كنا انتهينا في الحلقة الماضية، فضيلة الشيخ عند حديث شيخ الإسلام، حول قول النبي صلى الله عليه وسلَّم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ»، وتفضلتم بالحديث حول هذا الموضوع.
(المتن):
(الشرح):
قول الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ هذا في بيان حُسن الخُلق؛ بيّن الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ حُسن الخُلق أنه مركبٌ من ثلاث أشياء: "بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ".
هذا تعريفٌ الحسن البصري لحُسن الخُلق؛ تعريفٌ جيد؛ وذلك أنه بيّن أن حُسن الخُلق مركَّب من ثلاثة أشياء: بَذْلُ النَّدَى؛ يعني الكرم، بَذْل المعروف؛ يبذُل المعروف للناس.
والثاني: كَفُّ الْأَذَى عن الناس، لا يأتي على الناس، لا في دمائهم، ولا في أموالهم، ولا في أعراضهم.
والثالث: طَلَاقَةُ الْوَجْهِ.
فمَن اجتمعت فيه هذه الثلاثة، فإنه يكون حَسُن الُخلق، وفي الحديث « إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ تَسَعُهُمْ بأخلاقِكُم»، أو كما جاء في الحديث.
فالإنسان يَسع الناس بطلاقة وجهه، بالسلام، بالبُشر، ببَسْط الوجه، فإذا كان طَلْق الوجه، يَبْسُطُ، يَتَبَسَّم في وجوه إخوانه المسلمين، ويصافحهم، ويُسَلِّم عليهم، ويسأل عن حالهم، هذا طلاقة الوجه.
وظنَّ أن ذلك أنه يكُف الأذى عن الناس، فلا يأتي على الناس لا في دم، ولا في مال، ولا في عِرض، ثم يأتي بالمعروف؛ المعروف في القول، وبالمال، وبما يستطيع؛ المعروف كلمةً عام تشمل كل ما عَرَف الشرع حسنه
هذا تعريف حسن البصري؛ حُسن الخُلق لهذه الأمور الثلاثة تعريفٌ جَيّد، وله شواهد تدلُّ على هذه النصوص، أنَّ حُسن الخُلق؛ بَذْلُ النَّدَى يعني بذل المعروف، وكَفُّ الْأَذَى عن الناس، يعني لا يأتي على الناس لا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في عِرضهم، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وبَسْط الوجه للناس، والبُشْر، والتحية، والسلام، والكلام الطيب، والسؤال عن الحال.
القارئ: لكن إيراد الشيخ ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ لهذا المراد عندما أراد أو أطْلَق كلام الحَسن؟
الشيخ: من الأعمال الظاهرة من الإيمان حُسن الخُلق؛ لأن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ قال: "أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا؛ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" تفسير للحديث السابق «أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا» ما هو حُسن الخلق؟ يشمل هذه هو الأمور الثلاثة.
القارئ: قول: "كَفُّ الْأَذَى" جزءٌ من حُسن الُخلق، كأنه يشير إلى أن الشي يُعَرَّف بأجزائه؛ هل يريد شيخ الإسلام هذا؟ لأنه قال: "فكَفُّ الْأَذَى جزءٌ من حُسن الُخلق".
الشيخ: نعم، كَفُّ الْأَذَى جزءٌ من حُسن الُخلق؛ لأنَّ حُسن الُخلق هو مركب من كل هذه الأشياء الثلاثة.
القارئ: فشيخ الإسلام أن يصل إلى هذا أن تعريف الشيء بأجزائه هو المراد في الإسلام، والإيمان، والإحسان؛ أم أن له مرادًا آخر؟
الشيخ: لا، المراد أن كَفُّ الْأَذَى جزءٌ من حُسن الُخلق، فيدخل فيه أنَّ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، أنه حَسُن الخُلق، «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
هذا جزءٌ من حُسن الخُلق؛ ولكنه لا يكفي، حتى يَضُم إلى ذلك بَذْلُ المعروف، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ؛ لأنه إذا أَخَذ بجزء حُسن الخُلق قد يكون عندما «سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» لأسباب خوف؛ لا عن إيمانٍ بالله، ورسوله، ولذلك لا يبذل معروفًا، وَليس عنده طَلَاقَةُ الْوَجْهِ.
ولكن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ لأسباب لغير ذلك، لخوف، أو لأنه يتصنّع، أو له مقصد آخر سيصل إليه، هذا ليس من حُسن الُخلق؛ إنما حُسن الخُلق إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة، فهذا هو حُسن الُخلق؛ فإذا وُجِدَ واحدٌ منها أو وُجِدَ فيه جزءٌ من حُسن الُخلق.
(المتن):
قال رَحِمَهُ اللهُ: وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ».
وَقَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ -عندنا نسخة أحسن الله إليك في الكتاب- آمُرُكُمْ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؛ هذه نسخة صحيحة، أم آمُرُكُمْ بالإيمان؟
الشيخ: آمُرُكُمْ بالإيمان بالله وحده معروف الحديث في الصحيحين.
(المتن):
قال: «آمُرُكُمْ بالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إيمَانًا بِاَللَّهِ بِدُونِ إيمَانِ الْقَلْبِ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيمَانِ الْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَفِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ.
(الشرح):
المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ يُبَيِّن في هذا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان، وذلك أن (الإيمان) كما سبق إذا أُطلق دخل في الأعمال الظاهرة والباطنة، كما أن (الإسلام) دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، فهما متلازمان، كما سبق أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا؛ افترقا، وإذا اقترفا؛ اجتمعا، هذا هو الصواب الذي دلَّت عليه النصوص.
وإلَّا فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ من العلماء من قال -كما سبق-: أن (الإسلام) هو الكلمة يعني الشهادتين، و(الإيمان) هو العمل.
ومن العلماء مَن قال: الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل السُّنَّة، وعلى رأسهم الإمام البخاري رَحِمَهُ اللهُ، نبّه إلى هذا في كتابه الصحيح، وقال به بعض أهل البدع من الخوارج والمعتزلة.
والقول الثالث: أنَّ الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، والصواب: التي تدلُّ عليها النصوص، كما قررها المؤلِّف شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ، وأجمع عليه جمهور أهل السُّنَّة: أن الإيمان والإسلام تختلف دلالتهما بالاقتراب، والتجريد؛ فإذا اقترب الإسلام بالإيمان، فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة -كما في حديث النبي-، وإذا أُطلق أحدهما؛ إذا أُطلق الإسلام وحده، دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أُطلق الإيمان وحده دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، تشمل الدِّين كله.
ولهذا المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، قال: وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان ثم مَثَّل، قال: "كحديث الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً".
وهذا الحديثٌ رواه الشيخان، رواه البخاري بلفظ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعبة، ورواه مسلم بلفظ: الإيمان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، ثُمَّ قال: أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وهذه أعمالٌ ظاهرة، جعلها من الإيمان، وهي من الإسلام، فالأعمال الظاهرة هي من الإيمان، ومن الإسلام؛ ومثَّل لأعلاها ولأدناها.
مثَّل لأعلاها: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، «والْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»؛ مَثّل لشُعبة قولية؛ وهي كلمة التوحيد، وشُعبة فعلية؛ وهي إماطة الأذى عن الطريق، وشُعبة قلبية؛ وهي الحياء، وبينهما شُعَب متفاوتة كما سبق منها ما يقرب من شُعبة الشهادة؛ ومنها ما يقرب لشُعبة الإماطة، فالصلاة شُعبة، والزكاة شُعبة، والصَّوم شُعبة، والحج شُعبة، وبر الوالدين شُعبة، وصلة الرحم شُعبة، وهكذا كثيرًا، الواجبات كلها من شُعَب الإيمان.
ولهذا كما سبق أن ذكرنا: أنَّ البيهقي رَحِمَهُ اللهُ تتبع هذه الشُّعب، وأوصلها إلى أعلى البضع؛ البضع أوصلها إلى تسع وسبعين شُعبة، وألَّف كتاب سمَّاه شُعَب الإيمان، وتتبع هذه الشُّعَب من النصوص حتى أوصلها إلى تسعٍ وسبعين شعبة، وكلها أدخلها فيها، وهي أعمالٌ ظاهرة؛ الأعمال الظاهرة أدخلها في مسمى (الإيمان)، فدلّ على أن مُسَمَّى الإيمان عند الإطلاق تدخل في الأعمال الظاهرة، كما أنَّ مُسَمَّى (الإسلام) عند الإطلاق يدخل في الأعمال الباطنة.
وكذلك أيضًا مَثَّل لحديث وَفْدِ عَبْدِ قَيْسِ، رواه الشيخان، وحديث وفد عَبْدِ قَيْسِ؛ كانوا يسكنون في المنطقة الشرقية، وأسلموا قديمًا، ولهذا كان مسجده بجوار -- ((@ كلمة غير مفهومة- 08:49)) --، جُمع فيه بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلَّم -- ((@ كلمة غير مفهومة- 08:54)) أسلموا قديمًا، ولا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم هناك حروب وبين كُفَّار مُضر.
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولا نأتيك إلا في الشهر الحرام، ومعلوم أن الأشهر الحرم تضع الحرب أوزارها عند العرب في الجاهلية، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب ، فمُرنا بأمر فَصْل، نعمل به ونُخبر به من وراءنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ: وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، ثم قال: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، ثم فَسَّر الإيمان بالله وحده، فقال: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ.
فسّر الإيمان بأي شيء؟ فسَّره بالأعمال غير الظاهرة، شهادة أن لا إله إلا الله (النطق بالشهادتين)، (وإقام الصلاة) هذا من العمل الظاهر، (وإيتاء الزكاة)، (وأداء خُمس ما غنمتم وصوم رمضان).
كل هذه أعمالٌ ظاهرة.
المؤلف رَحِمَهُ اللهُ عَلَّق على هذا وقال: "وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إيمَانًا بِاَللَّهِ بِدُونِ إيمَانِ الْقَلْبِ".
معلومٌ أنَّ هذه الشُّعب بضع وسبعون، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الإذى عن الطريق لابد فيها من تصديق القلب، وإلا لا تنفع هذه الشُّعب، وكذلك أيضًا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد قيس الإيمان بهذه الأعمال الظاهرة، لابد فيها من إيمان القلب؛ لأنه لو لم يكن هناك إيمانًا بالقلب لما نفعت؟!
فالمشركين يعملون أعمالًا وهم على شِركهم؛فلم تنفعهم كانوا يحجُّون، وكانوا يَتَصدَّقون، ويذكر الله كثيرًا ولكنها لا تنفع مع الشِرك، قال الله تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فإيمان القلب وتصديقه لابد منه لصِحة الأعمال.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إيمَانًا بِاَللَّهِ بِدُونِ إيمَانِ الْقَلْبِ ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيمَانِ الْقَلْبِ"، كما قال الله تعالى في كتابه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].
وبَيّن سبحانه أنَّ الكُفر هو: الكُفر بهذه الأصول الخمسة، قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، فعُلم أن الإيمان، هو الإيمان بهذه الأصول، والكُفر، هو الكُفر بهذه الأصول، قال سبحانه وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
نصوصٌ كثيرة في أن الأعمال لا تصح إلا بإيمان القلب، والأصل إيمان القلب، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيمَانِ الْقَلْبِ"، فعُلم أنَّ هذه مع إيمان القلب؛ هو الإيمان.
وفي الـمُسند عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ. هذا الحديث فيه بعض الضعف، لكن له شواهد من ذلك في أن (الإسلام) هو الأمور الظاهرة، و(الإيمان) هو الأمور الباطنة، وغيره من النصوص، وأن الإنسان قد يُسمَّى (مسلم)، ولا يُسمى (مؤمن).
ومن ذلك: حديث أن بعض الصحابة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطًا وترك شخصًا هو أحب إليه، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فأعاد عليه مرة ثانية، فقال: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ أَوْ مُسْلِمًا، كرر ذلك ثلاث.
ثم سعد بن أبي وقاص تذكرت اسمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: ( غير مفهوم 20'12 إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ مخافة أَنْ يكَبّه الله فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ؛ يعني إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يُعطي، يَـتَألف على الإيمان حتى يبقى إيمانهم، ومن كان قوي الإيمان لا يعطيه.
لهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَسّم غنائم حُنين، وأعطى بعض من رؤساء القبائل مائة من الإبل، مائة، مائة، ولم يُعطِ الأنصار شيئًا؛ فتكلم بعض شباب الأنصار، وقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم يُعطي الصدقة لقريش ويَدُعنا.
فلما بَلَغ النبي صلى الله عليه وسلم جَمع الأنصار، وقال: لا يكون معهم غيرهم، وقال: ما كلامٌ بلغني عنكم، فقال بعضهم: يا رسول الله إنَّا شبابًا من شبابنا قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قومه ويَدعنا، وأمَّا الأحناث منا فلم يتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني أتألفهم على الإيمان وإني وكلتكم بإيمانكم معنى الحديث، وقال لهم أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، حتى بكوا واخضلوا لحاهم وقالوا الله ورسوله أعلم.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعطي لتأليف على الإسلام، ولتقوية الإيمان، أما من كان قوي الإيمان فإنه يكله إلى إيمانه وإسلامه، ولا يعطيه؛ فهذا فيه بيانًا أن ما ذكره المؤلف رَحِمَهُ اللهُ من أن الأعمال هنا داخله في مُسمَّى الإيمان، وأن الإسلام غير الإيمان، يُطلق عليه إسلام، ولا يُطلق عليه إيمان.
إذًا كان ضعيف الإيمان ولم يتمكن الإيمان من قلبه يُطلق عليه (إسلام)، وإذا قَوّى إيمانه وأدى واجباته وترك المحرمات يُطلق عليه (الإيمان).
(المتن):
(المتن):
توقفنا عند قول المؤلف: " وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ} . {وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ} . فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ".
(الشرح): بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذان الحديثان اللذان ذكرهم المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى، تابعٌ للبحث السابق يُبيِّن فيه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن أعمال الجوارح لابد لها من إيمان القلب، وأن إيمان القلب هو الأصل، وأعمال الجوارح تابعة له، وأن أعمال الجوارح لاتصح إلا بإيمان القلب وتصديقه، وأما من أتى بالأعمال الواجبة فأنه يُطلق عليه (الإيمان) من أتى بالأعمال الواجبة التي أوجبها الله وانتهى عن المحرمات، فأنه يُطلق عليه (إيمان) يُسمى مؤمنًا بإطلاق، وأما من قَصَّر في بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات، فإنه لا يُطلق عليه إسم الإيمان؛ ولكن يُطلق عليه إسم (الإسلام) لهذا ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ هذان الحديثان، قال وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ هذا الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف إلا أن له شواهد (الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ) يعني الأعمال الظاهرة، فالأعمال الظاهرة هي العلانية، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مُـسنده وفيه بعض الضعف.
ثم ذكر المؤلف الحديث الثاني إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ وهذا الحديث رواه الشيخان، وغيرهما، وهو جزءٌ من الحديث المشهور لنعمان بن بشير رضي الله عنه، وأوله قول عليه الصلاة والسلام الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يرعى حَوْلَ الْحِمَى أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ "فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ" من صلح قلبه بأن استقر في قلبه الإيمان، والتصديق، ومحبة الله ورسوله، وخوف الله ورجائه، فإنه لابد أن يصلح جسده؛ لأن القلب هو ملك الأعضاء، ولأن صلاح القلب صلاحٌ للجسد، إذا صلح القلب لابد أن تنبعث الجوارح في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وإذا فسد القلب فسدت الجوارح؛ فلا عِبرة بأعمال الجوارح؛ إذا فسد القلب فلا عِبرة بأعمال الجوارح.
إن المنافقين يعملون ولكن أعمالهم حابطة، ولا قيمة لها عند الله ولا وزن؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا ينطقون بألسنتهم، ويعملون بجوارحهم، لكن الله كذَّبهم في قول الله عزَّ وجلَّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، وقال سبحانه وتعالى إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ "فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ (قَطْعًا) " يعني: بلا ريب؛ إذا صلح القلب لابد أن تَصلُح الجوارح، ولابد أن، تنبعث الجوارح بطاعة الله عزَّ وجلَّ، وبقدر صلاح القلب يكون صلاح الجوارح وأعمالها، بخلاف العكس؛ يعني فمن صلح جسده، فلا يلزم ذلك أن يصِح قلبه، وهذا أيضًا يكون في الأشياء الحسية؛ فإن الإنسان قد يكون جسده سليمًا، ولكن قلبه مريض؛ أما إذا كان القلب صحيحًا، فإن الجوارح، وإن أصابها ما أصابها، إلا أنه يُعتبر الإنسان من الأحياء، فموت القلب هذا هو الخسارة، وهو الهلاك؛ ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ "فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُهُ صَلَحَ جَسَدُهُ قَطْعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ" يعني: صلاح الجسد فإنه لايُلزم منه صلاح القلب، فلا يُعتبر صلاح الجسد صلاحٌ للقلب، ومَقصد المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن يُبيِّن أن أعمال الجوارح التي هي مُسمى الإسلام عند اقترانه بالإيمان، لابد لها من إيمان القلب وتصديقه.
فالنصوص التي وردت ببيان أن مُسمى (الإسلام) هو أعمال الجوارح ومُسمى (الإيمان) هي أعمال القلوب، كما في حديث جبرائيل؛ ليس المقصود بأعمال الجوارح أن تكون خاليةً من إيمان القلب وتصديقه، لابد من إيمان القلب وتصديقه؛ ولكن الإيمان الكامل هو يستلزم أداء الواجبات، وترك المحرمات؛ فإذا نقص الإنسان من الواجبات شيئًا، أو ارتكب بعض الحرمات، فإنه لا يُسمى (مؤمنًا) بإطلاق، ولكنه يُسمى (مسلمًا)، وإن كان معه أصل الإيمان، لابد أصل الإيمان؛ فأصل الإيمان، أصل الإيمان القلب، هذا لابد منه، حتى تَصِّح أعمال الجوارح، لكن إذا أدى الإنسان واجبه وترك المحرمات سُمى (مسلمًا) بإطلاق و(مؤمنًا) بإطلاق؛ وإن نقص شيئًا من الواجبات وارتكب شيئًا من المحرمات سُمى (مسلمًا) ولا يُسمى (مؤمنًا) إلا بالتقييد
(المتن):
(الشرح): قول سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة رَحِمَهُ اللهُ كلامٌ عظيم، ينبغي للمسلم أن يتدبره ويتأمله، ولهذا قال "سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا مَضَى، يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ" هذا كلامٌ عظيم، يُكتب بماء الذهب، وهو مأخوذ من النصوص، هذا رواه ابن أبي الدنيا، كما نقله المؤلف رَحِمَهُ اللهُ عن ابن أبي الدنيا، وهو من المؤلفين المعروفون، وهذا الكلام كلامٌ عظيم، مأخوذٌ من النصوص، كان العلماء يكتب فيه موعظة، وعِبرة، كان العلماء فيما مضى كان يكتب العلماء السابقون، يكتبون هذه الكلمات من الوعظ، والإرشاد والتذكير، والحث على إصلاح القلب، ومجاهدة النفس، "مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ" (السَرِيرَة) يعني الأمر الخفي، وهو ما بين الإنسان وبين الله؛ بأن يكون صادقًا مع الله في توحيده، وإيمانه وصدقه مع الله عزَّ وجلَّ، وإخلاصه،وتوكله، وحبه لله ورسوله؛ يكون صادق قولًا وفعلًا، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، فالصادق هو الذي تُصدق أقواله أفعاله، يُصدق ظاهره باطنه، فلا يكون له ظاهرٌ و باطن؛ يكون له ظاهرٌ صالح وباطنٌ فاسد؛ لا، بل يتوافق الظاهر مع الباطن، يكون صالحًا في الباطن والظاهر، والأصل صلاح الباطن؛ فإذا صَلُح الباطن، صَلُح الظاهر، إذا صدق الإنسان مع الله، صَدَق في حبه لله ورسوله، وفي إخلاصه، وتوكله، واعتماده على الله، وخوفه ورجائه، ورغبته فيما عند الله، ورهبته مما عنده، هذا هو صلاح السريرة، لابد أن يُصلح الله علانيته، تكون أعماله صالحة مُسددة، وصلاح السريرة هي الإخلاص، والصدق مع الله عزَّ وجلَّ، والإيمان بالله ورسوله، ومَن صَلُحت سريرته لابد أن يكون عاملًا بطاعة الله، تكون أعماله موافقة للشرع، "مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ" وهذه ثمرةً عاجلة، مما يُعجِّله الله لعبده المؤمن، مع ما أعد الله له من الثواب العظيم في الآخرة، "أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ" مَن عمل لآخرته فإن الله يكفيه أمر دنياه، ويُيسَّر أمره.
ويدل على هذا نصوص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .... (3) [الطلاق:2،3] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5] وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها قالت: كتبت إلى معاوية رضي الله عنه « ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » وكما جاء في الحديث، كل هذا يؤيد القول المنقول عن بن عُيينة رَحِمَهُ اللهُ، وهو كلامٌ عظيم، مأخوذٌ من نصوص تدل له النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، وأن صلاح الباطن دليلٌ على صلاح الظاهر، وأن مَنْ أصلح ما بينه وبين الله، فإن الله يصلح ما بينه وبين الناس، وَمَنْ عَمِلَ لآخرته فإن الله يكفيه أمر دنياه، وهذه ثمرةٍ عاجلة في الدنيا.
ويدل على ذلك أيضًا، الأحاديث التي فيها أن الله سبحانه وتعالى «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ...» ثم يحبه أهل الأرض، وإذا أبغض عبدًا نادى -الله عزَّ وجلَّ- نادى جبريل انه يبغض فلان فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل إن الله يبغض فلان فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم تُوضع له البغضاء في الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا صَلَحَ بِالْإِيمَانِ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ" القلب إذا صلح بالإيمان؛ بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وخوفه، ورجائه، ومحبته، والتوكل عليه، والرغبة فيه، والرهبة منه، إذا صَلَح القلب بالإيمان، صَلَح الجسم بالإسلام؛ يعني صارت الأعمال التي يعملها صالحة، وهي الأعمال التي يعملها من صلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، وحجٍ، وبرٍ للوالدين، وصلةٍ للرحم، وإحسانٍ إلى الجيران، وجهادٍ في سبيل الله، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله؛ هذه الأعمال إنما تَصلح، بصلاح القلب بالإيمان؛ فإذا صَلُح القلب بالإيمان؛ صَلُحة الأعمال، أما إذا لم يَصلُح القلب، فلن تنفع هذه الأعمال، لو دَعِاء إلى الله من أجل رياءٍ و سُمعة ما نفع، أو أمر بالمعروف من أجل رياءٍ وسُمعة، أو طلبٍ للدنيا مانفعه، أو صلَّى مع فساد قلبه، أو عدم صلاحه بالإيمان مانفعت الصلاة، وهكذا.
لهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا صَلَحَ بِالْإِيمَانِ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ بِالْإِسْلَامِ" يعني بالأعمال الظاهرة التي يعملها بجسده، وبجوارحه، وبلسانه؛ تكن أعماله، وأقواله التي يعملها مُسددة، وصالحة بصلاح قلبه بالإيمان، وهو من الإيمان؛ يعني الأعمال التي يعملها بجوارحه هي من الإيمان، "فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا صَلَحَ بِالْإِيمَانِ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ بِالْإِسْلَامِ" وهو من الإيمان، يعني الأعمال التي يعملها بجوارحه هي من الإيمان لأن (الإيمان) إذا أُطلق يشمل: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب؛ والإيمان أوسع من الإسلام، ولهذا فإنَّا نالمقصِّر في بعض الواجبات يُطلق عليه الإسلام ولايُطلق عليه اسم الإيمان، فَعُلِم أن الإيمان أوسع، ولهذا فإن الإيمان يشمل: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح؛ فإذا صلح القلب بالإيمان، لابد أن تصلح الأعمال التي يعملها بجوارحه، وهي من الإيمان.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جبريل عليه الصلاة والسلام: {هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ}" بعد أن سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام عن (الإسلام) وأنه الأعمال الظاهرة الخمسة وبعد أن سأله عن (الإيمان) وأنه الأعمال الباطنة الستة، وبعد أن سأله عن (الإحسان) فقال: جَاءَكُمْ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ؛ فجعل هذا كله من الدين؛ فجعل الدين ثلاث مراتب، فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ" يعني الإيمان، والإسلام، والإحسان "لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ: " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ " "فكل درجة أعلى من التي تحتها؛ فدرجة الإحسان أعلاها، ثم درجة الإيمان، ثم درجة الإسلام، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ: " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ " كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ[فاطر:32] فبيَّن الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين أصنافٌ ثلاثة: ظالمٌ لنفسه، ومقتصدٌ، وسابقٌ بالخيرات؛ وكلهم أورثهم الله الكتاب، وكلهم مصطفون، " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا" فهؤلاء الأصناف الثلاثة أورثهم الله الكتاب، وهم مصطفون:
القسم الأول: الظالم لنفسه ، وهو المؤمن الموحد الذي لم يكن في عمله شِرك، لكن قصَّر في بعض الواجبات، أو ارتكب بعض المحرمات فهو مصطفى؛ لأن الله اصطفاه بالإيمان، وإن كان مقصرًا، فاصطفاه الله بالإيمان؛ فلما آمن ووحد الله ولم يقع في عمله شِرك؛ سَلِم من الخلود في النار، لكن قد يدخل النار ببعض الكبائر التي أصَّر عليها، وقد يُعفى عنه فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عفى وغفر له بتوحيدٍ وإيمانٍ، وإسلام، وإن شاء عذبه بجرائمه، ومعاصيه ،كما قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه العظيم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .
وقد تسقط عنه عقوبة الآخرة بما يصيبه في القبر من أهوال وشدائد أوعذاب كما في قصة الرجلين عن ابْنِ عَبَّاسٍ الذين يعذبان، مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ : إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَايستبرئ مِنَ الْبَوْلِ وفي لفظٍ لا يزتنزه من البول، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة، ثم أَخَذَ جَريدةً رِطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَين وغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. وقَالَ:لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَـمْ يَيْبَسَا فهذان يعذبان في قبريهما، أنهما مسلمان، فهما من المسلمين، ومع ذلك أصابهم هذا العذاب؛ بسبب المعاصي.
وتواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون، موحدون، مصلون، ولا تأكل النار وجوههم، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحُد الله له حدًا، ويُخرجهم، ويشفع بقية الأنبياء، ويشفع الملائكة، ويشفع الأفراد ويشفع الشهداء، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيُخرجهم الله رب العالمين برحمته، فشفعت الملائكة، فشفع الأنبياء، فشفع الصالحون، ولايبقى إلا رحمة أرحم الراحمين، ليُخرج قومًا من النار لم يعملوا خيرًا قط، فثبت أنهم يُخرجون من النار ضبائر، ضبائر، وقد امتحشوا وصاروا فحمًا ويُصب عليهم من نهر الحياة "فينبتون كما تنبت الحِبة في حميل السيل" يعني: البذرة، فإذا هُذِّبوا ونُقوا، أُذن لهم في دخول الجنة، فإذا تكامل خروج العُصاة الموحدين، ولم يبقى فى النار أحد من الموحدين، أُطبقة النار على الكفرة بجميع أصنافهم من اليهود، والنصارى، والوثنيين، والشيوعيين، والمنافقون في الدرك الأسفل منها -أعوذ بالله- كما قال سبحانه إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، قال سبحانه إنها عليهم مُؤْصَدَةٌ [البلد:20] يعني مطبقةٌ مغلقة، قال سبحانه يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] هؤلاء الظالمون لأنفسهم مؤمنون، موحدون، لكنهم قصَّروا في بعض الواجبات وارتكبوا بعض المحرمات، وماتوا من غير توبة؛ ظلموا أنفسهم بالمعاصي، لكنهم من أهل الإيمان، قال سبحانه فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر:32]
هذا هو الصِنف الثاني: الـمُقتصد يُقال لهم أصحاب اليمين، وهم الذين أدُّوا الواجبات، وتركوا المحرمات، مؤمنون، موحدون، أدوا ما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن ما حرم الله عليهم، ووقفوا عند هذا الحد، ولم يكن عندهم نشاط في أداء النوافل والمستحبات؛ بل اقتصروا على أداء الواجبات، وكذلك لم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات أو التنزيه أو التوسع في المباحات، قد يفعلونه، لكنهم أدُّوا ما أوجب الله عليهم، فهم يدخلون الجنة من أول وهلة فضلًا من الله تعالى وإحسان.
ثم الصِنف الثالث: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] هذا هو الصِنف الثالث، هم أفضل الأقسام، وهم الذين أدُّوا الواجبات، والفرائض وكان عندهم نشاط، وفعلوا المستحبات، والنوافل؛ نوافل الصلاة، نوافل الصيام، نوافل الصدقة، نوافل الحج، نوافل الجهاد، نوافل الإحسان إلى الناس في الخيرات، يسابقٌون بالخيرات بعد أداء الواجبات وترك المحرمات تركوا المحرمات، وتركوا مع ذلك المكروهات كراهة التنزيه، وتركوا فضول المباحات، فهؤلاء هم السابقون بالخيرات؛ فالسابقون بالخيرات والمقتصدون يدخلون الجنة من أول وهلة فضلًا من الله تعالى وإحسان، وأما الظالمون أنفسهم فهم على خطر.
هناك الصِنف الرابع: الكَفرة، هؤلاء الكفرة الذين يموتون على الكُفر الأكبر، أو الشِرك الأكبر أو النفاق الأكبر نسأل الله السلامة والعافيه هؤلاء مخلدون في النار لا حيلة لهم، لاحيلة في خلاصهم، ولا شفاعة لهم، أولئك الذين قال الله فيهم فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، قال سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] ، فهؤلاء لا حيلة فيهم، ولايَدفع الله عنهم دافع، ولو بذلوا الدنيا ومافيها، لو كان لهم مليء الأرض ذهبًا ما نفعهم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36]، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]
ولهذاقال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ "فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ: " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ " كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ[فاطر:32]" المعنى: أن هذه الآية فيها بيان طبقات المؤمنين، وأنهم ثلاث طبقات، كما فى الحديث بَيَّن أنهم ثلاث درجات " مُسْلِمٌ " ثُمَّ " مُؤْمِنٌ " ثُمَّ " مُحْسِنٌ "؛ (فالمـُحْسِن) هو السابق بالخيرات ،و(الـمُؤْمِن) هو الذي أدَّى الواجب، وترك المحرمات، و(الـمُسْلِم) هو الذي وحَّد الله، ولكنه قصَّر في بعض الواجبات، وترك بعض المحرمات، هو الظالم لنفسه، فإذا أدَّى ما أوجبه الله عزَّ وجلَّ أُطلق عليه الإيمان، وإذا لم يؤدِ ما أوجب الله عليه يُطلق عليه الإسلام، ولايُطلق عليه الإيمان إلا بالتقيّيد.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ "وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عُقُوبَةٍ" لأن كل منهما أدَّى ما أوجب الله عليهما، وترك ماحرَّم الله عليهم "بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ" فهو على خطر، قد يُعاقب، وقد لا يُعاقب، تحت مشيئة الله.
فقال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ؛ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ"، من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب؛ لكن لم يقم بما أوجب الله عليه من الإيمان الباطن الذي يحمله على أداء الواجبات، وترك المحرمات الباطنة والظاهرة؛ فهو معرض للوعيد حيث أنه قصَّر في بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات، هو تحت مشيئة الله؛ هذا هو الظالم لنفسه.
(المتن):
(الشرح): نعم، نقص إيمانه؛ لما نقص إيمانه فعل بعض المحرمات، وقد يكون هذه المحرمات والكبائر التي يفعلها، كبائر في الباطن، وتكون كبائر الظاهر؛ فمثل العُجب، والكِبر، والخُيلاء، وازدراء الناس، كل هذه من الكبائر الباطنة من أعمال القلوب.
(القارئ : مع تصديق القلب ياشيخ؟
(الشرح): نعم، تصديق القلب؛ إقراره، هو عنده أصل الإيمان؛ ولكنه عنده كِبر وهو باطل، لكن هذا الكِبر لم يصل إلى تكبُّر عن توحيد الله، والإيمان به؛ لكنه كِبرٌ دون ذلك، ردٌ بعض الحق الذي هو دون التوحيد والإيمان، هو ردٌ واحتقارٌ للناس، فلم يقم بما أوجبه الله عليه من الإيمان الباطن، وقد تكون الكبائر مثل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم؛ هذه كلها كبائر تدل على نقص الإيمان الباطن؛ سواء من الكبائر الظاهرة، أو الكبائر الباطنة.(المتن):
توقفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمَانِ. " وَالْإِيمَانُ " أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ. فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فِي " الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ " فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا؛ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا؛ فَالْأَنْبِيَاءُ أَعَمُّ وَالنُّبُوَّةُ نَفْسُهَا جُزْءٌ مِنْ الرِّسَالَةِ فَالرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الرِّسَالَةَ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ " بِمَا أَجَابَ بِهِ؛ كَمَا يُجَابُ عَنْ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ إذَا قِيلَ مَا كَذَا؟ قِيلَ: كَذَا وَكَذَا. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَمَّا قِيلَ: مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: {الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} . وَبَطَرُ الْحَقِّ: جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبَ تَنَوُّعِ أَجْوِبَتِهِ وَأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ".
(الشرح): المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يُبيِّن ما بين هذه المراتب الثلاث من الإحسان من العموم والخصوص، هذه المراتب الثلاثة التي بَيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل، وأن ديننا يجمع الثلاثة، وأنه درجات ثلاث " مُسْلِم " ثُمَّ " مُؤْمِن " ثُمَّ " مُحْسِن "، يُبَيِّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ مابينها من العموم والخصوص، فيقول "أن " الْإِحْسَانُ " أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني أن الإحسان أعمّ من جهة نفسه، يعني: أوسع فهو أوسع من الإيمان؛ لأن الإحسان يشمل جميع أمور الإيمان، جميع الواجبات، والمستحبات، يفعلها المسلم عن مراقبة لربه عزَّ وجلَّ ،فهو يعبد الله كأنه يراه فإن لم تكن تراه فإنه يراه، الإحسان مرتبتان:
المرتبة الأولى: بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» أن تعبد الله كأنك تُشاهد ربك.
المرتبة الثانية: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
يعني إن ضعفت عن المرتبة الأولى فإنك تنتقل للمرتبة الثانية، أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تشاهد ربك، تعبد الله المشاهدة؛ فإن لم تكن تراه، فإنك تعبد الله على أنه يشاهدك، فهذه المرتبة في الإحسان، تشمل جميع أمور الدين؛ في صلاتك، تعبد الله كأنك تراه في الصلاة، في الزكاة، في الصوم، في الحج، وكذلك أيضًا في الأعمال الباطنة؛ في إخلاصك، وتعبد الله على الإخلاص؛ المشاهدة في خشيتك، في توكلك، في خوفك، في رجائك، في إحتسابك، أنت تعبد الله على المشاهدة (فالإحسان) عام فهو أعمَّ من جهة نفسه، وأعمَّ من الإيمان، وأعمَّ من الإسلام؛ لأن الإيمان إذا قرن مع الإسلام، فُسِّر بالأعمال الباطنة، و(الإسلام) يُفسر بالأعمال الظاهرة. (والإحسان) يشمل: الأعمال الظاهرة، والأعمال الباطنة ويشمل: الواجبات والمستحبات، كلها يشملها مُسمى (الإحسان) حينما يعبد الله المسلم كأنه يراه في صلاته، في زكاته، في صيامه، في حجِّه، في النوافل، في المستحبات والصدقات والنوافل، في بره لوالديه، في صلته للرحم؛ فهو "أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمان" يعني أن أهل الإحسان أقل من أهل الإيمان.
فالإحسان يُنظر إليه بنظرين: إذا نظرت إليه من (جهة نفسه)؛ يكن أعمَّ وأوسع من الإيمان، وإذا نظرت إليه من (جهة أهله)؛ يكن أخصَّ، الإحسان أقل مرتبة من الإيمان الذين يعبدون على المشاهدة قِلة، والمؤمنون كثيرون الذين منهم من يعبد الله من المشاهدة، ومنهم من لايعبد الله من المشاهدة، فأهل الإيمان أكثر من أهل الإحسان، فأهل الإحسان أقل، وأخصَّ؛ وأما الإحسان نفسه فهو أوسع من الإيمان، وأوسع من الإسلام،كذلك أيضًا الإسلام والإيمان بينهما العموم والخصوص، كما مِثل ما بين الإحسان والإيمان ( فالْإِيمَانُ) أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ" يعني أوسع، لكون الإيمان إذا أُطلق؛ يشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، (والإسلام) إنما يُطلق على الأعمال الظاهرة مع تصديق القلب، فبهذا يكون الإيمان أوسع من الإسلام، يكون من جهة نفسه أعمَّ، وأوسع؛ لكونه يشمل الأعمال الباطنة والظاهرة، (والإسلام) أخصَّ؛ لكون مسماه الأعمال الظاهرة مع تصديق القلب وإيمانه. فالإيمان أعمَّ من جهة أهله، أهل الإيمان أخصَّ من أهل الإسلام؛ لأن أهل الإيمان أقل من أهل الإسلام؛ لأن المؤمنين الذين أدُّوا الواجبات وتركوا المحرمات، أقل من المسلمين الذين قصَّروا في بعض الواجبات وارتكبوا بعض المحرمات، فالمؤمنون أكثر؛ لأن المؤمنين؛ منهم المؤمن الذي أدَّى الواجب وترك المحرمات، ومنهم المؤمن الذي قصَّر في الواجبات وترك المحرمات؛ فيكون أهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان.
(فالْإِيمَانُ)من جهة نفسه أعمَّ من الإسلام، ومن جهة أهله أخصَّ؛ لأن أهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أكثر من أهل الإحسان، وأهل الإحسان أقل؛ أما من جهة نفس (الإحسان) فهو أوسع من الإيمان؛ لكونه يشمل أمور الدين كلها، الأعمال الظاهرة والباطنة والنوافل والمستحبات، ثم (الْإِيمَانُ) أوسع من الإسلام؛ لكونه يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ثم (الإسلام) أخصَّ؛ لكونه خاص بالأعمال الظاهرة مع تصديق القلب وإيمانه، أما من جهة أهله؛ أهل الإسلام وأهل الإيمان وأهل الإحسان؛ فإن أهل الإحسان أقل وأخصَّ من الإيمان، وأهل الإيمان أقل وأخصَّ من أهل الإسلام، وأهل الإسلام أوسع.
هذا العموم والخصوص في قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " "الْإِحْسَانُ " فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِيمَانِ. " وَالْإِيمَانُ " أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ. فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ" هذا بيان العموم " وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ" هذا بيان أن الإيمان أوسع " وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ" يعني أقل، (أخصَّ) يعني أقل عدد، أخص من المؤمنين "وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فِي " الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ " فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا" يعني الرسالة والنبوة، بينهما أيضًا عموم، وخصوص، "كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا" فالرسالة من جهة نفسه أوسع، فهي تشمل النبوة وتشمل الرسالة، النبوة داخلة في مُسمى الرسالة، من جهة نفسها الرسالة أعمَّ، والنبوة أخصَّ لكن من جهة أهلها، فالرسل أقل عدد من الأنبياء.
ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فِي " الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ " فَالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ" فلهذا تكون الرسالة أوسع وأعم، " وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا" فهي أوسع من النبوة؛ لكون النبوة داخلة في الرسالة، وأخصّ من جهة أهلها؛ لكون الرسل أقل من الأنبياء؛ الرسول هو الذي أُوحي إليه، وأُرسل إلى أُمة كفار، فآمن به بعضهم، وردَّ دعوته بعضهم؛ مثل نوح، وهود، وصالح، وشُعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام؛ هؤلاء الرُسل.
أما الأنبياء فهو الذي يُرسل إلى قومٍ مؤمنين،ويُكلف بالعمل بالشريعة السابقة؛ كأنبياء بني إسرائيل الذين كُلفوا بالعمل بالتوراة قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44] ومنهم داوود، وسليمان، ويحيى، وزكريا، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل؛ فإذًا الرسل أقل،
أخص من الأنبياء؛ الأنبياء أكثر من الرسل.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "َالنُّبُوَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الرِّسَالَةِ، وَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا" يعني أخصّ من جهة أهلها وهم الرُسل أقل، وأما جهة نفسها أوسع من دخول النبوة فيها .
ولهذا ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا" كل رسول فهو نبي أنبأه الله، وليس كل نبيّ رسولًا، قد يكون نبي ولا يُرسل إلى أمة كافرة كأنبياء بني إسرائيل؛ فالأنبياء أعم، فالنبوة نفسها جزءٌ من الرسالة، هذا دليل على أن الرسالة أوسع من النبوة، من جهة نفسها ،ولهذا قال: "فَالْأَنْبِيَاءُ أَعَمُّ وَالنُّبُوَّةُ نَفْسُهَا جُزْءٌ مِنْ الرِّسَالَةِ فَالرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا" هذا بيان لعمومها "بِخِلَافِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ الرِّسَالَةَ".
(القارئ: لكن ترجيح أهل العلم -أحسن الله إليكم- في الفرق بين النبي والرسول واختياركم هذه المسألة ياشيخ ما هو؟
(الشرح): الراجح كما حقق رَحِمَهُ اللهُ، أن (الرسول) هو الذي أُرسل إلى أُمةٍ كافرة، إلى أُمة فيهم كفار، فآمن به بعضهم ورد دعوته البعض؛ وأما (النبي) هو الذي يُرسل إلى قومٍ مؤمنين، وقد يوحي إليه وحيٌ خاص، ويُكلف بالعمل بشريعةٍ سابقة، هذا هو الأرجح، بعضهم قال أن (الرسول) هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، (والنبي) هو الذي أُرسل بشرع ولم يؤمر بتبليغه؛ لكن هذا التعريف، هذا هو المعتمد الذي اعتمد عليه المحققون، الأول.
ثم قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ " الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ " بِمَا أَجَابَ بِهِ؛ كَمَا يُجَابُ عَنْ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ" المحدود يعني التعريف، كما يُجاب عن المـُعرف بالتعريف؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان لما سُئل عنه، قال: "الإسلام بيَّن أنه الأعمال الظاهرة"، ولما سُئل عن الإيمان "بيَّن أنه الأعمال الباطنة"، وليس المـُراد أنه خاص بذلك؛ بل الـمُراد أن هذه أصول الإيمان، وهذه أركان الإسلام؛ فمن أتى بهذه الواجبات، فإنها تستلزم الإتيان ببقية شرائع الإسلام، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُبين حدَّ، أن يحُد الإيمان بهذه الأصول العظيمة التي هي مُستلزمة لبقية أمور الإيمان،كما أن أركان الإسلام مُستلزمة لبقية شرئع الإسلام، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ " بِمَا أَجَابَ بِهِ؛ كَمَا يُجَابُ عَنْ الْمَحْدُودِ بِالْحَدِّ إذَا قِيلَ مَا كَذَا؟ قِيلَ: كَذَا وَكَذَا. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {لَمَّا قِيلَ: مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ}".
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على المتكبر قال: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، إن ذلك من الكبر؟ قَالَ: لا، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ " {الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ} . وَبَطَرُ الْحَقِّ: ردُّه وجَحْدُهُ وَدَفْعُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ" هذا هو الكِبر، أما كون الإنسان يلبس ثيابًا جميلة، أو يأكل أكلًا طيبًا؛ فهذا ليس من الكِبر، إنما الكِبر ردُّ الحق واحتقار الناس، فهذا من باب التعريف وهو أعم، يشمل كل ما يكن فيه ردٌ للحق واحتقارٌ للناس.
ثم بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " قال سنبين إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبَ تَنَوُّعِ أَجْوِبَتِهِ" عليه الصلاة والسلام حينما يُسئل عن الإيمان، فيجيب بأجوبة متعددة سيبيِّن رَحِمَهُ اللهُ "أَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ" وأن أجوبة عليه الصلاة والسلام خرجت مخرج الإجابة على أسئلة السائلين على حسب أحوالهم، وعلى حسب ما يحتاجون إليه، سيأتي المؤلف رَحِمَهُ اللهُ ببعض ما سيُبيّن ذلك.
(المتن): قال رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَكِنَّ (الْمَقْصُودَ) أَنَّ قَوْلَهُ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ} كَقَوْلِهِ: {الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ} كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جبرائيل؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ تَكُونُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَمُرَكَّبَةً مِنْهَا؛ فَالْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْخَمْسِ بِكَوْنِهَا هِيَ الْإِسْلَامَ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ، وَلِمَ خُصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ؟ وَقَدْ فَسَّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ".
(الشرح): قد فَسَّر الإيمان يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، أو قد فُسِّر الإيمان.
(المتن): " وَقَدْ فُسِّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ" وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: {آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ أَوْ خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ} . وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: {الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} .
لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: {آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . وَقَدْ فَسَّرَ - فِي حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ - الْإِيمَانَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فَقَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} . وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ: {الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَالَ أَيْضًا: {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . {وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} . وَقَالَ: {وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} . وَقَالَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} . وَقَالَ: {مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ فِي أُمَّتِهِ قَوْمٌ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ} وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ.
(الشرح): المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن يُبيِّن في هذا، أن قول النبي صلي الله عليه وسلم: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» يُبيِّن الهيئة المجتمعة، وهي مُسمى الإسلام بُني على هذه الأجزاء، ومركبة منها يقول: " أَنَّ قَوْلَهُ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ} كَقَوْلِهِ: {الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ} كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جبرائيل" لما سُئل عن الإسلام جبرائيل قال: الإسلام أن تَشْهَدَ أَنْ لا إِلٰهَ إِلا اللهُ"، وفي الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَان، حَجِّ بيت الله الحرام».
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " أَنَّ قَوْلَهُ: {بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ}" في حديث ابن عمر " كَقَوْلِهِ: {الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ} كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جبرائيل، فإن حديث جبرائيل بَيَّن لما سأل عن الإسلام قال: "الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ"، وفي حديث ابن عمر قال: "بُني الإسلام على خمس".
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " فَإِنَّ الْأَمْرَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ تَكُونُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَمُرَكَّبَةً مِنْهَا؛ فَالْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ" يعني أن هذه الأركان، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، هي عُمد الإسلام، وقواعده التي لا يقوم، ولايستقيم إلا بها، وأصلها، وأُسُّها الذي يقوم عليها: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة "شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" هذا أصل الدين وأساس المِلة، هذه هي القاعدة، من لا يأتي بهذه القاعدة فلا إسلام له، ولا إيمان له؛ لابد منها، ثم الصلاة، وهي عمود الإسلام الأعظم، ثم الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم الحج؛ فهذه أُسس الإسلام وعُمده التي لايقوم ولايستقيم إلا بها، فمن أقامها، واستقام عليها، وأدَّاها كما أمر الله وكما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يؤدي بقية شرع الإسلام الخمسة، وليس الـمُراد أن بقية شرع الإسلام الخمسة غير مطلوبة ؛ لا بل هي مطلوبه؛ لابد من أداء الواجبات وترك المحرمات، لكن هذه أُصول الإسلام، وأركانه، وعُمده التي لايقوم ولايستقيم إلا بها، وسيبن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ ولهذا قال: "-وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْخَمْسِ بِكَوْنِهَا هِيَ الْإِسْلَامَ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ، وَلِمَ خُصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ؟"
فالشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة هذا أصل الدين وأساس الملة، والصلاة هي أعظم الأعمال البدنية، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، والزكاة وهي إحسان في عبادة الخالق، الزكاة هي دفع المال لمستحقيها فهي إحسانٌ إلى عباد الله، فالصلاة إحسانٌ في عبادة الله، والزكاة إحسان إلى عباد الله، والصوم إمساك عن المفطرات، والحج مركبٌ من المال والبدن، وترجع إليها جميع أعمال الجوارح، جميع أعمال الإسلام وشرائع الإسلام ترجع إلى هذه الخمس، هي أصلها وأساسها، فمن استقام عليها وأدَّاها وأقامها؛ فلابد أن يؤدي بقية شرائع الإسلام، لابد إستقامته واخلاصه، وشهادته لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وإحسانه في عبادة الله في الصلاة، وإحسانه إلى عباد الله، وكَّف النفس عن المحرمات في الصوم بإخلاصٍ وصدق، وحج بيت الله الحرام؛ لابد أن يدفعه ذلك إلى بقية شرع الإسلام فإذا قًّصَر فهو لنقص فيها وضعف فيها،ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْخَمْسِ بِكَوْنِهَا هِيَ الْإِسْلَامَ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ، وَلِمَ خُصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ؟"
ثم قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَقَدْ فُسّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فُسّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ هُنَا ولَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ" سبق أن ذكره المؤلف رَحِمَهُ اللهُ في حديث وفد عبد قيس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فَسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، كما فَسر به الإسلام؛ فقال لوفد عبد القيس «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» قول "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ هذه يقال في حياته ، لأنه ينزل عليه الوحي، أما بعد وفاته فيُقال الله أعلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لايعلم الغيب بعد وفاته، يُقال: الله أعلم، وفي حياته يقول الصحابة: الله ورسوله أعلم؛ لأنه ينزل عليه الحي.
قال عليه الصلاة السلام لوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قال: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ أَوْ خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ".
هذا حديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، رواه الشيخان رحمهما الله، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ فَسَّرَ " الْإِيمَانَ " فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ" يعني فَسره بالأعمال الظاهرة، فدَّل هذا على أن الإيمان إذا أٌطلق؛ يدخل فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، كما أن الإسلام إذا أُطلق؛ يدخل فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، إلا أنه لم يذكر الحج هنا، لكن ذكر الشهادتان، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: {الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ" هذه في صحيح مسلم هذه الرواية "{آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } . وَقَدْ فَسَّرَ - فِي حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ - الْإِيمَانَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فَقَالَ: {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً" سبق الحديث، رواه الشيخان، لكن رُوي البخاري «بِضْعٌ وَسِتُّونَ»، ورواية مسلم «بِضْعٌ وَسَبْعُونَ»
قال: "{الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ}" فدَّل على أن الإيمان إذا أُطلق؛ يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة؛ لأن هذه الشُعب كلها بعضها شُعبٌ قولية، وبعضها شُعبٌ فعلية، وبعضها شُعبٌ قلبية؛ مَثّل للشُعبة القولية: وقال أفضلها قول لا إله إلا الله، ومَثَّل للشُعبة العملية : قال وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ومثَّل للشُعبة القلبية: بالحياء قال والحياء شعبة من الإيمان، فدَّل على أن الإيمان عند إطلاقه؛ يشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وكذلك الإسلام عند إطلاقه؛ يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وبيَّن أُسسه، وعُمده، وأركانه التي يقوم عليها، ويستقيم عليها، وبيَّن أصول الإيمان التي هي الأمور الستة التي ذكرها في حديث جبرائيل.
(المتن): أحسن الله الله إليكم ونفع بعلمكم، توقفنا عند قول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " {وَقَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ}" إلى آخر كلامه رَحِمَهُ اللهُ، وقد تفضلتم ببيان شيءٍ مما تكلم به المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، هذا أوان الإكمال -أحسن الله إليكم- في المقصود.
(الشرح): قد بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن الإيمان فُسر فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فُسّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ؛ يعني: بالأعمال الظاهرة، وقال إنه رُوي في بعض طرقه، (أن الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله) وما رواه الشيخان {آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ؟" وفي بعض طرقه ""{آمُرُكُمْ بِأَرْبَعِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ".
وقد بيَّن رَحِمَهُ اللهُ أنه في حديث شُعب الإيمان، فَسَّر الإيمان في حديث شُعب الإيمان بالأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة جميعًا، فإنه بَيَّن أن الإيمان شُعب، بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شعبة؛ منها شُعب قولية، ومنها شُعب فعلية، ومنها شُعب قلبية، ثم قال "وَثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ: {الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ}" والحياء شُعبةٌ قلبية، وقال أيضًا "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}" عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث رواه البخاري في كتاب الإيمان، ورواه أيضًا مسلم رَحِمَهُ اللهُ في كتاب الإيمان، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الإيمان عمَّا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين، والمـُراد نفي الإيمان الواجب، كما سيبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وهذا أيضًا رواه الشيخان، فيه نفي الإيمان عمًّن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فالأول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» يعني لايؤمن الإيمان الكامل، الواجب الذي تَبْرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار، حتي يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين.
وقد جاء في هذا الحديث في بعض رواية هذا الحديث، أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا نَفْسِي ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام : " لا حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " ، فَقَالَ عُمَرُ : فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الآنَ يَا عُمَرُ» يعني بلغت الآن، أديت الإيمان الواجب، وقال عليه الصلاة والسلام «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه» يعني لا يؤمن الإيمان الواجب الذي تَبْرأ به ذمته؛ حتي يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، وهذا الحديث حديثٌ عظيم، لو عمل به المسلمون؛ لآثر كل واحدٌ منهم أخاه، وجعله مثل نفسه «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» من خيري الدنيا والآخرة؛ فإذا كان الإنسان يُحب لنفسه أن يرزقه الله مالًا حلالًا، وزوجةً صالحة، وولدًا صالحًا، فإنه يجب عليه أن يُحب لأخيه مايُحب لنفسه، فإذا كان يُحب ذلك لنفسه ولايُحب لأخيه، دلَّ هذا على نقصًا كمال الإيمان الواجب، ومثل قوله علي عليه الصلاة والسلام «وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقه «يعني: غوائره وشره، وهذا الحديث أيضًا رواه الشيخان؛ فيه نفي الإيمان عمَّن لا يأمن جاره بوائقه، يعني الإيمان الكامل، الإيمان الواجب، الذي تبرأ به الذمة، لايؤمن الإيمان الواجب؛ حتي يأمن جاره بوائقه، فإذا أمن جاره بوائقه يعني غوائره وشره؛ دلَّ على كمال إيمانه الواجب، أنه أدَّى الإيمان الواجب؛ وإذا لم يأمن غوائره وشره دلَّ على نقص إيمانه الواجب.
(القارئ): هذا عند الشيخان، يا شيخ هذا الحديث؟
(الشرح): نعم، هذا ذكره البخاري في كتاب الآداب، ومُسلم في كتاب الإيمان، وأحمد.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وهذا الحديث رواه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن مراتب الإنكار في هذا الحديث ثلاثة:
المرتبة الأولى أن يُغير الـمُنكر بيده، وهذا إذا كان في بيته، أو كان له ولاية كأمير البلد، وكذلك أيضًا رجال الحُسبه فيما أُعطي لهم من الصلاحيات؛ إذا كان يستطيع الإنكار بيده؛ فإنه يجب عليه أن يُنكر بيده.
المرتبة الثانية: أن يُنكر بلسانه، وهذه للعلماء ولمن عنده علم، فإنه يُبيِّن وينصح بلسانه، يُغير الـمنكر بلسانه.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب؛ بأن يكره الـمُنكر بقلبه، ويُفارق مَن يفعل المنكر، ويَظهر الإنكار على وجهه، أما من إدّعى أنه يُغيّر بقلبه، وهو جالسٌ مع أهل المنكر، وهو يستطيع أن يفارق هذا المكان؛ فإن دعواه غير صحيحة؛ لأنه لو كان مُنكر لمنكر حقًّا لفارق المكان، مع عجزه إذا كان عاجز إلا إذا كان عاجزًا؛ 1،7 لتأكد من صحة ذلك. لأن من جلس مع الذين يفعلون المنكر، فحكمه حكمهم فمن جلس مع قوم يشربون الخمر، ولم يُنكر عليهم، وهو يستطيع؛ فإنه يكون حُكمه، حُكم شُرب الخمر في الإثم، وكذلك أيضًا مَن جلس مع قومًا يغتابون الناس، ولم يُنكر عليهم؛ فحكمه حكمهم عليه من الإثم مثل ما عليهم، ومَن جلس في مجلسٍ يُستهزأ بالله، وبكتابه، وبرسوله ،ولم يَنههم ولم ينكر عليهم مع قدرته، حكمه حُكمهم الراضي كالفاعل –أعوذ بالله- الكفار قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه المبين: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] بيَّن سبحانه وتعالى أن مَن جلس في مجلس يُكفر بآيات الله، ويُستهزأ فيه بآيات الله، ولم ينههم ولم يُنكر عليهم؛ فحكمه حكمهم: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: « وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» الذي يتعلق بهذه المراتب، وليس معنى ذلك أن من لم يُنكر بقلبه أنه ينتفي عنه الإيمان، ويكون كافرًا، كما قد يظن بعضهم، ويتوهمه بعضهم؛لا، لأن من لم ينكر المنكر حكمه حكمٌ من فعل المنكر، والذي يفعل منكر، إذا كان هذا المنكر دون الشِرك ودون الكفر يكون عاصي؛ فكيف يُفهم منه أن لم يُنكر منكر انتفى عنه الإيمان بالكلية؟! وإنما المـُراد بأضعف الإيمان، يعني الإيمان الذي يتعلق بإنكار المنكر، في هذه المراتب.
والشهادة من هذه النصوص؛ أنه جعل هذه الأعمال كلها من الإيمان، الإنكار بتغيير المنكر باليد، إنكار المنكر باللسان، إنكار المنكر بالقلب؛ كله من الإيمان، والإنكار باللسان واليد، أعمالٌ ظاهرة إن فدلَّ على أن الأعمال الظاهرة تسمى إيمان، وقال عليه الصلاة والسلام: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ فِي أُمَّتِهِ قَوْمٌ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ
يقول المؤلف" وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ" يعني إنفرد به مسلم عن البخاري، ورواه الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ، والشاهد من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الجهاد باليد، وباللسان، وبالقلب؛ جعلها من الإيمان، وفيه وجوب إنكار المنكر، وأنه يجب على الإنسان إنكار المنكر على حسب قدرته واستطاعته؛ إن كان يستطيع إنكارًا باليد، وجب عليه؛ فإن عجز أنكر باللسان؛ فإن عجز أنكر بقلبه، كما سبق.
ولهذا قال «فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» يعني فيما يتعلق بالإنكار في مراتب الإيمان الثلاثة.
(المتن):
(الشرح): سيُبين رَحِمَهُ اللهُ بعد هذا، أن الإيمان إذا أُطلق تدخل فيه الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، يعني هذه الأعمال وإن كانت أعمال ظاهرة داخلة في مُسمى الإيمان، عند الإطلاق إذا إنفرد الإيمان؛ دخلت فيه الأعمال الظاهرة ،كما أن الإسلام إذا إنفرد، إذا تجَّرد عن الإقتران بالإيمان، يشمل الأعمال الظاهرة والباطن، وهذا منها، وسيُبيِّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بعد هذا .
(القارئ): أحسن الله إليكم، هل مثل هذا الحديث الذي ساقه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ مُراده منه، أن يُبيِّن أن أصل الإيمان لاينتفي مع وجود هذه الأعمال؟
(الشرح): نعم، لاينتفي مع وجود الكبائر، لاينتفي الإيمان إلا إذا وُجد الكفر الأكبر، أو الشِرك الأكبر، أو النفاق الأكبر؛ أما المعاصي وإن عظُمت ،ولو كثرت تُضعف الإيمان، ولكنها لا تقضي عليه، ولهذا جاء في الحديث، حديث الشفاعة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا شفع، يحُد الله له حدًا؛ حتى يُقال له في آخره؛ (أخرج من النار مَن كان في قلبه أدنى أدنى أدني مثقال حَبَّةُ الخَرْدَلٍ من الإيمان) فالمعاصي وإن عظُمت وكثرت لا تقضي عن الإيمان، ولاينتهي الإيمان بالمعاصي؛ إنما ينتهي الإيمان إذا جاء الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشِرك الأكبر.
هذه النصوص دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وعلى أن المعاصي وإن عظُمت تُضعف الإيمان، ولاتقضي عليه؛ مادام أنها لم تصل إلى حد الكفر، أما إذا فعل الكفر الأكبر، أو الشِرك الأكبر، أو عبد غير الله، أو دعى غير الله، أو ذبح لغير الله، أو استحل أمرًا معلوم من أمور الدين، بالضرورة،أو أنكر أمرًا معلوم من الدين من الضرورة وجوبه؛ يعني أنكر وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الصوم، أو وجوب الحج؛ هذا كُفر ورده، أو أنكر أمرًا معلوم من الدين بالضرورة ولاشبه له ؛ كأن يُنكر تحريم الزنا، أوتحريم الربا، أوتحريم شُرب الخمر، أوتحريم عقوق الوالدين، أوتحريم الغيبة والنميمة، أوغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، تحريمه أو وجوبه؛ فإنه ينتفي الإيمان بهذا، إذا لم يكن له شُبهة لأن هذا كفرٌ، مُخرجٌ عن المِلة؛ نسأل الله السلامة والعافية.
(القارئ): فَهِم أهل السنة بناءً على ضَمَّ النصوص بعضها إلى بعض، وليس بناءً على فهم هذا الحديث؟
(الشرح): لا، النصوص يضم بعضها إلى بعض، هذا من أفرادها
(القارئ): أقصد أن مِثل الخوارج لما استدلوا بمثل هذا الحديث، وأمثاله من الواعدية مثلًا كالمعتزلة والخوارج إنما نظروا لهذا الحديث بمفرده، بينما أهل السنة نظروا إلى مجموع الأحاديث.
(الشرح): نعم، الخوراج والمعتزلة نظروا إلى النصوص بعينٍ عوراء، يستدلون بنصوص الوعيد؛ ولكنهم يتركون نصوص الوعد، بينما المرجأة يقابلهم بهذا، يستدلون بنصوص الوعد، ويتركون نصوص الوعيد، وأهل السنة أخذوا نصوص الوعد ونصوص الوعيد، واستدلوا بنصوص الوعد على أن الموحد يبقى معه التوحيد والإيمان؛ ولو عظمت المعاصي، واستدلوا بنصوص الوعيد، على أن مرتكب الكبيرة، تُضعف الإيمان ولا تقضي عليه؛ بدليل نصوص الوعد، ونصوص الوعيد، تدل على أن الإيمان يبقى معه، ولا ينتفي الإيمان مع الكبائر والمعاصي؛ ولهذا فإن أهل السنة والجماعة، أخذوا نصوص الوعيد، وصفعوا بها وجوه الخوارج والمعتزلة وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجأة وأبطلوا مذهبهم تعارضا فتساقطا وبَقِيَ مذهب أهل السنة، قائمًا، لبنًا خالصًا صائغًا للشاربين.