شعار الموقع

شرح كتاب القاعدة المراكشية_1

00:00
00:00
تحميل
216

[القاعدة المراكشية](1)

سئل شيخ الإسلام، فريد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمة الله عليه، عن رجلين تباحثا في مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش. فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا ولا البحث عنه؛ بل يكره له كما قال الإمام مالك للسائل: (وما أراك إلا رجل سوء)(2). وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن الله تعالى واحد في ملكه، وهو رب كل شيء ومليكه وخالقه؛ بل من تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي . فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات ويعرفونه، وما معنى التجسيم والحشو؟ أفتونا وابسطوا القول بسطا شافيا يزيل الشبهات، مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى[1] .

___________________________

[1] هذا هو نص السؤال الوارد من بلدة مراكش، وملخصه أن رجلان تباحثا في مسألة إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه؛ كالعلم والقدرة والبصر والكلام والرؤية والعلو والعظمة والعزة والكبرياء والضحك والنزول والسمع والبصر... إلخ.

فهل تثبت هذه الصفات لله عز وجل؟ وهل يثبت علوه على عرشه أو لا يثبت؟ فقال أحدهما: إنه لا ينبغي لنا أن نبحث في هذه المسائل، بل يكره البحث فيها، ومن أثبتها فهو مجسم حشوي، بل يكفي الشخص أن يثبت ربوبية الله ووحدانيته، وأنه رب كل شيء ومليكه وخالقه، ولا يقحم نفسه في البحث عن ذلك، وأن من تكلم في الصفات فهو مجسم _ أي أنه أثبت لله جسماً _، فجعله كسائر المخلوقات التي لها أجسام .

 وقال الآخر: بل يجب على الإنسان أن يثبت الصفات لله عز وجل، ويثبت علوه على عرشه؛ وذلك أن الله قد أثبتها لنفسه. 

فأيهما المصيب وأيهما المخطئ؟ إذا كان الأول مخطئا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات، والعلو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات، وما معنى التجسيم، وما معنى الحشو؟

وطلبا من الشيخ تبيين ذلك، وأن يبسط لهم القول الشافي في هذه المسألة، كي يزيل عنهم الشبه الواردة عليهم في ذلك .  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فأجاب المشار إليه قائلاً:

الحمد لله رب العالمين[1]، يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي r[2] .

__________________________

[1]افتتح المؤلف جوابه بقوله: (الحمد لله رب العالمين)، وهذا من عادته رحمه الله؛ فكثيراً ما يفتتح أجوبته بقوله: الحمد لله رب العالمين .

[2] يعني: وما جاء في القرآن الكريم . فيجب على الخلق الإقرار بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه r، ومما جاء في الكتاب والسنة إثبات الأسماء والصفات لله تعالى، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى: ﭽ ﮝ  ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ      ﮣﮤ  ﮥ  ﮦ   ﮧﮨ   ﮩ  ﮪ  ﮫ  ﭼ [الحشر:22] ففي هذه الآية إثبات اسم (الله)، وهو أعرف المعارف لا يسمى به غيره، وأصله: الإله، والله: هو المألوه الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيما وخشية ورغبة ورهبة، وفيها إثبات اسم (الرحمن)، واسم (الرحيم) .

وكل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة مشتقة من ذلك الاسم، فـ(الله) مشتمل على صفة الألوهية، و(الرحمن) مشتمل على صفة الرحمة، و(العليم) مشتمل على صفة العلم، و(القدير) مشتمل على صفة القدرة، و(الحكيم) مشتمل على صفة الحكمة، و(العزيز) مشتمل على صفة العزة، وهكذا .

قال تعالى:  ﭽ ﮝ  ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ      ﮣﮤ  ﮥ  ﮦ   ﮧﮨ   ﮩ  ﮪ  ﮫ  ﮬ  ﮭ  ﮮ  ﮯ   ﮰ   ﮱ    ﯓ     ﯔ    ﯕ  ﯖ  ﯗ  ﯘ  ﯙ  ﯚ       ﯛ  ﯜﯝ  ﯞ  ﯟ  ﯠ  ﯡﭼ [الحشر:22-23] ثمانية أسماء، وفي الآية الأولى ثلاثة أسماء: ﭽ ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ   ﯧﯨ  ﯩ   ﯪ   ﯫﯬ   ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ   ﯲﯳ  ﯴ      ﯵ       ﯶ   ﭼ [الحشر:24]خمسة أسماء، وقال عن نفسه: ﭽ ﭬ     ﭭ  ﭮ    ﭼ [التحريم:2]، ﭽ ﭤ       ﭥ       ﭦ    ﭼ [الملك:2]، ﭽ ﭥ     ﭦ  ﭧ  ﭼ [الشورى: 22].                                                            =

 

فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل[1] ؛ فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي r، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله[2].

__________________

=وكذلك ما أخبر به النبي r عن ربه، مثل قوله: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر)(1) فنثبت صفة النزول .

وقوله e: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق)(2) كل هذه أسماء وردت في السنة

إذاً يجب الإيمان والإقرار بما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات .

إذاً الله تعالى هو الذي سمى نفسه وهو الذي وصف نفسه، فنحن نؤمن بما سمى الله به نفسه وبما وصف به نفسه،

[1] جملة فيما لم يفصل، وتفصيلا فيما فصل، جملة أن نثبت كما قال سبحانه وتعالى: ﭽﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ   ﭼﭼ [الروم:27] أي: له الوصف الكامل هذا جملة .

والتفصيل وصف نفسه بأنه عليم بأنه رحيم بأنه سميع بأنه بصير .

[2] إذا أنكر الشخص ما جاء به النبي e فإنه لا يكون مؤمناً، وذلك أن الإقرار والتسليم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبره عن الله، وقد أخبرنا أن الله أنزل عليه القرآن وأنزل عليه السنة، والسنة وحي ثاني، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)(3) .

فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة؛ إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال الله تعالى: ﭽﮆ   ﮇ  ﮈ  ﮉ       ﮊ     ﮋ  ﮌ  ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ   ﮒ  ﮓ ﭼ [1] [الحاقة: 44-46]  .

____________________

[1] أخبرنا الله جل وعلا أن النبي e لو تقول عليه شيئاً لم يقله، أي لو كذب على الله، لعاجله الله بالعقوبة، ولكنه معصوم من الكذب e، و(لو) حرف امتناع لامتناع، وهذا شرط تقديري والشرط التقديري لا يكون، ولكنه يقدر لبيان عظم الأشياء، المقدر (تقول) أي: لو كذب على الله لعاجله الله بالعقوبة، ولكنه معصوم عليه الصلاة والسلام.

 وهذا كقوله تعالى: ﭽ ﯗ      ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﭼ [الزمر:65]الرسول e معصوم عن الشرك، لكن هذا شرط تقديري لبيان عظم شأن الشرك .

وقوله تعالى: ﭽ ﮐ  ﮑ   ﮒ  ﮓ       ﭼ [الحاقة:46] الوتين هو عرق متصل بالقلب، إذا قطع مات الإنسان لساعته، والمعنى: لو كذب لعوجل بالعقوبة ولا يمهل، ولكنه معصوم .

 

 

 

 

 

 

 

 

وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى تقريره، وهو الإقرار بما جاء به النبي e، وهو ما جاء به القرآن والسنة، كما قال الله تعالى: ﭽﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ  ﯬ  ﯭ      ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲ  ﯳ      ﯴ  ﯵ  ﯶ          ﯷ  ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻﭼ [2] [آل عمران: 164]، وقال تعالى: ﭽﯗ  ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﯛ   ﯜ  ﯝ  ﯞ  ﯟ  ﯠ  ﯡ  ﯢﭼ[3] [البقرة: 151].

___________________________   

[1] العلم الضروري: هو العلم الذي يضطر الإنسان إلى إثباته وعدم إنكاره بدون بحث وتأمل واستدلال، فيقول رحمه الله أن خلاصة الكلام في هذا الباب:  أن مما علم  من دين الإسلام بالاضطرار علماً ضرورياً لا يمكن دفعه وإنكاره، ولا يحتاج إلى تقرير وبيان، أنه لا يتم إيمان العبد حتى يتم التصديق والإقرار بما جاء في الكتاب والسنة، فمن لم يؤمن بما فيهما فليس بمؤمن، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمداً رسول الله. فمن لم يصدق الله في أخباره ومن لم يصدق الرسول في أخباره فإنه لم يحقق الشهادتين، فلا يكون الشخص محققاً لهما حتى يصدق ويقر بما جاء في كتاب الله من الأخبار ومن ذلك ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات، وبما أخبر به من أمور الغيب الماضية والمستقبلة، وبما جاء في سنة رسول الله e مما أخبر به عنه ربه جل وعلا، وأن تمتثل أوامره وأن تجتنب نواهيه .

ثم أورد المؤلف بعد هذا البيان عدة أدلة تدل على هذا الأصل .

[2] أخبر الله بأن هذا منة من الله بها على المؤمنين، وقوله: ﭽ    ﯲ  ﯳ      ﯴﭼ أي السنة .

[3] والحكمة هي السنة .

 

 

وقال تعالى: ﭽﭮ   ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ   ﭸ  ﭹ ﭼ[1] [البقرة: 231]، وقال تعالى: ﭽﮢ  ﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ       ﮧ  ﮨ  ﮩﭼ[2] [النساء: 64] وقال تعالى: ﭽﯜ  ﯝ  ﯞ   ﯟ      ﯠ  ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ    ﯥ  ﯦ  ﯧ      ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ   ﯬ  ﯭ  ﯮﭼ[3] [النساء: 65]، وقال تعالى: ﭽ ﯵ  ﯶ  ﯷ  ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ   ﯽ  ﯾ ﰀ  ﰁ   ﰂ  ﰃ  ﰄ  ﰅ       ﰆ  ﰇ  ﭼ [4] [النساء: 59] .

__________________

[1] الكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة .

[2] ومن طاعته  تصديقه في أخباره، فالذي لا يصدق أخباره ما أطاعه .

[3] نفى الله الإيمان عن الشخص حتى يحكم الرسول في موارد النزاع، ثم لا يكفي أن يحكمه فقط؛ بل لا بد أن لا يكون في صدره حرج من قضاء الرسول e ومن حكمه، ولا بد أن يسلم ويطمئن طمأنينة كاملة به .

[4] هذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وأن المسائل المتنازع فيها ترد إلى الله وإلى الرسول ترد إلى الله في كتابه، وإلى الرسول في حياته، وإلى سنته بعد مماته.

 

 

 

 

 

 

 

ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين وعمن اتبعهم بإحسان؛ كما قال تعالى: ﭽ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ   ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭼ [1] [التوبة:100]، ومما جاء به الرسول : إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: ﭽ ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ ﭼ [2] [المائدة:3].

__________________________

[1] يقول المؤلف رحمه الله إن مما جاء به الرسول e مما يجب على المسلم أن يؤمن به ويصدق فيه هو رضاه عن السابقين الأولين ومن اتبعهم بإحسان، الرسول e رضي عن السابقين الأولين من الصحابة ، كما قال الله تعالى: ﭽ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ   ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭼ، فيجب الترضي عن السابقين الأولين وهم الصحابة رضي الله عنهم، فمن لم يترضى عنهم أو سبهم أو شتمهم فإنه لم يؤمن بما جاء به الرسول e على الحقيقة، وهو مشاقٌ لله ولرسوله،كما قال تعالى: ﭽﭮ   ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ   ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿﮀ  ﮁ   ﮂﭼ [النساء:115] .   

[2] و مما جاء به الرسول إخباره بأن الدين كاملٌ لا يحتاج إلى زيادة ولا يعتريه نقصان، كما قال سبحانه: ﭽ ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ ﭼ، فمن أراد أن يزيد على ما جاء في الكتاب والسنة ويأتي بشيء من عند نفسه فقد شاق الله ورسوله، وخالف ما جاء عن الله ورسوله e، ولم يؤمن بما جاء به الرسول e؛ لأن الدين كامل .

 

 

 

 

ومما جاء به الرسول أمر الله له بالبلاغ المبين، كما قال تعالى : ﭽ ﭥ  ﭦ  ﭧ     ﭨ  ﭩ   ﭪ  ﭼ [النور:54]، وقال تعالى: ﭽ ﭥ   ﭦ     ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ   ﭼ [النحل:44]، وقال تعالى: ﭽ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ  ﮁﮂ  ﮃ  ﮄ    ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈﮉ  ﮊ  ﮋ    ﮌ  ﮍﭼ [المائدة:67] [1] .

_________________________

[1] ومما جاء به الرسول e أمر الله له بالبلاغ المبين، وقد بلغ وأدى ما عنده من الوحي والرسالة، بلغ الناس في حجة الوداع وقال: (هل بلغت) قالوا: اللهم نعم، فرفع  إصبعه إلى السماء فقال: (اللهم اشهد، اللهم اشهد)(1)، فشهد له الصحابة رضوان الله عليهم بالبلاغ، ونحن أيضاً نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه من ربه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ﭽ ﭥ  ﭦ  ﭧ     ﭨ  ﭩ   ﭪ  ﭼ [النور:54] بلغ الرسالة، وقال تعالى: ﭽ ﭥ   ﭦ     ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ   ﭼ [النحل:44]، وقد بين عليه الصلاة والسلام. وقال تعالى: ﭽ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ  ﮁﭼ   وقد بلغ، قال: ﭽ ﮃ  ﮄ    ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈﮉ  ﮊ  ﮋ    ﮌ  ﮍﭼ ، ﭽﮃ  ﮄ    ﮅﭼ  هذا شرط تقديري، ولكنه عليه الصلاة والسلام بلغ.

 

 

 

 

 

ومعلوم أنه e قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئا[1] ؛ فإن كتمان ما أنزله الله تعالى يناقض مُوْجَبَ الرسالة [2]؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة. ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله تعالى وبين ما أنزل إليه من ربه وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين [3]؛ وإنما كمل بما بلغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده، كما قال e: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)(1)، وقال : (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)(2)

__________________________

 [1] من المعلوم لكل أحد أن الرسول بلغ ما أمره الله بتبليغه ولم يكتم من ذلك شيئا، ولو كان قد كتم شيئاً قد أمره الله بتبليغه فإن ذلك يناقض موجب الرسالة، والموجَب _ بفتح الجيم _ هو الثمرة والنتيجة، فمعنى قوله: (يناقض موجب الرسالة) أي: يناقض نتيجة وثمرة الرسالة، أما المُوْجِب _ بكسر الجيم _ فهو المقتضي والسبب . فلو كتم شيئاً فإن معنى ذلك أنه لم يبلغ الرسالة، بل كان تبليغه ناقصاً بسبب هذا الكتمان، ومعلوم عند جميع المسلمين أن الرسول e معصوم من الكذب والخطأ في تبليغه للشرع، كما هو معلوم عندهم بالاضطرار أيضا أنه معصوم من كتمان شيء منها، فهو معصوم منهما جميعا.

[2] فالكتمان يناقض موجب الرسالة، والله أرسله ليبلغ دينه وشرعه، فإذا كتم شيئاً من ذلك ما تمت الرسالة؛ لأنه لا يمكن أن يكون رسولاً ويكون كذاباً، وذلك أن الكذب ينافي ويناقض ثمرة الرسالة، إذاً الرسول e بلغ كما أمر ولم يكتم شيئا، ومن قال إنه كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه فقد كفر، وذلك لأنه خون الرسول e، وهذا ردة عن الإسلام والعياذ بالله؛ لأن الله قد شهد له بالبلاغ، وشهد له الصحابة بذلك .   

[3] كما في قوله تعالى: ﭽ ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ   ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅﭼ [المائدة:3] .

وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله e وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا أفادنا منه علما (1)[1] . إذا تبين هذا: فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله تعالى: من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه[2]، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه .

_________________________

[1] كل هذه النصوص تدل على أن الرسول e بلغ الرسالة ولم يكتم منها شيئاً، وذلك لأنه معصوم من الكذب، والمؤلف سيبني على هذا الكلام أنه إذا كان معصوماً عن الكذب والكتمان فهل يمكن أن يكون قد ترك الأسماء والصفات ولم يبينها؟ الجواب: أنه لا يمكن أن يترك بيانها للناس، وسيأتي ذلك مفصلاً في كلام المؤلف .

[2] أي إذا تبين أن الرسول e معصوم عن الكذب والنقصان في تبليغه للرسالة، فإنه من الواجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله تعالى من أسماءه وصفاته مما جاء في القرآن ومما جاء في السنة الثابتة عنه، فمما أخبر الله به عن نفسه قوله: ﭽ ﮨ  ﮩ  ﮪ   ﭼ إبراهيم: ٤، ﭽ ﭬ     ﭭ  ﭮ    ﭼ التحريم: ٢  ﭽ ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ   ﯧﯨ  ﯩ   ﯪ   ﯫﯬ   ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ   ﯲﯳ  ﯴ      ﯵ       ﯶ   ﭼ الحشر: ٢٤  ﭽ ﮋ    ﮌ  ﮍ  ﮎ  ﭼ النساء: ١٧ ﭽ ﰂ  ﰃ  ﰄ  ﰅ  ﭼ النساء: ١٣٤.

 

 

 

 

فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل. كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: (لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي e عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا)(1). وقد قام عبد الله بن عمر - وهو من أصاغر الصحابة - في تعلم البقرة ثماني سنين، لأجل الفهم والمعرفة [1].

______________________

[1] كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فإنهم صدقوا الرسول e فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته وآمنوا بذلك، ثم إنهم لم يقتصروا في تلقيهم عن النبي e على ألفاظ القرآن والسنة دون معانيها، بل حفظوا ألفاظ القرآن ومعانيه وتلقوا العلم والعمل جميعا، الرسول e ينزل عليه الوحي من كلام الله وكلام رسوله، ثم يفسره لهم ثم يعمل به وهم يعملون، ولهذا الصحابة لهم مزية تميزهم عن غيرهم لا كان ولا يكون مثلهم، اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل الرسالة، ولا يكون أحد مثلهم ولا أحد يسبقهم، أول شيء في الصحبة وفي السبق والجهاد والعلم والعمل وتبليغ الإسلام، فإن هؤلاء هم الذي تلقوا عن النبي e القرآن و السنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل جميعا، يحفظون الألفاظ، ويتعلمون المعاني، ثم يعملون، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وهو من التابعين: (لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي e عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا) تعلموا القرآن حروفه وألفاظه، وتعلموا ما فيه من العلم، ثم عملوا به.

[2] وإنما فعل ذلك رضي الله عنه لأجل أن يفهم معانيها، وذلك أن سورة البقرة من أطول سور القرآن، وتحتاج إلى وقت في فهمها وتدبرها، ففيها الحديث عن صفات المؤمنين والكفار والمنافقين، وصفات اليهود وأعمالهم الخبيثة مع أنبيائهم، وفيها أحكام الحج والصيام والجهاد، وأحكام الحيض، وأحكام الطلاق والنكاح و المداينة، أحكام كثيرة تحتاج إلى علم ومعرفة وعمل.

 

(1) قد طبعت هذه الرسالة أيضاً ضمن مجموع الفتاوى (5/153-194) .

(2)     انظر تخريجه ص:  98 .

(1)     حديث صحيح؛ أخرجه البخاري (1145) واللفظ له، ومسلم (758)، وأبو داود (1315)، والترمذي (446)، وابن ماجة (1366)، وأحمد في المسند (2/267، 282، 419)، وابن عاصم في السنة (492)، وابن حبان في صحيحه (920)، كلهم من طريق أبي هريرة t.

(2)     حديث صحيح؛ أخرجه أبو داود (3451) واللفظ له، والترمذي (1314)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (2200)، وأحمد في المسند (3/156، 286)، وابن حبان في صحيحه (4935)، كلهم من طريق أنس بن مالك t.

(3)     حديث صحيح؛ أخرجه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجة (12) في المقدمة، وأحمد في المسند (4/131)، واللفظ له، هذا جزء من حديث، والطبراني في الكبير (20/669)، وابن حبان في صحيحه (12)، والحاكم في المستدرك (1/109)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/332)، كلهم من طريق (المقدام بن معد يكرب t)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2643).   

(1)     حديث صحيح؛ أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679) واللفظ له، وأبو داود (1948)، وابن ماجة (233)، وأحمد في المسند (5/37، 45)، وفي الباب عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخرجه مسلم (1218)، وفيه: فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكُتها إلى الناس.

(1)     حديث صحيح؛ أخرجه ابن ماجة (43)، وأحمد في المسند، واللفظ له (4/126)، وابن أبي عاصم في السنة (33، 48، 49)، والطبراني في الكبير (18/619)، والحاكم في المستدرك (1/96)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4369)، كلهم من طريق العرباض بن سارية t.

(2)     حديث صحيح؛ أخرجه أحمد في المسند (5/153، 162)، والطبراني في الكبير (1647)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/270)، وذكره الهيثمي في المجمع (8/263، 264)، وقال: رواه أحمد، والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبدالله بن يزيد المقرئ وهو ثقة، وفي إسناد أحمد (من لم يسم)، كلهم من طريق أبو ذر الغفاري t، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1803)، وفي الباب عن ابن مسعود t، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/4)، والبغوي في شرح السنة (4113)، وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني أيضاً في الصحيحة (2866).

(1)     حديث صحيح؛ تقدم فيما قبله.

(1)     خبر حسن؛ أخرجه أحمد (5/410)، ولم يسم أحد، وأورده الدار قطني في العلل (3/60)، وذكر فيه عثمان بن عفان، عبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وقال الدار قطني: فسمى هؤلاء الثلاثة ولم يسمعهم سواه والأولى أشبه بالصواب، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة في المصنف (10/460، 461)، بسند الإمام أحمد، وابن سعد في الطبقات (6/172) من طريق حماد بن زيد، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1451، 1452) من طريق سفيان، وهمام بن يحيى كلهم عن عطاء بن السائب به، وذكره الهيثمي في المجمع (1/165)، ونسبه إلى الإمام أحمد وقال فيه عطاء بن السائب: (اختلط في آخر عمره).

       قلت: 1- فقد رواه سفيان الثوري، وحماد بن زيد عنه، هما ممن سمع منه قبل الاختلاط التهذيب (5393).

       2- وكلهم أيضاً لم يذكروا الصحابة الذين كانوا يقرئونهم القرآن، وجهالة الصحابة لا تضر.

3- وأبو عبدالرحمن السلمي من كبار التابعين، واسمه عبدالله بن حبيب.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد