وهذا معلوم من وجوه[1]: أحدها أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم لفظا ومعنى؛ بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد[1]، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك ؛ فإنه لا بد أن يكون راغبا في فهمه وتصور معانيه فكيف بمن قرءوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم الذي به هداهم الله وبه عرفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال والرشاد والغي[3].
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات ؛ بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثا فإنه يرغب في فهمه ؛ فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه[4].
_____________________________
[1] سيذكر المؤلف الوجوه التي تدل على أن العناية بالمعنى أولى وأوكد من العناية باللفظ.
[2] لأن المقصود هو فهم المعنى وتدبره والعمل به؛ فالقرآن أنزل للعمل به، ولا يمكن العمل به إلا بفهم معناه، فكيف تعمل به وأنت لا تعلم معناه؟! فالاعتناء بالمعنى أوكد من الاعتناء باللفظ.
[3] أي أن من أراد أن يتعلم شيئاً من العلوم كالطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غيرها من العلوم، فإنه إذا أراد أن يقرأ في كتبها لا بد له من أن يتصور ما أراده مؤلفوها من المعاني، وذلك أنه لا يتم العمل بهذه العلوم إلا بفهمها وتصور معانيها ونظمها .
فإذا كان هذا في علوم البشر، فكيف بكتاب الله جل وعلا الذي أنزله من أجل هداية الخلق، وتبيين الحق لهم من الباطل، والخير من الشر، والهدى من الضلال، والرشاد من الغي.
[4] أي أن رغبة الأمة في فهم كلام الله المنزل عليهم وتدبر معانيه من أعظم الرغبات لديهم؛ إذ به هدى الأمة وأخرجها به من ظلمات الجهل والكفر والغي والضلال، بل ومن شدة حرصهم أنه إذا سمع المتعلم منهم من العالم حديثا فإنه يرغب في فهمه وتعقل معناه. فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه مباشرة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم؛ إذ هم أولى من غيرهم بفهمه واتباع معانيه والعمل به .
بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول e في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه[1]، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذا اللفظ إنما يراد للمعنى[2]، الوجه الثاني: أن الله قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭼ [ص:29] [3] . وقال تعالى : ﭽﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﭼ [محمد:24][4]، وقال تعالى :ﭽﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ [المؤمنون:68] وقال تعالى : ﭽﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﭼ [النساء:82][5] . فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره[6]: علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها فكيف لا يكون ذلك ممكنا للمؤمنين؛ وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم[7] .
_______________________________
[1] أي: أن الرسول r يرغب أن يعرف الصحابة رضوان الله عليهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعليمهم حروفه وألفاظه.
[2] أي أن معرفة الحروف دون تدبر معناها وفهمه لا تحصل المقصود منه؛ إذ أن اللفظ يتوصل به إلى فهم المعنى .
[3] وكيف يتدبر الإنسان وهو لا يعرف المعنى؟! لا يمكن، فالتدبر يتطلب معرفة المعنى .
[4] دل على أن الذين لا يتدبرون قلوبهم مقفلة عن المعنى فلم تستفد.
[5] وهذا خطاب للكفار، فإذا كان الله قد ذمهم في عدم التدبر وأنكر عليهم ذلك فكيف الحال بالمؤمنين؟ إذا كان الكفار يطلب منهم التدبر فالمؤمنون من باب أولى .
[6] أي القرآن .
[7] إذا كان الله حض الكفار والمنافقين على تدبر المعنى، علم أن المعاني يمكن للكفار أن يفهموها، والمؤمنون من باب أولى. وهذا فيه رد على طائفة المفوضة الذين يقولون: إن معاني القرآن لا تعرف، وبالخصوص آيات الأسماء والصفات، يقولون: هي حروف يلوكها الإنسان بلسانه ولا يدري ما معناه، فإذا قلت: ما معنى العزيز الحكيم ؟ قالوا: لا نعرف معناها . يقرأ ألفاظاً كأنها حروف أعجمية لا يدري ايش المعنى؟ يقول فوض الأمر إلى الله، ﭽﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭼ [الملك:16]، ﭽﯻ ﯼ ﯽﭼ [البقرة:255] يقول: لا أعرف معناها، هي حروف نفوض الأمر في معرفتها إلى الله . فيقال له: كيف لا تعرفون المعاني، والله تعالى قد حض الكفار والمنافقين على تدبره؟ وهل يحضهم الله على شيء لا يمكنهم تدبره؟! حاشا وكلا .
وهذا غلط، فمعاني الأسماء والصفات معروفة، لكن كيفيتها هي المجهولة، فنقول في قوله تعالى: ﭽﮏ ﮐ ﮑ ﮒﭼ [الأعراف:54] أي: استقر وعلا وارتفع وصعد، هذه أربع معاني للاستواء في اللغة العربية، لكن كيفية استواء الله على عرشه لا نعلمه، كما قال الإمام مالك (الاستواء معلوم) أي: معلوم معناه في اللغة العربية، فله أربع معاني كما قال ابن القيم رحمه الله(1):
ولهم عبارات عليهم أربع قد حصلت الفـارس الطـعان
وهي استقر وقد علا وقد ارتفع الذي ما فــيه من نكران
وكذلك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيبان
يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجـهمية بالــقرآن
فالمعاني معروفة، قال تعالى: ﭽﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﭼ [القمر:17] هل يمكن أن تكون المعنى غير معروفة والله تعالى يسر القرآن وقال هل من مدكر هل من متذكر كل هذا يبطل مذهب المفوضة الذين يقولون معاني الصفات غير معلومة ونفوضها إلى الله .
الوجه الثالث أنه قال تعالى : ﭽﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [يوسف:2] وقال تعالى : ﭽﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﭼ [الزخرف:3]، فبين أنه أنزله عربيا لأن يعقلوا والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه[1] . الوجه الرابع: أنه ذم من لا يفقهه فقال تعالى : ﭽﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [الإسراء:45]، ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭼ [الأنعام:25] [2] .
____________________________
[1] الوجه الثالثة من الوجوه التي يتبين بها وجوب العناية بالمعنى دون الاكتفاء بالألفاظ والحروف: أن الله أنزل القرآن بلغة العرب من أجل أن نعقل ونفهم معناه فقال: ﭽﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ أي: من أجل أن تعقلوا معناه. وكذا في قوله في أول سورة يوسف وأول سورة الزخرف : ﭽﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﭼ.
ولعل من الله ليست للترجي إنما هي للتعليل فمعنى (لعلكم) أي: لكي تعقلون؛ لأن الله لا يرجو أحدا ولا يخاف من أحد .
ولو كان لا يمكن فهم معانيه كما تقوله المفوضة لما استطعنا أن نعقله.
قال المؤلف تعليقاً على الآيتين: (فَبَيَّنَ) أي: الرب سبحانه (أَنَّهُ أَنْزَلَهُ) أي: القرآن (عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا، وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ) فالعقل إنما يكون بالعلم بمعاني الألفاظ، فدل ذلك على أن المعاني يمكن معرفتها، فتكون العناية بها أهم من العناية باللفظ .
[2] هذا ذم للكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله جعل لهم حجابا معنوياً يحجبهم عن سماعهم القرآن سماع تعقل وفهم له، وإلا فهم يسمعون القرآن بآذانهم ولكنهم لا ينتفعون به ﭽﯨ ﯩ ﯪﯫﭼ أي: غلاف معنوي بحيث أنه لا يصل إليه الحق، فلا يقبلون الحق وإلا فقلوبهم مثل قلوب المؤمنين ليس فيها حجاب حسي؛ بل المراد حجاب معنوي والمعنى: أن الله صدهم عن قبول الحق ﭽﯮﯯﯰﭼ أي: مانع أو حجاب عن سماعهم للحق، وإلا فهم يسمعون القرآن ويسمعون كلام الناس، لكن المراد وقر معنوي يمنعهم من سماع الحق السماع الذي يفيدهم.
وقال تعالى : ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭼ [النساء:78][1]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به[2] . الوجه الخامس: أنه[3] ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه فقال تعالى : ﭽﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [البقرة:171][4].
____________________________
[1] ذمهم الله على عدم فقه الحديث .
[2] الله ذم الكفار والمنافقين في كونهم لا يفقهون القرآن، ولو كان المؤمنون لا يفقهونه ولا يعرفون معانيه لكانوا مشاركين للكفار ، لكنهم ليسوا كالكفار، فالمؤمنون مَنَّ الله عليهم بالإيمان فدل على أنهم يفهمون ويفقهون المعنى، فدل على أن المعاني مفهومة خلافاً للمفوضة الذين يقولون إن المعاني لا تعرف، وإنما نفوضها إلى الله .
[3] أي الرب سبحانه وتعالى .
[4] شبه الله عز وجل الكفار في كونهم يسمعون القرآن لكنهم لا يفهمون معانيه بالغنم التي ينعق لها الراعي، فتسمع الصوت وتأتي ولكن وهي لا تفهم ما يقوله راعيها، ﭽﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ الراعي الذي ينعق للغنم يناديهم تسمع الصوت ﭽ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭼ يسمع الصوت فقط ولا يفهم المعنى ولهذا قال: ﭽ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ صم عن سماع الحق فلا يسمعون الحق لكنهم يسمعون أصوات الناس يسمعون الخطاب أمور دنياهم سماعهم قوي فهمهم قوي لكن في أمور الدين فيما ينفعهم لا يسمعون، صم بمعنى أنهم لا يسمعون سماع القبول فلا يسمعون الحق ولا يقبلونه، ولكن يسمعون غير الحق ويفهمونه (بكم) لا يتكلمون بالحق وإن كانوا يتكلمون بالباطل ويتكلمون بأمور دنياهم، (عمي) فهم لا يرون الحق ولا يبصرونه، وإن كانوا يرون ويبصرون أمور دنياهم ولهذا قال: ﭽﭹﭺﭻﭼ هذا وصف الكفار، والمؤمنون ليسوا كذلك .
وقال تعالى : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ [الفرقان:44][1] وقال : ﭽﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [محمد:16][2] وأمثال ذلك. وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول e ولم يفهموا وقالوا : ماذا قال آنفا؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله[2].
_____________________________
[1] ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭼ أي يسمعون سماع استجابة وقبول، ﭽﭖ ﭗﭼ ما ينفعهم في أمور دينهم؛ ليسوا كذلك. لكن يسمعون ما يخص أمور دنياهم ويسمعون ما يضرهم لكن الحق لا يسمعونه سماع استجابة وقبول، وكذلك لا يعقلون الحق ولا يعرفونه وإن كانوا يعقلون أمور دنياهم؛ ولهذا قال: ﭽﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭼ شبههم الله بالأنعام السارحة التي تهتدي إلى الطعام والشراب في مراعيها ولكن ليس عندها عقل، فكذلك هؤلاء الكفار هم كالأنعام يسعون لأمور دنياهم ويعيشون لأمور دنياهم، فيأكلون ويشربون ويبيعون لأمور دنياهم ولكنهم لا يعملون لآخرتهم. قال الله عنهم: ﭽﭞﭟﭠ ﭡﭼ بل هؤلاء الكفار أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأن الأنعام ليس عليها حساب ولا عقاب لأنها لم تكلف، وقد هداها الله لمراعيها وهي تسبح الله، أما هؤلاء فقد كلفوا وأعطاهم الله عقول فلم ينتفعوا بعقولهم فصاروا أضل من الأنعام وقد هداها الله لمراعيها وهي تسبح الله وليست مكلفة فلم تخالف أمر الله، وأما هؤلاء فهم مكلفون لأن الله ركب فيهم العقول، فصاروا والعياذ بالله أضل من الأنعام سبيلاً .
[2] هذه الآية في وصف المنافقين، فقوله تعالى: ﭽﯗ ﯘ ﯙ ﯚﭼ يعني إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ﭽ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﭼ وهم الصحابة ﭽ ﯤ ﯥ ﯦﯧﭼ يعني ماذا قال محمد؟ ما يفهمون يستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا خرج قال: ماذا قال أنفا؟ يعني: الساعة. قال الله: ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﭼ طبع الله على قلوبهم طبعا معنوي، فلا يصل إليه الحق، ﭽﯮﯯﭼ. وهذا كلام من لم يفقه حينما يجلسون مع الصحابة ويسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يفهمون وهؤلاء المنافقون يقولون ماذا قال محمد؟ وهذا كلام من لم يفهم قوله .
فقال تعالى : ﭽ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [محمد:16]... [1]، فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه[1]. الوجه السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن[2]، كما قال مجاهد «عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقف عند كل آية منه وأسأله عنها»(1) [3] . ولهذا قال سفيان الثوري : «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به»(2) [4]، وكان ابن مسعود يقول : «لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته»(3) [5] .
_____________________________
[1] فمن قال إن الصحابة لا يفهمون المعاني جعلهم مثل الكفار، و للمؤلف رحمه الله رد على المفوضة في كتابه درء تعارض العقل والنقل(4).
[2] كيف يفسرونه وهم لا يعرفون معناه؟! لم يفسروه إلا وهم قد عرفوا معناه.
[3] وهو من أئمة التابعين رحمه الله، وجاء عنه أيضاً أنه قال: فبما أن ابن عباس يفسر المعنى له، فالصحابة إذاً يعرفون معاني القرآن .
[4] (فحسبك به) أي أنه يكفيك، فاهتم واعتن به، وذلك أنه أخذه عن ابن عباس الصحابي الجليل الذي دعا له الرسول e فقال: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)(5).
[5] يعني أنه من عنايته t بتفسير القرآن وفهم معانيه يقول: إني لا أعلم أحداً أعلم مني بمعانيه، ولو أعلم أحداً أعلم مني بمعانيه تبلغ إليه الإبل لركبتها إليه؛ حتى إن علي بن أبي طالب t قال: (والله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به -أي القرآن- وإن كان من وراء البحار لأتيته)(6).
وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله[1]. والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها[2] .
_______________________
[1] كعلقمة وإبراهيم بن يزيد في ابن مسعود وغيرهم من أصحابه، ومجاهد وغيره في ابن عباس، وهذا يدل على أنهم يفهمون المعاني ويهتمون بها.
[2]هذه ستة أوجه بين بها المؤلف رحمه الله عناية الصحابة بالمعاني، وذكر أيضا وجوهاً أخرى في كتابه (بيان تلبيس الجهمية)(1) أوصلها إلى ثلاثة عشر وجهاً، وهو كتاب عظيم من عيون كتب شيخ الإسلام، وهذه الوجوه كلها في الرد على طائفة المفوضة الذين يقولون إن القرآن غير مفهوم المعاني، وآيات الصفات لا يفهم معناها وإنما نفوضها إلى الله.
فإن قال قائل : قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافا كثيرا ؛ ولو كان ذلك معلوما عندهم عن الرسول e لم يختلفوا فيه[1] . فيقال : الاختلاف الثابت عن الصحابة؛ بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه[2] : أحدها أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه، فالمسمى واحد وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر مع أن كلاهما حق[3].
__________________________
[1] ذكر المؤلف هنا اعتراضاً ثم أجاب عنه: وهو أنه إذا كان الصحابة قد تلقوا معاني القرآن عن النبي e فكيف اختلفوا فيه، فلو كان المعنى معروفا لما اختلفوا؟
[2] الاختلاف الثابت عن الصحابة وعن أئمة التابعين في تفسير القرآن لا يخرج عن وجوه ثلاثة.
[3] أي: أن التفسير الواقع من الصحابة إنما هو تفسير للمسمى الواحد بأحد معانيه، وذلك أن المسمى الواحد قد تكون له عدة مسميات؛ فإذا قلت مثلا: زيد كريم، شجاع، عابد؛ هذه صفات متعددة لمسمى واحد وهو زيد، فتارة أصفه بأنه كريم، وتارة أصفه بالشجاعة، وتارة أصفه بالعبادة. هذه كلها معاني لمسمى واحد، وإن كانت هذه المعاني مختلفة إلا أنها لشيء واحد .
فكذلك الصحابة يعبر كل واحد منهم للاسم بمعنى غير معنى صاحبه، إلا أن مرجعها كلها لمسمى واحد، وكل عبارة تدل على معنى مستقل لا يدل عليه الاسم الآخر مع أن كلاهما حق .
بمنزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى وتسمية الرسول بأسمائه وتسمية القرآن العزيز بأسمائه فقال تعالى: ﭽﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ[الإسراء:110] [1]. فإذا قيل : الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كان كل اسم يدل على نعت لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر .
________________________
[1] فالله تعالى له أسماء كثيرة، حتى قيل: إن لله تعالى ألف اسم. والله أعرف المعارف لا يسمى به غيره، وكل اسم مشتمل على صفة، (الله): ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، (الرحمن) مشتمل على صفة الرحمة، (العليم) مشتمل على صفة العلم، (القدير) مشتمل على صفة القدرة، (العزيز) مشتمل على صفة العزة، (الحكيم) مشتمل على صفة الحكمة، (الرؤوف) مشتمل على صفة الرأفة، (الرحيم) مشتمل على صفة الرحمة؛ وهكذا. هذه المعاني كلها لمسمى واحد وهو الله عز وجل .
وكذلك الرسول e له عدة أسماء: أحمد ومحمد والحاشر والمقفي والعاقب؛ هذه معاني متعددة ولكنها لشخص واحد وهو الرسول e .
فأحمد ومحمد معناهما واحد: أي كثير المحامد، (العاقب): الذي ليس بعده نبي، (الحاشر): الذي يحشر الناس على قدمه؛ وهكذا .
وكذلك القرآن له عدة أسماء بمعاني مختلفة؛ كالقرآن والكتاب والشفاء والهدى والبيان؛ كلها معاني لمسمى واحد .
كذلك السيف له عدة أسماء حتى إنه قيل: إن له ثلاثمائة اسم، مثل المهند والصارم، والأسد كذلك فذكر أن له خمسمائة اسم، مثل: الضرغام والأسد.
فإذا دعوت الله فقلت: يا الله يا رحمن، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا مجيب، يا قريب، يا ودود، يا غفور يا رحيم، فهذه الأسماء كلها ترجع إلى الله وإن كانت معانيها مختلفة =
ومثال هذا من التفسير: كلام العلماء في تفسير (الصراط المستقيم)، فهذا يقول : هو الإسلام، وهذا يقول هو القرآن أي اتباع القرآن، وهذا يقول : السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق العبودية، وهذا يقول: طاعة الله ورسوله[1] . ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها ويسمى بهذه الأسماء كلها ولكن كل منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت(1).
_______________________
= ولهذا قال الله: ﭽﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭼ[الإسراء:110] ، فاختلاف الصحابة رضي الله عنهم من جنس هذا الاختلاف لا يخرج عنه .
[1] فبعض العلماء يقول: الصراط المستقيم هو الإسلام، وبعضهم يقول: الصراط المستقيم هو القرآن _ يعني إتباع القرآن _، وبعضهم يقول: الصراط المستقيم هو الرسول _ يعني إتباع الرسول _، وبعضهم يقول: الصراط المستقيم هو طاعة الله ورسوله، وبعضهم يقول: الصراط المستقيم طريق العبودية . هل في هذه المعاني تنافي؟ لا تنافي بينها، فالصراط المستقيم هو القرآن، وهو الإسلام، وهو طريق العبودية، ومن اتبع الرسول فقد ابتع الصراط المستقيم، ومن دخل في الإسلام وعمل به فهو على الصراط المستقيم، ومن كان على طريق العبودية فهو على الصراط المستقيم، ومن أطاع الله ورسوله فهو على الصراط المستقيم . فإذا فسر بعض الصحابة (الصراط المستقيم) بأنه الإسلام، وبعضهم فسره بأنه القرآن، وبعضهم بأنه الرسول، وبعضهم بأنهم أهل السنة والجماعة، وبعضهم بأنه طاعة الله ورسوله، وبعضهم بأنه طريق العبودية= فإنه لا تنافي بين هذه التفاسير، بل كلها حق، والاختلاف الحاصل من الصحابة في تفسير القرآن هو من هذا الباب.
الوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب؛ لا على سبيل الحصر والإحاطة[1]. كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ (الخبز)، فأري رغيفا وقيل: هذا هو. فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه؛ لا إلى ذلك الرغيف خاصة [2]. ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: ﭽﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭼ [3][فاطر:32]. فالقول الجامع أن الظالم لنفسه هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، والمقتصد: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، والسابق: بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق .
_________________________
[1] هذا الوجه الثاني من الوجوه التي لا تخرج عنها تفاسير الصحابة والتابعين، وهو أن يعبروا عن معنى الاسم ببعض أنواعه، وليس المقصود منه الحصر، لكن المقصود منه بيان المعنى .
[2] ومثل له المؤلف رحمه الله كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ الخبز، فأنت تأتي برغيف وتقول: هذا الخبز، وليس معنى ذلك أنك تريد الحصر والإحاطة، فأنت تريد أن تذكر له مثال، فهو الآن عرف الخبز فإذا رأى نوعاً آخر عرف أنوع الخبز، لكن في الأول ما يدري، أعطيته مثال فعرف .
[3] ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير قول الله تعالى في سورة فاطر: ﭽﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭼ [فاطر:32]. ففي هذه الآية بين الله أقسام المؤمنين، وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق .
فالظالم لنفسه هو الموحد الذي لم يقع في عمله شرك، لكنه قصر في أداء بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، وسمي ظالماً لنفسه؛ لأنه ظلم نفسه بفعل المعاصي، كمن ظلمها بأكله الربا، أو بالكذب أو بأخذ شيء من الرشوة، أو بعقوق والديه، أو تساهل ببعض الواجبات .
والمقتصد هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، ووقف عند هذا الحد، لكن لم يكن عنده نشاط في فعل المستحبات؛ ويسمون أصحاب اليمين.
والسابق بالخيرات هو الذي أدى الواجبات وصار عنده نشاط ففعل المستحبات والنوافل وترك المحرمات، وترك المكروهات، وترك التوسع في المباحات أيضا حتى لا يقع في المكروهات، هؤلاء يسمون السابقون والمقربون. وهؤلاء في الدرجة العليا، ثم يليهم المقتصدون ويسمون أصحاب اليمين، وكل من الصنفين يدخل الجنة من أوهلة، فيسلم من العذاب فضلاً من الله وإحسانا .
وأما الظالمون لأنفسهم، فهؤلاء تحت مشيئة الله، إما أن يعفو عنهم، وإما أن يعذبهم، فقد يعذب الإنسان في قبره كما ثبت في قصة الرجلين اللذين مر بهما النبي e فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما احدهما كان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله)(1)، وقد تصيبه شدائد وأهوال يوم القيامة، وقد يعفوا الله عنه تحت مشيئة الله كما قال: ﭽﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ[النساء:48]، وقد يكون مستحقا لدخول النار لكن قد يشفع فيه فلا يدخل النار وقد يدخل النار، بل لا بد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر، مؤمنون موحدون مصلون ولا تأكل النار وجوههم لماذا دخلوها ؟ لأنهم ماتوا على معاصي، هذا مات على الزنا من غير توبة وهذا مات على من الربا غير توبة، هذا مات على الرشوة من غير توبة، هذا مات على عقوق الوالدين من غير توبة، هذا مات على الغيبة من غير توبة، هذا مات على النميمة..، ويشفع فيهم النبي e أربع شفاعات، وتشفع فيهم الملائكة والأفراط، وتبقى بقية لم تنلهم الشفاعة، فيخرجهم الله برحمته لكن لا يخلدون في النار، بل لا بد أن يخرجوا، كما جاء ذلك في حديث الشفاعة أن الله قال لنبيه: (فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)(2) والمعاصي ولو كثرت ما تقضي على الإيمان ولو كثرت؛ بل لا بد أن تبقى بقية، ولا يقضى على الإيمان بالكلية إلا إذا جاء الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر =
ثم إن كلا منهم يذكر نوعا من هذا، فإذا قال القائل: الظالم المؤخر للصلاة عن وقتها، والمقتصد المصلي لها في وقتها، والسابق المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل. وقال آخر: الظالم لنفسه هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله، والمقتصد القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة[1]، والسابق الفاعل المستحب بعد الواجب.
_________________________
= أو الشرك الأكبر فحينئذ ينتهي الإيمان ويضمحل بالكلية، وذلك أنه لا يمكن أن يجتمع الإيمان مع الكفر، لكن المعاصي ولو كثرت ولو عظمت لا بد أن يبقى معها شيء من الإيمان يخرج به صاحبه من النار ولو كان هذا الإيمان مثقال أدنى حبة من خردل .
فإذا عرفنا أن الظالم لنفسه هو الذي يقصر في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، وأن المقتصد هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، وأن السابق والمقرب هو الذي أدى الواجبات والنوافل وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، فما جاء عن الصحابة في تفسيرهم لهذه المعاني إنما يريد بذلك ضرب المثال لا الحصر، هذا يذكر مثال وهذا يذكر مثال و هذا يذكر مثال وهذا يذكر مثال، وكل الأمثلة داخلة في المعنى، وليس في ذلك تنافي، فبعضهم فسر الظالم لنفسه بأنه المقصر في بعض الواجبات، وبعضهم فسره بالبخيل، وبعضهم فسره بالذي يصوم عن الطعام ولا يصوم عن الآثام، والمعنى واحد .
فإذا قال: بعضهم الظالم لنفسه المؤخر للصلاة عن وقتها وهل معنى ذلك أن الظالم لنفسه لا يكون إلا مؤخراً للصلاة فقط؟ الجواب: لا، لكن المراد بهذا المثال لا الحصر .
[1] النوائب هي التي تنوب الإنسان ويحتاج إليها .
كما فعل الصديق حين جاء بماله كله؛ ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئا[1] . وقال آخر: الظالم لنفسه الذي يصوم عن الطعام لا عن الآثام والمهلكات، والمقتصد الذي يصوم عن الطعام والآثام، والسابق الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله - وأمثال ذلك –[2] لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعاً مما تناولته الآية ..
____________________
[1] لما حث النبي e على الصدقة، تسارع أبو بكر وعمر إلى الصدقة؛ فجاء عمر بنصف ماله وأعطاه النبي e فقال له: (ما أبقيت لأهلك) فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله e: (ما أبقيت لأهلك) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا(1).
فالصديق t فعل المستحب بعد أداءه للواجب .
وهل يجوز للإنسان أن يتصدق بماله كله؟ قال العلماء لا يجوز أن يتصدق الإنسان بماله كله إذا كان له أهل وأولاد، لئلا يجعلهم يتكففون الناس ويشحذونهم، إلا في حالة واحدة: إذا كان له مكسب يومي بحيث أنه يستطيع يكسب كل يوم ما يكفي لأولاده، وأولاده يوصلون، أما أن يتصدق بماله كله ويترك أولاده يتكففون الناس، ولهذا قال النبي e لكعب ابن مالك لما قال إن من توبتي أن أنخلع من مالي قال: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)(2) .
[2] هذا الاختلاف لا يؤثر؛ لأن المراد منها التمثيل لا الحصر.
كل هذا مقدمة ليبين أن القرآن معروف المعنى للصحابة والتابعين، ومن ذلك آيات الصفات، بعد ذلك كله يتكلم عن مسألة العلو والصفات .الفتوحات المكية (1/2) ط. دار صادر .