الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيُها الإخوةُ والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقةٍ جديدة، ضمن برنامجكم شرح كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.
مع مطلع هذه الحلقة، يسُرُّني أن أُرحِّب بصاحب الفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، عضو هيئةِ التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وأشكُر له قبول دعوتنا، فأهلاً ومرحبًا بكم الشيخ عبد العزيز.
الشيخ: حيّاكم الله ومرحبًا.
القارئ: نبدأ على بركة الله، في الشروع في الحديث عن كتاب الإيمان، لشيخ السلام ابن تيمة رحمة الله.
(المتن)
╝
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
(الشرح)
╝
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
أمَّا بعد:
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ، افتتح كتابُه كتاب الإيمان بهذه الخطبة، التي تُسَمَّى خطبةَ الحاجةِ.
وكان كثيرًا ما يفتتح كُتبه ورسائله رَحِمَهُ اللهُ بهذه الخطبة: الحمد لله نحمده ونستعينه، ولها ألفاظ جاءت على خطبة الحاجة، ورويت بألفاظٍ متقاربة، قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا".
كثيرًا ما يَفتَتِح رَحِمَهُ اللهُ رسائله وكُتبه بهذه الخطبة -وهي خطبة الحاجه-، وهذه الخطبة يُسنُّ قراءتِها عند عقد النكاح، وتُسَمَّى خطبة ابن مسعود، ولهذا يقول الفقهاء من الحنابلة: ويُسنُّ قراءة خطبة ابن مسعود مساءًا، في يوم الجمعة مساءًا، وهي قبل عقد النكاح، تُقرأ هذه الخطبة: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونستهديه"، وهي تُشرع افتتاح الرسائل والخطب بها، سواءً في عقد النكاح، وفي غيره.
ولهذا كان رَحِمَهُ اللهُ يفتتح الكثير من مؤلفاته وكُتبه بهذه الخطبة.
يقول المؤلِّف: "الْحَمْدُ لِلَّهِ".
الحمد هو: الثناء على المحمود، مع حُبِّهِ وإجلالهِ وتعظيمهِ، وهناك فرقٌ بين المدح وبين الحمد؛ فإن المدح إنما يكون بالثناء على الممدوح بصفاته، بالصفات التي هو مُتَّصِفٌ بها، وقد تكون هذه الصفات ثابتة؛ كالثناء على الأسد بأنه قوي، وبأنه قوي العضلات، فهذا يُسمَّى مَدْح، ولا يسمى حَمْد.
أمَّا الحمد، فإنه يكون كالثناء على المحمود، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا جاء في حقِّ الربِّ عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)[الفاتحة: 2].
والحمد بينه وبين الشكر، عمومًا وخصوصًا؛ فالشكر يكون باللسان أعم من جهة يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، ويكون على النعمة، والحمد أخص من جهة أنه يكون بالقول، ويكون على النعمة وبدون النعمة.
فالحمد لله رب العالمين، و (ال) للاستغراق؛ لأن الله سبحانه وتعالى مستحقٌّ لجميع أنواع المَحَامِد، فجميع أنواع المَحَامِد كلها مُسْتَحَقة لله عز وجل، ومُلكٌ له، كلها مُلكٌ لله، ومُستَحَقَّة له سبحانه تعالى.
لله، الله، لفظ الجلالة، أعرف المعارف، ولا يُسَمَّى به غيره سبحانه وتعالى، فالله تَصِفُ الإله، فالله هو المعبود سبحانه وتعالى، وأسماء الله مُشْتَقة، مُشْتَمِلة على المعاني، وعلى الصفات، فالله تعالى مُشْتَمِل على الأُلُوهية، والرحمن مُشتَمِلٌ على صفة الرحمة، والعليم صفة العلم، والقدير صفة القُدرة وهكذا.
فأسماء الله ليست جامدة، بل هي مُشْتَقَة مُشْتَمِلة على المعاني وعلى الصفات، بِخلاف الصفات فإنه لا.. الصفات مثل صفة الغضب، صفة الرضا، لا يُشْتَق لله منها اسم؛ لأنَّ الأسماء توقيفية، لا يُشتَق من صفة الغضب الغاضب، ولا من صفة الرضا الراضي.
"الْحَمْدُ لِلَّهِ"؛ يعني المألُوه المعبود سبحانه وتعالى محبًة وإجلالاً وتعظيمًا.
"الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ"؛ يعني نستعين بالله عز وجل، في أعمالنا كلها، ومن ذلك: الاستعانة في التأليف، "وَنَسْتَغْفِرُهُ"؛ نستغفره سبحانه وتعالى، نطلُب المغفرة منه، للتقصير في الواجبات أو فِعل بعض المنهيَّات، نطلُب منه سبحانه وتعالى المغفرة، والمُسَامحة عن التقصير في الواجبات، وعن اجتراح المحرَّمات.
"وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا"؛ هذا دُعاء، خبر بمعنى الدعاء؛ يعني نسأل الله أن يُعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، هي النفسُ أمَّارة بالسوء، فنستعيذ بالله من شرور أنفسنا، ونستعيذ بالله من سيئاتِ الأعمال؛ لأن سيئات الأعمال، تكون عاقبتها: (العقوبة)، إمَّا في الدنيا أو في الآخرة، إن لم يَعفُ الله سبحانه وتعالى.
القارئ: الاستغفارُ أحسن الله إليكم، يكون للإنسان ولغيره، يمكن أن يَسْتغفر الإنسان لوالديهِ، كما في الحديث «وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا».
الشيخ: نعم، طلب المغفرة لهم، يكُن له ولوالديه، هذا من برِّ الإنسان لوالديه بعد موتهم.
القارئ: صيغته، يقول: استغفر الله لوالديَّ؟
الشيخ: اللهم أغفر لوالديَّ، اللهم ارحمهما، اللهم ارحمهما كما ربياني صغيرًا، اللهم اغفر لهما، اللهم تجاوز عنهما، اللهم أسكِنهُما الجنَّة، اللهم أجِرهُم من النار.
القارئ: لأن الجمع في الحديث قال: أربع، فذكر منها: الدعاء لهما، والاستغفار لهما.
الشيخ: الدعاء أعم، لكن الاستغفار أخص.
القارئ: ذَكَرَ الاستغفار للخصوصية.
الشيخ: جاء في الحديث: أن الرب سبحانه وتعالي، حين ينزل كل ليلة السماء الدنيا: «فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟»، الاستغفار أخص.
ثُمَّ قال: "مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ".
هذا من خصائص الله سبحانه وتعالى: هو الهادي، وهو المُضِلُّ، هو سبحانه وتعالى يهدي مَن يشاء فضلاً منه وإحسانًا، ويُضِلُّ مَن يشاء عدلاً منه وحكمة، هو سبحانه وتعالى لا يُسْأَل عما يفعل؛ لكمالِ حكمتِه، هو عليمٌ بِمَن يستحق الهداية، وعليم بمَن لا يستحق الهداية، إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) [سورة يوسف: 6].
والهداية والإضلال ملكٌ لله عز وجل، فإذا مُنِعَ أحدًا من الهداية، هو مَنَعَهُ لحكمة بالغة، وليست الهداية مُلكًا له، حتى يكون غالبًا بل الهداية مُلكًا لله، فهداية الله لعبده فضلٌ منه وإحسان، وإضلالهُ له حكمةٌ له وعدل.
والظلم إنما هو: وضْعُ الشيء في غير موضعه، كأن ينقص أحدًا من ثوابِ حسناته، أو يحمله وِزْرَ غيره.
والله سبحانه وتعالى رَفَعَ عن نفسه الظلم، قال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) [سورة طه: 112]. وحَرَّمَ الظلم على نفسه، قال سبحانه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا»، والحديث قدسي، الذى رواه أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما رواه عن ربه عز وجل.
ثم قال: "وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ". هذه كلمة التوحيد، "نَشْهَد"؛ يعني نعتقد ونجزم ونتيقن، ونُعلِن: بأن لا إله إلا الله، هذه كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، لا معبود حقٌ إلا الله، معناه: لا معبود حق، وهو الإله وهو المعبود.
القارئ: وَرَدَت يا شيخ بالجمع، هكذا نشهد، في الحديث؟
الشيخ: أشهد أن لا إله إلا الله، كان له ألفاظ، يحتاج إلى مُرَاجَعة.
القارئ: لكن هل يصح أن نقول إذًا: نشهد باعتبار عنه، وعن غيره.
الشيخ: إذا وردت، يُراجع نص الحديث.
"وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ"؛ يعني أشهد ألا معبودَ بحقٍّ إلا الله، هذه كلمة التوحيد، وهي كلمةً عظيمة، لأجلها خَلق الله الخلق، لأجلها أرسل الرُّسل، وأنزل الكُتب، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [سورة الذاريات: 56].
قال سبحانه وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (36) [سورة النحل: 36]، قال سبحانه وتعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [سورة الأنبياء: 25].
هذه الكلمة، هي كلمة التوحيد، وكلمة التقوي، التي تقي من الشرك، وهي كلمةٌ عظيمة، لأجلها خلق الله الثقلين، ولأجلها قام سوق الجهاد، ولأجلها قسم الناس إلى شقيٍّ وسعيد، ولأجلها خُلِقَت الجَنَّةِ والنار، ونُصِبَت الموازين.
فهي كلمةٌ عظيمة، معناها: حقُّ الله على عباده، لا إله إلا الله، يعني لا معبود بحقٍّ إلا الله، فالعبادة هي حق الله عز وجل، والعبادة هي كل ما أمر به شرعًا، من غير اقتضاء عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ يعني جميع الأوامر والنواهي، فالأوامر يفعلُها المسلم، سواء كان أمر إيجاب، أو استحباب، والنواهي يتركها المسلم، سواء كان نهي تحريم، أو نهي تنزيه، يتعبد لله بذلك.
هذا حقُّ الله فلا يُعبَدُ غيره، كلمة التوحيد مُشتَمِلَة على نفي وإثبات، فالنفي في قَولِك: لا إله، والإثبات في قَولِك: إلا الله، مشتملة على نفيٍ وإثبات، فهي تَنْفِي جميع أنواع العبادة لغير الله، وتُثْبِت جميع أنواع العبادة لله، ومُشتَمِلَة على كفرٍ وإيمان، على كفرٍ بالطاغوت، وإيمانًا بالله، كفرٍ بالطاغوت، في قولِ: لا إله، ومعنى الكفر بالطاغوت، البراءة من كل معبود سوى الله، وإنكار كل عبادةٍ سوى الله ونفيها، وبغضها وبغض أهلها ومعاداتهم.
والإيمانُ بالله بعده البراءة من كل معبودٍ سوى الله، وليس هناك توحيد ولا إيمان إلا بشيئين، إلا بالنفي والإثبات، بالبراءة من كل معبودٍ سوى الله، وتخصيص الله تعالى بالعبادة، هذا هو معنى لا إله إلا الله.
وقد بيَّنه الله تعالى في حكايته عن إبراهيم عليه الصلاةُ السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) [ سورة الزخرف: 26-27].
{إنني براء مما تعبدون} هذا النفي، {إلا الذي فطرني} هذا الإثبات، هذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو معنى قول الله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5]، يعني نخصُّك بالعبادة، نعبدك ولا نعبد سواك، وهذا مستفاد من تقديم الظرف: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [سورة الفاتحة: 5].
لو قيل: نعبدك ونستعينك ما حصل التوحيد، التوحيد لا يحصل إلا بشيئين: نفي وإثبات، البراءة من كل معبودٍ سوى الله، ثُمَّ تخصيص الله تعالى بالتوحيد والعبادة.
القارئ: في قوله: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، هذه الإضافة لا شَكَّ أنَّ لها فائدة، لماذا لم يكتفِ بقول: أشهد ألَّا إله إلا الله؟
الشيخ: الزيادة للتأكيد، "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"؛ يعني لا شريك له سبحانه وتعالى في أُلُوهيته، كما أنه لا شريك له في ربُوبيته، ولا شريك له في أسماءه، ولا شريك له في مُلكِه، هو سبحانه وتعالى الإله المعبود بحق، وهو الرب وغيره مَربوُب، وهو الخالق وغيره مَخلُوق، وهو المالك وغيره مَملُوك، وهو مُدبِّر وغير مُدَبَّر سبحانه وتعالى.
القارئ: لماذا حكم أهل العلم على كُفْرِ مَن جَعل بينه وبين الله وسائط، مع أنه يقول: أنا اعترف بأن الله عز وجل واحدٌ لا شريك له، لكني أتوجه بالعبادة مثلاً لهذا؛ ليكون واسطة بيني وبين الله، كما فَعَلَ أهل الشركُ في القديم والحديث؟
الشيخ: لأنهم نَقَضوا كلمة التوحيد، ولأنهم صرفوا محض حق الله لغيره، هذا هو محض حق الله، حين نصرف الدعاء أو الذبح، أو النذر، أو الركوع أو السجود، أو الخوف أو الرجاء، خوف العبادة وجعلها لغير الله، تقع في الشرك، تنتقض كلمة التوحيد.
قوله: وحده لا شريك له؛ أي لا شريك له في الربوبية، ولا شريك له في الألوهية، ولا شريك له في الأسماء والصفات، وفي الحج، شعار الحج التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، لا شريك لك لا في الألوهية، ولا في الربوبية، ولا في الأسماء والصفات.
بعض الحُجَّاج تجده يلبِّي بكلمة التوحيد، لكنه ينقضها بأفعاله، بعض الحُجَّاج يلبي بالتوحيد، لكنه يذبح لغير الله، أو يَنذُر لغير الله، فينقضها بأفعاله، لابد من العمل بمقتضاها، والبعد عما يُنَاقِضُها، ما تنفع كلمة التوحيد إلا بتحقيقها، وقولها بإخلاص، وعن صدقٍ ويقين، وعن عملٍ بمقتضاها، والبعد عما ُينَاقِضُها.
فإذا كان الإنسان يقول: لا إله إلا الله بلسانه، ثم ينقضها بأفعاله، لا تنفع، ليس مراد قول هذه الكلمة باللسان فقط، المراد قولها باللسان وتحقيق معناها، أو العمل بمقتضاها، والبعد عما يُنَاقِضُها.
القارئ: لذلك قال الكفار: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3) [سورة الزمر: 3].
الشيخ: أي نعم، هذا هو الشرك، قال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18]، حينما يدعون الصالحين أو الأولياء، هم يعلمون أنهم لا يَخلِقُون، ولا يَرزِقُون، وليس بيدهم من الأمر شيء، لكن يقولون: لهم جاه عند الله، ينقلون حوائجنا إلى الله، ويقربونا إلى الله، ويشفعون لنا عند الله، فكفَّرهم الله بذلك، هذا هو الشرك، جعلهم مُشركين بها.
لا يجوز للإنسان أن يجعل بينه وبين الله واسطة، يدعوه أو يَذبَح له، أو يَنذُر له، أو يَسْألَهُ، ويطلب منه الشفاعة، لابد أن يُخَص الله سبحانه تعالى بذلك، بالدعاء والذبح والنذر، ليس للإنسان أن يجعل بينه وبين الله واسطة.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(60) [سورة غافر: 60]، ولم يقل: اُدعُوني وادعو فلان، فكفَّر الله سبحانه وتعالى مَن دعا غير الله قال سبحانه:وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) [سورة المؤمنون: 117].
وقال سبحانه وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ(14) [سورة فاطر: 13-14] سماه الله شركًا.
وقال سبحانه وتعالى فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) [سورة الشعراء: 213]، وقال سبحانه وتعالى وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) [سورة يونس: 106]؛ يعني مشركي يونس.
وقال سبحانه وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) [سورة الجن: 18]، كثيرٌ من الناس وخصوصًا بعض الوافدين من خارج المملكة، بعضهم جُهَّال يقعون في الشرك، ويظنون أن هذا ليس بشرك، بعضهم عندهم شُبهة، يقولون: هذا محبة للصالحين، هذا تَشَفُّع، هذا تَقَرُّب، هذا إعطاء الصالحين حقَّهم، وهم ينسبون لهم حق الله عز وجل، العبادة هي حق الله.
الصالحون يُقتدى بهم وبأفعالهم الطيبة، إذا كانوا صالحين، أمَّا العبادة هي حق الله عز وجل، لا يجوز صرفها لملكٍ مقرَّب، ولا نبيٍ مرسل فضلاً عن غيرهم.
"نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"؛ الشهادة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والشهادة لله تعالى بالوحدانية، هذا أصل الدِّين، وأساس الملَّة، لا يصح إسلام أي شخص حتى يشهد لله تعالى بالوحدانية، ويشهد لنبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فشهادة أن لا إله إلا الله، تقتضي إخلاص العبادة لله عز وجل وألا يُعبَد إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، تقتضي طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، في أوامره واجتناب نواهيه، وتصديقه في أخباره، والتعبد لله بما شرعه.
ومعنى الشهادة -أنَّ محمدًا رسول الله-: أن يَشْهَدَ المسلم أن محمدًا بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العربي المكي ثم المدني، هو رسول الله حقًّا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، وأنه عليه الصلاة والسلام أفضل الناس، وأنه بلَّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة وجاهد في الله حق جهاده.
ولا يصح إسلام أي إنسان، حتى يشهد لله تعالى بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فلا يصح أي عمل حتى ينبني على الشهادتين؛ الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم محمدٍ بالرسالة.
فهذان الأصلان هما أصل الدين، وأساس المِلَّة، ولا تصح إحداهما -إحدى الشهادتين- بدون الأخرى، فمَن شَهِدَ أن لا إله إلا الله، ولمْ يَشْهَدْ أنَّ محمدًا رسول الله، لن تُقبل منه، ومَن شَهِدَ أنَّ محمدًا رسول الله، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لن تُقبل منه؛ لابُدَّ أن يشهد لله تعالى بالوحدانية، ويشهد لنبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
وقد دلَّ على هذين الأصلين نصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)[سورة الكهف: 110]
فليعمل عملًا صالحًا، هذا معناه، العمل الصالح هذا ما كان موافقًا للشرع، وهو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف: 110]، هذا هو الإخلاص، العملُ عملٌ خالص، وهو مقتضى شهادة أنَّ لا إله إلا الله.
وقال سبحانه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ (112) [سورة البقرة: 112]، فإسلام الوجه: إخلاص العمل لله، وهو بمقتضى شهادة أنَّ لا إله إلا لله، والإحسان: هو إتقان العمل، وهو أن يكون موافقًا للشرع، وهو بمقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
ودلَّ على ذلك أيضًا، على شهادة أنَّ لا إله إلا الله: ما ثبت في الصحيحين، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال إِنَّما الأعْمَالُ بِالنِّياتِ وإِنَّما لِكُلِّ امرىءٍ ما نوى.
ودلَّ أيضًا من السُّنَّة على الأصل الثاني: ما ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ، وفي لفظٍ لمسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، فهاتان الشهادتان هما أصلُ الدين، وأساس الملَّة.
القارئ: أحسن الله إليكم، بعض الأحاديث تأتي فقط بذكر الشهادة الأولى؛ شهادة أن لا إله إلا الله: من قال لا إله إلا الله خالصة من قلبه دخل الجنة، مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَهل معنى ذلك أنها مقتضيه شهادة أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله؟
الشيخ: نعم، إذا أُطلِق إحداهما، دخلت فيها الأُخرى؛ يعنى: «مَن قال خالصًا من قلبه»؛ يعني أنَّه شهد أنَّ محمدًا رسول الله، لابُدَّ منها؛ لأنَّه لو لم يشهد أن محمدًا رسول الله ما صح، فإذا أُطلِقت إحداهما دخلت الأُخرى، وإذا اجتمعا فُسِّرَت الشهادة الأولى بالشهادة لله تعالى بالوحدانية، وفُسِّرت الثانية بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
ثُمَّ قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا".
صلاة الله سبحانه وتعالى على نبيه، وعلى عبده، أصح ما قيل في تعريف الصلاة: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي العالية رَحِمَهُ اللهُ، قال: صَلاَةُ اللَّهِ على عبده: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ في الملأ الأعلى، فصلَّى الله عليه؛ هذا دعاء وسؤال الرب عز وجل أن يُثني على عبده ونبيه في الملأ الاعلى.
وأمَّا الصلاة من الملائكة فهي الدعاء له، وكذلك من الآدميين، وقيل: إنَّ الصلاة تشمل الثناء والرحمة، "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ"؛ على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "وَعَلَى آلِهِ"، إذا أُطلق الآل يشمل أتباعه على دينه، المراد بالآل: أتباعه على دينه من الصحابة وغيرهم إلى يوم القيامة.
وإذا جُمع بين الآل والصحبة؛ "على آله وصحبه"؛ يكون هذا تخصيص بعد تعميم.
القارئ: أحسن الله إليك! لماذا الآن دائمًا في مثل هذه الأحوال يُشار إلى الآل مع الأصحاب، مع أنكم أشرتم إلى أنَّ الآل يدخلون ضمن الأصحاب، كثيرًا ما يرد أن يُضم الآل للأصحاب في مثل هذه الأحوال؟
الشيخ: الأصحاب يدخلوا في الآل، قيل: المراد بآله: أهل بيته، وقيل: أتباعه على دينه.
وعلى هذا، نقول: بأنَّ أتباعه على دينه، يكون عطف الأصحاب عليهم عطف الخاص على العام، وعلى آله وأصحابه، فيكون الأصحاب ذكروا مرتين، مرةً دخولهم في العام في عموم الآل، ومرةً بالخصوص.
ويُلاحظ أنَّ في قول المؤلِّف: "مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ"، أنَّ هذا هو معتقد أهل السُّنَّة والجماعة؛ يعتقدون أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الهادي، وهو المضلُّ، خلافًا المعتزلة، المعتزلة يقولون: إنَّ الإنسان هو الذي يهدي نفسه ويُضِلُّ نفسه.
وأمَّا قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8]، قالوا: معناه أن يسميه، يسميه هاديًا ويسميه مضلًّا، وإلا فإنَّ العبد هو الذي يهدي نفسه، ويُضِلُّ نفسه، وهذا مبنيٌّ على أصلهم الفاسد، وهو: أنَّ العبد يخلق فعل نفسه، بناءً على شُبهتهم: أنَّ الله تعالى لو خلق المعاصي، وعذَّب عليها لكان ظالمًا.
والسبب في ذلك، قالوا: إنَّ العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، خيرًا أو شرًّا، طاعةً أو معصيةً، فالمؤلِّف حينما قال "مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ" أخذها من قول الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) [الأعراف: 178].
فالله تعالى هو الهادي وهو المُضلُّ، وهو له سبحانه وتعالى الحكمة البالغة كما سبق، فهو يهدي مَن يشاء مِنَّةً منه وفضلاً ويُضِلُّ مَن يشاء عدلاً منه وحكمه.
القارئ: الفعل على الجزم: مَن يهده، ما قال من يهديه، مجزوم.
الشيخ: لأنه فعل الشرط، مَن شرطية تجزم فعلين.
القارئ: أشرتم قبل قليل في ثنايا الحلقة إلى الفرق بين الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، ومعنى صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: صلى الله عليه هي أصح ما قِيل في تعريف الصلاة: صلاة الله سبحانه وتعالى، هو ما رواه البخاري رَحِمَهُ اللهُ في صحيحه، عن أبي العالية، قال: «صَلاَةُ اللَّهِ على عبده: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ في الملأ الأعلى».
ويدخل في ذلك أيضًا الرحمة قال تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورة البقرة: 157]، وأمَّا الصلاة من الملائكة فهي الدعاء، وكذلك الصلاة من العباد فهي الدعاء، أمَّا من الله فهي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
يُلاَحَظُ أيضًا في قول: "وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العبودية والرسالة.
إذًا أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية الخاصة والرسالة، ولهذا وصف الله تعالى النبي بالعبودية في أشرف المقامات، في مقام التحدي وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة: 23].
وفي مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [سورة الإسراء: 1].
وفي مقام الوحي: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[سورة النجم: 10].
وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [سورة الجن: 19].
فأشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلَّم: العبودية الخاصة والرسالة، والمراد بالعبودية الخاصة هو: التعبُّد لله عز وجل بالاختيار، فالمسلم يعبد ربه باختياره، بخلاف الكائنات، الكائنات فإنها مُسَخَّرَة، مُعَبَّدَة، كلُّ المخلوقات مُعَبَّدَة تعبيدًا عامًّا، قال الله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) [سورة مريم: 93].
فالعبودية نوعان: عبوديةٍ عامَّة، وعبوديةٍ خاصة، فالعبودية العامة كل المخلوقات مَعبُودة الله؛ أي أنها مقهورة، ومسخرة، ويَنْفُذ فيها قضاء الله وقدره، حتى الكفَّار فهم مُعبدون لله العبودية العامة، ينفذ فيهم قضاء الله وقدره ومشيئته، وليس لهم خروجٌ عن قدرة الله ومشيئته، أمَّا العبودية الخاصة، فينفرد بها المؤمن الذي يعبد الله باختياره.
(المتن)
(الشرح)
سبق الكلام في الحلقة الماضية، على خطبة المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ، وأنَّه بدأها بالحمد لله والاستعاذة بالله من شرور النفس، وسيئات الأعمال، وبيَّن أن الهداية والإضلال من الله عز وجل، لما له من الفضل والمِنَّة على المؤمنين الذي هداهم الله، ولما له من الحكمة البالغة والعدل فيمن يُضِلُّه سبحانه وتعالى، وشهد لله تعالى بالوحدانية والنبي صلى الله عليه وسلم محمدٍ بالرسالة.
وقال في آخرها: "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا".
جمع رَحِمَهُ اللهُ بين الصلاة والسلام عليه، وهذا هو الأكمل، قال: "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ولم يقل: عليه السلام، فالأكمل أن يُجمع له عليه الصلاة والسلام، وكذلك سائر الأنبياء بين الصلاة والسلام، عليه الصلاة والسلام، الأكمل من أن نقول: عليه السلام، عليه الصلاة والسلام.
"صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا"؛ تسليمًا هذا مصدر للتأكيد.
القارئ: حتى سائر الانبياء -أحسن الله إليكم- نفس الشيء؟ إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
الشيخ: نعم، هذا هو الأكمل، لا شَكَّ أنَّ هذا هو الأكمل، ولذلك شُرع لنا في التشهد أن نجمع بين الأمرين: السلام عليك أيُها النبي ورحمة الله وبركاته؛ هذا السلام، ثُمَّ بعد الشهادتين: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، فهذا هو الأكمل.
القارئ: مَن يخصُّ علي رضي الله عنه، بقول عليه السلام، انتشر بين بعض الكَتَبَة؟
الشيخ: لا، هذا لا ينبغي أن يُخَص، هذا من شعار الشيعة، فعلي رضي الله عنه كغيره، ولكن لو صُلِّي على بعض الصحابة في بعض الأحيان، لا حرج، فقد يُصلى في بعض الأحيان على أبي بكر أو على عمر، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاءه عبد الرحمن بن عوف بصدقةٍ، قال: ««اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى».
فإذا صُلي عليهم في بعض الأحيان لا بأس، لكن كونها تُتخذ شعار لبعض الصحابة وبعض الأشخاص، هذا هو..
والمعروف عند العلماء: أن الصلاة تكون على الأنبياء، والترضي للصحابة، والترحم لمَن بعدهم، هذا هو الذي ينبغي أن يكون حادثًا متبعًا، ولكن لا بأس من أن نُصَلِّي على بعض الصحابة وبعض التابعين، ونترضى أيضًا على من بعد الصحابة ويترحَّم أيضًا على الصحابة، ويترضى عنهم.
ثُمَّ قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا الدِّينُ كُلُّهُ".
"اعلم" هذا أمر؛ يعنى تيقن، واجزم، فالعلم هو: حُكم الذهن الجازم، يعني تيقن لا تشُك ولا تظن ولا تتوهم؛ لأنَّ حكم الذهن أو المدركات التي يُدرِكُها الذهن أربعة أشياء أو أربعة أنواع: العلم أو اليقين، والظن، والشك، والوهم.
فالعلم هو: حكم الذهن الجازم (اليقين)، والظن هو: أحد الطرفين الراجح، إذا كان هناك طرفان أحدهما أرجح من الآخر، فالراجح هو الظن، والمرجوح هو الوهم، وإذا كان الأمران متساويين فهذا هو الشك.
يعني علم وظن وشك ووهم.
فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ قال: "اعْلَمْ"؛ لا تظن ولا تشك ولا تتوهم.
"اعلم -وتيقن- أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا الدِّينُ كُلُّهُ"؛ وذلك أن الإيمان إذا أُطلِق -كما سبق في المقدمة- يشمل الدين كله، وكذلك الإسلام إذا أُطلِق يشمل الدين كله، وإذا اجتمعا -كما في حديث جبرائيل في سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم، عن الإسلام وعن الإيمان- فُسِّرَ الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة.
ولهذا لما سأل جبرائيل النبي صلى الله وسلم عن الإسلام، فَسَّر به الأعمال الظاهرة، قال: الإسلام: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، هذه أعمالٌ ظاهرة، ولما سأل عن الإيمان فسَّره بتصديق القلب الباطن قال: الإيمان: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ .
وجميع الأعمال الظاهرة تابعة لأركان الإسلام الخمسة، وجميع الأعمال الباطنة تابعة للإيمان.
فعلى هذا، وبهذا يكون الإيمان والإسلام يجتمع فيهما الدين كله، ولهذا هذا الحديث العظيم الذي هو حديث جبرائيل، الذى رواه عمر بن الخطاب رضى الله عنه، سأل عن الإيمان وعن الإسلام، وعن الإحسان.
ثُمَّ قال في آخره: هذَا جبريل أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دينكم وفي لفظ أُمورَ دِينَكُم، فجعل الدين على هذه المراتب الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان.
ومعلومٌ أنَّ الإحسان: هو عبادة الله، على المُشَاهدة، قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، والإسلام: هو الأعمال الظاهرة، والإيمان: هو الأعمال الباطنة، وبهذا يكون الدين يجتمع في الإيمان والإسلام.
مَن أتى بالأعمال الظاهرة التي أوجبها الله عليه، وأتي بالأمور الباطنة التي أَوجِبها الله عليه، فقد اجتمع له الدين كله، هذا معنى قول المؤلِّف: "اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا الدِّينُ كُلُّهُ".
ثُمَّ قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَنِزَاعُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ".
نعم، كثُرَ كلام الناس في حقيقة الإيمان والإسلام، كما قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ، واختلفوا، وحصل فيهم نزاع واضطراب من قديم، من حين خرج الخوارج، كما قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ.
وذلك أنَّ الخوارج خرجوا في آخر خلافة علي رضي الله عنه، لما حصل الخلاف بينه وبين أهل الشام رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين، خرجت الخوارج، وصدق فيهم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنَ الدين عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، فقتلهم علي رضي الله عنه، فكان أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه.
ولهذا فإنَّ جمهور الصحابة كانوا مع علي رضي الله عنه، ويعتدُّون أنه هو الخليفة الراشد، هو الذي تجب طاعته، وأما معاوية، وأهل الشام فإنهم بغاة، ولكن لا يعلمون أنهم بغاة، ولكنهم اجتهدوا وهم يطالبون بدم عثمان.
ولهذا انضم الصحابة رضي الله عنهم لعلي رضي الله عنه، عملًا بقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [سورة الحجرات: 9]، فظلوا يعتقدون أن علي هو صاحب الحق، وهو الخليفة الراشد الذي تجب طاعته، فانضموا إليه، وقاتلوا أهل الشام، وأهل الشام مُجتهدون، وليسوا ببغاة، إلَّا أنهم مُجتهدون، لهم اجتهادهم، فخرجت، خرجت الخوارج على عليٍّ رضي الله عنه.
القارئ: أحسن الله إليك، مادام الخوارج سُمُّوا خوارج، بينما الفئة الأخرى التي خرجت على علي سمُّوا بالبغاة، مما يدلُّ على أن تسمية الخوارج، لا تُطلَق لمجرد خروجهم، أن هناك سبب لهذه التسمية، ليست مجرَّد الخروج كما يعتقد البعض.
الشيخ: نعم، لأن الذين يخرجون على الإمام، قد يكونوا بغاة وقد يكونوا خوارج، ولهذا العلماء بيَّنوا هذا في كُتب الفقه؛ لكثرة البغاة، وقالوا: إذا خرجت طائفة على الإمام سماهم بغاة، يرسل إليهم الإمام مَن يكشف شبهتهم، إن كان لهم شبهة كشفها وإلا قتلهم.
فليس كلُّ مَن خرج على الإمام يكونوا خوارج، قد يكونوا خوارج، وقد يكونوا من البغاة، قد يكون له شبهة، والخوارج لهم عقيدة يتميَّزون بها عن غيرهم: وهو التكفير بالمعاصي؛ تكفير المسلمين بالمعاصي، ويرون أنَّ مَن فعل كبيرة فقد خرج من الإيمان.
وهذه هي مسألة الإيمان التي ذكر فيها المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى حقيقة الإيمان، حقيقة الإيمان عند الخوارج يوافقون أهل السُّنَّة والجماعة؛ لأنَّ الإيمان تصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح، إلا أنهم يخالفونهم في أن مَن فعل كبيرة فإنه يذهب الإيمان كله، وينتهي الإيمان كله، ويدخل في الكفر.
فهذا هو حقيقة الإيمان، حقيقة الإيمان عندهم: أن الدين هو قولٌ وعمل، وأن مَن ترك واجبًا أو فعل كبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكُفر، فهذه حقيقة الإيمان عندهم، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَنِزَاعُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ؛ وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ".
صنَّف العلماء في هذا قديمًا وحديثًا، في كُتب العقائد كثيرة الآن، كُتب العقائد منها: العقيدة الواسطية، ومنها: الطحاوية، ومنها: السُّنَّة للإمام أحمد، والسنَّة في العقيدة للإمام أحمد، والرد على الزنادقة للإمام أحمد، ورد عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي، ورده على الجهمية، وغيرها.
كلها فيها بيان معتقد أهل السُّنَّة والجماعة، وفيها بيان عقيدة الخوارج، والرد عليهم، ولهذا قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ؛ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ"؛ يعني قديمًا من ذلك الزمان، صارت لهم هذه العقيدة، وصاروا يعتقدون كُفر مَن فعل الكبيرة، ويعتقدون أنَّ حقيقة الإيمان تزول عن المسلم إذا فعل الكبيرة، أو قصّر في الواجب.
ولهذا قال المؤلِّف: "وَقَدْ كَثُرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ ، وَنِزَاعُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ؛ وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ؛ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مِنْ حِينِ خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ بَيْنَ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ". يعني قديم
ثُمَّ بعد ذلك جاءت الجهمية، خرجت الجهمية في أوائل المائة الثانية، ثُمَّ المعتزلة، هي أول مَن قال بنفي الصفات، الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وكان مؤدِّبَ مروان، آخر خلفاء بني أمية، الذي يُقال له: مروان الحمار.
وكان أول ما تكلَّم في نفي الصفات في كلمتين، قال: إنَّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلَّم موسى تكليمًا.
فقتله خالد بن عبد الله القسري، أمير العراق والمشرق بفتوى من علماء زمانه، وكانوا من التابعين.
وقبل قتله اتصل به الجهم بن صفوان، وأخذ عنه؛ فانتشرت مقالة الجهمية، ثُمَّ تقلَّد عنهم المعتزلة، وصار المعتزلة لهم مذهب يوافقون الخوارج في شيء ويخالفونهم في شيء..
فهم يوافقون الخوارج في أنَّ مَن فعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولكنه لا يدخل في الكفر عندهم، بل يكون في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ولكنهم يوفقون الخوارج في كونه يُخلَّد في النار.
فالخوارج خرجوا في عهد الصحابة في زمن عليٍّ رضي الله عنه وهم مِن أوائل الفرق، ثم بعد ذلك خرجت خوارج الجهمية والمعتزلة في أوائل المائة الثانية.
فحقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام كثُر فيه الاضطراب والنزاع بين الطوائف، مِن ذلك الوقت، مِن قديم، مِن حين خرجت الخوارج، ولكن أهل الحق، أهل السنة والجماعة مِن العلماء مِن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم يستدلون بكلام الله وكلام رسوله ﷺ ويعلمون أن حقيقة الإيمان وحقيقة الدين هو الإتيان بما أمر الله به ورسوله مِن التصديق الجازم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأداء الأعمال والواجبات التي فرضها الله والانتهاء عن المحرمات.
هذا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة، قول باللسان وقول بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قول القلب هو التصديق والإقرار، وقول اللسان النطق، وعمل القلب النية والإخلاص، وعمل الجوارح معروف كالصلاة والزكاة والصوم والحج، هذا حقيقة الإيمان، وهو حقيقة الإسلام عند الإطلاق، وأمَّا إذا اجتمعا فإنه يُفسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما سيبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ.
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ: وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَصِلُ الْمُؤْمِنُ إلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ.
فَلَا نَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّاسِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ -فِي ضِمْنِ بَيَانِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- مَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
.
(الشرح)
يقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى".
هذا فيه بيان منهج المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ، كما سبق في المقدمة أنَّ المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ يعتمد على كتاب الله وعلى سُنَّة رسوله ﷺ، ولهذا قال: "وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ" قبل أن نذكر خلاف الناس.
"فَيَصِلُ الْمُؤْمِنُ إلَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ".
يصل المؤمن إلى الحقِّ، وإلى بيان حقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، يصل إليها مِن كلام الله وكلام رسوله، وذلك أنَّ الله تعالى بيَّن حقيقة الإيمان في آية البر، قال الله تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].
وقال تعالى: آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر:49].
والنبي ﷺ بيَّن حقيقة الإيمان في حديث جبرائيل لما سأله عن الإيمان، قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، وفيه آية البر إلى آخرها، فإن البر إذا أُطلق يشمل الدين كله، كما أن التقوى إذا أُطلقت تشمل الدين كله، والإيمان إذا أُطلق يشمل الدين كله، والإسلام كذلك.
القارئ: أحسن الله إليكم، فضيلة الشيخ، إذا أذنتم، ما دمتم تُشرفون على عدد كبير -الحقيقة- مِن الرسائل في منهجية البحث كما أشار شيخ الإسلام قبل قليل هنا أنه يذكر ما يُستفاد مِن كلام الله وكلام رسوله، ثُمَّ يبيِّن اختلاف الناس ثُمَّ الرَّد، نلحظ في المنهجيات المعاصرة أنهم يذكرون: أقوال المخالفين والمعارضين، ثُمَّ تُعرض شبههم، ثُمَّ الرَّد عليهم، ثُمَّ يُذكر القول الصواب في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، هل هذا يختلف أو أن الأمر مجرَّد منهجية؟
الشيخ: هذا فيه تفصيل إذا كان المقصود منه: الرَّدُّ على أهل الشُّبه، نعم تُذكر أقوال الخصم وشبهتهم ويُردُّ عليها، أمَّا إذا أُريد بيان المسألة مِن حيث هي، فإنه يُذكر القول الحق في هذه المسألة، ويُبيِّن أدلَّته ثم تُذكر شُبه المخالفين، ثُمَّ الرد عليها.
والمؤلف رَحِمَهُ اللهُ هنا يقول: أننا نذكر كلام الله وكلام رسوله فيصل المؤمن إلى الحقيقة مِن نفس كلام الله وكلام رسوله؛ لأن هذا هو المقصود، المقصود: أن يعلم الإنسان حقيقة دينه مِن كلام الله وكلام رسوله ﷺ، هذا هو المقصود.
ولهذا قال: "فَلَا نَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّاسِ ابْتِدَاءً"، بل نبتدئ بكلام الله وكلام رسوله، حتى يصل المؤمن إلى الحقيقة مِن كلام الله وكلام رسوله، ويعلم حقيقة الإيمان، ويعلم حقيقة الإسلام، ويعلم حقيقة الدين مِن كلام الله وكلام رسوله.
ثُمَّ بعد ذلك "نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ -فِي ضِمْنِ بَيَانِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- مَا يُبَيِّنُ أَنَّ رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
فإذا تبيَّن للمسلم ولطالب العلم حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام مِن كلام الله وكلام رسوله ﷺ يتبيَّن له أن هؤلاء المخالفين يجب ردُّ وخلافهم إلى كلام الله وكلام رسوله؛ لأنَّ هذا من موارد النزاع، إذا اختلف الناس مثلًا في حقيقة الإيمان كما سبق في المقدمة فمرجئة الفقهاء لهم بيان في حقيقة الإيمان، والماترودية مِن الأشاعرة لهم كلام أيضًا في حقيقة الإيمان، والكرَّامية لهم كلام في حقيقة الإيمان، والخوارج لهم كلام في حقيقة الإيمان، والمعتزلة لهم كلام في حقيقة الإيمان، وغيرهم.
فهذه الأقوال المختلفة المتضاربة إذا تبيَّن للمسلم حقيقة الإيمان مِن كلام الله وكلام رسوله يرد هذا النزاع إلى كلام الله وكلام رسوله؛ عملًا بقول الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء:59]؛ يعني خير وأحسن عاقبة.
ومنهم مَن قال: أحسن عاقبة في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الإنسان إذا ردّ النزاع إلى كلام الله وكلام رسوله يطمئن؛ لأنه تعبّد بكلام الله وكلام رسوله ﷺ، وفي الآخرة يكون قد فعل الصواب، وحاز على رضا الرب سبحانه.
القارئ: عفا الله عنكم، نريد أن نعرف ثمرة الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع في معرفة معنى حقيقة الإيمان، ما ينبني على معرفة حقيقة الإيمان.
الشيخ: ثمرة الخلاف العمل، والحكم، فالعمل إذا عرف الإنسان حقيقة الإيمان، وأن الإيمان قول بالقلب وقول باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح علم أنَّ هذه حقيقة الإنسان، وأنَّ مَن خالفها وخالف ما جاءت به النصوص مِن كلام الله وكلام رسوله لم يأت بحقيقة الإيمان، حقيقة الإيمان عنده ناقصة، وقد تزول حقيقة الإيمان عنده.
وبالتالي يكون هذا الذي خالف كلام الله وكلام رسوله لم يأت بما أوجب الله عليه، لم يأت بالإيمان الواجب الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة والنجاة مِن النار، فمثلًا الخوارج والمعتزلة خالفوا كلام الله وكلام رسوله في قولهم: "أنَّ مرتكب الكبيرة يكفر"؛ لأن النصوص دلَّت على أن صاحب الكبيرة لا يكفر، ولا يُخلَّد في النار، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116].
وينتج عن العقيدة العمل، وكذلك أيضًا المرجئة بأقسامهم فالجهمية مثلًا الذين يقولون أن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب ما يعملون، يكتفون بالمعرفة، ويرون أن من عرف ربه بقلبه فقد أدى ما عليه ويقولون أن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب والكفر جهل الرب بالقلب ، فهم لا يعملون، ولهذا قالوا: "أن مرتكب الكبيرة لا إثم عليه" إيمانه كامل ويدخل الجنة مِن أول وهلة والعياذ بالله.
وكذلك أيضًا مرجئة الفقهاء الذين يقولون أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، له حقيقة، هذا الخلاف له ثمرة، فثمرة الخلاف وإن كان أبو حنيفة وأصحابه نزاعهم مع أهل السنة والجماعة لا يترتب عليه فساد في العقيدة إلا أن له ثمرة.
فأبو حنيفة وأصحابه وغيرهم مِن مرجئة الفقهاء المشهور عندهم أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وأن أعمال الجوارح غير داخلة في مسمى الإيمان ويقولون الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن حقيقة الإيمان واحدة عند جميع الناس، وما يترتب عليه له ثمرة وله مفاسد.
مِن ثمرة الخلاف أن مرجئة الفقهاء فتحوا باب لمرجئة المحضة وهم الجهمية لأنهم لما قالوا أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان وإن كانت مطلوبة ولابد منها، فتحوا باب لمرجئة المحضة فقالوا: "إن الأعمال ليست مطلوبة" ومِن ثمرة الخلاف أنهم فتحوا باب للعصاة والفسقة، فيأتي السِّكِّير العربيد فيقول أنا مؤمن كامل الإيمان، إيماني كإيمان أبي بكر وعمر، وجبريل وميكائيل، فإذا قيل: أبو بكر له أعمال عظيمة قال: الإيمان واحد، ما لنا دعوة بالأعمال.
وكذلك أيضًا مِن ثمرة الخلاف أن جمهور أهل السنة والجماعة وافقوا النصوص الكتاب والسنة لفظًا ومعنًى، وتأدبوا مع النصوص والله تعالى أدخل الأعمال في مسمى الإيمان في كثير مِن النصوص، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، فجعل أعمال القلب وأعمال الجوارح أدخلها في مسمى الإيمان.
فوجل القلب هذا عمل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند التلاوة هذا عمل القلب، وعلى ربهم يتوكلون هذا عمل قلبي، كذالك الصلاة والزكاة كلها أعمال داخلة في مسمى الإيمان، وكذلك قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شعبة وفي رواية للبخاري الإيمان بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, وفي رواية لمسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة فَأَعلاها قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَان فكل هذه الشعب أدخلها في مسمى الإيمان.
ولهذا فإن البيهقي رَحِمَهُ اللهُ تتبع هذه الشعب وأوصلها إلى نهاية البضع، والبضع مِن ثلاثة إلى تسعة فأوصلها إلا تسع وسبعين، وألف كتابًا سماه شعب الإيمان، كل هذه داخله في مسمى الإيمان.
ومثل النبي ﷺ كلمة لا إله إلا الله بعمل القلب وهي الحياء شعبة من الإيمان وعمل الجوارح وهي إماطة الأذى عن الطريق، وبين هذه الشعب شعب متفاوتة منها ما يقرب مِن شعبة الشهادة ومنها ما يقرب مِن شعبة الإماطة، فالصلاة شعبة والزكاة شعبة والصوم شعبة والحج شعبة وبر الوالدين شعبة والجهاد شعبة والأمر بالمعروف شعبة والنهي عن المنكر شعبة وصلة الرحم شعبة والإحسان للجار شعبة وهكذا، هذه كلها داخلة في مسمى الإيمان.
وكذلك حديث وفد عبد القيس لما أتوا إلى النبي ﷺ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا ، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ : فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ، أَمَرَهُمْ : بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ، قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ.
ففسَّر الإيمان بهذه الأعمال فجمهور أهل السنة تأدبوا مع النصوص ووافقوا النصوص لفظًا ومعنًى، ومرجئة الفقهاء وافقوا النصوص معنًى وخالفوها لفظًا بخلاف أهل السنة لم يخالفوا النصوص لا لفظًا ولا معنًى، ومِن ثمرة الخلاف الاستثناء في الإيمان وهو أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
فمرجئة الفقهاء الذين يقولون أن الإيمان هو التصديق فقط، يرون أنه لا يجوز للإنسان أن يستثني فيقول أنا مؤمن إن شاء الله، يقولون أتشك في إيمانك؟ أنت تعلم أنك مؤمن بالله كما تعلم أنك قرأت الفاتحة، وكما تعلم أنك تحب الرسول وتبغض اليهود، لكن جمهور السنة يفصلون يقولون إذا أراد الإنسان الشك في دينه فلا يجوز له أن يستثني أما إذا أراد أن شعب الإيمان متعددة والواجبات كثيرة وأن الإنسان لا يزكي نفسه وأن الإنسان أدى ما عليه فلا بأس أن يقول إن شاء الله، إذا أراد عدم العلم بالعاقبة أو أراد التبرك باسم الله فلا حرج، كل هذا مِن ثمرة الخلاف.
(المتن)
توقَّفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: فَنَقُولُ: قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَام وَمُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَمُسَمَّى الْإِحْسَانِ، «فَقَالَ: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَالَ: الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
وَالْفَرْقُ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِيهِ: أَنَّ جبرائيل جَاءَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ أَعْرَابِيٍّ فَسَأَلَهُ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَاءَهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورِ قَالَ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ}".
(الشرح)
قوله رَحِمَهُ اللهُ: " فَنَقُولُ: قَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ مُسَمَّى " الْإِسْلَامِ " وَمُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَمُسَمَّى " الْإِحْسَانِ" يعني رَحِمَهُ اللهُ حديث جبريل المشهور الذي رواه عمر t مطولًا، ورواه الشيخان مِن حديث أبي هريرة مختصرًا، فإن النبي ﷺ فرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام ومسمى الإحسان لاجتماعها فإن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا.
إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما مسمى، فإذا اجتمعا صار مسمى الإسلام الأعمال الظاهرة ومسمى الإيمان الأعمال الباطنة، وإذا افترقا اجتمعا فإذا جاء الإسلام وحده كما في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، دخل فيه الإيمان، وإذا جاء الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنًى.
وهذا معروف دلالة بالاقتران والتجرد هذا معروف في كثير مِن المسميات، ومِن ذلك مسمى البر والتقوى، فالبر إذا أطلق دخل فيه جميع الدين فعل الأوامر وترك النواهي، وكذلك التقوى، وإذا اجتمعا فُسر البر بفعل الأوامر والتقوى بترك النواهي، كما سيبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ.
وكذلك الفقير والمسكين، فإذا أطلق الفقير دخل فيه المسكين لقوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273]، وإذا أطلق المسكين دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا فُسر الفقير بما هو أشد حاجة فالفقير هو المعدم الذي لا يملك شيئًا أو يجد نصف الكفاية لمدة سنة، والمسكين هو الذي يجد نصف الكفاية إلا أنه لا يجد تمام الكفاية، يكون أشد حاجة، ولهذا قدمه الله في آية الزكاة، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
وكذلك الربوبية والألوهية، إذا أطلقت الربوبية دخل فيها الألوهية وإذا أطلقت الألوهية دخل فيها الربوبية، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنًى، صارت الألوهية مع العبادة، والربوبية فعل الرب سبحانه. كما في قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) [الناس:1-3].
ولهذا قال المؤلف: "فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ، وَمُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَمُسَمَّى الْإِحْسَانِ؛ لأنها اجتمعت، فَقَالَ: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا".
فسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، بالأركان الخمسة، وهي: الشهادتان، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وهي أساس الدين وأصل الملَّة، ثُمَّ إقامة الصلاة، ولم يقل: وتصلي؛ لأن إقامة الصلاة غير الصلاة، لأن الإنسان قد يصلي ولا يقيم الصلاة لكن الإقامة معناها هي الإتيان بها كما أمر الله وكما أمر رسوله ﷺ في الوقت عن إخلاصٍ وصدقٍ ورغبة وطمأنينة.
ولهذا قيل: "يصلي كثير ويقيم الصلاة قليل".
وأن تؤتي الزكاة؛ يعني تؤديها لمستحقيها عن طيب نفس، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، وكلها أعمال ظاهرة فسر الإسلام بالأعمال الضاهرة.
ثُمَّ فَسَّر الإيمان بالأمور الباطنة، فقال: الإيمان أن تؤمن بالله؛ أي تصدق وتعتقد جازمًا: بأن الله تعالى واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وملائكته، تعتقد أنَّه الرب غير المربوب، وأنه الخالق غير المخلوق، وأنه الملك غير المملوك، وأنه الخالق، الرازق، المدبِّر، المحيي، المميت، ولابد أن تؤمن بأسمائه وصفاته بأن تعتقد بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلا التي وردت في الكتاب والسنة.
ولا بد أن تؤمن بألوهية الله فتعقد بأن الله هو المعبود بالحق وأن غيره معبود بالباطل، مع التزام ذلك والعمل به. قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) [الحج:62].
وكذلك الإيمان بالملائكة، كلها أمور باطنة يعتقدها الإنسان، وكذلك الإيمان بالملائكة، يعتقد بأن لله ملائكة وأنهم مِن عالم الغيب وأنهم أشخاص لهم ذوات محسوسة تصعد وتنزل وترى وتذهب وتجيء وتخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهم مخلوقون مِن نور وأن لهم مكانة عند الله عز وجل لهم وظائف متعددة.
فمنهم موكل بعمارة السماوات بالعبادة ومنهم موكل بالنبات والقطر ومنهم موكل بالوحي ومنهم موكل بالموت ومنهم موكل بالنطفة وتدبيرها حتى يتم خلقها ومنهم موكل بحفظ بني آدم ومنهم موكل بالجبال ومنهم موكل بالسحاب وليس هناك حركة في السماوات والأرض إلا وهي ناشأة عن الملائكة بأمر الله الكوني كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) [النازعات:5].
فالفلاسفة لا يثبتون الملائكة، لا يعتقدون أن الملائكة أشخاص محسوسة، بل يقولون هم أشكال وأشباح نورانية، يتخيلها النبي بزعمهم وهذا مِن أبطل الباطل، وإذا أرادوا أن يتقربوا إلى المسلمين قالوا بالعبارة هذه القوى العقلية التي تبعث على الخير والشياطين العقول الرديأة التي تبعث على الشر، القوى العقلية التي تبعث على الخير والإحسان والبذل والشجاعة والكرم والشياطين عقول رديأة تبعث على الظلم والعداون، هكذا يقولون.
ما آمنوا بالملائكة، وكذلك أيضًا الإيمان بالكتب المنزلة، لابد مِن الاعتقاد بأن الله تعالى أنزل كتبه على أنبيائه ورسله، وأنها حق وهدى ونور، ونؤمن بما سمى الله منها في كتابه إيمانًا تفصيليًا، نؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هذه الكتب الأربعة، وأعظمهما التوراة والقرآن كثيرًا ما يجمع الله بينهما، كما قال تعالى: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) [القصص:48].
فالتوراة والقرآن مِن الكتب المنزلة وأعظمها القرآن الكريم، فإنه خاتمها والحاكم عليها والمهيمن عليها والناسخ لها، والفلاسفة لا يؤمنون بالكتب المنزلة، يقولون هي عبارة عن معاني تفيض مِن العقل الفعَّال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل به مِن التصورات والتصديقات بحسب ما تؤمن به.
ولابد مِن الإيمان بالأنبياء والرسل، وأن الله تعالى أرسل أنبياء ورسل للعباد لهدايتهم وأن الله أرسلهم لهداية الناس وأن الله تعالى مَنَّ عليهم بالنبوة وأن الله تعالى اصطفاهم واختارهم واجتباهم بخلاف الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالأنبياء ولا بالرسل، يقولون: أن النبي عبارة عن رجل عبقري تميزت فيه بعض الصفات فوصل إلى النبوة، رجل عبقري يسوس الناس ويجوز له أن يكذب على الناس ليُمَوِّه عليهم مِن أجل مصلحتهم، فهو يكذب لهم لا عليهم.
ولهذا بعضهم كابن هود وابن سبعين طلب العلو على الأنبياء وقال أنه لا يرضى بالنبوة وأن النبوة ليست منزلة عالية؛ لأن النبوة سياسة العامة بخلاف الفلسفة فإنها أعلى منها لأنها نبوة خاصة، وكفر هؤلاء فاق كفر الذين قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124]، نسأل الله السلامة والعافية.
فهم لا يؤمنون بالأنبياء، يقولون رجل عبقري اتصف بصفات كقوة الإدراك، قوة التخيُّل والتخييل، قوة الإدراك حتى يُدرك مِن العلم ما لا يُدركه غيره، فهو رجل عبقري يتميز بهذه الصفات قوة التخيل وقوة النفس وسرعة الإدراك وقوة التخيل والتخييل فمَن استكملها فهو نبي عندهم.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر، لابد مِن الإيمان بيوم القيامة وأن الله تعالى يأمر إسرافيل فينفخ في الصور نفخة الصعق والموت ثم بعد ذلك بعد أربعين ينفخ نفخة البعث فتعود الأرواح إلى أجسادها ويقوم الناس مِن قبورهم، حفاة عراة غرلًا للحساب وليقفون بين يدي الله ثم بعد ذلك تتطاير الصحف ويحاسب الله الخلائق وهناك الصراط والميزان والحوض ثم الجنة والنار.
فلابد مِن الإيمان بذلك، ومَن لم يؤمن بذلك فليس بمؤمن، وأما الفلاسفة فإنهم أنكروا البعث والجزاء والحساب وقالوا: إن هذه أمور خيالية يخبر بها النبي الناس مِن أجل سياستهم حتى يتعايش الناس بسلام وحتى لا يبغي بعضهم على بعض إذا تخيلوا أن هناك بعث وجزاء وحساب وجنة ونار وإلا هذه الأشياء كلها لا حقيقة لها، نعوذ بالله.
هؤلاء الفلاسفة المتأخرون أمثال ارسطو وأبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا هذه عقيدتهم نسأل الله السلامة والعافية، لأن أخذ كثيرًا مِن هذه الآراء المعتزلة وغيرهم.
وكذلك الإيمان بالقدر، لابد للمسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره بمراتبه الأربع، القدر له مراتب أربع لابد مِن الإيمان بها، المرتبة الأولى: العلم الأزلي بأن يعلم المسلم أن الله يعلم ما كان في الماضي ويعلم ما يكون في المستقبل و يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
أخبر الله عن حال الكفار قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، أخبر الله تعالى بما سيكون مِن حالهم لو رُدوا، لكنهم لا يردون، وأخبر الله تعالى عن حال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، قال الله عنهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ[التوبة:47]، أخبر الله أنه يعلم ما سيكون لو كان كيف يكون فلابد مِن الإيمان بعلم الله الأزلي السابق وأنه يعلم ما كان ويعلم ما يكون في المستقبل ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
ولابد مِن الإيمان بالكتابة، وأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ مما يكون مِن الذوات والصفات قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، وقال سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس:12]، وهو اللوح المحفوظ، وقال سبحانه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) [الأنعام:59].
ولابد مِن الإيمان بالإرادة الشاملة، وأنه لا شيء يقع في الكون إلا بمشيئة الله وإرادته خيرًا كان أو شرًّا، ولابد مِن الإيمان بالخلق والإيجاد وأن كل شيء في هذا الكون فالله خلقه وأوجده، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الرعد:16]، وقال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) [الفرقان:2].
ولذلك فإن القدرية الذين أنكروا القدر طائفتان، الطائفة الأولى: الغلاة الذين أنكروا المرتبتين الأولَيَين العلم والكتابة، هؤلاء الكفار وهم الذين خرجوا في آخر عهد الصحابة ذكرهم الإمام مسلم في صحيحه، «عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، قَالَ : خَرَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ ، وَقُلْنَا : لَعَلَّنَا لَقِينَا رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَسْأَلَهُ عَنِ الْقَدْرِ ، فَلَقِيَنَا ابْنَ عُمَرَ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكِلُ الْكَلامَ إِلَيَّ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَدْ ظَهَرَ عِنْدَنَا أُنَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ-أي يطلبونه- تَقَفُّرًا ، يَزْعُمُونَ أَنْ لا قَدْرَ ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ ، قَالَ : فَإِنْ لَقِيتَهُمْ ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ ، وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ ابْنُ عُمَرَ : لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدْرِ لَمْ يُقَبْلُ مِنْهُ» ثم ذكر حديث عمر t، فهؤلاء كفار قال فيهم الشافعي رَحِمَهُ اللهُ: "ناظِروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِموا وإن أنكروه كفروا".
أما عامة القدرية فهم يؤمنون بالعلم والكتابة ويؤمنون بالإرادة والمشيئة لكنهم أنكروا عموم الإرادة وعموم المشيئة، فقالوا إن الله أراد كل شيء في هذا الوجود إلا أفعال العباد، وخلق كل شيء في هذا الوجود إلا أفعال العباد، أخرجوها مِن عموم الإرادة وعموم الخلق بالشبهة التي حصلت لهم.
وأنهم توهموا أنهم إذا قالوا أن الله أراد كل شيء وخلق كل شيء أن هذا فيه نسبة الظلم إلى الله، وأن الله خلق المعصية وعذبهم عليها هذا شبهة داحضة، فلابد مِن الإيمان بهذه الأصول الستة، فلهذا النبي ﷺ فرق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان، لمَّا جمِعا في حديث واحد.
وكذلك مسمى الإحسان لما سأل جبرائيل عن الإحسان قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، ففسر العبادة بالمشاهدة وهي على درجتين، الدرجة الأولى أن تعبد الله كأنك تشاهده، والدرجة الثانية أقل مِن ذلك، أن تعبد الله كأنه يراك، في عبادتك في صلاتك وصومك وزكاتك وحجك ودعوتك إلى الله وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر إلى غير ذلك مِن أمور الدين.
قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَالْفَرْقُ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ" مِن الحديث الطويل هذا الذي سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثُمَّ عن الساعة، ثُمَّ أشراطها، ثُمَّ لبث مليًّا ثم قيل: مَن السائل؟ قال: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ».
"وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَيْه، ونص الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: «الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ المَرْأَةُ رَبَّتَهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ[لقمان: 34]، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: «رُدُّوا عَلَيَّ» فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ».
وَالْفَرْقُ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِيهِ: أَنَّ جبرائيل جَاءَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ أَعْرَابِيٍّ فَسَأَلَهُ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: أَنَّهُ جَاءَهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورِ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ»".
(المتن)
وَحَدِيثُ جبرائيل يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ هُوَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ؛ بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: أَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ، وَيَلِيهِ الْإِسْلَامُ.
فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُحْسِنًا، وَلَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- فِي سَائِر الْأَحَادِيثِ؛ كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ: «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ. قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك. قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ. قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ. قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ. قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُجَاهِدَ أَوْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تغلل وَلَا تَجْبُنُ».
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا -قَالَهَا ثَلَاثًا- حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَد وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي.
وَلِهَذَا يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ، «فَيَقُولُ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ».
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَبَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
(الشرح)
"وَحَدِيثُ جبرائيل يُبَيِّنُ أَنَّ: الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ: هُوَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ".
يبيِّن المؤلِّف أنَّ الإسلام المبني على خمس وهو: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، هو الإسلام نفسه الذي تنبني عليه بقيَّة الواجبات وشرائع الإسلام، فالإسلام المبني على الخمس هو الشهادتان والصلاة والصوم والزكاة والحج هذه الخمس التي ينبني عليها الإسلام هي التي ينبني عليها بقية الواجبات وشرائع الإسلام
ولهذا يقول: "وَحَدِيثُ جبرائيل يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ هُوَ: الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ"؛ لأن الإسلام إنما يقوم على هذه الخمسة ثم تنبني عليها شرائع الإسلام، ولا يمكن أن تنبني شرائع الإسلام إلا على هذه الخمس.
وأصل الدين وأساس الملة هو الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ثم إقام الصلاة ثم إيتاء الزكاة ثم صوم رمضان ثم حج البيت ثم بقية شرائع الإسلام، فالإسلام الذي انبنى على هذه الخمس هو الإسلام الذي تنبني عليه بقية شرائع الإسلام.
وهذا معنى قول المؤلف: "الْإِسْلَامَ الْمَبْنِيَّ عَلَى خَمْسٍ؛ هُوَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ لَيْسَ الْمَبْنِيُّ غَيْرَ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: أَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ، وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ، وَيَلِيهِ الْإِسْلَامُ".
يشير المؤلف رَحِمَهُ اللهُ إلى قول النبي ﷺ في حديث عمر المشهور لما ذكر الإسلام والإيمان والإحسان قال : «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ»، فجعل الدين على ثلاثة مراتب: الأولى: الإسلام، والثانية: الإيمان، والثالثة: الإحسان، أعلاها.
"فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ"؛ لأنه عبد الله على المشاهدة، «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، فالمحسن هو: المؤمن؛ لأنه تجاوز مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإحسان.
"وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ"، تجاوز مرتبة الإسلام؛ لأن المؤمن هو: الذي يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، والمسلم قد يقصِّر في بعض الواجبات، وقد يفعل بعض المحرمات فإذا فعل الواجبات وانتهى عن المحرمات أطلق عليه الإيمان فصار كل مؤمن محسن، "وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُحْسِن"؛ لأنَّ الإنسان قد يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرَّمات، لكن لا يصل لدرجة الإحسان يعبد الله على المشاهدة.
"وَلَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا"؛ لأنَّ المسلم قد يقصِّر في بعض الواجبات، وقد يرتكب بعض المحرَّمات فلا يطلق عليه مسمى الإيمان، ولهذا الإيمان أعلى مِن الإسلام، والإحسان أعلى مِن الإيمان، فمَن وصل إلى الدرجة العُليا وهي الإحسان يُطلق عليه الإيمان والإسلام ، ومَن وصل إلى درجة الإيمان فإنه يُطلق عليه الإسلام.
ومَن كان مسلمًا فإنه قد يكون مؤمنًا وقد لا يكون، قد يكون مؤمنًا يعني بإطلاق، وإلا فإن الإسلام لا يصح إلا بالإيمان، لا تصح الأعمال إلا بإيمان يصدقها كما أن الإيمان لا يتحقق إلا بالإسلام، إلا بعمل يتحقق به، فإسلام لابد من إيمان يصدقه وإلا صار كإسلام المنافقين.
فالذي يصلي ويصوم ويحج لابد له مِن إيمان يتحقق به إسلامه وإلا صار كإسلام المنافقين يعملون بدون إيمان، والمؤمن المصدق المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لابد له مِن عمل يتحقق به هذا الإيمان وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون.
لأن إبليس يعرف ربه وفرعون يعرف ربه، ما يتحقق إلا بالعمل؛ ما عندهم عمل ولا عندهم طاعة، فلا بد مِن الأمرين مِن انقياد وطاعة، هذا هو الإسلام والإيمان تصديق في الباطن فلابد من الأمرين ولكن الإسلام عندما يطلق على العاصي وعلى المؤمن فالعاصي يقال له مسلم لكن لا يُطلق عليه الإيمان إلا بتقييد، فيقال العاصي مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فإذا أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات أُطلق عليه الإيمان.
الإيمان الذي يستحق به الإنسان دخول الجنة هو الإيمان الذي يؤدي صاحبه الواجبات وينتهي عن المحرمات، أما إذا قصر في بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات فلا يطلق عليه الإيمان ويطلق عليه الإسلام، ويقال له مسلم ولا يقال له مؤمن، إلا بالقيد، إلا بالتقييد.
ولهذا إن مَن قال للعاصي مؤمن يكون غلِط عند أهل السنة والجماعة ومَن قال في المؤمن يكون غلط، فلابد مِن التقييد، في النفي وفي الإثبات فالعاصي يقال له مؤمن لكن بقيد، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، وكذلك أيضًا نفي الإيمان عن العاصي خطأ عند أهل السنة والجماعة، فلا يقال عن العاصي ليس بمؤمن، بل لابد مِن القيد، ليس بمؤمن حقًّا أو ليس بصادق الإيمان، المقصود أن المسلم يُطلق على العاصي ولا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد.
ولهذا قال المؤلف: "بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: أَعْلَاهَا: الْإِحْسَانُ، وَأَوْسَطُهَا، الْإِيمَانُ، وَيَلِيهِ الْإِسْلَامُ، فَكُلُّ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُحْسِنًا وَلَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- فِي سَائِر الْأَحَادِيثِ؛ كَالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ». قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك»".
ففسَّر الإسلام بسلامة المسلمين مِن لسانه ويده، ولابد مِن إسلام القلب؛ يعني الانقياد والطاعة، ففسَّر الإسلام بالانقياد والطاعة والخضوع وسلامة المسلمين مِن لسانه ويده.
"قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ"؛ فجعل الإيمان أفضل الإسلام، وهو أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
"قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ" فجعله أفضل الإسلام لأنه عمل القلب، وهو التصديق بالباطن.
"قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ. قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ"؛ وأصل الهجرة هي: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، لكن فسَّر الهجرة بهجر السوء؛ لأنَّ هجر السوء أعم يشمل هجر بلاد الكُفْر، مَن ترَك بلاد الكفار فقد هجر السوء، ويشمل أيضًا هجر السوء مِن المعاصي والبدع والمنكرات، فمَن هجر السوء يصدق فيه الهجرة مِن بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ففسَّر الهجرة بما هو أعمّ.
"قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُجَاهِدَ أَوْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تغلل وَلَا تَجْبُنُ"، وأصل الغلول هو: أن تأخذ مِن الغنيمة قبل قسمتها، فمَن أخذ مِن الغنيمة قبل قسمتها فقد ارتكب كبيرة مِن كبائر الذنوب، قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161:].
وجاء الوعيد الشديد على مَن غلّ تُوُعِّد بالنار وأن مَن غلّ شيئًا فإنه يشتعل عليه نارًا، قال ﷺ في الرجل الذي غلَّ شملة: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غَلَّهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَمِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»، ومثله مَن أخذ مِن بيت مال المسلمين شيئًا أو من الصاقات أو الأوقاف، كل هذا يدخل في الغلول.
"وَلَا تَجْبُنُ". والجبن هو: التأخر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التأخر عن برِّ الوالدين، وعن صلة الرحم، هذا جبن، تخلُّف عن الخير وتخلُّف عن الطاعة.
"ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا -قَالَهَا ثَلَاثًا- حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَد وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، جاء في حديث آخر عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم قال: «العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفّارةٌ لِمَا بيْنَهُما، والحجُّ المبْرورُ لَيْسَ له جَزَاءٌ إلا الجنّةُ»".
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده كما ذكر المحشي، قال حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي قلابة عم عمرو بن عبسة، ورواه المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة.
والمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يقول: "وَلِهَذَا يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ"؛ وهي الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد.
القارئ: فضيلة الشيخ بودنا أيضًا أن نذكر للإخوة حكم الأحاديث في نظركم ما دمتم تتفضلون بالشرح، هذا الحديث صحيح؟
الشيخ: هذا الحديث في سنده رجل مبهم مِن أهل الشام، لكن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تكلم عليه لعله حسنه مِن شواهده.
يقول المؤلف: "وَلِهَذَا يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ «فَيَقُولُ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»"؛ هذه المرتبة الأولى : مرتبة الإسلام العمل الظاهر، "وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ"؛ فهو أعلى مرتبة مِن الإسلام، فمَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم سلم المسلمون مِن لسانه ويده.
وأما مَن لم يسلم المسلمون مِن لسانه ويده فإنه لم يصل إلى درجة الإيمان بإطلاقه، يسمى مسلم بعصيانه ولكنه لا يطلق عليه الإيمان، "وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ" فسَّره بالعموم، ومِن ذلك الانتقال مِن بلد الكفر إلى بلد الإسلام وهذا مِن هجر السيئات، فسره بالعموم والهجرة مع القدرة واجبة على مَن لم يستطع إظهار دينه.
وقد توعد الله مَن لم يهاجر مع قدرته بوعيد شديد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) [النساء:97-99].
"وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ" هذا عام، مَن جاهد نفسه لله يشمل الجهاد لإعلاء كلمة الله لأن هذا مِن جهاد النفس؛ فمَن جاهد نفسه لله فإنه يقاتل ومَن لم يجاهد نفسه لله فإنه لم يقاتل ولايستطيع أداء ما أوجبه الله عليه إلابجهاد النفس، ويشمل غيره فهذا أعمّ، فجعل المؤلف رَحِمَهُ اللهُ هذه أربع مراتب، قسمها، الإسلام، الإيمان، الهجرة، الجهاد.
القارئ: معنى ذلك أن هذه المراتب يدخل بعضها في بعض يا شيخ؟ المسلم مَن سلم المسلمون مِن لسانه ويده يأتي مع ما هو أعم المؤمن مَن أَمِنَ... وهكذا؟
الشيخ: نعم، سيبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ لأنه تكلَّم عن هذا المعنى، ويبين أن الأول لازم للثاني فمَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم يلزم ذلك أنهم سلموا مِن لسانه ويده.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ وَهُوَ فِي السُّنَنِ، وَبَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ".
(المتن)
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْلَمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة.
(الشرح)
هذا يبيِّن -كما سبق-: أنَّ هاتين المرتبتين إحداهما لازمة للأخرى، ولهذا يقول: "وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ»".
يقول المؤلف تعليقًا على هذا: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْلَمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ".
يعني فيلزم مِن كون أن يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم يلزم منه أن يسلم المسلمون مِن لسانه ويده لأن مَن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم هذا وصل إلى درجة الإيمان بإطلاق، أدى الواجبات وترك المحرمات فيدخل في الإسلام، كما سبق أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.
يقول المؤلف: "وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ".
ائتمنوه بأنهم سلموا مِن لسانه ويده، لو كانوا لا يسلمون مِن لسانه ويده لما ائتمنوه، فصار الائتمان على الدماء والأموال أعمّ. ويلزم من الإتمان على الدماء والأموال يلزم منه السلامه من اللسان واليد
قد يسلم الناس مِن لسانه ويده لكن يكون مثلًا لغرض، لسبب مِن الأسباب كخوف، ليس بسبب الإيمان.
القارئ: كل هذا يريد أن يقرر أن الإسلام والإيمان يأتي مترادف أم أنه غرض آخر؟
الشيخ: يقرر أن الإيمان أكمل مِن الإسلام وأن مَن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات أُطلق عليه الإيمان، أما الإسلام فإنه يطلق على العاصي، الذي فعل بعض المحرمات وترك بعض الواجبات ، ولكن لا يطلق عليه الإيمان فإن وصل إلا درجة الإيمان بأن أطلق عليه الإيمان دل على أنه تجاوز مرتبة الإسلام حيث أدى الواجبات وترك المحرمات.
القارئ: لكن قوله: "كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْلَمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَلَوْلَا سَلَامَتُهُمْ مِنْهُ لَمَا ائْتَمَنُوهُ" ألا يُفهم مِن هذا أنه يُقصد بذلك أن مجرد سلامة المسلمين مِن لسانه ويده يدل على أمنهم منه على دمائهم وأموالهم؟
الشيخ: هم أمنوه على دمائهم وأموالهم لما سلموا مِن لسانه ويده، وكونهم يأمنون على دمائهم وأموالهم هذا عامّ، دليل على أن هذا المؤمن قد وصل إلى درجة الإيمان وخوفه مِن الله تعالى التي تمنعه مِن العدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض، أما مَن لم يسلم الناس مِن لسانه ويده قد لا يصل لدرجة الإيمان قد يسلم المسلمون مِن لسانه ويده لسبب مِن الأسباب أو في وقت مِن الأوقات وقد يكون أيضًا يفعل بعض المحرمات، ويترك بعض الواجبات فإذا أدى الواجبات وترك المحرمات وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم فقد وصل لدرجة أعلى، وصل إلم درجة الإيمان التي تجاوز فيها مرتبة الإسلام.