وقول هؤلاء الواقفة الذين لا يثبتون ولا ينفون وينكرون الجزم بأحد القولين، يلزم عليه أمور: أحدها أن من قال هذا: فعليه أن ينكر على النفاة[4] ؛ فإنهم ابتدعوا ألفاظا ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا السنة[5] وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص: فليس له الإنكار عليهم وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم وإنما يعارضون المثبتة[6] .
____________________________
[1] يذكر المؤلف الآن وجه الدلالة من الحديث
[2] وهذا سؤال للعلم، يسأل الله أن يهديه وأن يعلمه .
[3] هذا الحديث باطلٌ سنداً ومنتاً، أما سنداً فلأنه لم يرو في شيء من دواوين السنة، وأما متنا فلأن معناه باطل يخالف النصوص التي فيها سؤال الله العلم والهداية(1).
[4] وإنما قال المؤلف: (وإنما ينقل مثل هذا الحديث عن بعض الذين لا يقتدى بهم في مثل هذا ، لا يصح النقل عنهم .
[5] إن كان صادقاً في التوقف؛ لأن النفاة ما توقفوا .
[6] فإذاً يجب على قول النفاة الواقفة أن ينكروا عليهم حيث ابتدعوا ألفاظاً ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة .
فعلم أنهم أقروا أهل البدعة وعادوا أهل السنة[1].
الثاني أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحبه الله ورسوله فهذا القول باطل[2]. الثالث أن يقال: الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين، غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت .
______________________________
[1] فالواقفة يجب عليهم أن ينكروا على النفاة لكونهم ابتدعوا ألفاظاً ليست في الكتاب ولا في السنة، وأما المثبتة فليس لهم الإنكار عليهم ولكن هؤلاء الواقفة في الباطن يوافقون النفاة ويقرونهم، وإنما يعارضون أهل الإثبات، فعلم أنهم أقروا أهل البدعة وعادوا أهل السنة، وهذا يدل على بطلان هذا القول، وهو القول بأن الله تعالى يحب منا أن لا نثبت ولا ننفي بل نتوقف، نقول هذا باطل، لو كانوا صادقين لأنكروا على النفاة؛ لأنهم ابتدعوا ألفاظاً ومعاني لا أصل لها، ولأقروا أهل الإثبات؛ لأنهم اقتصروا على النصوص، لكن في الواقع هؤلاء الواقفة يوافقون النفاة في الباطن أو يقرونهم، وإنما يعارضون أهل الاثبات ، فعلم أنهم أقروا أهل البدعة وعادوا أهل السنة .
[2] هذا هو الأمر الثاني من اللوازم التي تلزم قول الواقفة، الذين يتوقفون فيقولون لا نثبت ولا ننفي ولا نلتزم بأحد القولين، فلا نقول إن الله فوق العرش ولا نقول إنه ليس فوق العرش، ولا نقول إنه متصف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ولا نقول إنه ليس متصف بذلك .
وقوله: (عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحبه الله ورسوله) أي أنكم أنتم الآن رضيتم لأنفسكم بالجهل، وحكمتم على أنفسكم بالجهل، وأنكم لا تعلمون معاني القرآن والسنة، وهذا ليس مما يحبه الله ورسوله ، بل الله عز وجل يحب من عباده أن يعلموا معاني القرآن، كما قال: ﭽﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﭼ [محمد:24]، وقال: ﭽﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮈﭼ [النساء:82]، وقال: ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭼ [ص:29] . فالله جل وعلا يريد منا أن نعلم معاني كتابه، وهؤلاء الواقفة بقوا في الشك والحيرة، وليس عندهم علم؛ فعلم أن مذهبهم لا يحبه الله ورسوله.
فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم الجازم المستبصر، المتبع للرسول العالم بالمعقول والمنقول [1] .
______________________________
[1] الأمر الثالث أن يقال: إن هؤلاء الذين لا يجزمون ولا ينفون، فيقولون لا نثبت ولا ننفي ولا نجزم بأحد القولين؛ رضوا لأنفسهم بالشك والحيرة، والشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين، فمن كان عنده شك وحيرة لا يحمد على ذلك، إنما الذي يحمد من كان عنده علم وفهم، أما الشاك المتردد الحائر فلا يمدح لا عقلاً ولا شرعاً، وليس هناك أحد يمدح الشاك المتحير، إنما يُمْدَحُ العالم المستبصر.
وغاية ما في هذا الأمر أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا بالإثبات يسكت، لكن من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله؛ فهذا على بصيرة، وليس للواقف الحائر الشاك أن ينكر عليه، فالشاك الحائر المتردد لا ينكر على العالم المستبصر الذي يعرف الحق بدليليه، فالذي يعلم المعقول والمنقول ويتبع ما جاء به الرسول e؛ ليس للشاك أو الحائر أن ينكر عليه .
إذا أهل الشك وأهل الحيرة ليس لهم أن ينكروا على أهل العلم والبصيرة الذين أثبتوا الصفات بدلائلها من الكتاب والسنة؛ لأن أهل الشك والحيرة غاية ما هنالك أنهم جهال لا يعلمون، والجاهل لا ينكر على العالم؛ بل عليه أن يعرف قدر نفسه ويسكت.
الرابع[1] أن يقال : السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة[2]، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به[3] وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان[4] وكلام الأئمة المشاهير[5]: مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي .
_______________________________
[1] الأمر الرابع من الأمور التي تلزم الواقفة الذين يقولون:لا نثبت الأسماء والصفات لله ولا ننفيها، وينكرون الجزم بأحد القولين، أن يقال لهم: إن السلف(1) كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، ونصوصهم كثيرة في ذلك .
والجهمية هم أتباع الجهم ابن صفوان، وقد اشتهر الجهم بأربعة عقائد خبيثة:
العقيدة الأولى: عقيدة نفي الأسماء والصفات .
العقيدة الثانية: عقيدة الجبر، وهو القول بأن العبد مجبور على أفعاله، وأفعاله كلها اضطرارية وليس له اختيار .
العقيدة الثالثة: عقيدة الإرجاء، وهو القول بأن الأعمال ليست من الإيمان .
العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار .
[2] يقال بأن السلف أنكروا على الجهمية النفاة نفيهم للأسماء والصفات، وسموا نفاة لأنهم نفوا الأسماء والصفات عن الله عز وجل .
[3] أي قالوا بإثبات الأسماء والصفات لله عز وجل، وقوله: (وأفصحوا به) أي: بينوه ووضحوه.
[4]يعني كلام السلف في إثبات الأسماء والصفات لله كثير جدا، وكلامهم في الإنكار على النفاة للأسماء والصفات أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان .
[5] مثل المؤلف رحمه الله للأئمة الذين أنكروا على الجهمية نفيهم للأسماء والصفات، يعني كلامهم في إثبات الأسماء والصفات لا يحصيه إلا الله في كثرته، وكلامهم في الإنكار على نفاة الأسماء والصفات أيضا كثير، وهؤلاء الأئمة أئمة هدى، وقد عرفوا بالعدالة والعلم والعمل بالكتاب والسنة=
ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد = موجود كثير لا يحصيه أحد، وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات[1] فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله: ﭽﮉ ﮊ ﮋ ﮌﭼ [طه: 5] كيف استوى ؟ فقال مالك: $الاستواء معلوم والكيف مجهول، وفي لفظ : استواؤه معلوم - أو معقول -.
______________________________
=فهم أئمة الدين يقتدى بهم، فكلامهم في إثبات الأسماء والصفات كثير، فدل ذلك على بطلان قول الواقفة الذين يتوقفون، فلا يثبتون الأسماء والصفات ولا ينفونها.
[1] أي في إثبات استواء الله على عرشه، والاستواء علو خاص على العرش، وله أربعة معان في اللغة العربية، وعليها تدور تفاسير السلف للاستواء، وهي: استقر، وعلا، وصَعِدَ، وارتفع. هذه معاني الاستواء الأربعة، فالله تعالى مستو على عرشه حقيقة بهذه المعاني الأربع على كيفية الله أعلم بها، فكيفية الاستواء مجهولة لنا، لكن معناه في اللغة معروف، فهو بمعنى: استقر وعلا وصعد وارتفع .
يقول الإمام مالك لما جاءه هذا الرجل يسأله عن كيفية استواء الله على عرشه: $الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة#.
فقوله: (الاستواء معلوم) أي معلوم معناه في اللغة العربية، أي : استقر وعلا وصعد وارتفع، قال الله تعالى: ﭽﯴﯵﯶﭼ[هود:44] يعني: استقرت سفينة نوح على جبل الجودي .
وقوله: (والكيف مجهول) أي كيفيته مجهولة لا يعلمها إلا الله، وهكذا يقال في بقية صفاته، فلا يعلم كيفية الصفات إلا هو، كما لا يعلم حدود ذاته إلا هو سبحانه وتعالى .
والله عز وجل استوى على العرش وهو غير محتاج إليه، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، لكن استواء المخلوق كيفيته معلومة، ولهذا المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، يقولون إن الله مستو كاستواء المخلوق، وله علم كعلم المخلوق، وسمع كسمعه، وبصر كبصره .
وغالب المشبهة وأكثرهم من غلاة الشيعة البيانية، الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان التميمي، والسالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي، يقول أحدهم: لله يد كيدي، واستواء كاستوائي، وعلم كعلمي؛ وهؤلاء كفار، ولهذا قال الأئمة: $من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من ذلك تشبيه#، فالمشبهة يقولون: إن الرب مستوي على العرش كاستواء الإنسان على الدابة، فلو سقطت الدابة لسقط المستوي عليها، وقياس ذلك: لو سقط العرش لسقط الرب، تعالى الله عما يقولون، وهؤلاء كفرة .
وقوله: (والإيمان به واجب) وذلك لأن الله اخبر به عن نفسه .
وقوله: (والسؤال عنه) أي عن الكيفية (بدعة) .
ثم أمر بهذا الرجل وقال له: $ولا أراك إلا رجل سوء# وأمر به فأخرج من مجلسه .
وهذه المقالة من الإمام مالك رحمه الله، تلقاها العلماء عنه بالقبول، وصارت حجة لأهل السنة والجماعة، وهذا الجواب يقال في جميع الصفات، فإذا قال لك شخص: كيف ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ تقول كما قال الإمام مالك: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه . وإذا قال لك: ﭽﰎﰏﰐﰑﰒﭼ[المائدة: 119]، [البينة: 8]؛ كيف يرضى الله؟ نقول: الرضا معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه . وإذا قال لك: ﭽﮌﮍﮎﭼ [المجادلة: 14]، كيف يغضب الله؟ نقول: الغضب معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه، وإذا قال لك: ﭽﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧﭼ [البقرة:255]،كيف يعلم؟ تقول: العلم معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه .
فيقال في جميع الصفات كما قال الإمام مالك رحمه الله .
والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة#([1])[1]. فقد أخبر رضي الله عنه[2] بأن نفس الاستواء معلوم[3]، وأن كيفية الاستواء مجهولة[4]، وهذا بعينه قول أهل الإثبات[5] . وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته[6].
____________________________
[1] ومعنى الروايتين واحد، فقوله هنا: (الاستواء غير مجهول) يعني معلوم، (والكيف غير معقول) يعني غير معلوم .
[2] أي الإمام مالك رحمه الله .
[3] أي في اللغة العربية .
[4] أي مجهولة لنا، ولا يعلمها إلا الله .
[5] أهل الإثبات يثبتون الاستواء ولا ينفونه كما يفعله المبتدعة، فالله تعالى أمرنا بتدبر القرآن فقال: ﭽﭻﭼﭽﭼ[النساء:82]، ولم يقل: إلا آيات الصفات فلا تتدبروها، نتدبرها ونعلم معناها، لكن الكيفية هي التي لا نعرفها، وقال تعالى:ﭽﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﭼ [القمر:17]، فأمرنا بالتدبر والتذكر، وهذا عام في القرآن لا يستثنى منه شيء، فنتدبر آيات الصفات؛ لأن معانيها معلومة، لكن المجهول لنا منها هو الكيفية.
[6] يقول إن النفاة لا يثبتون الاستواء من الأساس، وإذا لم يثبت الاستواء فكيف يقال: الكيفية مجهولة؟! هم من الأساس لم يثبتوا الاستواء، وإذا لم يثبتوا الاستواء فليس هنالك استواء يثبت حتى تجهل كيفيته .
بل عند هذا القائل الشاك[1] وأمثاله أن الاستواء مجهول غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولا لم يحتج أن يقال: الكيف مجهول[2]، لا سيما إذا كان الاستواء منتفيا[3]، فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال : هي مجهولة أو معلومة. وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء وأنه معلوم وأن له كيفية ؛ لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن[4] . ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية[5]، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كل ما كان معلوما وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا. يبين ذلك[6] أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال:
_______________________________
[1] الشاك هو الذي يقول لا نثبت الأسماء ولا ننفيها؛ بل نشك ولا نجزم .
[2] الذين يتوقفون يقولون: لا نثبت الأسماء والصفات ولا ننفيها، يكون الاستواء عندهم مجهول؛ لأنهم عندهم شك وحيرة يقولون: لا نثبت ولا ننفي، فإذا كان الاستواء مجهولاً، فهل يقال :الكيف مجهول؟ إذا كان الاستواء مجهولاً لم يحتاج أن يقال: الكيف مجهول .
[3] ما دام نفى الاستواء فلا يقال: الكيف مجهول؛ لأن الاستواء من الأساس قد نفوه .
[4]كلام الإمام صريح في إثبات الاستوء وأن له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا معلومة لله .
[5] بدعه الإمام مالك؛ لأن الكيفية لا يمكن الوصول إليها، فهو يسأل عن أمر لا يمكن الوصول إليه، ولا يعلمه إلا الله . فقال عن سؤاله: (والسؤال عنه بدعة) يعني كيف تسأل عن شيء لا يستطيع البشر أن يعلموه ولا يعلمه إلا الله، فإنما السؤال يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استواءه.
[6] فليس كل ما كان معلوم وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يعني هنالك أشياء نعلمها ولها كيفية، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعلم كيفيتها، فأنت ترى النجوم والكواكب وتعلم وتتحقق عن وجودها لكن هل تعلم كيفيتها؟ لا تعرف، فأنت تعلم أنها موجودة وتراها بعينك، لكن كيفيتها لا تعلمها، فليس كل ما هو معلوم وله كيفية تكون كيفيته معلومة لنا، فإذا كان مخلوق معلوم لي وأنا ما أستطيع أن أرى كيفيته، فمن باب أولى أن صفات الله وأسمائه معلومة لنا لكن لا نعلم كيفيتها لا يعلمها إلى الله .
الله في السماء وعلمه في كل مكان[1]، حتى ذكر ذلك مكي - خطيب قرطبة - في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عمر الطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد، ونقله أيضا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يُحْصَى عددهم: مثل أحمد بن حنبل وابنه عبد الله والأثرم والخلال والآجري وابن بطة وطوائف غير هؤلاء من المصنفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات[2] . والقول الذي قاله مالك : قاله قبله ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخه - كما رواه عنه سفيان بن عيينة [3]. وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون كلاما طويلا يقرر مذهب الإثبات[4]، ويرد على النفاة قد ذكرناه في غير هذا الموضع[5] وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور[6].
_______________________________
[1] هذا في الأثر صحيح، رواه عدد من الحفاظ والمصنفون عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان، يعني ذاته في السماء فوق العرش، وقوله: (في السماء) يراد به العلو، فكلمة السماء يراد بها العلو؛ لأن (في) للظرفية، والمعنى: في العلو، والله تعالى له أعلى العلو وهو ما فوق العرش، وعلمه في كل مكان .
[2] لم يقل هذا الإثبات أولم ينقل هذا الإثبات، وهو محتمل، (لم يقل): يعني هو، قال: أن الله في السماء.
[3]هذا القول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة، أما قول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ هذا أيضا مروي عن شيخ الإمام مالك ربيعة، ومروي عن أم سلمة رضي الله عنها، ولكن فيه ضعف، واشتهر عن الإمام مالك .
[4] أي مذهب الذين يثبتون الأسماء والصفات لله؛ من العلو والعلم والقدرة والسمع والبصر والغضب والرضا والمحبة والنزول .
[5] نقله المؤلف رحمه الله عنه في رسالته الحموية.
[6] وكذلك كلام الشافعية والحنابلة والأحناف، فكل أهل السنة كلامهم في ذم أهل الجهمية كثير.
حتى أن علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه[1]، وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السلف[2]، ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا[3] وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين[4] لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد[5]. ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة .
____________________________
[1] قوله: (بذاته) هذه الكلمة لم ترد في الكتاب ولا في السنة، لكن مقصودهم بإيراد هذه الكلمة الرد على الجهمية الذي أنكروا علوا الله على خلقه، وقالوا إن العلو المراد به علو القدر والسلطان، أو علوا العظمة والشأن؛ وأنكروا علو الذات، ولهذا قال: أجمعوا على أن الله بذاته فوق عرشه، للرد على الذين أنكروا علو الذات .
والعلو كما سبق ثلاثة أنواع: علو الذات، وعلو القهر والسلطان، وعلو القدر والعظمة والشأن . وقد وافق أهل البدع على نوعين من العلو، وافقوا على علو القدر والشأن، وعلو القهر والسلطان، وأنكروا علوا الذات .
والأنواع الثلاثة كلها ثابتة لله، كما قال ابن القيم(1):
والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران
(الفوق أنواع ثلاث): فوقية الذات، فوقية القهر والغلبة والسلطان، وفوقية القدر والعظمة والشأن. وأهل البدع أولوا النصوص التي فيها إثبات علو الله على خلقه بذاته، فحملوها على علوا القدر والعظمة، أو علو القدر والسلطان؛ وأنكروا علو الذات
[2] يعني من إثبات العلو والأسماء والصفات لله عز وجل .
[3] يعني في إثبات الصفات .
[4] يعني أنه كتبها في مقدمة الرسالة التي كتبها في العقيدة، حتى يتعلمها الناس ويحفظها العوام؛ لأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة .
[5] يعني كأنه كتبها حتى تقرأ في المساجد ويلقنها الناس.
لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة[1] ولا أنه مخالف للكتاب والسنة[2]؛ ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد وأمثاله أن ما قاله مخالف للعقل[3] وقالوا : إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن فن الكلام الذي يعرف فيه ما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز . والذين أنكروا على ابن أبي زيد وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية[4]، - كأبي المعالي وأتباعه – وهؤلاء [5] تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شاركوا فيها المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فالجهمية - من المعتزلة وغيرهم - هم أصل هذا الإنكار[6] . وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات[7] .
____________________________
[1] ابن أبي زيد من أهل السنة مالكي معروف، هنالك من رد عليه من أهل البدع، وهو جهمي من النفاة، فلم يرد عليه أحد من أهل السنة، وإنما رد عليه من كان من أتباع الجهمية النفاة .
[2] ما قال إن ابن أبي زيد مبتدع، ولا قال إنه مخالف للكتاب والسنة حينما رد عليه .
[3] وهذا مذهب الجهمية والمعتزلة أنهم يعتمدون على عقولهم، قالوا: ابن أبي زيد خالف العقل، ولم يقولوا خالف الكتاب والسنة .
[4] يعني عارضوه بعقولهم، ما عارضوه لأنه خالف الكتاب والسنة، وإذا كان هذا كذلك فلا عبرة به. والمعروف أن الأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات، وهي: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع، والعلم، والقدرة، والإرادة، والباقية يتأولونها؛ فيتأولون العلو والرضا والغضب والاستواء والنزول والمحبة والرحمة . فالذين أنكروا على ابن أبي زيد إنما هم من الأشاعرة، والأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات كأبي المعالي الجويني، معروف أنه من متأخري الأشاعرة .
[5] أي أبو المعالي الجويني والمتأخرون من الأشعرية .
[6] يعني الأصل الجهمية والمعتزلة وهو التجهم إنكار الصفات. والأشاعرة وإن أثبتوا سبع صفات إلا أنهم تلقوا هذا الإنكار عن أشياخهم وأساتذتهم من المعتزلة والجهمية .
[7] سلف الأمة هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، متفقون على إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل، ومن ذلك علو الله على عرشه، واستوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، ورؤيته يوم القيامة .
رادون على الواقفة والنفاة[1]، مثل ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول : إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته [2]. وقال أبو مطيع البلخي في كتاب الفقه الأكبر المشهور[3]: سألت أبا حنيفة عمن يقول[4]: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال : قد كفر[5]؛ لأن الله عز وجل يقول: ﭽﮉ ﮊ ﮋ ﮌﭼ [طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات، فقلت إنه يقول: على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض[6]؟ .
____________________________
[1] السلف يردون على الطائفتين، يردون على النفاة، والنفاة الذين ينفون الأسماء والصفات، ويردون على الواقفة وهم الذين يتوقفون فيقولون لا نثبت ولا ننفي .
[2] بدأ المؤلف رحمه الله تعالى يسرد الأدلة والآثار على بطلان قول الجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات عن الله عز وجل، وينكرون صفة العلو وهو ينقل الأخبار والآثار في الرد عليهم وإبطال قولهم وإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه واتصافه بصفاته مثل ما فعل في الحموية، فقد نقل فيها نقولاً كثيرة، وهنا نقل أيضا نقولاً عن العلماء في الرد على النفاة والواقفة، فنقل هنا عن الأوزاعي إمام أهل الشام أنه قال: كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، نقول إن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، لأن هذا كلام التابعين وهم متوافرون .
[3] الفقه الأكبر هو الفقه في أسماء الله وصفاته، والفقه الأصغر هو الفقه في أحكام العبادات؛ كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم . في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث معاوية يقول النبي e: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)(1)، الفقه في الدين نوعان: فقه في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وهذا هو الفقه الأكبر، والثاني: فقه بأحكام العبادات؛ كالصلاة والزكاة، وهذا هو الفقه الأصغر . فالفقه في الاعتقاد هذا هو الفقه الأكبر؛ لأنه هو أصل الدين وأساس الملة . فأبو حنيفة صنف كتاباً في الأسماء والصفات اسمه الفقه الأكبر .
[4] أي عن شخص يقول .
[5] الإمام أبو حنيفة كفر من يقول لا أعرف ربي في السماء و لا في الأرض، قال: هذا يكفر لأن الله يقول: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ ، والعرش فوق سبع سماوات .
[6] سأله أبو مطيع السؤال الثاني فقال: إنه يقول إن الله على العرش لكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض؟
فقال إذا أنكر أنه في السماء كفر؛ لأنه تعالى في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل[1]، وقال عبد الله بن نافع: كان مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان[2]. وقال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى:ﭽﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭼ[الحديد:4] قال: علمه [3]. وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه ابن أبي حاتم والبخاري وعبد الله بن أحمد وغيرهم: إنما يدور الجهمية على أن يقولوا ليس في السماء شيء[4].
___________________________
[1] أي حتى ولو قال: إنه على العرش استوى، وقال: لا أدري العرش في السماء أو في الأرض قال: كفر لأنه إذا أنكر أن العرش في السماء كفر لأن الله تعالى في أعلى عليين وأنه تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل.
[2] يروي عبد الله بن نافع عن أنس بن مالك رحمه الله أنه يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان، هذا كما سبق نقله المؤلف رحمه الله، قال: (الله في السماء) يعني ذاته في السماء وهو فوق العرش، (وعلمه في كل مكان) علم الله في كل مكان لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو فوق العرش .
[3] يعني علمه في كل مكان . ومعنى قوله تعالى: ﭽﭮﭯﭰﭱﭲﭼ، المعنى علمه معكم وهو فوق العرش، وهذا هو الجمع بين النصوص، ﭽﭮﭯﭰﭱﭲﭼ يعني معكم بعلمه وإطلاعه وإحاطته وهو فوق العرش، لأن النصوص يضم بعضها إلى بعض، بخلاف الجهمية الذين ضربوا النصوص بعضها ببعض، وأنكروا نصوص العلو والفوقية وأبطلوها بنصوص المعية، وهذا من جهلهم وضلالهم. ولهذا قال: ﭽﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭼ يعني علمه، والدليل قوله تعالى: ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭼ، افتتح الآية بالعلم ثم قال: ﭽﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭼ،ثم قال: ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﭼ [المجادلة:7] افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم، فعلم أن المعية معية علم وإحاطة واطلاع.
[4] يعني كلامهم يدور على أنهم ينكرون وجود الله؛ لأنهم إذا أنكروا الأسماء والصفات معناه أنهم أنكروا وجود الله؛ لأن الشيء لا يوجد إلا بالأسماء والصفات، فإذا قلت: هناك شيء، طاوله مثلاً=
(1) وقد قال عنه شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (5/225): (من الأحاديث المكذوبة, ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث, وإنما يرويه جاهل أو ملحد فإن هذا الكلام يقتضي انه كان حائراً أو أنه سأل الزيادة في الحيرة وكلاهما باطل) ا.هـ، وانظر أيضا: الفتاوى الكبرى (1/337-343)، ومجموع الفتاوى: (2/202)، (5/179)، (11/384).
(1) السلف إذا أطلقوا يراد بهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة .
([1]) خبر حسن؛ أخرجه الدارمي في (الرد على الجهمية) (ص: 66-67)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/304-305)، وأبو نعيم في الحلية (6/325-326)، واللالكائي في السنة (3/398)، وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/406-407)، وقال الذهبي في العلو: (ص:139): هذا ثابت عن مالك. وقال ابن حجر في الفتح: (13/417): إسناده جيد.
(1) النونية بشرح ابن عيسى (1/402) .
(1) حديث صحيح؛ أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037)، وابن ماجة (221)، وأحمد في المسند (4/101)، وغيرهم كلهم من طريق معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.