(المتن)
فَيُقَالُ: اسْمُ الْإِيمَانِ تَارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بَاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَتَارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا؛ إمَّا بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل: «مَا الْإِسْلَامُ وَمَا الْإِيمَانُ»؟
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[الأحزاب: 35]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، وَقَوْله:فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ،36 ].
وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277].
وَإِمَّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ [الروم: 56]، وَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
وَحَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَارُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].
وَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء: 162].
وَيُذْكَرُ أَيْضًا لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62].
فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ، وَالْإِيمَانُ الْآخِرُ عَمَّهُمْ؛ كَمَا عَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7]، وَسَنَبْسُطُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْعُمُومُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَلِ؛ فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ؛ جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ: الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ؛ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ.
وَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا؛ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الشُّعَبِ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا أَعْمَالُ الْبِرِّ مِنْ الْإِيمَانِ.
(الشرح)
╝
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبيّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فالمؤلِّف رحمه الله بعد أن سَرد الأحاديث التي مرَّت في الحلقة السابقة بيَّن المؤلِّف رحمه الله: أنَّ اسم الإيمان له أحوال في النصوص؛ فتارةً يأتي اسمُ الإيمانِ يُذكَر مفردًا، يعني مجرَّدًا لم يقترن به اسم الإسلام، ولا اسم العمل.
ولهذا قال المؤلِّف: "فَيُقَالُ: اسْمُ الْإِيمَانِ تَارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بَاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَتَارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا؛ إمَّا بِالْإِسْلَامِ"، وإمَّا بالعمل وإما يقترن بالذين آمنوا.
ثُمَّ بيَّن المؤلِّف رحمه الله ما بينهما من العموم والخصوص، فقال رحمه الله: "وَتَارَةً يُذْكَرُ مَقْرُونًا؛ إمَّا بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل: مَا الْإِسْلَامُ وَمَا الْإِيمَانُ".
فإنَّ في حديث جبرائيل: سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فبيَّن أنها الأركان الخمسة الظاهرة، وسأله عن الإيمان فبيَّن أنه أصول الإيمان الباطنة، هذا عند الاقتران.
إذًا اقترن اسم الإيمان، واسم الإيمان صار لكلِّ واحدٍ منهما معنًى، وصار لكلِّ واحدٍ منهما مسمَّى، فإذا اجتمعا فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبرائيل، وكما في قوله عَزَّ وَجَلَّ، وكقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات [الأحزاب: 35]، فجَمع بين الإسلام والإيمان، قال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35]، عطف المؤمنين على المسلمين.
ففي هذا، إذا اجتمعا يكون مسمَّى الإسلام غير مسمَّى الإيمان، إنَّ المسلمين: الذين أدوا الأعمال الظاهرة مع تصديق القلب، والمؤمنين: الذين أدوا الأعمال الباطنة.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، هذه الآية جمع فيها بين الإيمان والإسلام، فالمراد بـــ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا؛ يعني: بقلوبهم.
ولهذا قال لهم سبحانه وتعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]؛ يعني أنَّه لا يُطلَق عليكم اسم الإيمان، وهذا في الأعراب الذين دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم؛ فإنهم لمَّا قالوا آمنا، أطلقوا على أنفسهم الإيمان؛ نفى الله عنهم الإيمان؛ لأن الإيمان لم يتمكَّن من قلوبهم، ولم يؤدوا ما أوجب الله عليهم ولم يتناهوا عمَّا حرَّم الله عليهم.
فلا يُطلَق عليهم الإيمان، ولكن يُطلق عليهم اسم الإسلام، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14].
هذا هو الصواب: أنَّ الآية في ضعفاء الإيمان، الآية في الأعراب ضعفاء الإيمان، هذا هو الصواب عند المحقِّقين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
وذهب بعض أهل السُنَّة إلى: أنَّ الآية في المنافقين، وعلى رأسهم: الإمام البخاري رحمه الله؛ لأن الإمام البخاري يرى أنَّ الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، وهذا قولٌ لأهل السُّنَّة.
وهو قول أيضًا للخوارج والمعتزلة: يرون أن الإسلام هو الإيمان، وأنَّ الإيمان هو الإسلام، ولا فرق بينهما؛ كما بيَّن البخاري في صحيحه فأجاب عن هذه الآية: بأنها في ضعفاء المنافقين، والمعنى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]؛ يعني استسلمنا وانقدنا للإسلام ظاهرًا نفاقًا.
والصواب: أنها في ضعفاء الإيمان، بدليل ما قبلها وما بعدها؛ يعني السياق، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]؛ يعني وسوف يدخل الإيمان في قلوبكم، الإيمان الكامل الذي يستلزم أداء الواجبات وترك المحرّمات.
ثم قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]، فأثبت لهم طاعة الله ورسوله، ولو كانوا منافقين؛ لم تكن لهم طاعة، قال: لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات: 14]؛ يعني من ثواب أعمالكم، يقصد من ثواب أعمالكم شيئًا.
ثُمَّ بيَّن سبحانه المؤمنين الكُمَّل، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات: 15]؛ يعني الكُمَّل الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]؛ يعني هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، وأمَّا أنتم لستم صادقين في إيمانكم؛ لضعف إيمانكم.
ثُمَّ قال في آخر السورة: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17]، فأثبت لهم إسلامًا؛ فدلَّ على أنها في ضعفاء الإيمان، ولعلَّ المؤلِّف رحمه الله يبسط الكلام عليها في موضعٍ آخر من هذا الكتاب.
وقوله سبحانه: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ، 36 ]، فهذه الآية اجتمع فيها الإيمان والإسلام، احتجَّ بهذه الآية مَن يقول: إنَّ الإيمان والإسلام شيءٌ واحد؛ لأن هذا البيت واحد وهو لوطٌ وبنتاه: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ، 36].
قالوا: هذا بيتٌ واحد وُصِف بالإيمان وَوُصِف بالإسلام، فدلَّ على أنَّ الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام.
ولكنَّ الجواب عند جمهور أهل السُنَّة وعند المحققين: أنَّ هذا البيت الواحد تحقَّق فيه وصف الإيمان ووصف الإسلام.
فهذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف رحمه الله فيها اقتران الإيمان بالإسلام، فإذا اقترن الإيمان بالإسلام؛ صار لكلٍّ منهما مسمَّى، ومسمَّى الإسلام: الأعمال الظاهرة، ومسمَّى الإيمان: الأعمال الباطنة، أمَّا إذا انفرد أحدهما فإنه يدخل فيه الآخِر.
القارئ: نبيِّن للمستمعين -أحسن الله إليكم- مما تفضلتم به حول الآية: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ،36]، نبيِّنها للمستمعين أكثر -أحسن الله إليكم-.
الشيخ: هذه الآية وردت في لوطٍ عليه الصلاة والسلام، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في سورة الذاريات لمّا ذَكر قصة إبراهيم، ثُمَّ ذكر قصة لوط، قال: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)}؛ وهم قوم لوط {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 31- 36].
بيَّن الله سبحانه وتعالى: أنَّه أهلك قوم لوط، ولكن أخرج مَن كان فيها من المؤمنين، ولم يوجد -يعني في هذه البلدة- إلا بيتٍ واحد وهو بيت لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ،36]، هو بيتٌ واحد وُصِف بالإيمان أوَّلًا، ثُمَّ وُصِف بالإسلام.
فهذا البيت تحقق فيه وصف الإيمان ووصف الإسلام هو لوطٌ وابنتاه، حتى امرأة قوم لوط كانت معهم وأصابها ما أصابهم، كما قال الله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81].
فهذا البيت اتَّصف بالإسلام واتَّصف بالإيمان، وليس فيه حُجَّة لمَن يقول: إنَّ الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام؛ لأن هذا البيت تحقَّق فيه وصف الإيمان ووصف الإسلام.
القارئ: فذُكِر هنا تارة وهنا تارة.
الشيخ: نعم وصف بهذا قال: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) [الذاريات: 35 ، 36] هو بيتٌ واحد.
القارئ: وهو نفس البيت.
الشيخ: هو بيتٌ واحد تحقّق فيه وصف الإيمان ووصف الإسلام، لكن الذين يقولون: إن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، يقولون: هذا يدلُّ على أنَّ الإسلام والإيمان شيءٌ واحد، لكنَّ الصواب: أنهما متغايران، ويدلّ على هذا أيضًا نصوصٌ أخرى كثيرة التي فيها أنَّ مسمَّى الإسلام غير مسمى الإيمان عند الاقتران.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ"؛ يعني أحيانًا يُقرَن الإيمان بالعمل الصالح، وذلك في مواضع من القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277].
فإذا عُطِف العمل الصالح على الإيمان فالعلماء لهم في هذا أقوال:
منهم مَن يقول: إنه عند الاقتران يكون العمل غير داخل في الإيمان، وعند التجرُّد وعدم الاقتران إذا أُطلِق الإيمان دخل فيه العمل الصالح.
ومن العلماء مَن قال: إنه يدخل فيه، ولكن ذُكِر العمل الصالح تخصيصًا بعد التعميم. فيكون ذُكِر مرتين، مرة في الاسم العام، ومرة بخصوصه لأهميته؛ كقوله سبحانه وتعالى في سورة العصر: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر: 1-3].
فعملُ الصالحات والدعوة إلى الله والتواصي بالصبر داخلٌ في الإيمان، ولكن عُطِف العمل الصالح، ثُمَّ عُطِف التواصي بالحق، ثُمَّ عُطِف بالصبر؛ وذلك لأهميتها وذكرًا لها تخصيصًا بعد التعميم.
ويقول المؤلف رحمه الله: "وَإِمَّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ"؛ يعني قد يُقرَن الإيمان بالذين أُوتوُا العلم كقوله سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ [الروم: 56]، وقوله سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
ثُمَّ بيَّن المؤلِّف رحمه الله: أنَّ الذين أوتوا العلم داخلون في المؤمنين، ولكن ذُكِروا تخصيصًا لهم بعد التعميم؛ لفضلهم ومزيَّتهم، لأنَّهم خيار المؤمنين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَحَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَارُهُمْ"، فذُكِروا تخصيصًا لهم بعد التعميم؛ لأنَّهم خيارهم، هم أفضل المؤمنين العلماء.
كذلك إذا عُطِف العمل الصالح يكون ذُكر مرةً ثانية تخصيصًا بعد التعميم؛ لأهمية العمل، قال الله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، وقال سبحانه: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء: 162].
فعطف المؤمنين على الراسخين تعميمًا بعد التخصيص.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَيُذْكَرُ أَيْضًا لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ"، ثُمَّ قال سبحانه: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 62]، يشير إلى آية البقرة، وآية المائدة أيضًا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] هذه آية البقرة، وآية المائدة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69].
فذَكر أوَّلًا: المؤمنون في ابتداء الخطاب، ثُمَّ ذكرهم في آخر الخطاب، فالمؤمنون ذُكِروا في الابتداء، وذُكِروا في الانتهاء، ذكِروا في ابتداء الآية وفي انتهائها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 62]
يقول المؤلِّف رحمه الله: وَالْإِيمَانُ الْآخِرُ يَعُمُّ، وأمَّا ذِكرُهم في ابتداء الخطاب فإنه لا يعمُّ الأصناف التي ذُكرت بعدها، فالإيمان في آخر الآية يَعمُّ الطوائف كلها: الذين هادوا والنصارى والصابئين، مَن آمن منهم، مَن آمن مِن هذه الطوائف فله هذا الفضل العظيم: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].
لكن في أول الآية لا يدخلون فيهم فهم طائفة مستقلَّة؛ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا: طائفة مستقلَّة، وَالَّذِينَ هَادُوا: طائفة مستقلَّة، وَالنَّصَارَى: طائفة مستقلَّة، وَالصَّابِئِينَ: طائفة مستقلة، ثُمَّ في آخر الآية قال: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 62].
فالإيمان في آخر الآية يشمل الطوائف كلها، والإيمان في أول الآية لا يشملهم.
"كَمَا عَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7]"؛ يعني هذه الآية عامة، كلُّ مَن اتصف بالإيمان من أيِّ طائفة من الطوائف، من النصارى إذا ترك ما هو عليه من الدين الباطل وآمن بالله؛ فله هذا الأجر، واليهودي إذا ترك ما هو عليه من الدين الباطل؛ فله هذا الثواب.
وكذلك الصابئ إذا ترك ما هو عليه من الدين الباطل سواء قيل: أن الصابئين عُبَّاد الكواكب أوغيرهم، إذا ترك ما هو عليه من الدين الباطل وآمن بالله ورسوله؛ فله هذا الثواب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7]، وفي الآية السابقة: فلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62].
قال المؤلِّف رحمه الله: "وَسَنَبْسُطُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى". ثُمَّ قال: "فَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ".
القارئ: أحسن الله إليكم يا شيخ، في قوله تعالى: والصابئين هم غير المجوس؟
الشيخ: نعم، غير المجوس، المجوس: هم عُبَّاد النار، والصابئين قيل: إنَّهم عُبَّاد الكواكب، وقيل غيرهم في كلام لأهل العلم، فتكون الطوائف خمس: الذين آمنوا، الذين هادوا، الصابئين، النصارى، المجوس، فتكون كم؟ خمس طوائف.
ثُمَّ قال تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 62]، هذا يشملهم، الإيمان في آخر الآية يشمل جميع الطوائف، والإيمان في أوَّلِ الآية يخصُّهم، يخصُّ المؤمنين ولا يشمل الطوائف الأخرى.
يقول المؤلف: "فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ، وَالْإِيمَانُ الْآخِرُ عَمَّهُمْ"؛ يعني في آخِر الآية، كما عمَّهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7].
ثُمَّ قال المؤلف رحمه الله: "فَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ"؛ يعني المقصود: بيان العموم والخصوص بالنسبة لما في الباطن، وما في الظاهر، يعني يشمل المؤمنين باطنًا وظاهرًا، فالظاهر هي أعمال الإسلام؛ من صلاة وصيام وزكاة وحج، والباطن هي أعمال القلوب، فقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 126] يشمل الإيمان الباطن والإيمان الظاهر.
"وَأَمَّا الْعُمُومُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَلِ؛ فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى"؛ يعني بالنسبة إلى ملَّة اليهودية، إلى ملَّة النصرانية، ملة المجوسية، ملة الصابئة، يقول هذه مسألةٌ أخرى.
ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله: "فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ؛ جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ: الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ؛ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ".
يعني بيَّن المؤلف رحمه الله: أنَّه إذا اقترن الإسلام بالإيمان؛ فإنَّه يُراد بالإسلام: الإعمال الظاهرة، ويُراد بالإيمان: الأعمال الباطنة.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ"؛ هذا هو الاقتران، "جعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ" كما في حديث جبرائيل: "الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ".
"وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" كما في حديث جبرائيل..
وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد رحمه الله عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، هذا وإن كان في بعضه ضعف كما سبق، هنا قَرن الإسلام بالإيمان فقال: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ؛ يعني الأعمال الظاهرة، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ؛ يعني الأعمال الباطن.
فهذه قاعدة: أنَّه إذا قُرِن الإسلام بالإيمان؛ صار لكلِّ واحدٍ منهما مسمَّى، وإذا أُطلِق أحدهما أو تجرَّد أو انفرد؛ يدخل فيه الآخر، فيقال كما سبق.. يقال: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
ما معنى ذلك؟
يعني الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، صار لكلِّ واحدٍ منهم معنى، صار الإسلام: هو الأعمال الظاهرة، والإيمان: هو الأعمال الباطنة، وإذا افترقا؛ أي جاء الإسلام وحده أو جاء الإيمان وحده؛ دخل فيه الآخر، دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة.
وهذا له نظائر ليس خاصًّا بهذا، مثل: "البِر والتقوى"، فإذا اقترن البِر والتقوى؛ صار البِر له معنى والتقوى لها معنى، صار البِر: الأعمال الواجبة، أداء الواجبات، والتقوى: هو ترك المحرَّمات، وإذا أُطلِق البِر وحده؛ دخل فيه أداء الواجبات وترك المحرمات، وإذا أُطلِق التقوى وحده؛ دخل فيه أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
ومثله: "الفقير والمسكين".
إذا أُطلِق الفقير وحده؛ دخل في المسكين، وإذا أُطلِق المسكين وحده؛ دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا؛ صار لكلِّ واحدٍ منهم معنى، صار الفقير أشد حاجة، والفقير: هو الذي لا يجد شيئًا، أو يجد أقل من نصف الكفاية، والمسكين: هو الذي يجد نصف الكفاية فأكثر، إلا أنه لا يجد الكفاية؛ فصار الفقير أشد حاجة؛ لأن الله بدأ به في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة: 60].
وكذلك: الربوبية والألوهية.
إذا أُطلِقت الربوبية وحدها؛ دخلت فيها الألوهية، وإذا أُطلِقَت الألوهية؛ دخلت فيها الربوبية، وإذا اجتمعا فُسِّرت الربوبية بأفعال الرب سبحانه وتعالى، والألوهية بأعمال العباد، كما في قوله سبحانه وتعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) [الناس: 1 -3 ]، اجتمع الرب والإله.
وكما في لحديث سؤال الميت عند قبره: مَن ربك؟ فهذا انفرد، يعني من إلهك؟ تدخل فيه الربوبية والألوهية، مَن إلهك الذي تعبد؟ مَن ربك؟ فهنا انفرد.
لكن في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) [الناس: 1-2] اقترنا، صارت الربوبية غير الالوهية، وإذا أُفرِد أحدهما دخل فيه الآخر، كما يقال للميت: مَن ربك، يعني مَن إلهك الذي تعبد؟
وليس المراد: هل تعتقد أن الله هو الخالق؟ دون السؤال عن العباده، فهذه قاعدة.
ثُمَّ قال المؤلف رحمه الله: "وَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا؛ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ".
"مجرَّدًا"؛ يعني مجرَّدًا عن الاقتران بالإسلام أو بالعمل الصالح أو بغيرها، إذا ذُكِر الإيمان مجرَّدًا؛ دخل فيه الإسلام، ودخل فيه الأعمال الصالحة؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الشُّعَبِ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، قال: الإيمان وليس فيه ذِكر الإسلام، فتدخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة.
ولهذا جعل الإيمان بضعٌ وسبعون، والبضع من ثلاثة إلى تسعة؛ يعني فوق السبعين، كلُّ هذه الخِصال، كلُّها إسلام وإيمان تُسمَّى، منها أعمالٌ باطنة، ومنها أعمالٌ ظاهرة، مَثَّل للأعمال الظاهرة فقال: أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وهذا قول اللسان، ومّثَّل لأعمال الجوارح: وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ ومَثَّل لأعمال القلوب بالحياء، قال: وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ.
وبين أدناها وأعلاها شُعب متفاوتة؛ منها ما يَقرُب من شعبة الشهادة، ومنها ما يَقرُب من شُعبة الإماطة؛ فالصلاة شُعبة، والزكاة شُعبة، والصوم شُعبة، والحجُّ شُعبة، وبِرُّ الوالدين شُعبة، وصلة الأرحام شُعبة، والأمر بالمعروف شُعبة، والنهي عن المنكر شُعبة، والجهاد في سبيل الله شُعبة، وهكذا.
ولهذا البيهقي رحمه الله تتبع هذه الشُعَب من النصوص وأوصلها إلى تسع وسبعون شعبة وألَّف كتاب سماه [شُعَب الإيمان] بقطع النظر ديعني هل هذا مشروع تتبع هذه النصوص وهل هو مصيب أم غير مصيب لكنه تتبع من النصوص وجمع تسع وسبعين شعبة منها ما هو من أعمال القلوب ومنها ما هو من أعمال الجوارح، ولذلك لأن الإيمان انفرد في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإيمان بضعٌ وسبعون شعبة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول المؤلف رحمه الله: وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعَل فيها أعمال البِر من الإيمان، كلها داخلة في مسمى الإيمان عند الإطلاق سواء كانت من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.
القارئ: يُجعَل فيها أعمال البِر من الإيمان؟
الشيخ: نعم، مثلًا: إطعام الطعام من الإيمان، إفشاء السلام من الإيمان، هذا عمل صالح داخلة فيه؛ لأنه أُطلِق، وكذلك إطعام الطعام: هذا عمل دخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق وهو من أعمال الجوارح.
القارئ: مثل مراده رحمه الله قبل قليل عندما تحدث عن دخول الأعمال الصالحة في الإيمان.
الشيخ: نعم هذا مثل هذا، المؤلف رحمه الله يكرر ويعيد، ولهذا قال: وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعَل فيها أعمال البِر من الإيمان، كلها على هذا، مثل حديث الشعَب، كلها على هذا النمط.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله: ثُمَّ إنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ ذَكَرَ فَضْلَ إيمَانِ صَاحِبِهَا -وَلَمْ يَنْفِ إيمَانَهُ- دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَنْفِيان اسْمَ مُسَمَّى أَمْرٍ - أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ إلَّا إذَا تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ كَقَوْلِهِ: {لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ}.
وَقَوْلِهِ: {لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ} وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي الْعِبَادَةِ لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ هَذَا لَوْ جَازَ؛ لَجَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ إلَّا وَغَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْبِرِّ مِثْلَ مَا فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ.
فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِكَمَالِهَا الْمُسْتَحَبِّ يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ؛ لَجَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "ثُمَّ إنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ"
بعد أن بيّن المؤلف رحمه الله أن اسم الإيمان ذُكِر مفردًا ولم يقترن باسم الإسلام ولا بالأعمال فإنه تدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، ومّثَّل بحديث شُعَب الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعَل فيها أعمال البِر من الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: "ثُمَّ إنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِهَا"؛ يعني عند عدم الأعمال الصالحة وأعمال البِر، إذا نُفِي الإيمان عند عدمها؛ دَلَّ على أنها واجبة، وإن ذُكِر فضل إيمان صاحبها ولا يُنفى إيمانه؛ دَلَّ على أنها مستحبة.
هذه قاعدة استقرأها المؤلف رحمه الله من النصوص، يعني أن الأعمال الصالحة وأعمال البِر لها حالتان في النصوص:
الحالة الأولى: أن يُنفى الإيمان عند عدمها، وهذا يدل على أنها واجبة، مثل ما سبق من النصوص التي ذكرها المؤلف رحمه الله: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه.
فهذه كلها نُفي الإيمان عن صاحبها فدلَّ على أنها واجبة ودلَّ على أن الإنسان إذا أخلَّ بهذه الواجبات؛ دَلَّ على نقص إيمانه، وأنَّ إيمانه ناقص.
أمَّا إذا ذُكِر فضل إيمان صاحبها ولم ينفَ إيمانه؛ فإنه دَلَّ على أنها مستحبة، وهذا شامل لجميع الأمور المستحبة التي يفعلها المسلم؛ كالسواك وقيام الليل وصلاة الضحى، والنوافل المستحبات.
كلُّ هذه الأعمال يُذكَر فضل إيمان صاحبها، ولا يُنفَ الإيمان عن صاحبها؛ لأنها أمورٌ مستحبة وأعمالٌ صالحة، ولكنها ليست الواجبة.
فهذه قاعدة: أنَّ أعمال البِرِّ والأعمال الصالحة إن نُفِي الإيمان عن صاحبها؛ دَلَّ على أنها واجبة، ويدلُّ ذلك على نقص إيمان صاحبها التي نُفِيَت عنه، وإن لم يُنفَ الإيمان عن صاحبها، وإنما ذُكِر فضل صاحبها، وأن له فضل وثواب وأجر ولم ينفَ الإيمان؛ دَلَّ على أنها مستحبة.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَنْفِيان اسْمَ مُسَمَّى أَمْرٍ -أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ- إلَّا إذَا تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ".
وهذا مثل ما سبق من قيام الليل، الله تعالى أثنى على المؤمنين الذين يقومون الليل: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64]، أثنى على عِباد الرحمن: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر: 45]، وأيضًا: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (ا18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات : 17- 19].
هذه أثنى الله تعالى على أصحابها، ولم يُنفَ الإيمان عن مَن تركها؛ فدلَّ على أنها مستحبة.
أما إذا نُفِي الإيمان عن صاحبها؛ فإنه يدلُّ على أنها واجبة كما سبق، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، هذا نفي الإيمان، دَلَّ على أن الإنسان إذا لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ دَلَّ ذلك على نقص إيمانه، وأنه يجب عليه أن يجب لأخيه ما يجب لنفسه.
لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ دَلَّ هذا على أن الإنسان إذا قدَّم محبة المال أو الولد على محبة الله ورسوله؛ دَلَّ على نقص إيمانه.
ولهذا توعَّد الله سبحانه وتعالى مَن قدَّم شيئًا من الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله وتوعده بوعيد شديد وحكم عليه بالفسق في قوله سبحانه وتعالى في آية التوبة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]
إذا قدَّم الإنسان شيئًا من هذه الأصناف الثمانية الآباء أو الابناء أو الإخوان أو العشيرة أو الأزواج أو الأموال أو التجارات أو المساكن، قدَّم واحدة منها على محبة الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيله؛ دَلَّ على نقص إيمانه وأنه مستحقٌ للوعيد، ولهذا قال: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24]؛ يعني انتظروا ماذا يحل بكم من عقوبته عقوبة الله، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] ذل على أن هذا فُسق خروج عن طاعة الله.
ومَثَّل المؤلف رحمه الله بالنفي قال: " كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ". وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما.
هنا نفى الصلاة عن مَن لم يأتِ بأم القرآن وهي الفاتحة؛ دَلَّ على أن أم القرآن واجبة على أن قراءة الفاتحة واجبة، بل هي ركنٌ من أركان الصلاة في حقِّ الإمام والمنفرد بالاتفاق.
فلما نُفيَت الصلاة، عن من لم يقرأ بأم القرآن؛ دَلَّ على أنها واجبة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا إيمان لِمَن لا أمانة له ولا دين لِمَن لا عهد له» وهذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، وفيه نفي الإيمان لمن ليس عنده أمانة؛ وهذا يدل على وجوب الأمانة، فلما نُفِي الإيمان عن صابحها؛ دَلَّ على وجوب الأمانة.
وكذلك نُفي الدين لمن لا عهد له، قال: «لا دين لِمَن لا عهد له»؛ دَلَّ على وجوب العهد، هذه أمثلة للقاعدة التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
فإذا نفي الإيمان أو نفي الشيء عن مَن ترك بعض الواجبات؛ يدل على وجوبها، إذا نُفِي الشيء عن ترك بعض أفراده؛ يدل على وجوبه سواء كان الإيمان أو غير الإيمان، مثل الصلاة «لا صلاة إلا بأم القرآن»؛ يدل على وجوب قراءة الفاتحة، «لا إيمان لِمَن لا أمانة له»؛ يدل على وجوب الأمانة، «لا دين لِمَن لا عهد له»؛ يدل على وجوب العهد.
يقول المؤلف رحمه الله:
"فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي " الْعِبَادَةِ " لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ."
يعني إن كان الفعل مستحب وليس بواجب مثل السواك في الصلاة، لا يُنفى الإيمان عن مَن ترك السواك ومن لم يتسوك، صلاة الضحى مستحبة لا يُنفى الإيمان عن من ترك صلاة الضحى، وهكذا.
قيام الليل مستحب لا يُنفى الإيمان عن مَن ترك قيام الليل، صيام الاثنين والخميس: لا يُنفى الإيمان عن مَن ترك صيام الاثنين والخميس أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر لأن هذه أفعالٌ مستحبة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله عليه: "فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا فِي " الْعِبَادَةِ " لَمْ يَنْفِهَا لِانْتِفَاءِ الْمُسْتَحَبِّ"، وبيَّن رحمه الله ما يؤيد ذلك، قال: "فَإِنَّ هَذَا لَوْ جَازَ؛ لَجَازَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ جُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ"، لماذا؟
يعني لو جاز هذا لجاز أن يُنفى الإيمان عن مَن ترك الأفعال المستحبة والأعمال الصالحة المستحبة لجاز أن ينفَ الإيمان عن جمهور المؤمنين يعني عن كثيرٍ من المؤمنين جاز أن يُنفَ عنهم اسم الإيمان واسم الصلاة واسم الزكاة واسم الحج، لأنه ما من عملٍ إلا وغيره أفضل منه يعني الأعمال متفاوتة، فإذا لم يصل إلى درجة الكمال؛ لزِم أن ينفي عنه الإيمان، إذا لم يصل إلى درجة الكمال في الصلاة؛ لزِم أن ينفي عنه الصلاة، إذا لم يصل إلى درجة الكمال في أداء الزكاة؛ لزِم أن ينفي عنه اسم الزكاة وكذلك الحج، لأن الأعمال مراتب الأعمال الصالحة مراتب لكن يتفاوتون فيها، يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي زكاتهم وفي حجهم، فليزم على هذا أن يوفي الإيمان عن مَن لم يصل إلى درجة الكمال ويُنفى الإيمان عن مَن لم يؤدي الصلاة كما أداها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أداها أبو بكرٍ وعمر، وهذا لا يكون.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: لأنه ما مِن عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحدٌ يفعل أفعال البِر مثل ما فعلها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيلزم من هذا أن كل مَن لم يفعل مثل فِعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنفى عنه الإيمان، وكل مَن لم يصلي صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنفى عنه الإيمان، بل ولا ابو بكرٍ ولا عمر، يعني ، بل إن سائر المؤمنين لم يصلوا إلى ما وصل إليه أبو بكرٍ وعمر في الإيمان وفي التعبد لله عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا جاء في الحديث أنه لو وُزِن إيمان ابي بكرٍ بإيمان أهل الأرض لرجح، فيلزم من هذا يُنفى الإيمان عن جميع الناس وهذا لا يكون.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله:
"فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِكَمَالِهَا الْمُسْتَحَبِّ يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ؛ لَجَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ".
لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الناس إيمانًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعبدًا لله عَزَّ وَجَلَّ، فمَن لم يصل إلى درجة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلزم مِن هذا أن يُنفى عنه الإيمان ويُنفى عنه الصلوات، وهذا لا يقوله أحد، ولهذا قال المؤلف: وهذا لا يقوله عاقل.
فتبيَّن بهذا أن نفي أعمال البِر والأعمال الصالحة أنها إذا نُفيت نُفِي الإيمان بانتفائها؛ دَلَّ على وجوبها، وإن لم يُنفَ الإيمان عن مَن تركها ولكن ذُكِر فضل إيمان صاحبها؛ دَلَّ ذلك على أنها مستحب.
(المتن)
يقول رحمه الله: فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ، الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ؛ فَقَدْ صَدَقَ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
فَإِذَا قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، وَقَالَ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ: «لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ»، كَانَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]؛ يُبَيِّنُ أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ وَتَرْكَ الِارْتِيَابِ وَاجِبٌ، وَالْجِهَادُ -وَإِنْ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ-.
فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطَبُونَ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ إذَا تَعَيَّنَ.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَهُمَّ بِهِ؛ كَانَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ.
وَأَيْضًا فَالْجِهَادُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لا يزال يقرر هذه القاعدة ويقول رحمه الله وبيَّن هذه القاعدة أنه إذا نُفِي الإيمان عن من ترك الأعمال الصالحة والواجبة؛ دَلَّ على وجوبه وإن لم يُنفَ وإنما ذُكِر فضل صاحبه؛ دَلَّ على أنها مستحبة.
قال: "فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ"، فهذا فيه تفصيل، إن أراد أنه نُفِي الكمال الواجب فقد صدق، وإن أراد أنه نُفي الكمال المستحب فهذا ليس بصحيح.
إذًا المسألة فيها تفصيل:
مَن قال إن المنفي هو الكمال، نقول المسألة فيها تفصيل، إن أردت الكمال الواجب؛ فهذا صحيح، ,وإن أردت الكمال المستحب؛ فهذا ليس بصحيح.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ فَإِنْ أَرَادَ به نَفْيُ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ؛ فَقَدْ صَدَقَ"؛ لأن هذا هو الواجب، فالواجب هو الذي يُذَم فاعله ويتعرض صاحبه للعوبة، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله.
يعني المؤلف رحمه الله تتبع النصوص وقال إنه لا يمكن أن يُراد نفي الكمال المستحب، وإنما المراد نفي الكمال الواجب.
قال المؤلف رحمه الله: "وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ"؛ يعني لا يجوز أن يُنفى الإيمان عن مَن ترك الكمال المستحب، ثم بيَّن سبب ذلك فقال: "فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا".
يعني من أدى الواجب كما أمره الله وكما أمره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينقص منه شيئًا؛ فهذا أدى ما عليه ولا يمكن أن يُنفَ عنه الفعل فلا يُقال ما فعله لا حقيقةً ولا مجازًا، وإذا كان الشخص أدى ما عليه ولا يتوجه إليه النفي فكيف يُقال بعد ذلك أنه يُنفى الإيمان عن مَن أدى الواجب ولكنه لم يؤدِ المستحب، فمَن فَعَل الواجب كما وجب فقد أدى ما عليه فإن أتى بالمستحب بعد ذلك فهذا فضل إيمان، دليل على فضل إيمانه ودليلٌ على أنه ترقى من أداء الواجب إلى أداء المستحبات والنوافل.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أمثلة أيضًا قال: فإذا قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ.
القارئ: فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم، قبل هذا في قوله: [لم يجز أن يُقال ما فعله لا حقيقةً ولا مجازًا] يقصد الفاعل الذي جاءه نصٌّ..؟
الشيخ: نعم، الواجب الذي فعله الفاعل نعم، يعني هذا الواجب الذي فعله المــُكلَّف إذا أدَّاه، كما أمره الله وكما أمره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينتقص منه شيئًا، لا يجوز أن يُنفى عنه لا حقيقةً ولا مجازًا.
هذا يعني على التنزل، على القول بالمجاز، والمؤلف رحمه الله سيبحث أيضًا مسألة المجاز في نفس الكتاب هذا إن شاء الله، لكن يقول حتى عند القائلين بالمجاز: لا يجوز أن يُنفى عنه الفعل، ما دام أدَّى ما عليه فلا يُنفى عنه الفعل.
القارئ: لأن المستغرب أن يستخدمها شيخ الإسلام مع أنه لا يرى المجاز، لكنه تنزلًا مع الخصم..
الشيخ: نعم، وسيذكر الخلاف في هذا، وسيأتينا إن شاء الله بعد ما نمشي في الكتاب إن شاء الله.
مثَّل للنفي في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي المسيء في صلاته وهو حديثٌ مشهور رواه الشيخان وغيرهما، وذلك أن الأعرابي لم يطمئن في صلاته ولم يؤدِ الطمأنينة، صلى ركعتين ولم يطمئن في صلاته ثم سلَّم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: «عليك السلام، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، ثلاث مرات.
فنفى عنه الصلاة، فلما نفى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة دَلَّ على أنه ترك واجًبا من واجبات الصلاة، وهو واجب أعظم وهو ركن وهو ترك الطمأنينة.
ثُمَّ ذكر مثالًا آخر فقال: وقال لمن صلى خلف الصف وقد أمره بالإعادة: لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فقال: لا صلاة لفذٍ خلف الصف، نفى عنه الصلاة.
فدلَّ على أنه ترك واجب، وأنه يجب على المأموم أن يَصفَّ مع غيره، ولا يصلي وحده منفردًا، لا يكون خلف الإمام وحده ولا يكون خلف الصف وحده، فإذا كان المأموم واحدًا؛ فإنه يكون على يمين الإمام، وإذا كانا اثنين؛ يكونان خلفه، وإذا تم الصف ثم جاء واحده؛ فلا يصفَّ وحده بل لابد أن يصفَّ معه أحد.
فلما نفى الصلاة عنه؛ دَلَّ على أنه ترك واجبًا، وهذه المسألة خلافية بين أهل العلم، من صلى خلف الصف وحده هل تصح صلاته أو لا تصح؟
فالحديث فيه نفي للصلاة، من العلماء مَن قال: إنه لا تصح صلاته مطلقًا، ومنهم مَن قال: إذا لم يجد مكانًا في الصف ولم يجد مكانًا عن يمين الإمام، فإنه تصح صلاته للضرورة، ومنهم من قال: لا تصح. وهو الصواب؛ أن يكون معذورًا في هذه الحالة، ينتظر حتى يأتي مَن يصفُّ معه.
فالمقصود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفى عنه الصلاة؛ فدل على أنه ترك واجبًا، وأن يجب على المأموم أن يكون معه واحد يصفُّ معه ولا يصفُّ خلف الإمام وحده ولا يصفُّ خلف الصف وحده، فلما ترك واجبًا؛ نفى عنه الصلاة، متمشي مع القاعدة,
القارئ: لكن كان الشيخ الإسلام ما يرى نفي الصحة في مثل هذه الألفاظ كأنه يشير إلى نفي الكمال.
الشيخ: كمال الواجب
القارئ: كمال الواجب لا نفي الصحة، يعني معنى ذلك أن لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ عند شيخ الإسلام؛ أنه نفي كمال صحة وليس كمال وجوب أو كمال وجوب؟
الشيخ: لا، ترك واجبًا من واجبات الصلاة، لكنه رحمه الله يرى أنه يجوز له أن يصلي خلف الصف للضرورة إذا لم يستطع، لم يجد مكانًا ولا في الصف وحاول ولم يجد عن يمين الإمام؛ فإنها تصح للضرورة، كأنه يرى أنه يسقط هذا الواجب.
والقول الثاني لأهل العلم: أنها لا تصح حتى يأتي مَن يصفُّ معه، ويكون معذور في هذه الحالة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله -لما نفى عنه الصلاة-: "كَانَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ".
وهذا مثال آخر: وكذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [الحجرات: 15]، (إِنَّمَا) تفيد الحصر، بيَّن الله تعالى أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات:الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15].
فَمَن لم يأتِ بهذه الأمور؛ فإنه يُنفى عنه الإيمان؛ لأن إِنَّمَا تفيد إثبات الإيمان لمن تحققت فيه هذه الأوصاف ونفيها عن مَن لم تتحقق فيه الأوصاف؛ فدلَّ على أن هذه الأمور واجبة: الإيمان بالله ورسوله، وعدم الارتياب والشك، والجهاد.
وسيبيِّن المؤلِّف رحمه الله أنَّ كل واحدٍ من هذه الأمور واجبة، ولهذا دلت الآية على نفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بهذه الأوصاف، " إِنَّمَا " تفيد الإثبات والنفي، نفيد إثبات الإيمان لمن أتى بهذه الأوصاف، ونفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بها:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]
ولهذا قال المؤلف رحمه الله يبيِّن أن الجهاد واجب وترك الارتياب واجب، ترك الارتياب في قوله: ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15].
والجهاد، يقول المؤلف رحمه الله: "وَالْجِهَادُ -وَإِنْ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ- فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطَبُونَ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ إذَا تَعَيَّنَ".
فرض الكفاية يُخَاطَب به المسلمون جميعًا فإذا قام به مَن يكفي؛ سقط عن الباقين، لكن في الابتداء يُخَاطَب به الناس جميعًا، فعلى كل واحد اعتقاد وجوبه، يعتقد أنه واجب ويعزم على فعله إذا تعيَّن.
ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ.
هذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَهُمَّ بِهِ؛ كَانَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ".
من لم يهُم بالجهاد؛ فدلَّ على وجوبه، يعني من لم يهُم بالجهاد، الهَمّْ هو تحديث النفس، فسَّر تحديث النفس بالهَم، من لم يهُم بالجهاد ويحدث نفسه به والعزم على فعله إذا تعيَّن؛ مات على شعبة نفاق، فدلَّ على أن الجهاد واجب، على أن جنس الجهاد واجب، وأيضًا فالجهاد جنسٌ تحته أنواع متعددة ولابد أن يجب على المؤمن نوعٌ من أنواعه.
يبيَّن المؤلف رحمه الله أن هذه الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في الآية الكريمة دلت الآية على وجوبها، ونفي الإيمان عن مَن لم يأت بها قال لأنَّ:
أوَّلًا: الجهاد فرض كفاية، وفرض الكفاية يُخاطب به الناس جميعًا.
ثانيًا: جاء الحديث بأن مَن لم يعزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبةِ من نفاق؛ دَلَّ على أنه ينبغي على الإنسان أن يهُم به وأن يحدث نفسه وأن يعزم على فعله إذا تعيَّن.
ثالثًا: الجهاد جنس تحته أنواع متعددة ولا بد أن يجب على المؤمن نوعُ من أنواعها، فالجهاد أنواع، جهاد النفس: يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه وأن يأمر نفسه وينهاها، يجاهد نفسه في أداء الواجبات وفي ترك المحرمات، هذا واجب على كل أحد.
كذلك أيضًا من أنواع الجهاد: جهاد الفسَّاق وجهاد المنافقين وجهاد الكفار وجهاد الشيطان، هذه كلها أنواع من الجهاد، فالجهاد جنس تحته أنواع ولابد أن يجب على المؤمن نوعٌ منها، وأولها جهاد النفس، يجب على كل مؤمن أن يجاهد نفسه حتى يؤدِ ما أوجب الله عليه وحتى ينتهي عما حرَّم الله عليه.
كذلك أيضًا جهاد الفسَّاق، جهاد المنافقين بالدعوة إلى الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تعيّن عليه.
جهاد الكفار إذا تعيَّن، جهاد الكفار يكون بالنفس ويكون بالمال.
جهاد العصاة، جهاد الفسَّاق، جهاد النفس، كل هذه الأنواع، كلها أنوعٌ داخلة تحت جنس الجهاد فلابد أن يجب على المؤمن نوعٌ منها.
ولهذا فإن هذه الآية تدل على الإثبات والنفي، تدل على إثبات الإيمان لَمَن ذُكِر في الآية من الأوصاف، وتدل على نفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بهذه الأوصاف.
(المتن)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال:2-4 ].
"هَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَحُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي غَيْرِ آيَةٍ أَعْظَمَ مِمَّا أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَهَى عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى:فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ[هود:123]
وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[التغابن:13]
وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران:160]
وَقَالَ تَعَالَى:وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ[يونس:84]"
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله لايزال يذكر الأمثلة التي تدل على نفي الإيمان عن مَن ترك واجبًا من الواجبات.
ذكر المؤلف رحمه فيما مضى في الحلقة الماضية بعض الأمثلة، ثم قال رحمه الله: وكذلك قوله تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].
فهذه الآية بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن هذه الأمور التي ذكرها سبحانه واجبة وأن من ترك شيئًا منها فقد ترك الواجب، وهذا مُستَفَاد من " إِنَّمَا " لأن" إِنَّمَا " تفيد النفي والإثبات، (إِنَّمَا) تفيد الحصر، فالله تعالى قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2].
فذكر في هذه الآية وَجَل القلب عند ذِكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والتوكل على الله وإقام الصلاة والإنفاق مما رزق الله، فهذه الأمور الخمسة كلها واجبة.
ولهذا قال رحمه الله: هذا كله واجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الأوصاف؛ فدلَّ على أن مَن لم يأتِ بهذه الأوصاف قد أخل بواجب فيُنفى عنه الإيمان، وهذا مُستَفاد من (إِنَّمَا)، (إِنَّمَا) تفيد إثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الأوصاف، وتدل على نفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بهذه الأوصاف لكونه ترك واجبًا من واجبات الإيمان.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "هَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ".
ثُمَّ بيَّن المؤلف رحمه الله بيان وجوب هذه الأمور الخمسة، وبدأ بالتوكل قال: "فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ".
التوكل فريضةٌ عظيمة من فرائض الإسلام، والتوكل: هو الاعتماد على الله عَزَّ وَجَلَّ في القلب مع فعلِ الأسباب.
فالتوكل يجمع أمرين:
1- فعلُ الأسباب النافعة المشروعة.
2- ثم الاعتماد على الله عَزَّ وَجَلَّ في حصول النتيجة.
فالتوكل فريضةٌ عظيمة لابُدَّ منها، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى جعلَ التوكل شرطًا في صحة الإيمان، كقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23].
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَحُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ".
فكما أنَّ الإخلاص لله واجب، الإخلاص هو أن يكون العمل خالصًا لله، أن يخلص العبد عمله لله بأن يكون أصله وجه الله والدار الآخرة هذا واجب في كل عبادة يتعبد بها المسلم لربه عَزَّ وَجَلَّ، فكما أن الإخلاص واجب وكما أن حب الله وحب رسوله واجب فكذلك التوكل واجب، كلاهما من فرائض الإسلام، كلاهما فرضٌ على المؤمن، فرضُ على المؤمن أن يخلص عمله لله، فرضٌ عليه أن يحب الله ورسوله، وفرضُ عليه أن يتوكل.
ثُمَّ قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي غَيْرِ آيَةٍ أَعْظَمَ مِمَّا أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَهَى عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ".
يعني أن التوكل على الله في القرآن العظيم أمر الله به وأكد وجوبه على المسلم أعظم من وجوب الوضوء والغسل من الجنابة.
معلوم أن الوضوء والغسل من الجنابة شرطٌ في صحة الصلاة لا تصح الصلاة إلا بهما، فإذا كان الوضوء لابد منه وهو شرطٌ في صحة الصلاة، والغسل من الجنابة لابد منه ولا تصح الصلاة إلا به فكذلك التوكل لابد منه ولا يصح الإيمان إلا بالتوكل، بل هو أعظم، التوكل وجوبه أعظم من وجوب الوضوء والغسل من الجنابة؛ فدلَّ هذا على أن التوكل واجب.
ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى التوكل واجبًا من واجبات الإيمان، ونفى الإيمان عن مَن لم يتوكل، لأن هذه الآية تفيد إثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الصفات ونفي الإيمان عن مَن لم يتصف بهذه الصفات.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أهمية التوكل قال: "وَنَهَى" يعني الرب سبحانه وتعالى "ونهى عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ"
ثم ذكر الأمثلة فقال: " قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13]".
فأمر بالتوكل عليه في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، وكذلك: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13]، وقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160]، وقال سبحانه في إخبار موسى لقومه: قال الله تعالى عن موسى أنه قال لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]، فجاء التوكل شرط في صحة الإسلام، وفي الآية الأخرى يقول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].
وهذا يدل على أن التوكل فرض وأنه لابد منه وأنه واجبٌ عظيم من واجبات الإيمان، بل إن الله تعالى جعله شرطًا في صحة الإيمان في قوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].
القارئ: أراد المؤلف إدخال الأعمال القلبية في الإيمان بهذه الاستدلالات؟ أم لِذِكر أن هناك من أمور الإيمان ما ربما يُنفى أحيانًا في بعض نصوص الشرع؟
الشيخ: مراده أنَّ: الأعمال التي يُنفى الإيمان عن صاحبها يدلُّ على أنها واجبة سواء كانت من أعمال ومن أعمال الجوارح.
القارئ: فهو يذكر الأمثلة هنا لهذه الاستدلالات.
الشيخ: نعم ولهذا في هذه الآية الكريمة الأمور التي ذُكِرت في الآية منها ما هو من أعمال القلوب ومنها ما هو من أعمال الجوارح، ذكر وجل القلب عند ذِكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن هي أعمالٌ قلبية والتوكل عملٌ قلبي وبدني الصلاة والإنفاق أعمالٌ بدنية.
القارئ: هذا استمرارٌ للماضي لأن بُعد المستمع الكريم عنا لمدة أسبوع الآن من الحلقة الماضية حتى نربط فقط الذهن، هذا استمرارًا لما ذكرنا في الحلقة الماضية من الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله.
الشيخ: نعم، وأنا بيَّنتُ هذا في أول الكلام، قلت: أنَّ هذا المؤلف يستمر في البيان في ذِكر النصوص التي فيها إثبات الإيمان لمن أتى بالأعمال الصالحة ونفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بها.
(المتن)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا [الأنفال: 2]، فَيُقَالُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ.
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22]، فَأَخْبَرَ أَنَّك لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ كَمَا يَنْفِي أَحَدُ الضِّدَّيْنِ الْآخَرَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيمَانُ انْتَفَى ضِدُّهُ وَهُوَ مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ فِيهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ.
(الشرح)
وهذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله يبيِّن فيه وجوب وَجَلْ القلب عند ذِكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، لأنه بيَّن أن هذه الآية الكريمة ذُكِرت فيها هذه الأعمال التي هي واجبة، وهي تدل على نفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بها لأن إنما تفيد إثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الصفات ونفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بها.
بيَّن فيما سبق أن التوكل واجب وأنه لابد منه لأنه يُنفى الإيمان عن مَن لم يأتِ به، ثُمَّ الآن يريد أن يبيِّن رحمه الله وجوب وَجَل القلب عند ذِكر الله ووجوب زياد الإيمان عند تلاوة القرآن، وسيُطيل رحمه الله في هذا ويذكر لهذه الآية نظائر وأمثلة قال: " فَيُقَالُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ".
يقول المؤلف رحمه الله: إن الإيمان إذا وُجِد في القلب واستقر بالقلب؛ له لوازم، من لوازمه: وجل القلب عند ذِكر الله، من لوازمه: زيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، فإذا انتفى اللازم دَلَّ على انتفاء الملزوم، فإذا كان الإنسان مؤمنًا؛ فلا بد أن يكون عنده نوعٌ من وجل القلب عند ذِكر الله ولابد أن يكون عنده زيادة في الإيمان عند تلاوة القرآن.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَيُقَالُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ"
يعني هذا شيءٌ لازِم، يعني لو لم يقصد ذلك ولم يتعمد، إذا كان الإيمان ثابت في القلب فمِن لازِمه أن يكون عنده وَجل، ومِن لازِمه أن يكون عنده زيادة في الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن، وهذا اللازم لابد أن يوجَد لأنه حالةٌ مِن حالات القلب لا يحتاج إلى قص ولا تعمد، حالة من حالات القلب، حالة من حالات القلب إذا كان القلب فيه إيمان؛ فمن أحواله ومِن أعماله ومِن لوازِمه أن يكون عنده وَجَل إذا ذُكِر الله وأن يزيد إيمانه عند تلاوة القرآن.
فإذا لم يوجَد اللازم؛ دَلَّ على انتفاء الملزوم، الملزوم: الإيمان الذي في القلب، اللازم: وَجَلُ القلبِ عند ذِكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن.. هذه حالة من حالات القلب وعملٌ من أعماله، -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:03:11)) -- فمَن لم يَجِدْ عنده وَجَلَ القلب، ومَن لم يَجِدْ عنده زيادة عند تلاوة القرآن؛ يدل على ذلك أن هذا الإيمان الذي في القلب، ليس هذا الإيمان الذي في القلب لابد أنْ توجَد من هذه الحالة وهذا العمل، فإذا لم توجَد هذه الحالة وهذا العمل الذي هو لازمٌ من لوازمه؛ دَلَّ على انتفاء الملزوم.
فدل هذا على أن وجل القلب عند ذِكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن واجبٌ من واجبات الإيمان وينفى الإيمان عن مَن لم يأتِ بها لأنه يدل على انتفاء الملزوم، انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وهذا اللزوم يقول المؤلف رحمه الله: "يغير قصدٍ ولا تعمد" لأنه حالةٌ من حالات القلب وعملٌ من أعماله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَيُقَالُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا؛ لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدٍ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله مَثَّل بالنظير، قال: "وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22]".
مّثَّل المؤلف قال هذه الآية لها نظير، نظيرها الآية الأخرى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر، قال: فأخبر أنك لا تجد مؤمنًا يواد المحادين لله ورسوله، يعني لا تجد مؤمنًا يواد أعداء الله وأعداء رسوله، لماذا؟
قال: " فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ كَمَا يَنْفِي أَحَدُ الضِّدَّيْنِ الْآخَرَ" فهما ضدان فلا يجتمعان، فلا يجتمع في القلب الإيمان وموادَّة أعداء الله، لأن الموادَّة هي المحبة فلا يجتمعان، إذا وُجِدَ الإيمان في القلب؛ لابد أن يوجد بُغض أعداء الله ورسوله، وإذا وُجِد محبة أعداء الله ورسوله؛ انتفى الإيمان، ضدان لا يجتمعان، إذا وُجِد الإيمان؛ فلابد أن يوجَد بُغض أعداء الله ورسوله، إذا وُجِد في القلب محبة أعداء الله ورسوله؛ انتفى الإيمان، فهما ضدان فأحدهما ينفى الآخر، هذا نظير كذلك الآن إذا وُجِد في القلب استقر الإيمان في القلب؛ فلابد أن يكون عنده وجل عند ذِكر الله وزيادة في الإيمان عند تلاوة القرآن، فإذا لم يوجَد هذا اللازم؛ دَلَّ على انتفاء الملزوم، كما أن الضدين إذا وُجِد أحدهما؛ انتفى الضد الآخر كما في هذه الآية الكريمة: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22].
لا تجد مؤمنًا يجب أعداء الله أبدًا، فإن وجدته يحب أعداء الله؛ فاعلم أن الإيمان قد انتفى من قلبه، وإن وجدته يبغض أعداء الله ورسوله؛ فاعلم أن الإيمان استقر في قلبه، فهما ضدان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَأَخْبَرَ أَنَّك لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ" نفس الإيمان ينافي موادَّته يعني معاداته، ينافي محبة أعداء الله ورسوله، محبة مَن حادَّ الله ورسوله، " نَفْسَ الْإِيمَانِ يُنَافِي مُوَادَّتَهُ" يعني موادَّة مَن حاد الله ورسوله، كما ينفي أحد الضدين الآخر فإذا وجد الإيمان؛ انتفى ضده وهو موادَّة من حاد الله ورسوله، فإذا وجِد الإيمان؛ انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله، وإذا وُجِد مولاة أعداء الله؛ انتفى الإيمان، وإذا وجِد الإيمان فلابد أن ينتفي مولاة أعداء الله ورسوله، وإذا وجِد مولاة أعداء الله ورسوله في القلب؛ انتفى الإيمان، ضدان لا يجتمعان.
قال المؤلف رحمه الله: "فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ فِيهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ." هذا تنظير من المؤلف، هذه الآية نظير هذه الآية.
القارئ: يعني هذا حكم من شيخ الإسلام إذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلًا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، نَفْي كمال الإيمان؟
الشيخ: لا، نفْيُ الإيمان من أساسه؛ هذا ردَّة.
القارئ: مع موالاة أعداء الله.
الشيخ: نعم، موالاةُ أعداءِ الله ورسوله ردَّة مخرجة عن الإسلام.
القارئ: ما الذي أخرج هذا عن القاعدة التي ذكرها قبل قليل -أحسنَ اللهُ إليك- في وجود نفْي الكمال؟
الشيخ: ما خرجَ! هذه الآية فيها تنظير الآن، الآية ذكرها نظير للآية، نظير أن هذا يَلْزَم من هذا، يَلْزَم من هذا، كما أن القلب الآن إذا استمر فيه الإيمان فإنه يلزم منه وَجَلُ القلب عند ذِكر الله؛ فكذلك الإيمان يلزم منه عدم موالاة أعداء الله ورسوله، أما الحكم يختلف لأن هذا: محبة الكفار بالقلب تنافي أصل الإيمان.
(المتن)
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة: 80 ، 81]، فَذَكَرَ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ (لَوْ) الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة :81].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ أَوْلِيَاءَ؛ مَا فَعَلَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ.
( الشرح)
وهذه أيضًا كالآية السابقة كلها أتى بها المؤلف رحمه الله نظير لِما سبق وهو أنه يلزم من هذا الشيء شيءٌ آخر وأنه إذا انتفى اللازم؛ انتفى الملزوم.
قال: "وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة: 80 ، 81]" الآية من سورة المائدة، والله تعالى بيَّن أوصاف المنافقين قال سبحانه وتعالى في أول الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [(57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) [المائدة: 57 ، 58].
ثُمَّ قال بعد ذلك: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة: 80 ، 81].
قال المؤلف: "فَذَكَرَ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ (لَوْ) الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ".
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة :81] فهما ضدان، فلا يجتمع هذا مع هذا، فالإيمان بالله والنبي؛ يلزم منه عدم اتخاذ الكافر أولياء.
القارئ: هذا الشرط؟
الشيخ: نعم هذا الشرط: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [المائدة: 81]، والمشروط: مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81].
فإذا انتفى الشرط؛ انتفى المشروط، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [المائدة: 81].
فالشرط: الإيمان بالله والنبي وما أنزِل إليه عدم اتخاذهم أولياء، فإذا اتخذوهم أولياء؛ انتفى الإيمان، الإيمان بالله والنبي شرطه ألا يتخذوهم أولياء، يعني عدم اتخاذ الأولياء شرط في صحة الإيمان، فإذا انتفى هذا الشرط وهو عدم اتخاذهم أولياء بأن اتخذوهم أولياء؛ انتفى المشروط وهو الإيمان، (لو) حرف امتناع الامتناع، يمتنع إيمانهم بالله والنبي وما أُنزِل إليه لاتخاذهم أولياء، فإذا اتخذوهم أولياء؛ انتفي الإيمان، وإذا لم يتخذوهم أولياء؛ وُجِد الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ".
الإيمان المذكور: يعني الإيمان بالله والنبي وما أُنزِل إليه ينفي اتخاذ الكفار أولياء ويضادَه، "وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ"، لا يجتمعان، هم يؤمنوا بالله ورسوله ويتخذوا الكفار أولياء؛ هذا لا يمكن.
ودل ذلك على أن مَن اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب الذي من الإيمان بالله والنبي وما أُنزِل إليه كما سبق أنه نفي لانتفاء الإيمان الواجب، وهذا ينفي الإيمان بالكلية، معلوم أن الواجب الذي أوجبه الله على المسلم ألا يتخذ الكفار أولياء، فإذا اتخذهم أولياء؛ انتفى الإيمان؛ لأنها ضدان، اتخاذ الكفار أولياء، يعني: يحبهم بقلبه محبةً دينية، هذا كفر وردة نسأل الله السلامة والعافية.
سائل: قوله عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب: «لأستغفرنَّ لكَ ما لمْ أُنهَ عنكَ»، وهو مات على الشِرك، فيكون هذا محبةٌ لعمِّه؟
الشيخ: نعم، أبو طالب مات على الشِرك كما هو معلوم، ولكنه كان يدافع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحميه ويذب عنه، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرصَ على هدايته، وحرص على أن يتكلم بكلمة التوحيد ولكن الله -وله الحكمة البالغة- لم يقَدِّر له الهداية، ومات على الشرك، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله كما ثبت في صحيح البخاري.
والقصة معروفة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه لما حضرته الوفاة، وقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةٌ أحاجُّ لك بها عند الله، وكان عنده قرناء السوء: أبو جهل وأمية، وقال له عبد الله بن أمية وصاحبه: أترغب عن مِلَّةِ أبيك عبد المطلب؟
ذكرَ له الحُجَّة الملعونة؛ وهي تعظيم الآباء والأجداد، وعدم الشهادة عليهم بالكفر، وسببُ ذلك أنه كان يذود عنه ويحميه ويدافع عنه حتى يبلِّغ دعوته.
فهذه الحماية وهذا الدفاع جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو له ما لم يُنهَ عنه، ولا يدل على أنه يحبه محبةً دينية، إنما هذه محبة من أجل أنه خفَّ كُفْرُه بالدفاع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدفاع عن الدعوة.
ولهذا فإنه يشفع له يوم القيامة شفاعةَ تخفيفٍ، ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع له يوم القيامة، قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ الله، إن أبا طالب يحميك ويؤويك فهل نفعته؟ قال: نعم، وجدته في غمراتٍ من نار، فأخرجته إلى ضحضاح منها يغلي منها دماغه، وفي لفظٍ: إن أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وإنه لينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه، وفي لفظٍ: إن أهون أهل النار عذابًا لرجلٌ في أخمصيه جمرتان يغلي منهما دماغه، في لفظٍ: رَجُل له شراكان من نارٍ؛ يغلي منهما دماغه.
هذا أهون أهل النار، وهو يظن أنه أشدهم لكن من شدة ما يجد -نسأل الله السلامة والعافية-، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفع له شفاعة تخفيف، ولما أراد أن يستغفر له نزل القرآن، نهاه الله، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) [التوبة: 113]
وأنزل في أبي طالب تسليةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) [القصص: 56].
(المتن)
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51].
فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا،. وَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ؛ فَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] الْآيَةَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ الْمَذْكُورَ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَذْهَبَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فَمَنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ حَرْفَ " إنَّمَا " تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ (إنَّ) لِلْإِثْبَاتِ وَ (مَا) لِلنَّفْيِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا دَلَّتْ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ، فَإِنَّ (مَا) هَذِهِ هِيَ الْكَافَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى إنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اخْتَصَّتْ بِالْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ فَلَمَّا كُفَّتْ بَطَلَ عَمَلُهَا وَاخْتِصَاصُهَا فَصَارَ يَلِيهَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ وَالِاسْمِيَّةُ؛ فَتَغَيَّرَ مَعْنَاهَا وَعَمَلُهَا جَمِيعًا بِانْضِمَامِ (مَا) إلَيْهَا وَكَذَلِكَ كَأَنَّمَا وَغَيْرُهَا.
(الشرح)
فلا يزال المؤلِّف رحمه الله يسرد الأمثلة التي فيها بيان أنه إذا نُفِي الإيمان عن بعض الأعمال الصالحة وبعض أعمال البِر، إذا نُفِيَ الإيمان عن صاحبها؛ دَلَّ على أنه ترك واجبًا من الواجبات.
وبيَّن أن من الآيات التي فيها إثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الصفات ولِمَن أدى هذه الواجبات ونفي الإيمان عن مَن نُفِيَت عنه أو نُفِيَ بعضها؛ ذكر قول الله تعالى فيما سبق في الحلقة الماضية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].
فإنَّ الله تعالى أثبت الإيمان لِمَن أتى بهذه الأعمال: وجل القلب عند ذِكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فدلَّ على نفي الإيمان على مَن لم يأتِ بواحدٍ منها أو بهذه الواجبات، لأن " إنما " نفيد اثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الصفات ونفي الإيمان عن مَن لم يأتِ بها.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن وَجَلَ القلب عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن هذا لابد منه إذا ثبت الإيمان في القلب لأن من أحوال القلب وأعماله أنه لابد أن يوجل عند ذِكر الله وأن يزيد الإيمان عند تلاوة القرآن وأن هذا أمرٌ لابد منه لأنه من لوازم الإيمان ويحصل في القلب حالة من حالات القلب بغير قصدٍ ولا تعمُد.
ثم ذكر نظيرًا لذلك فقال نظير ذلك قول الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22].
فنفي الإيمان عن من يوادّ من حاد الله ورسوله، ثم ذكر مثالًا آخر فقال قول الله تعالى: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 80، 81]
فنفى الإيمان عن مَن اتخذهم أولياء، ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51]"
فهذه آية المائدة، والله تعالى ذكر صدر هذه الآية خطاب للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51].
يقول المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا".
يعني في الآيات السابقة: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81].
أخبر الله: أن مُتولي الكفار لا يكون مؤمنًا، وهذه الآية أخبر فيها أن متوليهم هو منهم، والمعنى واحد، فإنه أخبر في تلك الآية أن متوليهم لا يكون مؤمنًا وأخبر في هذه الآية أن متوليهم يكون منهم، والمعنى واحد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا".
فإن المتولي لا يكون مِن المؤمنين، وإذا لم يكن من المؤمنين؛ كان مِن الكافرين، فبيَّن المؤلف رحمه الله أن المعنى واحد، فكونه في الأول نُفِي الإيمان عن مَن تولاهم وهنا أثبت أن مَن تولاهم هو منهم: المعنى واحد، وذلك أن القرآن يصدِّق بعضه بعضًا ويوافق بعضه بعضًا ويؤيد بعضه بعضًا.
ثُمَّ استدلَّ المؤلف بقول الله تعالى، قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23].
فقوله: {مُتَشَابِهًا} أي: يشبه بعضه بعضًا، ويؤيِّد بعضه بعضًا في الصدق والتوافق والتأييد، فالمتشابه هذا وصف للقرآن كله بأنه متشابه، والمتشابه هنا ضد المختلف، فإن المتشابه الذي يوافق بعضه بعضًا ويؤيد بعضه بعضًا ويصدِّق بعضه بعضًا وينصر بعضه بعضًا، المتشابه ضد المتنافي.
ومعنى كونه متشابه يصدِّق بعضه بعضًا: أنه إذا أمر بشيء في موضع؛ لم ينهَ عنه في موضع آخر وإنما يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء؛ لم يأمر به في موضعٍ آخر وإنما ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته، وإذا أخبر بشيء؛ فإنه لا يُخبِر بضده في موضعٍ آخر، بل يخبر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نفى شيئًا؛ فإنه لا يثبته في موضعٍ آخر، بل ينفيه أو ينفي نظيره أو ملزوماته، وإذا أثبت شيئًا؛ فلا ينفيه، بل يثبته أو يثبت نظيره أو ملزوماته.
هذا المتشابه الذي يصدِّق بعضه بعضًا ويوافق بعضه بعضًا، ويؤيد بعضه بعضًا، بخلاف الأقوال المختلفة المتناقضة فإنه ينقض بعضه بعضًا، فتجد الأقوال المتناقضة المتنافية يأمر بالشيء في موضعٍ آخر ثم ينهى عنه في موضعٍ آخر، يخبِر بالشيء ثم يخبر بضده، ينفي الشيء ثم يثبته، هذه هي أقوال المتناقضة المتنافية، ولهذا قال الله عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء: 82].
قوله سبحانه وتعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) [الذاريات: 8] تجده يجمع بين المختلفين، يفرِّق بين المتماثلين هذه هي الأقوال المتناقضة، أما القرآن فإنه متشابه، أي في الصدق والتأييد، يصدِّق بعضه بعضًا ويؤيد بعضه بعضًا وينصر بعضه بعضًا يوافق بعضه بعضًا، هذا معنى قوله "متشابهًا"، ومن ذلك هذه الأمثلة، فإن الله سبحانه أخبر في آية أن مَن اتخذ الكفار أولياء؛ فإنه لا يكون مؤمنًا، وأخبر في هذه الآية أن مَن اتخذ الكفار أولياء؛ فإنه منهم.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ الْمَذْكُورَ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَذْهَبَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، فَمَنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ".
واضح لأن (إنما) تفيد أن الإيمان يقتضي أن من الإيمان استئذان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمَن ذهب ولم يستأذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه يُنفى عنه الإيمان لكونه ترك واجبًا من الواجبات، وهذا مفهوم من قول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُون[النور: 62].
{إنما} تفيد إثبات الإيمان لِمَن اتصف بهذه الصفات ونفي الإيمان عن مَن ترك شيئًا منها لكونه ترك واجبًا من واجبات الإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ حَرْفَ " إنَّمَا " يدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِهِ." الذكور في هذه الآية
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62].
فمن استأذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذهابه فهذا دليلٌ على إيمانه، ومَن لم يستأذن دَلَّ على أنه ترك واجبًا من واجبات الإيمان، وهذا مفهوم من {إنما}، {إنما} تدلُّ على إثبات المذكور ونفي غيره.
يقول المؤلف رحمه الله:
"وَمِنْ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ (إنَّ) لِلْإِثْبَاتِ وَ (مَا) لِلنَّفْيِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا دَلَّتْ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ".
وهذا يقوله بعض الأصوليين، ذكر عن بعض الأصوليين ذكروا هذا، ولكن المؤلف رحمه الله لم يقتضِ هذا وقال إن هذا ليس بصحيح عند أهل العربية ومن يتكلم في ذلك بعلم.
وذلك أن (ما) التي قُرِنَت بـ (إنَّ) هذه هي الكافَّة تسمى الكافَّة التي تدخل على إن وأخواتها فتكفها عن العمل؛ لأنَّ (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، فإذا دخلت عليها (ما)؛ ألغت عملها وكفَّتها.
يُقال لها: الكافّة، فلما كُفَّت؛ بطل عملها وبطل اختصاصها فصار يليها الجُمَل الفعلية والاسمية، وكانت قبل ذلك يليها الجُمل الاسمية؛ لأن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، فلما دخلت عليها (ما) كفَّتها وأبطلت عملها وأبطلت اختصاصها؛ فتغيَّر معناها وتغيَّر عملها بانضمام (ما) إليها، وكذلك : (كأنما) وغيرها.
(المتن)
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور: 47 - 52].
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا هُوَ الْفَاعِلَ لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ: فَقَدْ قَالَ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4]، وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [الحجرات: 15].
وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [النور: 62].
قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجَلَ قُلُوبِهِمْ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَزِيَادَةَ إيمَانِهِمْ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ؛ فَكَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاقِي؛ فَإِنَّ وَجَلَ الْقَلْبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ وَالْخَوْفَ مِنْهُ.
وَقَدْ فَسَّرُوا (وَجِلَتْ) بفرقت.
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إذَا ذُكِرَ اللَّهُ فَرِقَتْ قُلُوبُهُمْ). وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْوَجَلَ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْخَوْفُ يُقَالُ: حُمْرَةُ الْخَجَلِ وَصُفْرَةُ الْوَجَلِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) [المؤمنون: 60].
قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَخَافُ أَنْ يُعَاقَبَ؟ قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ.
وَقَالَ السدي فِي قَوْله تَعَالَى: الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]
هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةِ فَيَنْزِعُ عَنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) [النازعات: 40 - 42]
وَقَوْلِهِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ؛ فَيَتْرُكُهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ.
(الشرح)
لازال المؤلِّف رحمه الله يذكر الأمثلة التي تبيِّن أن ذِكر الأعمال الصالحة وأعمال البِر يدل على أنها من الإيمان وأنها إذا نُفِيَت يدل على أنه ترك واجبًا من واجبات الإيمان.
قال: "وكذلك قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) [النور: 47 - 49] الآيات من سورة النور".
بيَّن الله تعالى في هذه الآية صفات المنافقين، قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور: 47]
نفي الله عنهم الإيمان لكونهم تركوا واجبًا من واجبات الإيمان وهو التولي عن الله ورسوله والإعراض عن طاعة الله ورسوله، يقولون: آمنا بالله وبرسوله، هذه دعوة -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:32:26)) -- وأطعنا ثم يتولون، كقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى، في آية البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) [البقرة: 8، 9].
دلَّ هذا على أنَّ الطاعة واجبة، وأنَّ طاعة الله ورسوله واجبة، وأنَّ مَن لم يطع الله ورسوله؛ فقد ترك واجبًا من واجبات الإيمان، ولهذا قال: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور: 47]، نفَى عنهم الإيمان.
فالمؤلِّف رحمه الله لا يزال يسرد الأمثلة والأدلة التي تدل على أن ذِكر أعمال البِر والأعمال الصالحة إذا ذُكِرَت في نص ونُفِي الإيمان عن صاحبها؛ دَلَّ على أنه ترك واجبًا من الواجبات، قد يكون هذا الواجب ينافي أصل الإيمان وقد ينافي كماله الواجب.
هنا ذكر الله سبحانه وتعالى في أوصاف المنافقين أنهم يتولون عن طاعة الله ورسوله ثم نفى عنهم الإيمان فقال: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور: 47] فدلَّ على أن الطاعة واجبة وأنَّ مَن لم يطع الله ورسوله يُنفى عنه الإيمان لكونه ترك ما أوجب الله عليه، ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور: 48].
فذكر الإعراض عن التحاكُم إلى الله ورسوله دليلٌ على أنه واجب، على أن التحاكُم إلى الله ورسوله واجب فمَن أعرض عنه؛ فإنه يُنفى عنه الإيمان لكونه ترك الواجب.
ثُمَّ قال: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) [النور: 49، 50] يعني أن هؤلاء المنافقين لا يطيعون الله ورسوله ولا يقبلون حُكم الله ورسوله إلا إذا كان لهم، أما إذا كان عليهم؛ فإنهم يعرضون.
وهذا يدل على أنهم تركوا واجبًا من واجبات الإيمان، وأن واجبات الإيمان، واجبة على المؤمن يجب عليه أن يطيع الله ورسوله وأن يقبل حُكم الله ورسوله سواءُ كان له أو عليه، وأن الإنسان إذا تولى عن طاعة الله ورسوله ولم يقبل حُكم الله ورسوله إذا لم يكن له؛ دَلَّ على أنه ترك واجبًا من واجبات الإيمان.
ولهذا بيَّن الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء يقبلون حُكم الله ورسوله إذا كان لهم، ولا يقبلون حُكم الله ورسوله إذا كان عليهم بل يعرضون.
ولهذا قال تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) [النور: 48 - 51].
في قلوبهم مرض وهو مرض النفاق، هذا مرض النفاق، والمرض مرضين: مرض الشهوة ومرض الشبهة، وأشد المرضين مرض الشبهة، هذا مرض الشبهة وهو الشك والنفاق.
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا [النور: 50] أم شكوا، أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور: 50]؛ يعني هل يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله أن يخافون الظلم من الله ورسوله، يخافون أن يظلمهم الله وأن يظلمهم رسوله، الحَيْف هو الظلم، أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور: 50]، ثُمَّ قال تعالى: بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50 [النور: 50] حَكَم عليهم بالظلم، والظلم كما هو معلوم ثلاثة أنواع:
الأوَّل: ظُلم النفس بالشرك: وهذا أعظمها.
والثاني: ظُلم العدوان على الناس في الدماء، أو في الأموال، أو في الأعراض.
والثالث: ظُلم النفس ما دون الشِرك.
وهذه الآيات في المنافقين، فهؤلاء لم يؤمنوا بالله ورسوله، ولم يقبلوا حُكم الله ورسوله؛ فحكم عليهم بالظلم، وهذا يدلُّ على شركهم ونفاقهم.
ثم بيَّن وصف المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور: 51، 52].
دلَّ هذا على أنَّ الواجب على المؤمن أن يقبل حُكم الله ورسوله وأن يسمع ويطيع لحُكم الله ورسوله، وهو يدل على أن مَن لم يسمع ويطع لله ورسوله يدل على أنه ترك واجبًا من واجبات الإيمان؛ لأن (إنما) تفيد إثبات الإيمان لِمَن فعل ذلك ونفي الإيمان على مَن لم يفعله، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [النور: 51، 52].
ثم قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا هُوَ الْفَاعِلَ لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ: فَقَدْ قَالَ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ".
يشير إلى الآية التي ذكرها وهي آية الأنفال، ذَكر اللهُ خمسة أشياء فيها، وهي: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) [الأنفال: 2، 3].
خمسة أشياء ذكرها في حلقةٍ مضت؛ لأن الكلام يتعلَّق بعضه ببعض، فالكلام متصل بعضه ببعض، والمؤلف رحمه الله لا يزال يتكلم عن الآية الأولى؛ آية الأنفال.
هنا يُورِد سؤال: فإن قيل إذا كان المؤمن حقًّا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات وقد قال سبحانه وتعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] حصر الإيمان فيمَن فعل هذه الخمسة أشياء، فهل يُقال: إنَّ ما عَدَا هذه الخمسة أشياء ليس واجبًا؟ فالله تعالى ذكر خمسة أشياء قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] وَجَلُ القلب عند ذِكر الله.
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] زيادة الإيمان عند ذِكر الله، عند تلاوة القرآن.
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] التوكل على الله.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ [الأنفال: 3] هذه هي الرابعة: إقام الصلاة.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 3] الإنفاق مما رزقهم اللهُ.
خمسة أشياء، ثُمَّ قال: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] بقيَّةُ شرائع الإسلام، أين هي؟ بقيَّة شرائع الإسلام ماذا يُقال عنها؟ بقيَّة الواجبات؟
وكذلك قال في الآية الأخرى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [الحجرات: 15، 16] حصر المؤمنين في مَن اتصفوا بهذه الصفات: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا: أي لم يشكوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
وكذلك الآية الثالثة في سورة النور: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] حصر الإيمان في هؤلاء.
قال المؤلف رحمه الله: "قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ": الجواب: أن خامس هذه الخمسة الأشياء التي ذُكرت في الآية تستلزم بقية الواجبات.
فالله تعالى ذكر في سورة الأنفال خمسة أشياء من واجبات الإيمان: وجل القلب عند ذِكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكُّل على الله، وإقام الصلاة، والإنفاق.
فهذه الواجبات الخمس تستلزم بقية الواجبات، كما انه ذكر في آية الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [الحجرات: 15، 16].
ذكر ثلاثة أشياء:
1- الذين آمنوا بالله ورسوله.
2- ثم لم يرتابوا: لم يشكوا.
3- وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ثلاثة أشياء، وهذه الثلاثة أشياء تستلزم بقية الواجبات، كما أنه ذكر في آية النور: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62].
فذكر الإيمان بالله ورسوله واستئذان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فهذان الأمران اللذان ذُكِرا في هذه الآية وثلاثة أمور التي ذُكِرت في آية الحجرات والخمسة أمور التي ذُكِرت في آية الأنفال تستلزم بقية الواجبات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: الجواب الأول "أن يُقال أن ما ذُكِر يستلزم ما تُرِك".
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله بيَّن كيف يستلزم هذه الواجبات بقية الواجبات الأخرى فقال: ": (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ وَجَلَ قُلُوبِهِمْ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَزِيَادَةَ إيمَانِهِمْ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ".
هذه هي الخمسة أشياء، قال: فكان هذا مستلزِمًا للباقي، كانت هذه الواجبات الخمس تستلزم الواجبات الأخرى.
ثم بيَّن ذلك فقال: "فَإِنَّ وَجَلَ الْقَلْبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ وَالْخَوْفَ مِنْهُ" ، كما سيبيِّن المؤلف رحمه الله أن الخشية والخوف تستلزم أداء الواجبات وترك المحرمات، الخوف والخشية، الخوف الصادق يحمل صاحبه على أداء الواجبات وترك المحرمات.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَإِنَّ وَجَلَ الْقَلْبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ وَالْخَوْفَ مِنْهُ وَقَدْ فَسَّرُوا (وَجِلَتْ) بفرقت. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إذَا ذُكِرَ اللَّهُ فَرِقَتْ قُلُوبُهُمْ) "، وجلت يعني خافت،.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْوَجَلَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخَوْفُ يُقَالُ: حُمْرَةُ الْخَجَلِ وَصُفْرَةُ الْوَجَلِ"؛ الخجل له حُمرَة والوجل له صُفرة، "ومنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60]".
هذا يدلُّ على أن خوفهم يحملهم على أداء الواجبات، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا [المؤمنون: 60] يعني: يؤدون ما يؤدون من الواجبات وقلوبهم وجلة: أي خائفة، أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60].
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَخَافُ أنْ يُعاقب؟ هو على -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:42:20)) -- التقدير: أهون، أهو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يُعَاقب؟ يعني يؤتون ما آتوا، يعني: يفعلون السيئات والمعاصي ويخافون أن يُعاقبوا عليها؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، هو الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُ. رواه الإمام أحمد وابن ماجه.