الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
القارئ: نبدأ على بركة الله: أوَّلًا: بتعريف شيخ الإسلام ابن تيمية:
لماذا نختار هذا الكتاب لشيخ الإسلام؟ ما هي أبرز كُتب شيخ الإسلام، وأبرز مَن كَتب عنه؟ ولماذا كُتِب ضدَّه رَحِمَهُ اللهُ تعالى؟
هذه الأمور -فضيلة الشيخ- أرى أنها مُهمَّة جدًّا أن نبدأ الحديث معكم حولها للإخوة المستمعين الكرام أحسن الله إليكم.
الشَّيخ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وأجمعين، أمَّا بعد:
فإننا نحمد الله I ونشكره أن وفَّقنا وهدانا للإسلام، ونسأله I التوفيق لما يُحِب ويرضاه، ونحمده I أن وفَّقنا لسلوكِ طريقِ العلم، ونسأل الله I أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا ونيَّاتنا وذريَّاتنا، إنَّه على كلِّ شيء قدير.
لعلَّ للإجابة على هذه الأسئلة التي تفضَّلتم بها؛ نقرأ شيئًا ممّا كَتبه الدكتور في "دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية عرضٌ ونقدٌ"؛ هذا البحث قدَّمه الدكتور/ عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغُصن؛ رسالةً للدكتوراه في قسمِ العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين، وكنت مشرفًا على هذه الرسالة.
لعلّنا نقرأ شيئًا منها.
القارئ: طُبعِت أحسن الله إليكم؟ طُبعت الرسالة؟
الشَّيخ: لا، لازالت في طريقها.
القارئ: جيد.
الشَّيخ: قال وفَّقه الله: اعتنى بدراسة شخصية الإمام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ القدامى والمُحْدَثون، فكَثُرت الدراسات عنه، وتنوَّعت أهداف الدارسين لشخصيته، كلٌّ يأخذ منها ما يوافق تخصُّصه وهدفه، فهناك دراساتٌ في سيرتِهِ الذاتية، ودراساتٌ عن عقيدته، ودراساتٌ عن فقهه، ودراساتٌ عن تعمُّقه وإمامته في الحديث، ودراساتٌ عن منهجه الدعوي، ودراساتٌ عن فكره التربوي والاجتماعي وغيرها.
وإذا قرأت كُتبه المحقَّقة -وهي كثيرة-؛ فإنّ في مقدمتها غالبًا ذِكْر شيءٍ مِن ترجمته، وإن استعرضت كُتب التاريخ والرجال في القرن الثامن الهجري؛ فمِن أبرز مَن يُترجم له هو شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ، فشُهرته بَلغت الآفاق، وتكاد تُجمع الكُتب على الثناء عليه مِن القديم والحديث.
ولذلك يجد الكاتب في سيرته صعوبةً في اختيار المناسب مِن سيرته لما يبحث فيه؛ أمَّا التوسُّع في ذِكر سيرته فقد أغنت شهرته عن ذلك، كما يقول عنه الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: (وشهرته تُغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره).
اسمُه ونَسبُه:
هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحرَّاني، وذَكر مترجموه أقوالًا في سبب تلقيب العائلة بآل تيمية؛ منها ما نقله ابن عبد الهادي رَحِمَهُ اللهُ: أن جده محمدًا كانت أمه تُسَمَّى تيمية، وكانت واعظةً فنُسِب إليها وعُرف بها، وقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتًا فقال: يا تيمية يا تيميَّة فلُقِّب بذلك.
مولده ونشأته:
وُلد رَحِمَهُ اللهُ يوم الاثنين عاشر -وقيل: الثاني عشر- مِن ربيعٍ الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائةٍ مِن الهجرة في حرَّان، وفي سنة سبعٍ وستين وستمائة للهجرة؛ أغار التتار على بلده، فاضطرَّت عائلته إلى تَرك حرَّان متوجهين إلى دمشق، وبها كان مستقرّ العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علماءها منذ صغره؛ فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء مِن حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن يتمّ العشرين مِن عمره.
ومما ذكره ابن عبد الهادي رَحِمَهُ اللهُ عنه في صغره أنَّه سمع مُسند الإمام أحمد بن حنبل مرَّات، وسمع الكُتب الستة الكبار والأجزاء، ومِن مسموعاته: معجم الطبراني الكبير.
وعُني بالحديث، وقرأ ونسخ وتعلَّم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثُمَّ فهمها، وأَخذ يتأمَّل كتاب سيبويه، حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قَصَبَ السَّبْقِ، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
هذا كلُّه وهو بعد ابن بضع عشرة سنة؛ فانبهر أهل دمشق مِن فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه، وقلَّ كتاب مِن فنون العلم إلَّا وقف عليه؛ كأن الله قد خصَّه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيءٍ أو يستمع لشيءٍ غالبًا إلا ويبقى على خاطره، إمَّا بلفظه أو معناه.
وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره؛ فإنه لم يكن مستعارًا بل كان له شعارًا ودثارًا؛ ولم يزل آباؤه أهل الدراية التامّة، والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفَّقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة.
هذا مِن الأعلام العليّة للبزَّار.
وكان رَحِمَهُ اللهُ حَسن الاستنباط، قويّ الحجة، سريع البديهة.
قال عنه البزَّار رَحِمَهُ اللهُ: (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه مِن استنباط المعاني مِن الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصِّص للعام، والمقيِّد للمطلق، والناسِخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتَّب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثًا، وبيَّن معانيه، وما أُريد فيه = يعجب العالِم الفطن مِن حُسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه).
وكان رَحِمَهُ اللهُ ذا عفافٍ تام، واقتصادٍ في الملبس والمأكل، صيِّنًا تقيًّا، برًّا بأُمِّه، ورعًا عفيفًا، عابدًا، ذاكرًا لله في كلِّ أمرٍ على كلِّ حال، رجاعًا إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع مِن العلم، فلا تَروى مِن المطالعة، ولا تملَّ مِن الاشتغال، ولا تكلَّ مِن البحث.
قال ابن عبد الهادي المتوفى سنة أربعٍ وأربعين وسبعمائة رَحِمَهُ اللهُ قال عنه: (ثُمَّ لم يبرح شيخنا رَحِمَهُ اللهُ في ازديادٍ مِن العلوم، وملازمة الاشتغال والإشغال، وبثِّ العلم ونشره، والاجتهاد في سُبلِ الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزُّهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحِلم والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفَّة والصيانة، وحُسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسُّك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على مَن آذاه، والصفح عنه، والدعاء له، وسائر أنواع الخير). انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.
بعد هذا ننتقل إلى الكلام عن مِحن الشيخ رَحِمَهُ اللهُ:
امتُحِن الشيخ رَحِمَهُ اللهُ مرَّاتٍ عدة؛ بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ولما كانت منزلة شيخ الإسلام في الشام عاليةً عند الولاة وعند الرعيَّة وشى به ضعاف النفوس عند الولاة في مصر، ولم يجدوا غير القدح في عقيدته، فطُلِب إلى مصر، وتوجه إليها سنة خمس وسبعمائة للهجرة، بعدما عُقدِت له مجالس في دمشق لم يكن للمخالف فيها حجة، وبعد أن وصل إلى مصر بيوم عقدوا له محاكمة، كان يظن شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ أنها مناظرة، فامتنع عن الإجابة حين علم أن الخصم والحكم واحد.
واستمرَّ في السجن إلى شهر صفر، سنة سبعٍ وسبعمائة هجرية؛ حيث طلب منه وفد مِن الشام بأن يخرج مِن السجن، فخرج وآثر البقاء في مصر على رغبتهم الذهاب معهم إلى دمشق.
وفي آخر السنة التي أُخرج منها مِن السجن تعالت صيحات الصوفية في مصر، ومطالباتهم في إسكات صوت شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ، فكان أن خُيِّر شيخ الإسلام بين أن يذهب إلى دمشق أو إلى الإسكندرية أو أن يختار الحبس، فاختار الحبس، إلا أن طُلَّابه ومحبيه أصرُّوا عليه أن يقبل الذهاب إلى دمشق، ففعل نزولًا عند رغبتهم وإلحاحهم.
وما إن خرج موكب شيخ الإسلام مِن القاهرة متوجهًا إلى دمشق، حتى لحِق به وفدٌ مِن السلطان؛ ليردُّوه إلى مصر، ويخبروه: بأن الدولة لا ترضى إلا الحبس، وما هي إلا مدة قليلة حتى خرج مِن السجن، وعاد إلى دروسه، وأكبَّ الناس عليه ينهلون مِن علمه.
وفي سنة تسعٍ وسبعمائة من الهجرة نُفي مِن القاهرة إلى الإسكندرية، وكان هذا مِن الخير لأهل الإسكندرية ليطلبوا العلم على يديه، ويتأثَّروا مِن مواعظه، ويتقبَّلوا منهجه، لكن لم يدم الأمر طويلًا لهم، فبعد سبعة أشهر طلبه إلى القاهرة الناصر قلاوون بعد أن عادت الأمور إليه، واستقرَّت الأمور بين يديه، فقد كان مِن مناصري ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ، وعاد الشيخ إلى دروسه العامرة في القاهرة.
وامتُحن شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ؛ بسبب فتواه في مسألة الطلاق، وطُلب منه أن يمتنع عن الإفتاء بها، فلم يمتنع حتى سُجن في القلعة مِن دمشق بأمرٍ مِن نائب السلطنة سنة عشرين وسبعمائة إلى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، لمدة خمسة أشهر وبضعة أيام.
وبحث حُسَّاده عن شيءٍ للوشاية به عند الولاة فزوَّروا كلامًا له حول زيارة القبور، وقالوا: بأنه يمنع مِن زيارة القبور حتى قبر نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكَتب نائب السلطنة في دمشق إلى السلطان في مصر بذلك، ونظروا في الفتوى دون سؤال صاحبها عن صحتها ورأيه فيها، فصدر الحُكم بحقه في شعبان مِن سنة ستٍ وعشرين وسبعمائة من الهجرة، بأن يُنقل إلى قلعة دمشق، ويُعتقل فيها هو وبعض أتباعه، واشتدت محنته سنة ثمان وعشرين وسبعمائة هجرية، حين أُخرج ما كان عند الشيخ مِن الكتب والأوراق والأقلام، ومُنعِ مِن ملاقاة الناس، ومِن الكتابة والتأليف.
وفاته رَحِمَهُ اللهُ:
في ليلة الاثنين في العشرين مِن ذي القعدة في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من الهجرة، تُوفي شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ بقلعة دمشق التي كان محبوسًا فيها، وأُذن للناس بالدخول فيها، ثُمَّ غُسِّل فيها، وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وصُلِّي عليه بالقلعة، ثُمَّ وُضعت جنازته في الجامع، والجند يحفظونها مِن الناس مِن شدة الزحام.
ثم صُلِّي عليه بعد صلاة الظهر، ثم حملت الجنازة، واشتد الزحام، فقد أغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلَّف عن الحضور إلا القليل مِن الناس، أو مَن أعجزه الزحام، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدَّم، وتارة يتأخَّر، وتارةً يقف حتى يَمرَّ الناس، وخرج الناس مِن الجامع مِن أبوابه كلها وهي شديدة الزحام رَحِمَهُ اللهُ رحمةً واسعة.
مؤلفاته:
مؤلفات شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ كثيرةٌ يصعب إحصاؤها؛ وعلى كثرتها فهي لم توجد في بلدٍ معيَّنٍ في زمانه، إنما كانت مبثوثةً بين الأقطار؛ كما قال الحافظ البزَّار رَحِمَهُ اللهُ حيث قال: (وأمَّا مؤلفاته ومصنَّفاته، فإنها أكثر مِن أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبًا أحد؛ لأنها كثيرة جدًّا، كبارًا وصغارًا، أو هي منشورةٌ في البلدان فقلَّ بلد نزلته إلا ورأيت فيه مِن تصانيفه).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رَحِمَهُ اللهُ المتوفّى سنة خمس وتسعين وسبعمائة: (وأمَّا تصانيفه رَحِمَهُ اللهُ فهي أشهر مِن أن تُذكر، وأعرف مِن أن تُنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدَّ الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها).
وذكر ابن عبد الهادي المتوفى سنة أربع وأربعين وسبعمائة للهجرة رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ أجوبة الشيخ يشقُّ ضبطها وإحصاؤها، ويعسر حصرها واستقصاؤها؛ لكثرة مكتوبه، وسرعة كتابته، إضافةً إلى أنه يكتب مِن حفظه مِن غير نقل، فلا يحتاج إلى مكانٍ معيَّنٍ للكتابة، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يُدرَى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردُّوا خطي وأظهروه لينقل، فمِن حرصهم عليه لا يردونه، ومِن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يُعرف اسمه.
ولما حُبس شيخ الإسلام خاف أصحابه مِن إظهار كُتبه، وتفرَّقوا في البلدان، ومنهم مَن تُسرق كُتبه فلا يستطيع أن يطلبها أو يقدر على تخليصها.
ومِن أبرز كتبه ما يلي:
أوَّلًا: كتاب الاستقامة؛ تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، طُبع في جزأين.
ثانيًا: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم؛ تحقيق الدكتور ناصر العقل، طُبع في جزأين.
القارئ: هذه في العقيدة أحسن الله إليك؟
الشَّيخ: نعم، كلُّها في العقيدة، وفي البدع، وفي الأعياد.
ثالثًا: بيان تلبيس الجهمية؛ وهو حُقق في ثمان رسائل دكتوراه، كنت مشرفًا عليها، وهي موجودة الآن في المكتبات، والآن يُطبع الكتاب في مجمع الملك فهد، وهو كتابٌ عظيمٌ مِن أحسن ما كتب شيخ الإسلام، فيه مباحث عظيمة لا توجد في غيره، ومنها مباحث السورة حتى إن مبحث السورة جاء في رسالة دكتوراه كاملة.
رابعًا: الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح؛ طُبع بتحقيق الدكتور علي بن حسن بن ناصر، والدكتور عبد العزيز العسكر، والدكتور حمدان الحمدان، وكان في الأصل ثلاث رسائل دكتوراه.
خامسًا: درء تعارض العقل والنقل؛ طُبع بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم في عشرة أجزاء، والجزء الحادي عشر خُصِّص للفهارس.
سادسًا: الصَّفَدِية؛ تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، طُبع في جزأين.
سابعًا: منهاج السُّنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة القدريَّة؛ تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم رَحِمَهُ اللهُ، وطُبع في ثمانية أجزاء، وخُصِّص الجزء التاسع منه للفهارس.
ثامنًا: النبوّات؛ طُبع في مجلد بدون تحقيق.
وله مِن الكتب والرسائل الكثير جدًّا مما طُبع بعضه مستقلًّا، وبعضه في مجاميع كبيرة وصغيرة، والكثير منه لا يزال مخطوطًا سواءٌ كان موجودًا أو في عداد المفقود.
القارئ: النبوَّات -أحسن الله إليك- أيضًا خرجت محققة مؤخّرًا، يبدو أنَّ الدكتور كَتب هذا قبل أن تخرج النبوَّات محققة للدكتور الضويّان فيما يبدو؟ هو قال: إنها صدرت بدون تحقيق.
الشَّيخ: نعم، كان كَتبها قبل ذلك.
القارئ: قبل أن تكون محقَّقة للدكتور.
الشيخ: كذلك بُغية المرتاد هذا كلامه، والأصفهانيَّة، وكذلك الآن المشروع المشرف عليه الدكتور بكر أبو زيد.
القارئ: هذا المشروع نودُّ أن نتحدث عنه قليلًا إذا تكرَّمتم؛ لأنه مِن الأهمية بمكان، قد قامت عليه بعض الجهات الخيرية مشكورة.
فكرة هذا المشروع: هو إخراج تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، لعلّنا نتحدث مع الإخوة المستمعين عنه إذا تكرَّمتم يا شيخ.
الشَّيخ: نعم، هذا المشروع قام بالإشراف عليه فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد وفَّقه الله، وذَّكر أن هذا المشروع يشمل موضوع آثار شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ مِن كُتبه، ورسائله، وفتاويه، وما لحقها مِن أعمال؛ مِن المختصرات، والاختيارات ونحوها، وسيرته العطرة.
قال وفَّقه الله: وينحصر هذا الموضوع في أربعة اقسام:
القسم الأول: طَبْع ما لم يُسبق طبعه:
قال رَحِمَهُ اللهُ: مِن نِعَمِ الله علينا وعلى الناس أَجمعين انتشار فهارس مكتبات العالم حتى جُمع منها عدد كبير في نحو مائة وأَربعين مجلَّدًا، ثُمَّ سهولة الاتصالات لاسيَّما عبر الشبكات وتبادل المعلومات ومراكز البحث والدراسات، فمن خِلالها وغيرها مِن الوسائل؛ كسهولة السفر مِن بلد إِلى آخر ظهر مِن آثار الأَسلاف ما تقرُّ به عيون أَهْل العلم وتبتهج به نفوسهم.
وكان منها أن تمَّ الوقوف في مطاوي الفهارس، ومراسلة الخازنين على خبرٍ كثيرٍ مِن كُتب ورسائل وفتاوى هذا الإِمام، وما لحقها مِن أعمال مما لم يُنشر مِن قبل، ومن آثار ذلك: اشتغال عدد مِن الباحثين والمحققين بها.
فهذا هو القسم الأُم من هذا المشروع، وهو: الجوهرة المفقودة، والدرة المنشودة من هذا العقد الثمين؛ يعني طبع مالم يسبق طبعه.
القسم الثاني: تحقيق بعض ما سَبق طبعُه:
يقول وفَّقه الله: منذ مائة وخمسين عامًا تقريبًا بدأت طباعة آثار شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ تعالى مِن أُمَّهات كُتبه، ومجاميع رسائله وفتاويه، فانتشرت بين المسلمين، وتنافس الناس في طبعها ونشرها، وكان منها ما قُرِّر درسه في المساجد وفي دور العلم ويتدارسه الناس في المجالس، حتى إِنَّ بعض رسائله لا تُحصى طبعاتها؛ لأَن آثارها مِن الخير المبذول للمسلمين، مثل "العقيدة الواسطية"، وما لحقها في عصرنا مِن الشروح والتعليقات.
لكن منها ما طُبع وفيه أغاليط طباعية غير قليلة، ومنها ما طُبِع على نسخة ناقصة، ومنها ما طُبع على الراقمة في رسائل جامعية على نسخٍ فريدةٍ ناقصة، مثل : "نقض التأسيس"، وقد تمَّ الوقوف على نسخة كاملة بما فيها من نقصٍ -بحمد الله تعالى- وهكذا.
أمَّا "نقض التأسيس" فالحمد لله، وُجد النقص وسيُطبع، والظاهر أنَّ الدكتور أيضًا يمكن وجد زيادة على ما طُبع، ولكن -بحمد الله- طُبع في مجمع الملك فهد، ثُمَّ أيضًا وَجد الدكتور زيادة وطبُع لكن هذا خير كثير.
القسم الثالث: -يقول- ما لحقها مِن أعمال:
يقول وفَّقه الله: اشتغل أَهل العلم قديمًا وحديثًا بآثار شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- بمؤلَّفاتٍ مفردة على الوجوه الآتية:
أوَّلًا: الاختصار والانتفاء والتهذيب، كما لتلميذه ابن عبد الهادي، وتلميذه الذهبي، وغيرهما مثل: البعلي، والسيوطي، وغيرهما، ومنها: ما لم يعرف اسم مختصره؛ كما في مختصر الرد على الإخنائي.
وقد ذكر ابن قاسم رَحِمَهُ اللهُ في مقدمة "مجموع الفتاوى": أنَّه فتش عن مختصراتها، وأدخل بعضها في مجموعه.
ثانيًا: اختياراته رَحِمَهُ اللهُ: أفردها بالتأليف: تلميذه ابن عبد الهادي، والبرهان ابن القيم، وابن اللحام البعلي، وذكر جملة منها في ترجمته تلميذه ابن عبد الهادي في "العقود الدرية"، وابن رجب في "الذيل"، والعليمي في "المنهج الأحمد"، وابن العماد في "شذرات الذهب"، والنوَّاب صديق في "التاج المكلَّل".
وللشيخ سليمان بن سحمان نظم لبعضها مِن أول الطهارة إلى باب الصداق، وله نظْم آخر لتسع عشرة مسألة انفرد بها شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ كما في "ملتقى الأنهار مِن منتقى الأشعار" لابنه الشيخ صالح رحمهما الله تعالى.
وقال تلميذه الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ في تاريخه: "وله اختيارات كثيرة ،ومجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدلَّ على ذلك مِن الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والسلف". انتهى.
ثالثًا: الشرح والتعليق: ومنها "العَلَم الهَيِّب شرح الكلم الطيب" للبدر العيني، و"اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإِسلام ابن تيمية" لأحمد بن عبد الله المرداوي، وذَكَر: أن هذه اللامية منسوبة لابن تيمية، وهي في ستة عشر بيتًا، و"الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية" لابن سِعدي رَحِمَهُ اللهُ، وشروح متعددة في عصرنا لكتابه "العقيدة الواسطية" وغيرها.
وإنما غابت أنظار العلماء عن الشرح لكُتبه؛ لأنها ليست مؤلَّفةً على المتون؛ كطريقة الماتنين مِن أَهل العلم؛ ولهذا لما كان كتابه "الكلم الطيب" كالمتن تناوله العيني بالشرح، ولما كانت "الواسطية" كذلك تناولها المعاصرون لنا بالشرح.
رابعًا: الجمع الموضوعي؛ مثل جمع تلميذه ابن عبد الهادي للأحاديث الضعيفة التي في "منهاج السنة"، وجمع محمد بن قاسم لمناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كذلك، وجَمَع آخرون تفسيره مِن كُتبه المطبوعة.
خامسًا: دراساته الاجتهادية في الفقه وغيره، وهذه سمة بارزة في كتابات المعاصرين.
القسم الرابع: سيرته المباركة:
إنَّ سيرة هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تُستفاد مِن خمسة مصادر هي:
المصدر الأول: كُتب التراجم والسِّيَر العامة، وقد كفانا كتاب "الجامع" مِن هذا المشروع المبارك، وقد حوى خمسًا وسبعين ترجمة مِن كُتب التراجم العامة مخطوطها ومطبوعها.
المصدر الثاني: الكتب المفردة في ترجمته، وهي خمسة عشر كتابًا حتى نهاية عام ثلاثمائة وألف، كما في مقدمة "الجامع".
وكما كانت ترجمته لتلميذه ابن عبد الهادي في كتابه "مختصر طبقات علماء الحديث" هي أَوْفى التراجم؛ فإِنّ كتابه "مفرد العقود الدريَّة" ترجع إليه الكُتب المفردة الأُخرى، وأَرى إعادة تحقيق وطبع "العقود الدرية"، ويُضم إليه ما زاد عليه مِن كُتب التراجم المفردة المذكورة؛ تحشيةً في محلِّها المناسب مِن هذا الكتاب، حتى يُغني عنها، وهي في دور الإعداد مِن المشتغلين بهذا المشروع.
المصدر الثالث: التقاط ترجمته الذاتية مِن خلال مؤلَّفاته، وقد انتُدب لهذا العمل بعض أفاضل طلبة العلم، وهو في دور الترتيب بعد الاستقراء والجمع.
المصدر الرابع: تتبُّع ترجمته مِن كُتب تلاميذه، أمثال: ابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن مفلح والصفدي وابن الوردي وغيرهم.
المصدر الخامس: تتبُّع ترجمته مِن خلال تراجم أَنصاره وخصومه، مِن تاريخ ولادته سنة إحدى وستين وستمائة إلى تاريخ وفاته سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة، بل إلى نهاية القرن الثامن.
وهذان المصدران الرابع والخامس بحاجة إلى مَن ينشط لاستخراجهما.
وبعد تكامُل هذه المصادر الخمسة، سوف يُصاغ مِن مجموعها -بمشيئة الله تعالى- سيرة واحدة موثَّقة متسلسلة المعلومات، مستوعِبة لجميع ما فيها مِن مصادر باسم "السيرة الجامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية" رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وما ذلك على الله بعزيز.
القارئ: أحسن الله إليكم؛ إذًا -مستمعينا الكرام- كما تفضَّل الشيخ قبل قليل بذكر شيء مِن هذا المشروع؛ الذي أعدكم بإذن الله أن يكون لي تغطية كاملة عنه مِن خلال برنامج "ثمرات المطابع".
سوف أقوم في هذا البرنامج بإذن الله بتتبُّع هذا المشروع، وذكر أهم ما تَوصَّل إليه القائمون عليه.
شيخ عبد العزيز، قبل أن أختم هذه الحلقة أحسن الله إليكم ألحظ وأنتم تتحدوثون عن سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية أنكم ذكرتم جملة مِن العلماء مِن أمثال: البزَّار، وابن رجب، وابن عبد الهادي؛ مما يعني أن هؤلاء كَتبوا عن شيخ الإسلام خصوصًا ممَّن هم من تلاميذه؛ كابن عبد الهادي وابن رجب وغيرهم.
هل يعني هذا أن هناك مَن كتب عنه مِن الأوائل مِن هؤلاء عن ترجمته وسيرته أحسن الله إليكم؟
الشَّيخ: نعم كالبزار وغيره نعم هناك مَن كتب مِن المعاصرين وغيرهم، القارئ: نعم لكن هل ترون أن كتابات الذين عاصروه أو كانوا بعده كانت أكثر تأصيلًا مِن الكتابات المعاصرة فيُرجع إليها؟
الشَّيخ: لا شك أن هو الأصل لأنه كلما قرب مِن عصره أو كلما كان الكاتب مِن تلاميذه يكون أوثق لأنه يكون أدرى وأعلم بحاله.
القارئ: أحسن الله إليكم، تحدثنا في الحلقة الماضية أحسن الله إليكم على شيء مِن التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية وذكرتم شيئًا مما كتب ومؤلفاته لا شك أن وصوله إلى هذه المنزلة العظيمة لأسباب كثيرة نود في هذه الحلقة أن نتحدث عن شيء مِن ثناء العلماء عليه وثناء الناس في عصره عليه رَحِمَهُ اللهُ تعالى ثم الحديث عن منهجه في التأليف وبالذات في العقيدة مادام كتاب برنامجنا هذا من كتب العقيدة أحسن الله إليكم.
الشَّيخ: فإن الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تعالى إمام مِن الأئمة المجتهدين؛ إمام نصر الله به، أظهر الله به عقيدة أهل السنة والجماعة، وصار مَن بعده يستفيد منه في القديم والحديث، حتى أن بعض تلاميذه أقسم بالله بأن هناك أناس في أصلاب الرجال سوف يخرجهم الله وينشرون كتب شيخ الإسلام؛ في وقت تحارب فيه كتب شيخ الإسلام، وقد تحقق هذا في عصرنا والحمد لله.
مِن ثناء العلماء عليه
قال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني المتوفى سنة سبعٍ وعشرين وسبعمئة: (كان -يعني شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ- إذا سئل عن فن مِن العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء مِن سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم مِن العلوم، سواء أكان مِن علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين).
وقال أيضًا: (فيه اجتمعت شروط الاجتهاد على وجهها). وهذا الكلام صحيح فهو ذكر رَحِمَهُ اللهُ في درء تعارض العقل والنقل (ما طرح الآن ملتزم لكل مبطل يستدل بدليل أو بحجة أن أجعل حجته دليلًا عليه وحجة عليه).
وقال ابن دقيق العيد رَحِمَهُ اللهُ: (لما اجتمعتُ بابن تيمية رأيت رجلًا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد).
وقال أبو البقاء السبكي: (والله يا فلان ما يُبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به).
وحين عاتب الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللهُ الإمام السبكي كتب معتذرًا مبينًا رأيه في شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية.
القارئ: عفوا شيخ المعاتب والمعاتب منه؟
الشَّيخ: عاتب الإمام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ الإمام السبكي.
القارئ: لأن السبكي كان رد على شيخ الإسلام وكتب فيه؟
الشَّيخ: نعم، السبكي علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري، ولي القضاء في الشام، ثُمَّ عاد إلى القاهرة وتوفي فيها، وله ردود على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسائل كثيرة كمسألة شد الرحل، والزيارة، وفناء النار، ومسألة الطلاق وغيرها.
لما عاتبه قال: (أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسُّعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفُرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كلّ مِن ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أعظم مِن ذلك وأجل، مع ما جمع الله له مِن الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سُنن السلف، وأخذه مِن ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل مِن أزمان). انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.
وأما ثناء الإمام الذهبي على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ فهو كثير، وذِكر ثناء الإمام الذهبي على ابن تيمية هو الغالب على مَن ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ، وعلى مواضع ترجمة ابن تيمية مِن كتب الإمام الذهبي، ومنها قوله، قول الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللهُ في شيخ الإسلام ابن تيمية: (الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط).
وقوله: (ونظر في الرجال والعلل، وصار مِن أئمة النقد، ومِن علماء الأثر مع التدين والنبالة، والذكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة مِن مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نُصب عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف).
وقال: (هذا كله مع ما كان عليه مِن الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ من ملاذ النفس مِن اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية).
وقال فيه أيضًا: (كان قوَّالًا بالحق، نهّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار، ومَن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه).
وقال عنه: (لا يؤتى مِن سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا مِن قلة علم فإنه بحر زخار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومنافقتهم، ولا هو ينفرد بمسائل بالتشهي فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالًا ولا جاهًا بوجه أصلًا، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا في عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوبًا له مغفورة في سعة كرم الله تعالى).
وقال الشوكاني رَحِمَهُ اللهُ: (إمام الأئمة المجتهد المطلق).
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وأسكننا وإياه في الفردوس الأعلى مِن جنته.
القارئ: أحسن الله إليكم شيخ عبد العزيز وأنتم تتحدثون وتذكرون كلام أهل العلم مِن أمثال الذهبي وغيره عن شيخ الإسلام نلحظ أنه أمة في رجل يجاهد، يكتب، يُنكر، يؤلف، يتصدى للناس، ينفعهم، يقوم على حاجاتهم هذه المزايا المهمة إذا اجتمعت في رجل رفع الله قدره وأعلى منزلته تنقص كثير الحقيقة مِن الدعاة في هذا الزمن يعتقدون فقط أن هناك جوانب تكفي لأن يتصدوا للنواحي العلمية لعل لكم إشارة حول هذا
الشَّيخ: لاشكَّ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ إمام مِن أئمة الدين؛ قد اجتمعت فيه صفات الإمامة، وقد تحقق فيه الإمامة، فإن الإمامة إنما تتحقق للمتقين، مَن اجتمع فيه هذان الشرطان في القرآن كان إمامًا في الدين؛ الصبر واليقين، فالإمامة في الدين تُنال بالصبر واليقين قال تعالى:وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)[السجدة:24].
وهو مِن النوادر، وهذه الصفات لا تجتمع إلا في النوادر والأئمة والعلماء القلائل، الذين وفقهم الله وقواهم وأعانهم وليس كل أحدٍ يستطيع أن يقوم بهذه الأعمال، قد يحاول بعض العلماء أن يقوم ببعض هذه الصفات فلا يستطيع، لكن مَن وفّقه الله، وجاهد نفسه، واستعان بالله، وبذل جهده ووسعه، وأخلص عمله، وكان صادقًا مع الله فإن الله يوفقه.
القارئ: حتى أنتم نقلتم قبل قليل كلام بعض أهل العِلم: أنه أقسم أن اللهU سيخرج مِن أصلاب الرجال مَن ينشر كُتب شيخ الإسلام ابن تيمية، مما يدلُّ على أنه رَحِمَهُ اللهُ لم يكن ينتظر أصلًا أن ينتشر له شيء، أو ينتظر قد يقطف الثمرة العاجلة في دنياه، ولذلك ظهرت آثاره ولو متأخرة.
الشَّيخ: وهذا يدلُّ على حسن قصده وإمامته، وله الثواب والأجر يعني كلُّ مَن نفع الله على يديه، كلُّ مَن انتفع مِن كُتبه وإمامته وعلمه وفضله فله نصيب من الأجر؛ لأنَّ مَن كان إمامًا في الخير فإن الله تعالى يُثيبه على كلِّ مَن انتفع منه؛ يعني هؤلاء الذين انتفعوا مِن علمه ومؤلفاته وكُتبه له مثل أجرهم.
كما أنَّ الإنسان إذا كان إمامًا في الضلالة -والعياذ بالله- فإنه سيكون عليه وزر ولهذا جاء في الحديث «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بِها إِلَى يَومِ القِيامَةِ َومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيهِ وِزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ».
ولما علم الله حسن نيّته رفع الله منزلته وأعلى صيته ونشر آثاره؛ ومِن ذلك أن ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ قال عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ: (إنه كان يكره الكتابة).
فيقول: لا تكتبوا عني، اكتبوا الحديث، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لما علم الله حسن نيته جُمع مِن فتاويه ومؤلفاته شيئًا كثيرًا، حتى إنها جاءت أحمال الإبل، قال: ثلاثين حملًا أو قريبًا مِن ذلك، وهو ينهى عن ذلك ويكره أن يكتب عنه لكن لما علم الله حسن نيته نشر الله عنه.
القارئ: كل هذا حرص على أن ينقل قول النبي صلى الله عليه وسلم مِن الأحاديث.
الشَّيخ: نعم، لا يريد أن يكتب شيء غير النصوص.
القارئ: منهج شيخ الإسلام ما دمنا نتحدث في هذا الموضوع يا شيخ.
الشَّيخ: نعم، منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:
يُعد شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ إمامًا مِن أهل السنة؛ وكل مَن جاء بعده في الغالب أنه يستفيد منه، هو يُعد مِن أكبر شرَّاح اعتقاد أهل السلف، والمستدلين بمسائله وجزئياته وتفصيلاته، ما بين رسائل صغيرة وكُتب ومجلدات ضخمة، ولا يكاد القارئ لشيخ الإسلام ابن تيمية يقرأ في كتاب مِن كُتبه التي ألَّفها في العلوم الأخرى؛ إلا ويجد في داخل هذه الكتب بحوثًا نفيسة في الاعتقاد لما يرى مٍن أهمية نشر الاعتقاد الحق، وبثه بوسائل مختلفة، وطرق شتى.
فشيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ الذي جدد للأمة عقيدتها في القرن الثامن الهجري؛ لم يكن ينصر نِحلةً معينة أو يؤيد مذهبًا وطريقة غير طريقة السلف الصالح، التي معتمدها كلام الله I وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صرَّح رَحِمَهُ اللهُ بهذا في مواضع متعددة مِن كُتبه، فمما قاله حين نوظر لأجل العقيدة الواسطية قال رَحِمَهُ اللهُ: (مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي ولا انتصرت لذلك ولا أذكر في كلامي إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها) ذكرها في مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء الثالث صفحة 229.
وقد كان رَحِمَهُ اللهُ يركِّز على الاعتقاد؛ لأن أمره خطير عظيم؛ ولذا لما التمس منه تلميذه البزّار أن يؤلِّف نصًّا في الفقه يجمع فيه اختياراته وترجيحاته، ويكون عمدة في الإفتاء؛ بيَّن له ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنَّ الفروع أمرها قليل بخلاف الأصول؛ إذ كثير مِن أهل الأهواء الذين أسَّسوا الطوائف والفِرق الضالة، كان قصدهم إبطال الشريعة، فأوقعوا الناس في التشكيك في أصول دينهم.
ولهذا قال رَحِمَهُ اللهُ: (فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل مَن يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حججهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم) إلى أن قال: (فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جُلَّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به مِن الأجوبة العقلية والنقلية).
ومنهج شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ في تقرير العقيدة يمكن أن يتضح مِن معالم متعددة؛ أبرزها:
أولًا: تعظيم نصوص الشريعة، وإجلالها، والصدور عنها، لقول الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء:65]، وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) [النور:63].
وقد وصف رَحِمَهُ اللهُ أخذ العلم والإيمان؛ أنهم يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يُعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًّا، وما خالفه كان باطلًا.
وجعل رَحِمَهُ اللهُ مِن طريقة أهل السُّنَّة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، ويعلمون أنَّ أصدق الكلام؛ كلام الله، وخير الهدي؛ هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره مِن كلام أصناف الناس.
فهذه هي طريقته، وهذا هو منهجه: تعظيم النصوص مِن الكتاب والسُّنَّة، بوجود مهابتها في النفس والتسهيب لها، واستنباط الحكم الشرعي منها، وفق القواعد المرئية عند أهل العلم بها.
ثانيًا: دعم النصوص الشرعية وتأييدها بأقوال سلف الأُمَّة وعلمائها المعتبرين:
ويظهر هذا الأمر مِن إكثار شيخ الإسلام ابن تيمية مِن النقل عنهم، وجعل أقوالهم حُجَّة يستند إليها في توضيح النص وبيانه، وقد أخذ ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ على نفسه ألا يقول بقول إلا وهو مسبوق إليه؛ فلا ينفرد بقول لم يقل به أحد قبله، فضلًا عن مخالفة إجماع المسلمين بأي مسألة مِن المسائل.
قال رَحِمَهُ اللهُ عن نفسه: أنَّ المجيب -ولله الحمد- لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء، فإن كان يخطر له ويتوجه له فلا يقوله إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء.
فمَن كان يسلك هذا المسلك كيف يقول قولًا يخرق به إجماع المسلمين!
وهو لا يقول إلا ما سبق إليه علماء المسلمين، وهو رَحِمَهُ اللهُ يسلك هذا المنهج؛ لأنه يرى أنَّ الحق دائمًا مع السُّنَّة والآثار الصحيحة.
فحين تحدَّث رَحِمَهُ اللهُ عن السلف قال: (الصواب معهم دائمًا ومَن وافقهم كان الصواب معه دائمًا؛ لموافقته إياهم، ومَن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول؛ فمَن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينفصلون إلا لقوله، ولا يُضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها).
هذا الكلام في منهاج السُّنَّة النبوية الجزء الخامس صفحة 282.
وبيَّن رَحِمَهُ اللهُ أنَّ كلام السلف مؤتلِف غير مختلِف؛ فلا يتعارض بوحدة المنهج والمصدر، فإن اجتمع بعضه إلى بعض زال الإشكال الوارد في الأذهان؛ ولذا حين تحدَّث رَحِمَهُ اللهُ عن بعض مسائل الصفات قال: (فكلام أئمة السُّنَّة والجماعة كثير في هذا الباب متفق غير مختلف، وكله صواب، ولكن قد يبيِّن بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبيِّنه غيره في حاجته في ذلك). هذا في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وقال رَحِمَهُ اللهُ مثنيًا على كلام السلف وموافقتهم النصوص: (ومَن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب؛ علم أنهم كانوا أدق الناس نظرًا وأعلم الناس في هذا الباب في صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنَّ أقوالهم هي الموافقة للنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب). هذا مِن درء تعارض العقل والنقل.
ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) [البقرة:176].
قال: ولذا فإن المعطلة النفاة لا يجدون نصًّا واحدًا مِن نصوص السلف والأئمة يؤيد قولهم وينصره، بل أقوال السلف متفقة متحدة على بيان القول الحق، قول أهل السنة والجماعة، ورد مذاهب الضلال وسُبُل أهل الغواية، وصرَّح رَحِمَهُ اللهُ في أن المادة العلمية والترجيحات المرضية في المسائل العقدية المذكورة في كُتبه؛ إنما هي مِن كُتب أئمة السلف.
ولا نكتفي بهذا الإجمال بل ذكر هذه الكُتب في مواضع متعددة مِن كُتبه ورسائله العقدية؛ ومن الكُتب التي كان يعتمد عليها: كُتب السُّنَّة والرد على الجهمية في جمع مِن السلف، ومنهم: عبد الله بن محمد الجعفي، والدارمي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وعبد الله بن الإمام أحمد، وأبو بكر بن الأفرد، وحنبل بن إسحاق، والخلّال، والإمام الطبري، وابن أبي زمنين، وابن منده، وأبو حسن بن شاهين، وأبو ذر الهروي، وأبو داود السجستاني، وابن أبي عاصم.
وكذلك التوحيد لابن خزيمة، والشريعة للآجري، والإيمان لأبي بطة، وشرح أصول السُّنَّة للألكائي، واعتقاد السلف أصحاب الحديث للصابوني، إضافةً إلى كُتب التفاسير المعتمدة التي تنقل تفاسير السلف؛ كتفسير عبد الرزاق وعبد ابن حميد وغيرهما.
وكذلك الكتب المؤلَّفة في السُّنَّة التي تنقل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وآثار السلف مِن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم.
ثالثًا: تقرير العقيدة بأسلوب مُيسر وعبارات واضحة مدعمًا ما يقول بما يتيسر مِن آيات الكتاب العزيز والسُّنَّة النبوية المطهرة، ثُمَّ بعض أقوال السلف في فهمهم لنصوص الوحيين لهذه المسألة المطروحة.
ويحسن التنبيه إلى أن كُتب الاعتقاد التي ألفها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: كُتب تُعنَى بعرض اعتقاد السلف مِن الكتاب والسُّنَّة، وأقوال سلف الأمة، دون ذِكرٍ للشبه مثل: العقيدة الواسطية.
القسم الثاني: كتب تُعنى بالرد على شبه المخالفين ومناقشتها، سواء كان المخالفون مِن المِلل الأخرى؛ كالنصارى في رده عليهم في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، أو كانوا مِن المنتسبين للإسلام مِن الفرق الإسلامية؛ ككتاب "بيان تلبيس الجهمية"، وكتاب "درء تعارض العقل والنقل"، وغيرهما.
القسم الثالث: كُتب تجمع بين العرض والرد، فيذكر مسائل الاعتقاد وأقوال السلف فيها، ثُمَّ يذكر الشُّبه ومناقشتها مِن كلام السلف وتعليقه عليها؛ كالحموية.
وعلى سبيل المثال مما قرره ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في الاعتقاد بوضوح؛ قوله في العقيدة الواسطية: (هذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة وهو: الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر، ومِن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلَّم، مِن غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل يؤمنون بأن الله I ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم مِن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).
وقال رَحِمَهُ اللهُ: (ومِن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت مِن قيام الناس مِن قبورهم لرب العالمين وتنصب الموازين وتوزن فيها أعمال العباد، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) [المؤمنون: 102، 103]، وتنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، أو مِن وراء ظهره، وأصناف ما تضمنته الآخرة مِن الحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكور في الكُتب المنزَّلة مِن السماء).
وقال عن الإيمان: (ومِن أصول أهل السنة أنَّ الدين والإيمان قولٌ وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).
وعن الصحابة قال رَحِمَهُ اللهُ: (ومِن أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) [الحشر:10].
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسُّنَّة والإجماع مِن مراتبهم وفضائلهم، وذكر أمورًا مِن اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحج والجهاد، والجُمع والأعياد مع الأمراء، والنصح للأمة، والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا عند القضاء.
وأنَّ أهل السنة يدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.
وذَكر: أنَّ أهل السنة يندبون إلى أن تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحقٍّ أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها).
وهذا العرض لاعتقاد السلف كله واضح ميسر، لم يتعمَّد الغريب مِن الكلمات، أو الإيغال في المصطلحات الكلامية وغيرها، بل قرَّر ذلك كله بعبارات واضحة وجُمل موجزة.
رابعًا: شمولية عرض العقيدة وتقريرها في كُتبه رَحِمَهُ اللهُ؛ وذلك لربط بعض القضايا ببعض، ولكثرة إنتاجه العقدي فلا تكاد تجد مسألة مِن مسائل الاعتقاد إلا وله رَحِمَهُ اللهُ إسهامٌ واضح فيها؛ بدءًا بأركان الإيمان الستة على وجه التفصيل، وتقرير أنواع التوحيد الثلاثة، والاستدلال لها إضافة إلى المسائل المتعلقة بالاعتقاد مثل: الاعتقاد الحق في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكرامات الأولياء واعتقاد أهل السنة والجماعة في ولاة الأمور ووجوب طاعتهم، وتحريم الخروج عليهم إلى غير ذلك مِن مسائل الاعتقاد التي بثَّها رَحِمَهُ اللهُ في تضاعيف كُتبه.
ويكفي لمعرفة ذلك النظر في الأجزاء الأولى مِن مجموع فتاواه؛ فهي دواوين كبيرة لشرح معتقد السلف والاستدلال له، وقد كان تركيزه رَحِمَهُ اللهُ على توحيد الألوهية كبيرًا؛ وذلك أنه أصل دعوة الرسل، وسبب إنزال الكُتب، فبيَّن رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اعتنى بتقرير هذا التوحيد وحماية جنابه، ويظهر اهتمام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ وحرصه على توحيد الألوهية ما ألَّفه في هذا الجانب.
فقد بلغت مؤلفاته عدةً كلها في تقرير هذا التوحيد وبيانه، والدفاع عنه، إضافةً إلى استطراداته عن توحيد الألوهية في كُتبه الأخرى، ورسائله الصغيرة التي تُعنى بتقرير هذا التوحيد.
ومِن مؤلفاته رَحِمَهُ اللهُ في تقرير هذا التوحيد: قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة، الرد على البكري، الرد على الإخنائي، قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادة أهل الإسلام والإيمان، وعبادة أهل الشرك والنفاق، الجواب الباهر في زوار المقابر.
وخامًسا: حين يقرر ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ معتقد السلف يركِّز على منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة؛ وذلك لقول الحق تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وهذا منهج كامل في أمور الاعتقاد كلها؛ بل في جميع الأمور، كما قال رَحِمَهُ اللهُ عن أهل السنة: هم الوسط في فرق الأمة.
كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية مِن القدرية، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج وأهل السنة والجماعة وسط في باب محبة الأنبياء بين مَن يغلو في حبهم ويعظمهم كتعظيم الله، ويرى أن لهم تصرُّفًا في بعض أمور الكون، وبين مَن يفرِّط في حقهم ويغبطهم، ويرى أن بعض الناس أفضل منهم، وهذا موجود في طوائف مِن الصوفية.
سادسًا: التسليم بالغيبيات وتفويض كيفياتها إلى الله U.
وهذا موافق للكتاب والسنة ولما عليه سلف الأمة؛ فقد جعل الله مِن صفات المتقين قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) [البقرة:3].
ومِن تمام إيمانهم بالغيب: أنهم يفوّضون ما لا يعلمونه مما لم يَرد به النص إلى عالمِه وخالِقه، وقد قال الله U في تمام التسليم للأوامر الشرعية، ولو لم تظهر لنا حكمتها:فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء:65].
وقال الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللهُ: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما منهج ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في الاستدلال على اعتقاد السلف:
فمما ينبغي التنويه إليه قبل ذكر المنهج، بيَّن: أنَّ وسائل التلقِّي في الاعتقاد عنده هي الكتاب والسُّنَّة؛ فالعقيدة توقيفية يعني يعتمد فيها على الوحي والنقل، لا على الأهواء والعقول، كما قال الله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[النساء:59].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[الحجرات:1]، وقال I: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران:103].
يقول ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: أصلٌ جامعٌ في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه وبيان الاقتداء به في كلِّ ما يحتاج إليه الناس مِن دينهم؛ وأن النجاة والسعادة في اتباعه، والشقاء في مخالفته.
وقال عن الأصل الثاني: فصلٌ في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين أصوله وفروعه باطنه وظاهره علمه وعمله فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان.
القارئ: تفضلتم في الحلقة الماضية شيخ عبد العزيز في حلقة مضت إلى الحديث عن شيء مِن منهج شيخ الإسلام في عقيدته، وأشرتم إلى جملة واختيارات متعددة في كلامه في العقيدة، ثُمَّ توقف بنا الحديث حول منهجه في التأليف في العقيدة، هذا الموضوع هام -أحسن الله إليكم- الحديث عنه قبل أن نبدأ في شرح كتاب الإيمان.
الشَّيخ: لقد سبق الكلام على منهج شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ في مؤلفاته؛ وأنه يعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، وكلام السلف الصالح مِن الأئمة والعلماء؛ في بيان معاني كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولأجل معرفة معالم منهج ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في الاستدلال للعقيدة يَحسن ذكر النقاط التالية:
أوَّلًا: وجوب رد التنازع إلى الكتاب والسُّنَّة، والإذعان لهما والسمع والطاعة لأمرهما واجتناب نهيهما، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء:59]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
وقال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور:51]، وقال I: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء:65]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) [النساء:60-61].
وقد بيَّن ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ وجوب ردّ التنازع إلى الله ورسوله وأن مَن لم يتحاكم إليهما، فهو دليل على ضلاله ونفاقه؛ وأن الأمة لا تجتمع إلا على هذين المصدرين؛ وأنه يلزم لمن لم يتحاكم إليهما ألا يكون هدى للناس، ولازم ذلك أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرًا لهم منها، بين ذلك في درء تعارض العقل والنقل وفي فتوى الحموية الكبرى.
ثانيًا: نفي التعارض بين نصوص الكتاب ونصوص السُّنَّة، فهما وحي مِن الله U كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم:3-4]، وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23]، وقال سبحانه: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)[النساء:82].
وبيَّن رَحِمَهُ اللهُ: أن كلام الله متشابه متماثل، يصدق بعضه بعضًا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيرة أو عن ملزوماته، وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بثبوت نقيض ذلك، بل يخبر بنظيره أو بملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته بل ينفيه أو ينفي لوازمه.
وقد بيَّن رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ النصوص لا تتعارض في نفس الأمر؛ إلا في الأمر والنهي إذا كان أحدهما ناسخًا، والآخر منسوخًا؛ وأمَّا الأخبار فلا يجوز تعارضها؛ وأمَّا إذا تعارض عند أحد خبران أو أمران أحدهما عام والآخر خاص وقُدِّم الخاص على العام، فإنه يُعلم أنَّ ذلك ليس بتعارض -في الحقيقة-.
وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فسّر معناه أو بيَّنه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه، لم يكن في هذا خروج عن كلام الله وعن كلام رسوله ولا عيب في ذلك ولا نقص.
ثالثًا: نفي التعارض بين نصوص الشرع وبين العقل، وهذا الموضوع قد أسهب في بيانه ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ عرضًا وردًّا، بل يمكن القول: أنَّ أكثر مناقشاته مع المتكلِّمين كانت في بيان هذه المنهجية الفاصلة بين أهل السنة وبين مخالفيهم، وقد أوضح رَحِمَهُ اللهُ أن معارضة القرآن بمعقول أو قياس ليس مِن فعل السلف، ولم يكونوا يستحلّونه، وإنما ابتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوها، بيَّن ذلك رَحِمَهُ اللهُ في كتاب الاستقامة.
ويحيل رَحِمَهُ اللهُ إلى تعارض بين النص الصحيح والعقل الصريح بأن يقول: بأن ذلك مستحيل؛ لأن هذا لا يمكن، فالنص الصحيح موافق للعقل الصريح وكذلك العكس.
ويقول رَحِمَهُ اللهُ: وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يُخبر به، يعلمون مِن حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح لا عقلي ولا سمعي، فقد فسَّر رَحِمَهُ اللهُ هذا الموضوع في "درء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية" وكثيرٌ مِن كُتبه الأخرى.
رابعًا: الأخذ في أبواب الاعتقاد بظواهر النصوص، والمراد بالظاهر: هو ما يتعرّف إليه الذهن مِن المعاني على معناه الظاهر، وأنه ليس لها معنًى باطن يخالف ظاهرها، وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ إلى أنَّ بعض النفاة يستخدمون الألفاظ المعروفة في غير معانيها، فيصرفونها عن حقيقتها، ومِن هذه الألفاظ: لفظة (الظاهر)، فيجعلون ظواهر النصوص غير مرادها؛ لأنها تفقد بزعمهم التمثيل والتشبيه.
وبيَّن خطأهم في اللفظ والمعنى؛ قال رَحِمَهُ اللهُ: ومَن قال: إنَّ ظاهر شيء مِن أسمائه وصفاته غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما مِن اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد به، فكأن قول هذا القائل يقتضي أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد أريد بها ما يخالف ظاهرها، ولا يخفى ما في هذا الكلام مِن الفساد، وهذا بينه رَحِمَهُ اللهُ في مجموع الفتاوى.
وعلى هذا، فإنَّ الواجب هو الأخذ بظواهر النصوص في باب الاعتقاد؛ واعتقاد أنها هي المرادة؛ لأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده مِن غيره، وقد خاطبنا سبحانه باللسان العربي المبين: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء:193-195].
فوجب قبوله على ظاهره؛ وأنَّ المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن هو المراد، وبيَّن رَحِمَهُ اللهُ مواقف بعض العلماء، ثُمَّ يرجِّح أحدها فيقول: وأئمة أهل السنة والحديث مِن أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية؛ لكن منهم مَن يقول: لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة، وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه.
كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانًا على اختلاف في قوله، ومنهم مَن يقول: بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول، ومنهم مَن يقول: يُعطَى كل دليل حقّه؛ فما كان قاطعًا في الإثبات قطعنا بموجبه، وما كان راجحًا لا قاطعا قلنا بموجبه، فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بيَّنا رجحان أحد الجانبين، وهذا أصحُّ الطرق.
وقال رَحِمَهُ اللهُ: مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانة، وبهذا يتضح أنَّ ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ يوافق منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد وفي الاستدلال عليها، وأنه أحد علماء هذا المنهج، وأحد شُرَّاحه على وفق ما أراده الله ورسوله.
القارئ: أحسن الله إليكم، يلحظ المستمع أننا نُمِر بعض الكلمات ولا نقف عندها لأنها ستأتي بإذن الله في ثنايا الشرح كقوله: الصفات الخبرية، والاستدلال والتأويل والظاهر وغيره، هذه سيأتينا -إن شاء الله- في جزئيات شرح صاحب الفضيلة على الكتاب في الحلقات القادمة، لذا كان استعراض الشيخ قبل قليل فقط؛ مِن أجل تبيين منهج شيخ الإسلام.
فضيلة الشيخ قبل أن أعرض المسائل التي بين يدي حول هذا الموضوع، اختياركم لكتاب الإيمان هل هو كتاب الإيمان الكبير أم الأوسط؟
الشَّيخ: نعم، كتاب الإيمان الكبير وهو موجود في الجزء السابع مِن مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ ومطبوع طبعة مستقلَّة مِن تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني رَحِمَهُ اللهُ، وطبعة مِن تحقيق الشيخ محمد الزبيدي وغيرها.
القارئ: وأيها يختار المستمع ويتابع بها فلا حرج.
الشَّيخ: نعم، لا حرج في طبعة مجموع الفتاوى، أو الطبعة المستقلَّة.
القارئ: إذًا بإمكان الإخوة المستمعون أن يتابعوا معنا مِن خلال مجموع الفتاوى الجزء السابع، كما تفضل الشيخ وذكر قبل قليل: فإن أول الكتاب هو الإيمان الكبير، تسميته بالإيمان الأوسط الذي بعده يا شيخ، هل هناك إيمان صغير حتى يكون أوسط؟
الشَّيخ: يعني مِن ناحية البحث؛ لأن الإيمان الكبير أوسع في البحث أمَّا الإيمان الأوسط أقل حجمًا منه.
القارئ: وليس لكونه هناك صغير ليكون أوسط بينهم.
الشَّيخ: نعم.
القارئ: اختياركم لمسألة الإيمان وشرح كتاب الإيمان يا شيخ، ربما يعتقد البعض أنها جزئية يسيرة، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تكلَّم في هذه المسألة؛ لأهميتها أيضًا، لظهور بعض الطوائف في هذا الزمن وفي الزمن السابق، وهم الحقيقة تبع لتلك الطوائف ممن يقول: بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، وفي المقابل مَن يكفِّر أهل القبلة ممَّن يرتكب الكبائر، طرفي النقيض في مسألة الإيمان واختياركم لهذا الكتاب وشرحه له دلالات؟
الشَّيخ: نعم، اختيار هذا الكتاب كتاب الإيمان؛ لأن البحث في الإيمان بحث مهم؛ والإيمان هو: أصل الدين وأساس الملَّة، فلابُدَّ أن يعرف الإنسان مسمَّى الإيمان، ولابد أن يعرف ما يجب عليه فيما يؤمن به، ما الذي يجب عليه في الإيمان به، وما الذي يشمله مسمَّى الإيمان، وما الذي يجب عليه إذا اعتقده في ذلك، وما الاعتقاد المنحرف في هذا الباب؟
وشيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ إمام، وإمامٌ عند أهل السنة والجماعة، وقد أشفع الموضوع حقه، وهو مِن أجمع ما كُتب، وأوضح ما كُتب، كتاب الإيمان، والطمأنينة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في هذا الجانب لدى كل مسلم، وكل طالب علم معروف.
ولهذا اخترنا هذا الكتاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ بحث هذا الكتاب بحثًا علميًّا، ويعتمد على نصوص الكتاب والسنة، وشيخ الإسلام بين مذاهب المخالفين وشبهاتهم، والرد عليهم فهو بهذا يعرف المسلم الاعتقاد الحقّ في باب الإيمان.
القارئ: لكن هذه الطوائف التي تكلَّم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ لا تزال موجودة في زماننا يا شيخ؟
الشَّيخ: نعم، موجودة طوائف المرجئة، وطوائف الخوارج والمعتزلة، كلهم موجودون الآن؛ ومسألة الإرجاء مسألة حصل فيها كلام طويل، وتكلَّم الناس فيها واشتد النزاع فيها قديمًا وحديًثا، والآن هي مسألة معاصرة، المرجئة الآن لهم كلام وأهل السنة لهم كلام وردود عليهم في الشبكات المعلوماتية وفي الكُتب والندوات والرسائل والنشرات.
ولهذا ينبغي للمسلم أن يكون على علمٍ يتيقن به في هذا الباب مِن خلال كلام أهل السُّنَّة والجماعة، الذين يستدلُّون في هذا الباب بكلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، ويبيِّنون ما يخالف ذلك، ويبيِّنون شُبه المخالفين واعتقاداتهم الفاسدة، حتى يكون المسلم على بصيرة في دينه.
القارئ: في الحلقة الأولى -أحسن الله إليكم- ذكرتم: أنَّ تصانيف شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ على أقسام، قلتم: أنَّ مِن تصانيفه ما هو عرض لمجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، مثل: العقيدة الواسطية، وهناك قسم هو في الأصل ردود؛ كالرد على بشر المريسي والإخنائي وغيرها، قسم ثالث يجمع بين هذا وهذا.
كتاب الإيمان هل هو عرض فقط، أم جمع بين عرض عقيدة أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين؟
الشَّيخ: نعم، جمع بينهما عَرَض عقيدة أهل السنة والجماعة ورد على الشبه.
القارئ: أهم المصنفات يا شيخ في مسألة الإيمان؟
الشَّيخ: المصنفات كثيرة استعرضنا منها، يعني كتب الإيمان كثيرة سردنا شيئًا منها؛ الإيمان لابن منده، والإيمان للآجري، والإيمان لفلان وفلان، سردها شيخ الإسلام في كُتب الحموية وغيرها، والمؤلفات كثيرة، لكن أجمع ما كتب هو كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ.
القارئ: وهل شيخ الإسلام في هذا الكتاب يتعرض للإيمان بمفهومه الذي يعرفه الناس بأركانه الستة، أم مفهوم الإيمان بشكل أشمل؟
الشَّيخ: نعم، تكلَّم عن الإيمان بمسمَّى الإيمان، وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه، وما عقيدة المرجئة المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة.
القارئ: أحسن الله إليكم، قبل أن نبدأ -الحقيقة- في الحديث في الكتاب نرى أن تتفضلوا بذكر مقدمة حول الكتاب: أهم ما يحتويه هذا الكتاب، وأهم المباحث فيه، ومنهج شيخ الإسلام فيه وأيضًا منهجكم في الشرح، كيف يتسنى للمستمع والمستمعة أن يتابعوا معكم؟ هل هناك طريقة للتعليق تتفضلون بها؟
الشَّيخ: نعم، كما هو المعتاد إن شاء الله، يعني يقرأ الكتاب ونتكلَّم على ما يفتحه الله، ومَن أراد أن يعلِّق، له أن يعلِّق، ومَن أراد أن يسأل فله ذلك، نبيِّن إن شاء الله كلام شيخ الإسلام في توضيح معناه، وإذا استدلَّ بأدلة نبيِّن وجه الاستدلال، وكذلك نوضح ما يذكر مِن الشُّبه والردود.
القارئ: مسألة الإيمان هنا يا شيخ، هل تختلف عن مسألة الإسلام؟
الشَّيخ: نعم مسألة الإيمان والإسلام فيهما كلام لأهل العلم.
مسمَّى الإيمان عند أهل السُّنَّة والجماعة إذا أُطلق يشمل الدين كله؛ يشمل مسمَّى الإيمان ومسمى الإسلام، ومسمى الدين والبر والتقوى، هذه الألفاظ إذا أطلقت فإنها تشمل الدين كله.
وإذا قُرنت مع غيرها كان لها معنًى آخر؛ فمسمَّى الإيمان عند جماهير أهل السُّنَّة والجماعة والأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم مِن أئمة أهل السُّنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح.
فمسمَّى الإيمان عند أهل السُّنَّة والجماعة من الصحابة والتابعين والعلماء: أنَّ مسمَّى الإيمان تشمل أربعة أشياء: قول القلب، وهو: التصديق والإقرار، وقول السان، وهو: النطق، وعمل القلب، وهو: النيَّة والإخلاص والصدق والمحبة، وعمل الجوارح.
ولهذا يقول السَّلف: الإيمان قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ ومِن عباراتهم: أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ؛ ومِن عباراتهم: أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّة؛ فيريدون بالقول؛ قول القلب وقول اللسان، ويريدون بالعمل؛ عمل القلب وعمل اللسان.
فهذا هو مسمَّى الإيمان عند السلف والصحابة والتابعين والأئمة والعلماء قولٌ وعمل؛ قول القلب، وهو: الإقرار والتصديق، وعمل القلب: النية والإخلاص، وقول اللسان وهو: النطق، وعمل الجوارح.
فعلى هذا، يكون مسمَّى الإيمان يشمل هذه الأربعة؛ فيكون العمل جزءٌ مِن مسمى الإيمان، كما أن القول جزء مِن مسمى الإيمان، كما أن الاعتقاد جزء مِن مسمى الإيمان، هذا هو مذهب السلف والأئمة والعلماء؛ وهم بهذا انفصلوا عن جميع الفِرق، انفصلوا عن المرجئة، وعن الخوارج والمعتزلة؛ لأنهم يقولون: إنَّ الإيمان قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
أما المرجئة فإنهم طوائف:
الطائفة الأولى: المرجئة الغُلاة؛ وهم الجهمية، الجهم بن صفوان، يرون أنَّ الإيمان مجرد معرفة القلب، يقولون: الإيمان هو: معرفة الرب بالقلب، والكفر هو: جهل الرب بالقلب، هذا مذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي مِن القدرية.
وعلى هذا، وبهذا التعريف ألزمه العلماء بأن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف ربه قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) [الأعراف: 14]، وفرعون مؤمن على هذا التعريف؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، ولهذا قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102]، واليهود مؤمنون؛ لأنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الصحيح أنه مات على الشرك، يكون مؤمنًا على هذا تعريف الجهم؛ لأنه قال في قصيدة مشهورة:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ=مِنْ خَيرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينًا
لَولَا الَملَامَةَ أَو حَذَارِ مسُبَّةٍ=لَوَجَدتَّنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
فهذا أفسد ما قيل في تعريف الإيمان؛ مذهب الجهم، قول الجهم: أن الإيمان هو مجرد معرفة القلب.
ويليه في الفساد: مذهب الكرَّامية؛ أتباع محمد بن الكرَّام، يقول: الإيمان مجرد قول اللسان، فلزمه على هذا أن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم ينطقون بالشهادتين، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) [البقرة:8]، وقال سبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) [المنافقون:1].
لكنهم مع ذلك يقولون: إنهم إذا كانوا مكذبين بقلوبهم فهم في النار، فلزم الكرامية على هذا القول أن المؤمن كامل الإيمان مخلد في النار! وهذان قولان متناقضان هم يقولون: إنه مؤمن؛ لأنه نطق بلسانه، وهو مخلَّد في النار؛ لأنه كذب بقلبه، ولهذا صار هذا المذهب يلي مذهب الجهم في الفساد.
المذهب الثالث: مذهب الماترودية والأشاعرة:
يقولون: الإيمان هو: التصديق بالقلب، وأمَّا النطق باللسان فليس من الإيمان، وهذا القول مرويٌّ عن الإمام ابن حنيفة، والرواية عن الإمام ابن حنيفة رَحِمَهُ اللهُ وافق قول الماتريدية والأشاعرة: أن الإيمان التصديق بالقلب.
والقول الرابع: قول مرجئة الفقهاء أنَّ الإيمان شيئان: قول باللسان، وتصديق بالقلب؛ وهذا مذهب الإمام ابن حنيفة رَحِمَهُ اللهُ وعليه أكثر أصحابه.
وعلى هذا تكون المذاهب أربعة: مذهب الجهمية ومذهب الكرامية وومذهب الماتريدية، ومذهب مرجئة الفقهاء، هذه هي المذاهب في مسألة الإيمان، وأهل السنة والجماعة انفصلوا عن جميع المذاهب حيث قالوا: إنَّ الإيمان يزيد وينقص، وهذه الطوائف المرجئة يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
والخوارج والمعتزلة يقولون: إن الإيمان هو قولٌ باللسان وتصديقٌ بالقلب وعمل بالجوارح، كما يقول أهل السُّنَّة، لكنهم يخالفونهم في أنَّ الإيمان لا يتضاعف.
القارئ: جزء واحد؟
الشيخ: جزء واحد، إذا ذهب ذهب جميعه، وإذا بقي بقي جميعه، قالوا: إذا فعل الإنسان معصية كَفر وخرج مِن الإيمان، وعند المعتزلة خرج مِن الإيمان ويدخل في الكُفر، وأمَّا أهل السنة والجماعة فإن الإيمان يتضاعف ويزيد وينقص، وبهذا يكون أهل السنة والجماعة انفصلوا عن جميع الطوائف بهذا التعريف، عن المرجئة بطوائفهم الأربعة، وعن الخوارج والمعتزلة.
وأمَّا مسمى الإسلام والإيمان فإن كلًّا منهما إذا انفرد يشمل جميع الدين؛ يشمل جميع الأقوال والأفعال المأمور بها شرعًا، أمَّا إذا جُمع بينهما فإنه يكون للإسلام معنى، وللإيمان معنى على الصحيح، فيفُسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبرائيل، حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ففَسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة الخمسة، فسَّره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحجِّ، وفُسِّر الإيمان بالتصديق الباطن؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
هذا على الصحيح، وللعلماء في مسمى الإسلام أقوال:
مِن العلماء مَن قال: إنَّ الإسلام هو القول أو هو الكلمة؛ والإيمان هو العمل، وهذا يُروى عن الزُّهري رَحِمَهُ اللهُ قال: الإسلام هو الكلمة.
القارئ: الشهادتين؟
الشَّيخ: نعم، قال: الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، والزهري هو إمام، ولكن المقصود بذلك: أنَّ الإنسان إذا نطق بالشهادتين حُكِم بإسلامه، فيتميز عن اليهود والنصارى، وليس المقصود: أن العمل غير مطلوب.
واستدلُّوا بمثل قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].
فالظالم لنفسه: المقصِّر في بعض الواجبات، والمقتصد هو: المؤمن الذي أدى الواجبات، والسابق بالخيرات هو: الذي أدى الواجبات والنوافل، ولكن ليس في هذا دليل فإن الآية فيها تقسيم الناس لثلاثة أقسام؛ كما في حديث جبرائيل، جعل الدين ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان.
المذهب الثاني: أنَّ الإسلام والإيمان مترادفان؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ، وهو أيضًا مذهب الخوارج والمعتزلة؛ أنَّ الإسلام والإيمان مترادفان، واستدلُّوا بمثل قوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات:35،36].
والصواب: أنَّ الإسلام والإيمان ليسا مترادفان، والجواب عن الاستدلال بهذه الآية: أن هذا البيت المُخرَج اتصف بالإيمان وبالإسلام جميعًا.
ومِن العلماء مَن قال: إن الإسلام هو: الأعمال الظاهرة، والإيمان هو: الأعمال الباطنة، والصواب: أن دلالتهما تختلف بالاقتران والتجرُّد، فإذا اقترن أحدهما بالآخر صار لكلِّ واحد منهما معنى، وإذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، كما في حديث جبرائيل فإنه لما اجتمعا فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة، التصديق الباطن، وإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر فإذا أُفرد الإسلام دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أُفرد الإيمان دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة.
القارئ: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، على هذا البيان.
إذًا مستمعينا الكرام نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، أعدكم -بإذن الله- أن أستكمل مع صاحب الفضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي الحديث حول هذا الموضوع؛ لنشرع بإذن الله في شرح كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ في الحلقة القادمة.