُ في كتابِهِ.[30]
هذا كثيرٌ في كلامِ الصحابةِ والتابعينَ والأَئِمَّةِ، أَثْبَتُوا ما أَثْبَتَهُ اللهُ في كِتابِهِ وعلَى لِسانِ رسولِهِ، علَى الحقيقةِ علَى ما يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ، ونَفَوْا عنه مُشابَهَةَ المخلوقينَ، ولم يُمَثِّلُوا ولم يُكَيِّفُوا؛ علَى ما ذَكَرْنَا ذلكَ عنهم في هذا البابِ.
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ: وأَوَّلُ وَقْتٍ سُمِعَتْ مَقالَةُ مَنْ أَنْكَرَ أنَّ اللهَ تعالَى فوقَ العَرْشِ: هوَ الْجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، وكذلكَ أَنْكَرَ جَميعَ الصِّفاتِ، وقَتَلَهُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ الْقَسْرِيُّ، وقِصَّتُهُ مَشهورةٌ؛
[31]وَأَخَذَ عنه هذه الْمَقالَةَ الْجَهْمُ بنُ صَفوانَ إمامُ الْجَهْمِيَّةِ، فأَظْهَرَها واحتَجَّ لها بالشُّبُهاتِ، وكان ذلكَ في آخِرِ عصرِ التابعينَ، فأَنْكَرَ مَقالتَهُ أَئِمَّةُ ذلكَ العَصْرِ مثلُ: الأوزاعيِّ، وأبي حَنيفةَ، ومالِكٍ، والليثِ بنِ سعدٍ، والثوريِّ، وحَمَّادِ بنِ زَيدٍ، وحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، وابنِ الْمُبارَكِ، ومَنْ بعدَهم منْ أَئِمَّةِ الْهُدَى.
فقالَ الأوزاعيُّ إمامُ أهلِ الشامِ علَى رَأْسِ الخمسينَ ومائةٍ عندَ ظُهورِ هذه الْمَقالةِ: ما أَخْبَرَنا عبدُ الواسعِ الأَبْهَرِيُّ بسَنَدِهِ إلَى أبي بكرٍ البيهقيِّ: أنبأنا أبو عبدِ اللهِ الحافظُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ الجَوْهَرِيُّ ببَغْدَادَ، حَدَّثَنا إبراهيمُ بنُ الهيثمِ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ كثيرٍ الْمِصِّيصِيُّ، سَمِعْتُ الأوزاعيَّ يقولُ: كُنَّا -والتابعونَ مُتَوَافِرُونَ- نقولُ: إنَّ اللهَ فوقَ عَرْشِهِ، ونُؤْمِنُ بما وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ منْ صِفاتِهِ، أَخْرَجَهُ البَيهقيُّ في الصفاتِ، ورُواتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقاتٌ.
وقالَ الإِمامُ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: للهِ أسماءٌ وصِفاتٌ لا يَسَعُ أحدًا رَدُّها، ومَنْ خَالَفَ بعدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عليهِ كَفَرَ؛[32]
وأَمَّا قَبلَ قِيامِ الْحُجَّةِ فإنَّهُ يُعْذَرُ بالجهلِ،[33]
ونُثْبِتُ هذه الصفاتِ ونَنْفِي عنه التشبيهَ، كما نَفَى عنْ نفسِهِ فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) انتهَى منْ (فَتْحِ الباري).
قولُهُ: وعنِ الْعَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ: ساقَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مُخْتَصرًا، والذي في (سُنَنِ أبي دَاوُدَ): عَنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ قالَ: كُنتُ في البَطْحاءِ في عِصابَةٍ فيهِم رسولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ فنَظَر إِليها فقالَ: "ما تُسَمُّونَ هِذِهِ؟".
قالوا: السَّحابَ.
قالَ: "وَالْمُزْنَ؟".
قالوا: والْمُزنَ.
قالَ: "وَالْعَنَانَ؟".
قالوا: والعَنانَ.
- قالَ أبو دَاوُدَ: لَم أُتقِنِ العَنانَ جَيِّدًا-.
قالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟".
قالوا: لا نَدْرِي.
قالَ: "إِنَّ بُعْدَ مَا بَينَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً،[34]
ثُمَّ السَّماءُ الَّتِي فَوْقَهَا كَذلِكَ، حَتَى عَدَّدَ سَبْعَ سَمَاواتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسفَلِهِ وَأَعَلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ، بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ.
ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ العَرْشُ بَيْنَ أسفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ".[35]
وأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَه، وقالَ التِّرمذيُّ: حَسَنٌ غَريبٌ.
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ: رواهُ أبو دَاوُدَ بإسنادٍ حَسَنٍ.
وروَى التِّرْمِذِيُّ نحوَهُ منْ حديثِ أبي هُريرةَ وفيهِ: "بُعْدُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ" ولا مُنافَاةَ بينَهما؛ لأنَّ تَقديرَ ذلكَ بِخَمْسِمائةِ عامٍ هوَ علَى سَيْرِ القافِلَةِ مَثَلاً،[36]
ونَيِّفٌ وسبعون سَنَةً علَى سَيْرِ البَريدِ؛ لأنَّهُ يَصِحُّ أن يُقالَ: بينَنا وبينَ مِصْرَ عُشرونَ يومًا باعتبارِ سَيْرِ العادةِ؛ وثلاثةُ أيَّامٍ باعتبارِ سَيْرِ البريدِ.
[37]وروَى شَريكٌ بعضَ هذا الحديثِ عنْ سِمَاكٍ فوَقَفَهُ[38]
هذا آخِرُ كلامِهِ.
قلتُ: فيهِ التصريحُ بأنَّ اللهَ فوقَ عَرْشِهِ، كما تَقَدَّمَ في الآياتِ الْمُحكماتِ، والأحاديثِ الصحيحةِ، وفي كلامِ السلَفِ من الصحابةِ والتابعينَ وتابِعِيهِم.[39]
وهذا الحديثُ لهُ شَواهدُ في (الصحيحينِ) وغيرِهما، ولا عِبْرَةَ بقَولِ مَنْ ضَعَّفَهُ لكثرةِ شواهِدِهِ التي يَستحيلُ دَفْعُها وصَرْفُها عنْ ظَواهِرِها.[40]
وهذا الحديثُ كأمثالِهِ يَدُلُّ علَى عَظَمَةِ اللهِ وكَمالِهِ وعِظَمِ مَخلوقاتِهِ، وأنَّهُ الْمُتَّصِفُ بصِفاتِ الكَمالِ التي وَصَفَ بها نَفْسَهُ في كِتابِهِ، ووَصَفَهُ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،[41]
وعلَى كَمالِ قُدْرَتِهِ، وأنَّهُ هوَ الْمَعبودُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ دُونَ كلِّ ما سِوَاهُ.
وباللهِ التوفيقُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ العليِّ العظيمِ.
وحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى اللهُ علَى سيِّدِ المُرْسَلِينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجمعينَ.
تمّ كتاب فتح المجيد بعون الملك الحميد.
[1] إصبع فيها عشر لغات, إصبع يعني مثلثة الباء والهمزة, ثلاثة في ثلاثة تسعة, والعاشر أصبوع.
يعني الهمزة مثلثة: إصبع وأُصْبع وأَصْبع،
والباء مثلثة: إصبَع وأصبُع وإصبِع.
فتقول إذا فتحت الهمزة: أَصبَع وأَصبُع وأَصبِِع، وإذا كسرت الهمزة: إصبِع وإصبُع وإصبَع، وإذا ضممت الهمزة: أُصبُع وأُصبِع وأُصبَع, والعاشرة أصبوع، عشر لغات.
[2] متفق عليه في الصحيحين, كيف يكون من أخبار بني إسرائيل؟! ليس الحجة في إقبال الحبر, الحجة في أن النبي صدقه, ضحك تصديقًا للحبر وقرأ الآية متفق عليه, وأخبار بني إسرائيل التي ما يرويها أصحاب السنن غير مسندة, يروي مثلاً بعض الصحابة وبعض التابعين عن بني إسرائيل ما يكون مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
[3] لاشك أنها تدل على عظم قدرة الله وعظم مخلوقاته، وعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق, وأنه على كل شيء قدير (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون).
[4] وفيه: قبول الحق ممن جاء به ولو كان كافرًا, فهذا اليهودي جاء بالحق وصدقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَبِل أيضًا الحق من الشيطان, الذي قال لأبي هريرة: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك
[5] شيطان حتى تصبح, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد صدقك وهو كذوب!" صدّقه, فالحق يقبل ممن جاء به, إذا جاء الحق ولو من كافر نقبل به، أو شيطان الحق يقبل.
[6] يعني كما يقول أهل البدع كما يقول المعطلة, يقولون: ظاهر النصوص غير مراد, الاستواء يقولون: الآية فيها إثبات الاستواء, فالظاهر غير مراد, والمراد المعنى المجازي, وهو: الاستيلاء, كذلك أيضًا الضحك يقولون مجاز، والعجب مجاز، وهذا باطل.
والمشبهة قالوا إن هذه الصفات تشبه صفات المخلوقين, أن صفات الله كصفات المخلوقين, وكل القولين باطل, فالمعطلة عطلوا الربط بين أسمائه وصفاته, وهؤلاء شبهوا بالمعدومات.
عطلوا ونفي الأسماء والصفات ينتج العدم, الذي ليس له اسم وصفة لا وجود له, وهؤلاء مثلوا وشبهوا، جعلوا صفات الخالق كصفات المخلوقين, فشبهوا الله صاروا مشبهة ممثلة, والله تعالى قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير).
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ردٌّ على الممثلة, (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير) ردٌّ على المعطلة.
[7] والمؤلفات كثيرة من ذلك: الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية, والتدمرية, والواسطية، والطحاوية، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي عبد الله، وسنن أبي بكر المروزي، والسنن لابن أبي شيبة، وسنن للبربهاري.. وغيرها، كتب كثيرة, قد صنف العلماء مالا تحصى, وقد ساق العلامة العباس ابن تيمية في رسالة الحموية جملة كبيرة من المؤلفات لأهل العلم في الصفات والرد على المنكرين.
[8] والعروج يكون من أسفل إلى أعلى على وجه الدلالة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض) والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، دلّ على أن الله في العلو.
ونصوص العلو تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل كما قال العلامة ابن القيم.
ومنها: نصوص الاستواء سبع مواضع, مثل (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) والاستواء علو.
ومنها: العلو (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ذكر العلو قواعد منها, كل يدلّ على علو.
[9] ومنها: نصوص الفوقية (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم).
ومنها: نصوص العروج (تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ) والعروج: يكون من أسفل إلى أعلى.
ومنها: نصوص الصعود (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه) والصعود: يكون من أسفل إلى أعلى.
ومنها: (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) والنزول: يكون من أعلى إلى أسفل، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك).. وهكذا.
ومنها: قول الجارية أين الله؟ قالت: في السماء, ولا حصر للأدلة كثيرة.
[10] الشاهد (ثم استوى على العرش) والاستواء علو خاص, وقوله: (أأمنتم من في السماء) وفي للظرفية, والسماء العلو, وإذا أريد بالسماء الطباق المبنية كانت في بمعنى علا, (ثم استوى إلى السماء) بمعنى قصد.
[11] قال في سبعة مواضع الاستواء كلها أتت بأداة على التي تدل على العلو والاستواء.
[12] ذكر توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية.
[13] والنزول يكون من أعلى إلى أسفل فدل على أن الله في العلو.
[14] الشاهد: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الاستواء هو العلو.
[15] (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فقال: (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا يلزم منها المحاذاة، ولا يلزم منها المحاذاة عن اليمين وعن الشمال, بل هي تقتضي المصاحبة، بخلاف أهل البدع فإنهم ضربوا النصوص بعضها إلى بعض، وجعلوا نصوص المعية تبطل نصوص الفوقية والعلو, ونصوص العلو والفوقية تنافي نصوص المعية, فأبطلوا نصوص المعية وقالوا أن الله مختلط بالمخلوقات، وإنه في كل مكان! وعلى ذلك أبطلوا نصوص العلو التي تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل -نسأل
[16] فقالوا بالحلول وأنه مختلط بالمخلوقات وأنكروا العلو -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-.
[17] الشاهد (مَن فِي السَّمَاءِ) والسماء: المراد بها العلو.
[18] والنزول يكون من أعلى إلى أسفل, فدل أن الله في العلو.
[19] المؤلف ركز على توحيد الأسماء والصفات في هذا الباب, والشاهد من الآية ووجه الدلالة من الآية: أن فرعون طلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً ليطلع إلى إله موسى ليكذب موسى لما ادّعاه أن ربه في العلو.
بعض أهل البدع المحرفين أوّلوا الآية حرفوا الآية على ما يوافق أهواءهم, فقالوا أن فرعون مشبه فرعون طلب العلو, فدل على أنه مشبه فمن أثبت العلو فهو مشبه مثل فرعون, فمن أثبت
[20] العلو فقد شابه فرعون, انظر كيف التحريف؟! فرعون لما أفهمه موسى أن الله في العلو أراد أن يكذبه فطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً ليكذب موسى لما ادّعى أن الله في العلو.
[21] وهذا مروي عن ثلاثة مروي عن أم سلمة وعن ربيعة شيخ الإمام مالك, وعن مالك, وهو ثابت عن مالك لما جاءه سائل فسأله, فقال: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فسكت مال وأطرق حتى علته الرحضا- أي العرق- ثم قال: الاستواء معلوم: يعني معلوم معناه في اللغة العربية, وهو: الاستقرار والعلو والصعود والارتفاع.
والكيف مجهول: يعني كيفية استواء الرب مجهول لنا.
والإيمان به واجب: والإيمان بالاستواء واجب؛ لأنه جاء في الكتاب والسنة.
والسؤال عن الكيفية سؤال بدعة, ثم قال: ولا أراك إلا رجل سوء, وأمر به أن يخرج من مجلسه, هكذا السلف وهكذا الأئمة، أخرجوه, قال: هذا رجل سوء يسأل عن الكيفية.
وروي هذا عن ربيعة أيضاً وروي بلفظ آخر: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
[22] والعلماء تلقوا هذا الكلام من الإمام مالك بالقبول, والرواية عن أم سلمة فيها ضعف, لكن العلماء تلقوها عن الإمام مالك بالقبول, وصاروا يستدلون به, ويقال هذا في جميع على الصفات, إذا سأل إنسان سأل عن العجب (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون), يقال: العجب معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
سأل عن العلم يقال: العلم معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة, ويقال هذا في جميع الصفات.
[23] المعنى واحد، الاستواء غير مجهول يعني معلوم معناه, والكيف غير معقول يعني غير معلوم, الاستواء غير مجهول بل هو معلوم معناه في اللغة العربية, وهو: الاستقرار والعلو والصعود والارتفاع, والكيف غير معقول يعني غير معقول معناه لا يُعلم الكيفية.
[24] علا وارتفع بمعنى واحد
[25] كلام جميل من عبد الله -رضي الله عنه-, جاء قصة في هذا أن عبد الله بن رواحة تسرى جارية, فرأته زوجته يقع عليها فغارت, فأنكر قالت كيف أمامي؟ قال: أبداً ليس بصحيح, فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن لأن الجنب لا يقرأ القرآن, فقرأ هذه الأبيات
شـَهـِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ وأنَّ الـنارَ مثْوَى الكافِرينـَا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماءِ طافٍ وفـوقَ العرشِ ربُّ العالَمِينَا
وتَحْمِلُهُ مَلائكةٌ شِدادٌ ملائِكةُ الإلـهِ مُسَوَّمِينَا
وكانت لا تقرأ القرآن فظنت أنه قول القرآن, فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري.
[26] وهذا مشهور عن ابن المبارك قال: نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على العرش استوى بائن من خلقه, قال بعض السلف: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية لخبثها نسأل الله العافية, عبد الله بن المبارك هذا من العلماء الربانيين الأفذاذ.
[27] قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: إمام ثقة ثبت عالم عابد زاهد جواد, صفات عظيمة يتصف بالعبادة والزهد والجود والكرم والثقة, جمع علم وعبادة وزهد وكرم، مات سنة 181هـ بعد وفاة الإمام مالك بسنتين، وفاة الإمام مالك سنة 179هـ، انظر إلى التقريب.
قال ابن المبارك المروزي مولى بني حنظلة: ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، وجمعت فيه خصال أخرى
ثقة في دينه وحفظه, ثانيًا ثبت, فقيه هذا في علمه, عالم, جواد, مجاهد, كريم, هو الذي كتب للفضيل بن عياض الأبيات.
هذه صفات عظيمة اجتمعت فيه وجمعت خيري الدنيا والآخرة, ثقة ثبت إمام عالم مجاهد فقيه جواد عابد -رحمه الله-.
قال لما سُئل: كيف نعرف ربنا؟ قال: نعرف ربنا بأنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه, لا نقول كما قالت الجهمية أنه في كل مكان -نعوذ بالله-.
[28] المراد: منفصل عن المخلوقات, والمقصود من هذا الرد على الجهمية الذين يقولون أنه في كل مكان -نعوذ بالله-.
[29] قوله: بذاته الرد على الجهمية, الذين يثبتون نوعين من العلو وينفون النوع الثالث, يقولون أن الله له علو قهر والعظمة والسلطان, وله علو القدر والشأن, ولكن ليس له علو الذات قالوا ذاته في كل مكان, أنكروا علو الذات وأثبتوا نوعين من العلو, وهو علو القهر والسلطان وعلو القدر والعظمة, فقالوا: أنه في كل مكان ذاته، إنما العلو إنما هو في القهر والسلطان والقدر.
أن الأنواع الثلاثة كلها ثابتة كما قال ابن القيم - رحمه الله-:
والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران
فوقية الذات، وفوقية القدر والشأن، وفوقية القهر والسلطان.
[30] وهو معكم يعني بعلمه، الرد على الجهمية الذين قالوا معكم بذاته, أي: مختلط بالمخلوقات, وذلك أن الله تعالى افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم, يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فافتتح الآية بعلم واختتمها بعلم, فدل على أنه معهم بعلمه.
[31] هو مؤسس عقيدة نفي الصفات الجعد بن درهم، وأنكر صفتين: صفة الخلة وصفة الكلام, قال: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا, ولكن هاتين الصفتين ترجع إليهما جميع الصفات؛ لأن إنكار الكلام يترتب عليه إنكار النبوات والرسالات, وكذلك الخلة قطع الصلة بين الرب وبين خلقه؛ ولهذا قتل خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق الواسط, وكان بفتوى من علماء زمانه وكان أكثرهم من التابعين، قتله يوم عيد الأضحى, جاء به مقيّدًا وجعله في أصل المنبر في يوم عيد الأضحى, وصلى, ثم خطب وقال في آخر الخطبة: ضحوا تقبل الله ضحاياكم, فإني مضح بالجعد بن درهم, فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً, ولم يكلم موسى تكليماً, ثم نزل وذبحه بالسكين في أصل المنبر, وشكره العلماء وأثنوا عليه ومن ذلك ابن القيم في نونيته:
ولذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال ليس إبراهيم خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ولا شك أن هذه الأضحية تفوق في الأجر كثير من الضحايا، لكنه لم يمت حتى تتلمذ على يديه الجهم بن صفوان, فتوسع الجهم بن صفوان في عقيدة نفي الصفات ونشرها ودافع عنها وناظرها حتى نسبت عقيدة نفي الصفات إلى العقيدة الجهمية, وإلا فالأصل هي مثبتة للجعد فيقال الجعدية, لكن الجعد مات قتل قبل أن تنتشر هذه المقالة, نشرها الجهم وتوسع فيها فنسبت إليه وقد قيض الله من يقتله, قتله سالم بن أحمد أمير خراسان.
[32] هذا كلام عظيم للإمام الشافعي، من خالف الأسماء والصفات بعد ثبوت الحجة كفر؛ لأنه مكذب لله وجحد, ومن كذب الله كفر.
[33] حتى يعلم؛ لأن من شرط التكليف العلم أن يعلم الإنسان، فإذا علم كُلف بعد ذلك.
[34] عندنا في الحديث الذي ساقه المؤلف خمسمائة عام, والمؤلف اختصرها.
[35] هذا فيه زيادة الأوعال، يعني خالف الأحاديث الأخرى بزيادة ذكر الأوعال, واستُنكر في هذا الحديث الأوعال.
[36] سير القافلة وسير الأقدام ودبيب الأحمال.
[37] البريد سريع كما سبق, يصلون محطات، يصل على فرس يحمل الخطابات والرسائل, حتى يصل المحطة ثم يستريح الفرس, ويأخذ فرس آخر جديد, وقد يكون ليأخذه رسول آخر إلى بلد آخر, ثم يصل محطة كذلك، ويكون سريع يجري جريًا حتى يصل المحطة, ثم يستريح هو, ثم يؤخذ فرس جديد, وقد يؤخذ رسول آخر حتى المحطة الثانية, فيقطع مسافة عشرين يومًا أو شهر في ثلاثة أيام, هذا والمواصلات الحديثة فوق ما يدور في الخيال, المواصلات الآن الاتصالات الهاتفية والتلكس على الهواء مباشرة في الحال.
[38] شريك فيه بعض الضعف وسماك فيه بعض الضعف.
[39] نعم والشاهد إثبات العرش, قوله: ولله فوق العرش, أما حديث الأوعال هذا فيه بعض.
[40] يعني إثبات العلو في أحاديث الصحيحين وفي الآيات كلها تعضده, أما المستنكر فهو ما فيه من الأوعال.
[41] نعم وهذا هو الشاهد من الترجمة.