(المتن)
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فسَّرنا في الحلقة الماضية أنَّ المؤلِّف رحمه الله بيَّن أنَّ الله سبحانه وتعالى ذَكر في سورة الأنفال خمسة أمور من واجبات الإيمان، وأنَّه يُنفى الإيمان عمنّ لم يأت بها؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} [الأنفال:2].
فهذه الآية تُفيد أنَّ هذه الأمور مِن واجبات الإيمان، وتُفيد نَفي الإيمان عمنّ لَم يأتِ بها، أو بواحدةٍ منها، وهذا يدلُّ على وجُوبها، ثُمَّ أَوردَ المؤلِّف رحمه الله سؤالًا فقال: "فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا هُوَ الْفَاعِلَ لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ"، "وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ".
والواجبات وواجبات الإيمان أكثر مِن هذا، أكثر مِن هذا العدد، وكذلك أيضًا آية الحُجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحُجُرات:15]، وآية النور: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62].
فأجاب المؤلِّف رحمه الله بجوابين فقال: الجواب الأول: "أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ مُسْتَلْزِمًا لِمَا تَرَكَ، ثُمَّ بينَّ أنَّ وجل القلب -الذي هو مِن الأمور الخمسة- وجل القلب هو خوفٌ، والخوف يستلزم أداء الواجبات وترك المحرَّمات، واستدل بحديث عائشة حينما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون: 60]، فقالت عائشة: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الرجل الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ, وَهُوَ يَخَافُ أن يُعاقب؟ قَالَ: لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ هو رجلٌ يُصَلِّي, وَيَصُومُ, وَيَتَصَدَّقُ, وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ».
ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: "وَقَالَ السدي فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35] هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةِ فَيَنْزِعُ عَنْهُ".
هذا فيه بيان أنَّ الخوف يحمل الإنسان على ترك المعاصي، "هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةِ فَيَنْزِعُ"؛ فينزع عن هذا الظلم وعن هذه المعصية؛ بسبب الخوف الذي استقر في قلبه.
فوجلُ القلب وخوفهُ يحمل الإنسان على أداء الواجبات وتَرْك المحرَّمات، فدلَّ هذا على أنَّ هذه الخمس التي ذُكرت في آية الأنفال تستلزم أداء الواجبات وترك المحرَّمات، وأنَّ وَجل القلب يحمل الإنسان على أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
ثُم بيَّنّ المؤلِّف رحمه الله أيضًا نظيرًا لذلك، قال: "وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]".
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40]؛ يعني مَن خاف الوقوف بين يديه، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41].
فخوف الإنسان مِن وقوفه بين يدي الله عز وجل يحملهُ على أن ينهى نفسه عن هواها، فإنَّ النفس أمَّارةً بالسوء، فخوفهُ مِن الله عز وجل الذي استقرَّ في قلبِهِ يحمله على ترك المعاصي، وعلى أداء الواجبات، فالخوف الصادق يحمل صاحبه على أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
ولهذا وَعده سبحانه وتعالى بالجنة، وعد الخائف بالجنة، قال: { {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]، وقوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46]، لولا أنَّ الخوف يَستلزم أداء الواجبات وترك المحرَّمات لما وعد الله الخائف بالجنَّة.
ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله: "قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ؛ فَيَتْرُكُهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ".
وهذا يدلُّ على أنَّ الخوف يستلزم ترك المعاصي، الخوف الصادق يحمل صاحبه على ترك المعاصي، ويحمل صاحبه على طاعة الله عز وجل.
(المتن)
قال رحمه الله: وَإِذَا كَانَ وَجَلُ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ يَتَضَمَّنُ خَشْيَتَهُ وَمَخَافَتَهُ؛ فَذَلِكَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ.
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى، وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ الِافْتِقَارِ، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} [الأعراف: 154] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِلَّذِينَ يَرْهَبُونَ اللَّهَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَيَذْكُرَ مَقَامَ اللَّهِ فَيَدَعَ الذَّنْبَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ ابْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هما فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَلَاحِ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5]، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ الْمُتَّقُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1، 2]، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]، وَإِذَا لَمْ يَضِلَّ فَهُوَ مُتَّبِعٌ مُهْتَدٍ، وَإِذَا لَمْ يَشْقَ فَهُوَ مَرْحُومٌ.
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
فَإِنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْهُدَى لَيْسُوا ضَالِّينَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ رَهْبَةِ اللَّهِ يَكُونُونَ مُتَّقِينَ لِلَّهِ مُسْتَحِقِّينَ لِجَنَّتِهِ بِلَا عَذَابٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ.
(الشرح)
يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَإِذَا كَانَ وَجَلُ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ يَتَضَمَّنُ خَشْيَتَهُ وَمَخَافَتَهُ؛ فَذَلِكَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ".
إذا كان وجل القلب من ذِكر الله عَزَّ وَجَلَّ يتضمن خشيته ومخافته، فالخشية والمخافة تدعوا صاحبها إلى فعل المأمور وترك المحظور، وهذا يُبيِّن ما أقرَّهُ المؤلِّف رحمه الله: بأنَّ هذه الأشياء الخمسة التي ذُكرت في سورة الأنفال أنها مِن الإيمان تستلزم ما عداها، فهذا واحدٌ مِن هذه الأمور الخمسة، وهو وَجَلُ القلب عند ذكر الله.
وَجل القلب عن ذِكر الله يتضمن الخشية والخوف، يتضمن خشية الله وخوفه، وخشية الله وخوفه يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور، وإذا فعل الإنسان المأمور وترك المحظور فقد أدَّى ما أمر الله به.
إذا أدى الأوامر، وانتهى عن النواهي، فقد أدَّى ما عليه، فتبيَّن أنَّ وَجل القلب الذي هو أحد الأمور الخمسة يدعو صاحبه إلى أداءِ بقيةِ واجبات الإيمان.
"قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"؛ وهو سهل بن عبد الله الثري، "لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى"؛ يعني يكون الإنسان يدَّعِي ولا يعمل، الدعوة لابُدَّ لها مما يُصدِّقُها، فمن ادَّعى شيئًا فلابُدَّ أن يُثبت هذه الدعوة بالعمل الذي يُصدِّقُها.
فمَن ادعى مخافة الله عَزَّ وَجَلَّ فإنه يُنظر إلى عمله؛ إن كان يؤدي ما أوجب الله عليه، ويترك ما حرَّم الله عليه فهو صادقٌ في مخافتهِ، وإن كان يعصي الله ولا يُطيع الله ورسوله فهو كاذبٌ في دعواه.
ولهذا "قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى، وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ الِافْتِقَارِ"؛ فيفتقر بين يدي الله عز وجل، ويتواضع لله عز وجل، ويستكين ويؤدِّي ما فرض الله عليه، ويترك ما حرَّم الله عليه تواضعًا وخضوعًا لله عز وجل، ومحبةً وإجلالًا وخوفًا ورجاءً، هذا هو الطريق إلى الله.
يقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ".
القارئ: انتهى كلام سهل بن عبد الله، وهذا كلام المؤلِّف رحمه الله.
الشيخ: مُحتمل، ما فصَّل بينها، الأقرب أنَّه من كلامه فيحتاج الرجوع إلى كلام سهل في هذا -- ((@ كلمة غير مفهومة- 08:49)) -- في "حلية الأولياء" -- ((@ كلمة غير مفهومة- 08:56)) -- فئة الاعيان
"وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ" والأقربُ أنَّه من كلام المؤلِّف، فيحتاج إلى الرجوع إلى كلام سهل هذا، وهو موجود في حلية الأولياء، -- ((@ كلمة غير مفهومة- 08:55)) -- فئة الأعيان.
"وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ"، والأقرب أنه كلام المؤلِّف كان ظاهرًا، قال: "وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ"، والأقرب أنَّه من كلام المؤلِّف، قال: "وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ الِافْتِقَارِ"، ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله : "وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ".
لماذا؟ لأنَّ الخوف يحمل صاحبهُ على أداء الواجب، الخوفُ الصادق، وهذا الخوف الصادق، أمَّا الدعوى فلا، كونه يدَّعي مخافة الله وهو مقيمٌ على معاصي الله، هذه دعوى لا تنفع.
لكن الخوف الصادق هو الذي يحمل صاحبه على أداء الواجبات وترك المحرَّمات، أمَّا الخوفُ الكاذب والدعوى، هذه دعوى، خوفٌ كاذب، كونَهُ يدِّعي خوف الله وهو مقيم على معاصيه، هذه دعوى فلا، لا تُقبل مِن صاحبهِ، ولهذا قال سهل بن عبد الله: "لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِنْ الدَّعْوَى".
ويقول المؤلف رحمه الله: " وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ"؛ لأنه يحمل صاحبه على أداء الواجبات وترك المحرَّمات، ولهذا وعد الله الخائف بالجنة، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] كما سبق.
وقال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ"؛ يعني أنَّ الخوف مِنّ الله أصل كل خير في الدنيا والاخرة قول الله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} [الأعراف: 154]. {يرهبون}؛ يعني يخافون. الرهبة: هي الخوف.
"فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِلَّذِينَ يَرْهَبُونَ اللَّهَ"، الهُدى والرحمة للخائفين، هذا يدلُّ على أن الخوف أصلُ الخيرِ، أصل كل خير في الدنيا والاخرة هو الخوف، وذلك أنَّ الله أخبر: أنَّ الهدى والرحمة للخائفين، للذين يخافون الله.
"قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَيَذْكُرَ مَقَامَ اللَّهِ فَيَدَعَ الذَّنْبَ".
هذا قول مجاهد وإبراهيم في بيان الخائف، يقول: "هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُذْنِبَ الذَّنْبَ فَيَذْكُرَ مَقَامَ اللَّهِ فَيَدَعَ الذَّنْبَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ ابْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنهما فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]".
يعني على هذه الآية بيَّن الخائف: أنّهُ هو الرجل يُريد أنَّ يذنب الذنب فيذكر مقام الله -يعني الوقوف بين يديه- فيدع الذنب، وهؤلاء -يعني الخائفون-: هم أهل الفلاح المذكورون في قول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:5]، وهم المؤمنون وهم المتقون، فدلَّ على أنَّ..
النصوص يُعيد بعضها إلى بعض؛ فالخائفون مِنّ الله هم أهل الفلاح وهم أهل التقوى، وهم المتقون الذين ذكرهمُ الله في قولهِ في أول سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 1 - 5].
فالقرآن يُصدِّق بعضهُ بعضًا، فأهل الخوف مِن الله، أهل الخشية، الخائفون من الله: هُم أهل الهداية، وهُم أهل التقوى، وهم المؤمنون بالله ورسوله، وهم الذين يؤمنون بالله وبما أنُزل على رسولَهُ، وبما أُنزل على مَن قبله، وهم الذين ذكرهم الله في آية البر، في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
لَمَّا ذَكر الأعمال العظيمة، أعمال.. خصال البر، في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} مع الله وهم المُتقون، الذين أتوا بهذه الخصال: هم أهل الخشية، وهم أهل الخوف، وهم أهل الإيمان، وهم أهل التقوى، "وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}"؛ هم المتَّبعون للهُدى، والمتَّبعون للهُدى لا يَضِلُّون ولا يشقون.
"وَإِذَا لَمْ يَضِلَّ فَهُوَ مُتَّبِعٌ مُهْتَدٍ"، الذي لا يَضل يكون مِن المُتبعين، مِن المُهتدين، "وَإِذَا لَمْ يَشْقَ فَهُوَ مَرْحُومٌ".
فدلَّ هذا على أنَّ هؤلاء المؤمنون الخائفون مِن الله مُتبعون مُهتدون مرحومون، وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم مِن النبيين الصديقين والشهداء والصالحين، أهل الصراط المستقيم الذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل، وهم الذين عبدوا الله على بصيرة، هم الذين أنعم الله عليهم.
وهم أربعة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والُشهداء، والصالحون.
"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ"؛ يعني غير.. سلكوا الصراط المستقيم ولم يسلكوا طريق المغضوب عليهم، وهم الذين معهم علم ولم يعملوا بهِ، تخلَّف العمل ويدخُل في ذلك الأولين مِنَّ اليهود.
وكُلُّ مَن عندهُ علم ولم يعمل به فهو مغضوبٌ عليه.
وكذلك الضالون؛ الضالون؛ خلَّف العلم، يعملون لكن على جهلٍ وضلالة، وكلُّ مَن تعبَّد على جهلٍ وضلال فتعبد لله بغير علم يدخل في هذه الآية، ويدخل في ذلك دخولاًأولياً النصارى، وكل مَن فسد مِن علماء هذهِ الأمُة، ومَن فسد مِن عُبَّادِها فهو ضال، كما قال بعض السلف سفيان بن يعيينة: "مَن فسد مِن علمائنا ففيه شبهٌ مِن اليهود، ومَن فسد مِن عُبَّادنا ففيه شبهٌ مِن النصارى".
فهؤلاء المؤمنون أهل الخوف مِن الله عزَّ وجلَّ، هم المؤمنون، هم المُتقون، هم المتبعون، هم المَرحومون، هم أهل الصراط المستقيم الذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل، ولهذا شرع الله لنا أن نسأله وأن ندعوه في كل ركعة مِن ركعات الصلاة نسأل الله أنّ يهدينا الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، وأنّ يُجنبنا طريق المغضوب عليهم، وطريقُ الضالين، في كل ركعة مِن الصلاة كل مُصلِّي يدعو بهذا الدعاء، هذا أعظم دعاء، وأنفع دعاء، وأجمع دعاء.
فحاجة الإنسان إلى الهداية أعظم مِن حاجتهُ إلى طعام والشراب، بل أعظم مِن حاجتهِ إلى النفس الذي تتردد بين جنبيه، فإذا فقد الإنسان الطعام والشراب ونفسه مات، والموت لابُدَّ منه، ولا يضرُّ الإنسان كونه يموت إذا كان مستقيمًا على توحيد الله وطاعته، لكن إذا فقد الهداية، فقد. مات روحه وقلبه وصار إلى النار -أعوذ بالله-.
فتبيَّن بهذا: أنَّ حاجة الإنسان إلى الهداية وحاجتهِ إلى هذا الدعاء أعظم مِن حاجتهِ إلى الطعام والشراب وأعظم مِن حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه، ولهذا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنَّه أوجب علينا أنَّ ندعو بهذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].
ولهذا قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَإِنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ. وَأَهْلُ الْهُدَى لَيْسُوا ضَالِّينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ رَهْبَةِ اللَّهِ يَكُونُونَ مُتَّقِينَ لِلَّهِ مُسْتَحِقِّينَ لِجَنَّتِهِ بِلَا عَذَابٍ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ"، كما في قوله تعالى: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} [الأعراف: 154]، يرهبون: يعني يخافون.
ويقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ رَهْبَةِ اللَّهِ"؛ يعني أهل الخوف منه "يَكُونُونَ مُتَّقِينَ لِلَّهِ"؛ وإذا كانوا متقين لله صاروا "مُسْتَحِقِّينَ لِجَنَّتِهِ بِلَا عَذَابٍ"، وهذا يدل على أنهم "أَتَوْا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ".
فدلَّ ذلك على أنَّ الخوف والوجل، الخوف الذي يستقرُّ في القلب، خوف الله الخوف الصادق يَحمل صاحبهُ على أداء الواجبات وترك المحرَّمات فيكون مِنَّ المتقين فيستحقُ الجنة بلا عذاب؛ لكونهِ أدَّى الإيمان الواجب الذي أوجبَه الله عليه.
(المتن)
توقَّفنا عند قول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وَالْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُنُوطًا؛ كَمَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا؛ فَأَهْلُ الْخَوْفِ لِلَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ مَدَحَهُمْ اللَّهُ..
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: "وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]"؛ يعني مما يدلُّ على أنَّ أهل الخشية هُم: أهل التقوى الذين أدّوا الواجبات، وتركوا المحرَّمات، هم الذين يخافون الله ويرجونه، والذين يخافون الله ويرجونه هم العلماء.
مما يدُلُّ على هذا المعنى؛ يعني أنَّ أهل الخشية وأهل الخوف مِن الله عز وجلَّ، هم الذين تحملهُم خشيتهُم وخوفهُم مِن الله عز وجل على أداء الواجبات وترك المحرَّمات وهم المؤمنون، وهم المُتقون، وهم العُلماء، وهُم أهل الخشية بالله.
"وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]"؛ يعني إنما يخشى الله الخشية الكاملة، فهُم العلماء، وإلَّا فكلُّ مؤمن عندهُ أصلُ الخشية، وأصل الخوف، وأصل التقوى.
مَن لا يخشى الله ليس بمؤمن، كلُّ مؤمن عندهُ أصلُ الخشية، المؤمن الذي اتقى الشرك بالله عزَّ وجلَّ، فإن عنده أصل الخشية وأصل الخوف، فإذا فُقد الخوف وفُقد الخشية، فإنما يكون هذا وصف الكافر، فالكافر ليس عنده شيء من الخوف ولا من الخشية، ولهذا أشرك بالله عز وجل.
أمَّا المؤمن الذي اتقى الشرك بالله عزَّ وجلَّ فإن عليه أصل الخشية، لكن كمال الخشية إنما تكون للعلماء للعُلماء، وفي مقدمة العلماء: هم الرُسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم: أُولوا العزم الخمسة، فأعظمُ الناس خشيةً لله عز وجل هم: العلماء والرسل في مقدمة العلماء.
وأولو العزم الخمسة هم أخشى الناس، واتقى الناس لله عز وجلّ، وأخشاهم وأتقاهم: الخليلان إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام، واتقى الخليلين وأخشاهم نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال صل الله عليه وسلم: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام: «إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي». كما نُقل عنه عليه أفضل الصلاة والسلام.
فالعلماء العارفون بالله عز وجل هم أهل التقوى، وهم أهل الخشية، وهم الذين أدَوا الواجبات وتركوا المحرّمات، ومَن كان بالله أعرف كان لله أخوف.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: ومما يدلُّ على أنَّ أهل الخوف والخشَّية إنما تكون مِنّ المؤمن المُتقي، يدلُّ على ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، فالعلماء هم الذين يخشون الله ويَتقونه، فأهلُ الخشية هم أهل التقوى.
ولهذا مدح الله سبحانه وتعالى أهل الخوف والخشية؛ قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46]، لولا أنَّ الخوف يَحملهم على أداء الواجبات وترك المحرَّمات لَما وعدهُم الله بهذا الوعد الكريم: {جنتان}.
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 7، 8].
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8]؛ فدلَّ على أنَّ أهل الخشية هم أهل الإيمان، وهم أهل العمل الصالح، وهم أهل الجنة، وهم أهل الكرامة، وهم أهل العلم بالله عز وجل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى" أي: على أنَّ أهل الخشية هم أهل الإيمان، وأهل التقوى، وأهل العمل الصالح "قول الله عز وجل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]".
"وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ..؛ قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [الزُّمَر:9]".
فأثنى الله سبحانه وتعالى على أهل الخشة ووصفهم بالعمل؛ لأنَّ خشيتهُم وخوفهم مِن الله عز وجل يحملهم على العبادة، وعلى أداء الواجبات وترك المحرّمات، وعلى الطاعة وعلى قيام الليل.
ولهذا قال تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، ثم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]؛ لولا عِلمهم بالله وكمالُ علِمهم بالله عز وجل، لِما حملهم ذلك على العمل الصالح؛ يعني علمهم بالله عز وجلَّ، وعلمهم بأسمائهِ وصفاتهِ وعظيمِ حقه، حملهُم على أداء الواجبات، وترك المحرَّمات، وفعل المستحبات وقيام الليل.
ولهذا قال بعد أن أثنى علي أهل الخشية، وصفهم بقيام الليل، وصفهم بالعلم، لذلك قال: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر:9].
فعِلمُهم بالله عز وجل ومَعرفتهم بأسمائه وصفاته، وعظمته، وعظيم حقه، حَملهُم على أداء الواجبات وترك المحرّمات، ثُمَّ على قيام الليل، ولهذا قال في آخر الآية: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر:9].
ثُمَّ قال المؤلِّف رحمه الله : "وَالْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُنُوطًا؛ كَمَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا".
المعنى: أنَّ أهلُ الخشية وأهلُ الخوف مِن الله عز وجل يَستلزمُ خوفهم وخشيتهم من الله عز وجل، يستلزم الرجاء؛ بمعنى أنهم يخافون خوفًا لا يحملهم على..
يعني هذا الخوف وهذا الرجاء لا يسترسلون فيه فيحملهُم على القنوط مِن رحمة الله، واليأس مِن روح الله، فالرجاء يمنعهم مِن هذا، كما أنهم يرجون الله ولا يسترسلون في الرجاء، وإلا لكان أمنًا مِن مكر الله، ويسترسل في المعاصي.
فالخوف إذا لم يكن معهُ رجاء حَمل الإنسان على القنوط، واليأس مِن روح الله والتشاؤم، يكون مُتشائم ويسيئ الظن بالله، لذلك قال الله تعالى في كتابهِ العظيم: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون} [الحِجر:56].
والرجاء إذا اسَترسل الإنسان في الرجاء، ولم يكن عِنده خوف صار هذا الرجاء يحملهُ على الأمن مِن مكر الله، والوقوع في المعاصي، وعدم الخوف مِن الله عز وجل، ولهذا قال الله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون} [الأعراف:99]، فهم يَعبدون الله بالخوف والرجاء.
كجناحي الطائر
لا يطغى أحدهم عن الآخر. فهم يخافون ويخشون الله عز وجل، خوفًا لا يأمَنهم من مكر الله واليأس من روح الله والتشاؤم وإساءة الظن بالله تعالى ويرجون رحمة الله وثوابه وعفوه وبرهُ رجاءً لا يحملهم على الاسترسال في المعاصي وعدم الخوف مِنَّ الله. لأنهم يخافون الله، فالخوف يأمنهُم مِن مكر الله، يمنعهم مِن الأمن مِن مكر الله.
كما أنَّ الخوف لا يسترسلون فيه، الذي يكون معه رجاء لِألا يكون قنوطًا وتشاؤمًا. فالمقصود أنَّ المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، يخاف الله ويرجوه وإذا فُقد أحدهم هلك الإنسان. ومَن عبد الله بواحدٍ منهما فهو هالك، فمن عبد الله بالرجاء وحده فهو على طريقة المرجئية، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو على طريقة الحرورية، على طريقة الخوارج. الخوارج الذين يغلبون جانب الخوف، ويُكفرون المُسلمون بالمعاصي، والذين يعبدون الله بالرجاء وحده يسترسلون في المعاصي ولا يخافون شؤمها وعاقبِتها الوخيمة لأنهم ليسوا عندهم خوف. فالمؤمن عنده خوفٌ ورجاء يجمع بينهما.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: والخشية أبدًا متضمنةٌ للرجاء ولولا ذلك لكانت قنوطًا، لولا الخشية لكان الرجاء قنطوًا. كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا الخوف لكان الرجاءُ أمنًا، فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله عز وجل، ولهذا قال أهل العلم: "والخوف والخشية رُكنان مِنَّ أركان العبادة والركن الثالث المحبة". فمن عبد الله بالخوف والرجاء والحب فهو المؤمن الموحد، ولذلك يقول العلماء مَنّ عبد الله بالحب وحده فهو زنديق على طريقة الصوفية. الذين يقول أحدهم "ما عبدت الله خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته فأكون كأكيل السوء ولكن عبدته حبًا لذاته وشوقًا إليه". هذه طريقة الصوفيه والزنادقة.
فمن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، من الخوارج، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ. ومَنّ عبد الله بالخوف والرجاء فهو مؤمنٌ موحد. جمع بين أركان توحيد العبادة الثلاثة التي أشار الله -سبحانه وتعالى- إليها وبيَّنها في أعظم سورة في الكتاب العزيز وهي سورة الفاتحة { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * الرَّحْمـنِ الرَّحِيم * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّين} [الفاتحة 2: 3: 4]الحمد لله رب العالمين فيها إثبات المحبة، الرحمن الرحيم فيها إثبات الرجاء، مالك يوم الدين فيها إثبات الخوف.
المذيع: قال رحمه الله: رُويَّ عن أبي حيان التميمي: أنه قال: "العلماء الثلاثة فعالم بالله ليس عالمٌ بأمر الله وعالمٌ بأمر الله ليس عالمٌ بالله وعالمٌ بالله عالمٌ بأمر الله فالعالمٌ بالله هو الذي يخافهُ والعالمٌ بأمر الله هو الذي يعلم أمرهُ و نهيه".
وفي الصحيح عَنّ النبي صل الله عليه وسلم قال «وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحدودهَ»
ولو أنَّ أهلَّ الخشية هم الممدوحون في الكتاب والسنة لم يكونوا مستحقين للذنب وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات ويُدل على ذلك قوله تعالى { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد } [إبراهيم:13 :14] وقوله تعالى{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46] فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أنهم أدوا الواجب فدل ذلك على أن الخوف يستلزم فعل الواجب ، ولهذا يقال للفاجر لا يخاف الله، ويدل على هذا المعنى قوله تعال {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما}[النساء:17]
قال أبو العاليه: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية . فقالوا لي: "كل مَنّ عصى الله فهو جاهل وكل مَنّ تاب قبل الموت فقد تاب مِنّ قريب"
وكذلك قال سائرُ المفسرين: وقال مجاهد: "كل عاصٍ فهو جاهلٌ حين معصيةِ". وقال الحسن قتادة والشدّي وغيرهم: "إنما سُموا جُهالًا لمعاصيهُم لا أنهم غير مُمَيزين".
الشيخ: نعم. فإن المؤلف رحمه الله يُقرر المعنى السابق وهو أنَّ اهل الخشية وأهل الخوف هم المؤمنون والمتقون الذين أدَّوا الواجبات وتركوا المحرمات، ولهذا وعدهم الله تعالى بالنصر في الدنيا وبالثواب والأجر الجزيل في الاخرة.
قال المؤلف رحمهُ الله: وقد رويَّ عن أبي حيان التيمي أنه قال: العلماء الثلاثة، فعالٌمٌ بالله ليس عالمٌ بأمر الله، عالمٌ بالله يعني ما أمر الله من أداء الواجبات وترك المحرمات، وأمر الله يشمل الأوامر والنواهي، فعل الأوامر وتركٌ للنواهي. وعالمٌ بأمر الله ليس عالمًا بالله وعالمٌ بالله عالمٌ بأمر الله.
فالعالمٌ بالله هو الذي يخافهُ والعالمٌ بأمر الله هو الذي يعلم أمرهُ ونهيه فأكمل الثلاثة العالمٌ بالله والعالمٌ بأمر الله فيؤدي الواجبات ويترك المحرمات وفي الصحيح ذكر عن النبي «وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحدودهَ» وهذا رواه الشيخان (البخاري ومسلم) رحمهما الله.
بيَّن فيه النبي صل الله عليه وسلم أنَّه أخشى الناس وأعلمَهٌم بحدودهِ لأنه أتقى الناس، وأبرَّ الناس وأعبَّدّ الناس، وأزهد الناس وأشيَّع الناس، وأعلمهم بالله.
ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف ، لما كان أعلم الناس بالله صار أخشى الناس.
يقول المؤلف رحمه الله: وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدحون في الكتاب والسنة لم يكونوا مستحقين للذم. بل مُستحقون للمدح. فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على أهل الخشيَّة ومدحهُم كما سبق في النصوص فإذا كانوا أهل الخشية هم العلماء المَمدوحون في الكتاب والسنة، إذا كان هذا وصفهم فإنهم لا يستحقون الذم بل يستحقون المدح، والخشية لا تكون إلا مع فعل الواجبات. فلما كانت الخشيَّة لا تكون إلا مع فعل الواجبات صار أهل الخشية هم العلماء وهم الممدوحون. لأن فعل الواجبات وترك المحرمات لابد له من علم.
الذي يعبد الله على بصيرة هو العالم فهو عنده علمٌ وبصيرةٌ يعرفُ به الحلال والحرام والواجب والمحرم فيمتثل الأوامر ويجتَنِب النواهي و يفعل الواجبات، فصار أهل الخشيَّة المَمدحون في الكتاب والسنة ولهذا وعد الله تعالى الوعد الكريم العظيم على الخشية ولهذا يقول المؤلف رحمه الله : و يدل عليه قوله تعالى { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد } [إبراهيم:13 :14] وقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46]
أستدل المؤلف رحمه الله في الآية الأولى على أن النصر في الدنيا أصله الخوف والخشية، لأنهم هم العلماء ولأنهم هم المتقون ولأنهم هم العالمون بالله وبدينهِ وبشرعهِ، هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هم المقيمون لحدود الله، هم المتقون، هم الأبرار، فلمَّا كان هذا وصفهم وعدهم الله بنصر الدنيا في قوله { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد } [إبراهيم:13 :14]. فمن خاف مقام الله وخاف الوقوف بين يدي الله يوم الحساب، وخاف وعيد الله عز وجل . خوفًا يحملهُ على أداء الواجبات وترك المحرمات، وقبل أداء الواجبات وترك المحرمات لابد أنَّ يكون أداءُ الواجبات وترك المحرمات على بصيرة وعلى علم دلَّ على أنَّ أهل الخشية هم العلماء وهم أهل التقوى وهم الأخيار وهم الأبرار. ولهذا وعدهم الله بالنصر فقال {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد } [إبراهيم:13 :14] ذلك يعني نصر، في قوله تعالى: { َفأَوْحَى رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين } وعد الله الخوف الظالمين، بأن يُهلك الظالمين أعدائهم ويمكنهم في الأرض بعدهم، فوعدهم الله بالنصر في الدنيا والتمكين بعد هلاك الظالمين بسبب خوفِهم وعِلمهم بالله -عز وجل- وقيامهم بأمرهِ. كما أنَّ الله-سبحانه وتعالى- وعدَهم بالثواب العظيم في الآخرة في قوله{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46]
في الآية الأولى فيها وعدٌ بالنصر في الدنيا والآية الثانية فيها وعدٌ بالثواب في الآخرة. كما قال المؤلف رحمه الله: فوعدَّ بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف. وذلك إنّما يكون لأنهم أدَّوا الواجب، فدّلَ على أنَّ الخوف يستلزمُ فعل الواجب. هذا هو الخوف الحقيقي، الخوف النافع. الخوف الذي رُتُب عليه النصر في الدنيا والثواب في الآخرة، هو الخوف الذي يَحمل على أداء الواجبات وترك المحرمات أمَّا دعوى الخوف بدون ذلك فلا تنفع.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: فدل على أنَّ الخوف يستلزم فعل الواجب ولهذا يُقال الفاجر لا يخافُ الله وهذا معلوم عند العامة والخاصة أنَّ الفاجر لا يخافُ الله. فيرتكب محارمه ويترك ما أوجب الله عليه، فهو لا يخاف الله لفجورهِ وفسقهِ وجهله بربهِ -عز وجل- وبدينهِ.
يقول المؤلف رحمه الله: ويدل على هذا المعنى قوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء:17]. والشاهد مِن الآية أنَّ الله تعالى أخبر أنَّ الذي يعمل السوء جاهل، حتى ولو كان عالمًا بالمعصية. لأنهُ لو كان عندهُ تصور عن عظمة الله عز وجل وعظمة الأوامر والنواهي لِما عصى الله كما بينه المؤلف رحمه الله: قال أبو العاليه: سألت أصحاب محمد صل الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالو لي: "كل مَنَّ عصى الله فهو جاهل وكل مَنَّ أطاع الله فهو عالم وكل مَنّ تاب قبل الموت فقد تاب مِنَّ قريب". قال تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ [النساء:17]
التوبة تكون للذي يعمل السوء بِجهالة، وكل مَن عمل سوء فهو جاهل، والتوبة إنما تكون مِن قريب، والقريب ما قبل الموت. كل مَنَّ تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، لأن الدنيا كلها قريب. وكل مَنَّ تاب قبل الموت فقد تاب مِنّ قريب.
وكذلك قال المؤلف رحمه الله: وكذلك قال سائر المفسرين: قال مجاهد رحمه الله "كل عاصٍ فهو جاهلٌ حين معصيتهِ".
وقال قتادة وعطاء والسدَّي وغيرهم: "إنما سموا جُهالًا لمعاصيهم لا أنهُم غير مميزين". مميزون وعارفون بالمعصية، ولكن ليس عندهم تصورٌ كامل لِمَّا يستحقونه مِن العقوبة على المعصية ولهذا عصى الله، بخلاف المُطيع.
المذيع: قال رحمه الله: وقال الدجاج ليس معنى الآية أنَّهُم يجهلون أنَّه سوء لأنَّ المسلم لو أتى ما يجهلهُ كان كما لم يواقع سوءًا وإنما يحتملُ أمرين:
أحدهمَ: أنهم عملوهُ وهم يجهلون المكروه فيه.
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرةٍ وعلمٍ بأنَّ عاقبتهُ مكروهَ وآثروا العاجل على الآجل فسُموا جُهالًا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة، فقد جعل الزجاج الجهل إمَّا عدم العلم بعاقبة الفعل، وإمَّا فساد الإرادة وقد يُقال همَُا متلازمان وهذا مبسوطٌ في الكلام مع الجهمية
الشيخ: نعم، الزجاج رحمه الله تعال يقول في تفسير الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ [النساء:17] يقول: "أنَّ ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنهم سوء". ليس معنى الآية أنهم يجهلون أن هذه المعصية وأن هذه المعصية لا
لأنَّ المسلم لو جَهِل المعصية لم يُؤاخذ. لا يُعقل الإنسان إلا بعد العلم، من عمل معصية وهو لا يعلم أنها معصية فليس عليه إثم. من شرط المؤاخذة بالذنب أنّ يكون الإنسان عالم بالذنب.
فالإنسان الجاهل لا يؤاخذ. فيقول الزجاج: "ليس معناه أنهم سوء لأنّ المسلم لو أتى ما يجهلهُ كان كما لم يواقع سوءًا، كان معفوًا عنه، لأنه لم يعلم" لكن معنى الآية يقول الزجاج رحمه الله: يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه، يعني يجهلون أنَّ ما يُصيبهم مِن المكروه عندما يعملون هذا السوء وهذه المعصية.
والأمر الثاني أنهم أقدموا على بصيرةٍ وعلم بأنَّ عاقبتهِ مَكروه وآثروا العاجلة على الآجلة.
المعنى الثاني أنهم يعلمون أنها معصية وأن عاقبتها مكروهَ، لكن لم يكن عندهم فضل في ترك المعصية، بل آثروا الهوى، وآثروا العاجلة، آثروا الدنيا ولذاتها، وآثروا بما تهواه نفوسُهم، فلما آثروا العاجل على الآجل صاروا بمثابة الجاهل فسُموا جُهالًا لآِثرهم القليل على الراحة الكثيرة، ولآِثارهم العافية الدائمة.
يقول المؤلف رحمه الله: في بيان المعنيين باختصار. فقد جعل الزجاج الجُهال إمَّا عدم العلم بعاقبة الفعل وإمَّا بفساد الإرادة.
فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما أنهم لم يعلموا بعاقبة الفعل وماذا سيُصِيبَهُم مِنَّ عاقبة الذنب الوخيمة أو فساد الإرادة.
يعلمون لكن فسدت إرادتهم، عندهم علم لكنهم لم يعملوا بعلمهم.
ويقول المؤلف رحمه الله: وقد يُقال هم متلازمان. يلزم من عندم العلم بعاقبة الفعل فساد الإرادة أو يلزم من فساد الإرادة عدم العلم بعاقبة الفعل.
ثم يقول المؤلف رحمه الله وهذا مبسوط الكلام عن الجهمية وهم أتباع الجهم بن صفوان الذين يرون أنَّ الإيمان هو المعرفة. معرفة الرب بالقلب وأن الكُفر هو جهل الرب بالقلب، هؤلاء عندهم فساد إرادة، والزندقة معروفه عند أهل الكلام لاسيما الجمهية والمعتزلة.
المذيع: والمقصود هنا أنَّ كل عاصٍ لله فهو جاهل وكل خائفٍ منهُ فهو عالمٌ مطيعٌ لله وإنَّما يكون جاهلًا لنقصِ خوفهُ من الله إذ لو تم خوفه من الله لم يعصِّ.
ومنه قول ابن مسعود -رضي الله عنه- :"كفى بخشية الله علمًا وكفى بالإغترار بالله جهلًا" وذلك لأن تصور المَخوِف يُوجب الهربَ منه، تصور المَخوفِ يُوجب الهرب منه وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب مِن هذا ولم يطلب هذا، دلَّ على أنَّه لم يتصوره تصورًا تام ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقهُ و حفظ حروفه غير تصور المُخبر عنه وكذلك إذا لم يكن المتصورُ محبوبٌ له ولا مكروه، فإن الإنسان يُصدق بما هو مخوفٌ على غيره ومحبوبٌ لغيره، ولا يُرثه ذلك خوفًا ولا طلبًا ، وكذلك إذا أُخبر بما هو محبوبٌ له ومكروه ولَم يُكذب المُخبر، بل عرف صدقهُ، لكنَّ قلبهُ مشغولٌ بأمورٌ أُخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.
الشيخ: بيَّن المؤلف رحمه الله معنى قول الله عز وجل: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور} [فاطر:28].
أنَّ كُلَّ مُطيعٍ لله فهو عالم وأن كُل عاصٍ لله فهو جاهل، بعدما نقل نقول عن أهل العلم في معنى الآية كما سبق في الحلقة الماضية قال رحمه الله : "المقصود هنا كل عاصٍ لله فهو جاهل وكل عالمٌ بالله فهو خائف" وهذا للعموم وهذا معنى صحيح. بيَّن المؤلف رحمه الله: معنى كونه جاهل ليس معناها جاهلٌ بالمعصية، وإنما يكون جاهلًا لنقص خوفه مِن الله، فلمَّا نقص خوفه مِنَّ الله وقع في المعصية وباشرها، فسُمي بذلك جاهل لنقص خوفهُ. فمن تم خوفه بالله عزَّ وجل يوصف بالعالم، ومن نقص خوفهُ مِنَّ الله عز وجل ووقع في المعاصي يُوصف بالجهل. ولهذا قال المؤلف رَحمهُ الله: وإنمَّا يكون جاهلًا لنقص خوفُه مِنَّ الله. لأنه لو تم خوفه من الله لم يعصِ. ومِنه قول ابن مسعود رحمه الله: " كفى بخشية الله علمًا وكفى بالإغتِرار بالله جهلًا " وهذا كلام عظيم من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل.
"كفى بخشية الله علمًا" يعني من خشي الله يكفيه خشية الله وصفه بالعلم، لمَّا خشي الله عز وجل وأدَّى الواجبات وترك المحرمات دَّل على علمهِ بالله عز وجل وبدينهِ وبأمره وبشرعهِ وحملتهُ هذه الخشية على أداء حق الله عزَّ وجلَّ، كفى بذلك علمًا. كفى بالخشية الحقيقية التي تحمل صاحبها على تعظيم الله وتعظيم حقه والقيام بأمره سبحانه، كفى بهذه الخشية علم.
وكفى بالاغترار بالله جهلا وهم العُصاة الذين اغتروا بالله، واغتروا بحلم الله، واغتروا بنصوص الرجاء، فعصوا الله فدل على جهلهم لنقص خوفهم مِن الله -عزَّ وجلَّ-.
"كفى بخشية الله علمًا وكفى بالإغتِرار بالله جهلًا" ثم بيَّن المؤلف رحمه الله وفصَّل كيف يكون العاصي جاهلًا وإن كان عالمًا بالمعصية قال: وذلك لأن تصور المخوف يُوجب الهرب منه وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب مِن هذا ولم يهرب مِن هذا، دلَّ على أنه لم يتصوره تصورًا كامل. تصور المخوف الله سبحانه خوفنا بالنار، خوف من عصاه بالنار فتصور المخوف، تصور النار وبمَّا فيها مِنَّ الشقاء والعذاب، يُوجب الهرب مِنها، والهرب منها مِن أسباب الدخول فيها وهي المعاصي والكبائر، وأعظم ذلك الكفر -أعوذ بالله-.
فتصور المخوفُ وتصور عقوبة الله وعذابهِ وشدة بطشهِ يُوجب الهرب منه، الهرب مِن هذا العذاب، والهرب مِن أسبابهِ، وهي المعاصي، وتصور المحبوب وهي الجنة التي وعد الله بها المؤمنين وتصور ما فيها مِن النعيم وما فيها مِن الكرامة، ما أعدَ الله للمؤمنين من الكرامة و النعيم الأبدي، الذي لم ترهُ عينٌ ولم تسمع به أُذن ولم يخطر على قلب بشر، وتصور المؤمن لهذا يحملهُ على طلب هذا النعيم، وطلبهُ بفعل الأسباب التي توصِّل الدخول إلى الجنة، وهو العمل الصالح كما قال الله تعالى: { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [الواقعة:24] وقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} ]النحل:32]
فإذا تصور ذلك تصورًا صحيحًا، أوجب له هذا أنّ يطلبُ هذا من المحبوب بفعل أسبابه فإذا لم يطلب مِنَّ هذا وهو المحبوب ولم يهرب مِنَّ هذا وهو المخوف.
دلَّ ذلك على أنّهُ لم يتصوره تصورًا كاملًا، وإذا لم يهرب من هذا وهو المخوف وهو العذاب والبطش ولم يطلب هذا وهو النعيم الذي أعده الله للمؤمنين دلَّ على أنَّهُ لم يتصورهُ تصورًا تامًا وإذا لم يتصوره تصورًا تامًا فإنه يصاب بالجهل.
قال المؤلف: ولكن قد يتصور الخير عن وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المُخِبر عنه، المؤلف رحمه الله يفرق بين تصور الخبر وتصور المُخبر عنه.
يقول المؤلف رحمه الله: لكن قد يتصور الإنسان الخبر، أخبر الله تعالى عن النار وما فيها مِن العذاب والشقاء وأخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنة وما فيها مِنّ النعيم، هذا خبر. وتصور الخبر وتصديق الخبر وحفظ حروف الخبر غير تصور المخبر عنه، فالخبر شيء والمُخبر عنه شيء، فالخبر كلام الله وكلام رسوله. والمخبر عنه ذات النار التي أعدها الله للمجرمين، والجنة التي أعدها الله للمؤمنين.
فهناك فرق بين تصور الخبر وتصور المُخبر عنه، فقد يتصور بعض الناس الخبر ويُصدق بكلام الله وكلام رسوله ويحفظ حروفه ويقرأ في القرآن، كمثلُ بعض الناس يتصور قول الله عز وجل {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون } [البقرة: 279:278]
ويؤمن به و يقول الربا حرام ويتصور ويؤمن به ولكنه قد يُراب ويفعل الربا، لأنه لم يتصور المُخبر عنه، المخبر عنه العذاب الذي أعدهُ الله للعاصٍ والخبر كلام الله وكلام رسوله، يؤمن به وُيصدق به ويحفظ حروفه، فإذا تصور الخبر وتصور المُخبر عنه لابد أنَّ يحملهُ ذلك على طلب المحبوب والهرب مِن المخوف.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ولكن قد يتصور الخبر عنه وتصور الخبر وتصديقهُ وحفظ حروفه، غير تصور المُخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المُتصور محبوبًا له ولا مكروهً له. قد يؤمن الإنسان بالخبر مبر الله وخبر رسوله لكن ليس عنده محبة للمخبر عنه، وليس عنده كراة للمخبر عنه الذي أعده الله للمجرمين، مِن العذاب والنكال لا يكره، ليس عنده كراهة للعذاب وليس عنده محبةً للنعيم، وإنَّ كان يتصور الخبر وحفظهَ وحفظ حروفهَ، فعند ذلك يتأخرُ في العمل ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فإن الإنسان قد يُصدق بما هو مكروهٌ على غيرهِ ومحبوبًا لغيره ولا يُورثه ذلك هربًا ولا طلبًا". ولم يكذب فإذا كان هناك مخوفٌ في شخص، كمثلًا مرضٌ في شخص، مرضٌ مَخوف يتصوره الإنسان لكنَّ قد لا يخاف منه، ومِنَّ أسبابه، كما أنّمَّا حصل للعبد مما هو محبوبٌ له، قد يتصوره الإنسان، لكن قد لا يحمله ذلك على أنَّ يطلبه هو بنفسه ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فإن الإنسان يصدق ما هو مكروهٍ على غيرِ ومحبوبٌ لغيره ولا يورث ذلك هربًا ولا طلبًا" وكذلك إذا أُخبر بما هو محبوبًا له ومكروه، ولم يكذب المُخبر بل عرف صدقهُ ، لكنَّ قلبهُ مشغوٌل بأمورٌ أُخرى عن تصور ما أخبر به فهذا لا يتحرك لا للهرب ولا للطلب، يعني أنَّ الإنسان قد يُصدِق بالخبر ولكنَّ قلبهُ مشغولٌ بأمورٌ أخرى تمنعه من طلب المُخبر به، أو مِن الهرب من المُخبر عنه.
فالمؤلف رحمه الله يقول: "أنَّ مَن عصى الله فهو جاهل" وسبب ذلك أنه قد يتصور الخبر ولا يتصور المُخبر عنه وقد يكون مشغول بأمورٌ أخرى تمنعه عنَّ تصور الخبر وقد يكون تصوره للمُخبر عنه تصورًا غير تام. فهذه واحده من الأمور الثلاثة تجعله يُوصف بالجهل. بسبب أنه إما لم يتصور تصورًا تامًا أو تصور الخبر ولكن لم يتصور المخبر عنه أو تصور المُخبر عنه ولكن قلبه مشغول بأُمورٍ أُخرى، عن تصور ما أخبر به ولهذا لا يتحرك للطلب ولا للهرب، إما أنه لم يتصور الخبر تصورًا تامًا، أو تصوره تصورًا تامًا ولكنه لم يتصور المخبر عنه، تصورًا تاماً أو تصور الخبر والمُخبر عنه لكن قلبه مشغولٌ بأمورٍ أُخرى، فلذلك تأخر عن العمل فعصى الله تعالى بترك الواجب أو فعل المحرم فوصف بالجهل فسُمي جاهلاً.
المذيع: قال رحمه الله: وفي الكلام المعروف عَنّ الحسن البصري ويُروى مُرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنَّ العلم علمان فعلمٌ في القلب وعلمٌ على اللسان فعلمُ القلب هو العلم النافع وعلم اللسان حُجة اللهِ على عبادهِ وقد أخرج في الصحيحين
الشيخ: هذا الكلام عن الحسن البصري ويُروى مُرسلًا عن النبي صلَّ الله عليه وسلم، معلوم أن مراسيل الحسن البصري ضعيفة وهو الرأي ورواه ابن ماجه في مقدمة عن الحسن بلفظ العلم علمان "فعلمٌ في القلب فذاك العلم النافع وعلمٌ على اللسان فذاك حُجة الله على بني آدم المؤلف رحمه الله قصده بذلك يستأنس بكلام الحسن البصري وإن كان لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مُرسل والمرسل ضعيف. لكن الكلام والمعنى صحيح، فالمعنى الصحيح، فالعلم الذي في القلب هو العلم النافع إذا أستقر العلم في القلب حملهُ ذلك على أداء الواجبات وترك المحرمات، أما العلم الذي يكون على اللسان ولا يكون في القلب، فهذا تقوم عليه الحُجه ولا يعمل لأنه لم يُصَّل العلم إلى قلبه وهذا كحال اليهود وأشباهِهم، الذين يعلمون ولا يعملون، فهم مغضوبٌ عليهم، فهم عندهم علم بألسنتهم ويتكلمون، وقد يتكلمون بالحق بألسنتهم وقد يكتمون، فأحياًنا يتكلمون وأحيانًا يكتمون. ولكنهم ليس عندهم علمٌ في قلوبهم ولا تقوى فلذلك عصوا الله وتخلَّف العمل أمَّا العلم الذي يستقرُ في القلب هذا هو العلم النافع.
المذيع: قال رحمه الله: وقد أخرج في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ»
وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظهُ ويتصور معانيّهُ وقد يُصدق أنهُ كلام الله وأنَّ الرسول حق. ولا يكون مؤمنًا كما أنَّ اليهود يعرفونَّهُ كمَا يعرفون أبنائهُم وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس، وفرعون وغيرهمَا، لكن مَنّ كان كذلك فلم يكُن حصل له العلم التام والمعرفة التامة فإن ذلك يستلزمُ العملُ بموجبهِ لا محالة فذلك صار مثل يقال أنَّ الذي لا يعمل بعمله أنه جاهلًا كما تقدم.
الشيخ: المؤلف رحمه الله يُقرر في هذا أنَّ الذي يعلم ولا يعمل أصله جاهلٌ كحال اليهود وأشبهاهُم وفرعون وإبليس-نسأل الله العافية- فإن إبليس لم يُقابل أمر الله -تعالى- بالتكذيب وإنما تلقى أمر الله بالإيباء والاستكبار فكان كُفره بالإيباء والاستكبار قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} [البقرة:34]. وكذلك فرعون فإنَّهُ يعلم صدقُ موسى -عليه الصلاة والسلام- ويعلم أنَّهُ رسول الله ولكنه لم يعمل فلم ينفعهُ هذا العلم، يعني المعرفة التي لم تُورثه خشيةً وإيمانًا ولهذا قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين} ] النمل:14].
لقد علمت ما أنزل هؤلاء فالعلم يكون في القلب فاليهود وإبليس وفرعون وأشباههم كلهم كفروا بالإيباء والاستكبار لم يكذبوا و إن كان فرعون ذُكر في بعض النصوص أنَّهُ كُذب وفي بعضها أنَّه صدق فأحيانًا يكتمون الحق وأحيانًا يُقرون به. ولكنهم يستكثرون عن العمل، وذكر المؤلف رحمه الله حديث ابي موسى في الصحيحان في تقسيم الناس في قراءة القرآن عن أبي موسى عن النبي صلَّ الله عليه وسلم- أنه قل: « مثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ». طعمها طيب وهو الإيمان، وريحُها طيب وهو القرآن، معه الإيمان والقرآن، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحة لها. طعمها طيب وهو الإيمان ولا ريحة لها لأنه ليس معه القرآن. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ريحها طيب لأن معه القرآن وطعمها مُر لأن معه الكفر والنفاق، أعوذ بالله. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمُها مُر ولا ريحة لها. طعمها مُر لأن معهُ الكفر والنفاق ولا ريحة لها لأن ليس معه القرآن.
والمؤلف رحمه الله قصدهُ من ذلك أن يُبين أنَّ المنافق الذي يقرأ القرآن ويحفظهُ قد يُصدق لكنه لا يعمل به. يُقابل أمر الله وأمر الرسول بالإيباء والإستكبار فلا تنفعهُ هذه المعرفة ولا ينفعه هذا التصديق لأنً فرعون مُصدق وإبليس مُصدق، واليهود مُصدقون وأبو طالب عم النبي صل الله عليه وسلم مُصدق. ولهذا قال في قصيدتهُ المشهورة
ولقد علمت بأن دين محمدٍ ** من خير أديان البرية دينًا
لولا الملامة أو حذاري سبةٍ ** لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا
فلا ينفع الإقرار والمعرفة في القلب بدون العمل والانقياد والإتباع ولهذا مَثَّل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث الذي فيه أن المنافق يقرأ القرآن. المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يُصدق أنه كلام الله وأنَّ الرسول حق ولا يكون مؤمنًا، لأن ليس عنده انقياد ولا إتباع لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينفعهُ قِرأتهَ للقرآن ولا ينفعه تصديقهُ ولاينغعه إيمانه بأنَّ الرسول حق إلا مع الانقياد والإتباع كمَّا أنَّ اليهود يعرفون -النبي صلَّ الله عليه وسلم- كما يعرفون أبنائهُم كما أخبر الله عزَّ وجلَّ عنهم في قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون} ]البقرة:146] فاليهود يعرفون صِدق النبي -صلَّ الله عليه وسلم- وأنه رسول الله حقاً. ولا يشكون في ذلك و مع ذلك كتموا الحق واستكبروا عن الانقياد والاتباع لأمر الله وأمر رسولهِ -صلَّ الله عليه وسلم- فكان كُفرهم بالإيباء والاستكبار حتى أنَّ بعض اليهود قال: إننا نعرفُ صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقًا. أكثر مِن معرفتنا لأبنائنا لأنَّ أبنائنا قد يتطرق إلينا الشك، قد يتطرق الشك إلى الشخص أن هذا ابنه أو ليس ابنه، أما الرسول صل الله عليه وسلم فإنه لا يتطرق إليهم الشك، يعرفونه كما يعرفون الشمس أو أعظم، يعرفونه من كُتبهم، يعرفون أوصافه.
كما أخبر الله سبحانه و تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] كل هذه الصفات عرفوها، واضحة مثل الشمس ليس عندهم شك ولكن حَملهُم البغي والاستكبار والحسد ظنوا أنَّ النبوة ستكون في بني إسرائيل فلما كانت في بني إسماعيل حسدوا واستكبروا كما قال سبحانه وتعالى{ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون} [البقرة:87] وقال سبحانه وتعالى{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِين} [البقرة:89].
فاليهود كُفرهم بالإيباء والاستكبار كما قال المؤلف رحمه الله: "كما أنَّ اليهود يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وليسوا مؤمنين" وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما، يعني كُفرهم بالإيباء والاستكبار وهذه مسألة ينبغي الاعتناء بها وهو أنً بعض الناس إذا نهيته أو أمرته يقولوا أنا أعرف. أعرف أن هذا حق. ويظن أنَّ هذا يكفي. تعرف أن هذا حق ولكن لابد من الانقياد والاتباع والعمل وليس فقط المعرفة، فإبليس يعرف وفرعون يعرف واليهود يعرفون. فلابد من الانقياد والاتباع. تعرف أن هذا حق. آمن بالحق، أتبع الحق، أرضى بالحق. حتى تكون مؤمنًا.
لابد من أمرين: معرفة وعمل وانقياد وإتباع فينبغي للمؤمن أن يكون على بصيرة مِنَّ هذا الأمر وأنَّ المعرفة لا تكفي وحدها لابد مِنّ الانقياد والإتباع والعمل.
يقول المؤلف رحمه الله: لكن مَن كان كذلك لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة، يعني هذا الذي يعرف وإنَّ كان يعرفُ الحق لكن عنده نقص في هذا العلم. وعنده نقصٌ في هذه المعرفة، بدليل أنهُ لم يعمل بموجب هذا العلم، هذا العلم له موجب، موجبهُ النتيجة والعمل، فلما لم يعمل دلَّ على أنَّ هذا العلم ناقص، وهذه المعرفة ناقصة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: لكن من كان كذلك لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه، بموجب العلم لا محالة ولهذَّا صار يُقال لمن لم يعمل بعلمه إنه جاهل كما تقدم، وكل شخص لم يعمل بعلمهِ فهو جاهل.
لأن عنده نقص في هذا العلم وفي هذه المعرفة إما نقصٌ في تصور الخبر أو في تصور المُخبر عنه أو لانشغاله بما يمنعه عن العمل، الانقياد، فهذا النقص أوجب له أن يُوصف بالجهل. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ولهذا صار يُقال لمن لم يعمل بعلمهِ إنه جاهلٌ كما تقدم.
المذيع: هل يُفهم مِنّ هذا مِن كلام المؤلف -رحمه الله- أن الكفر لا يُطلق إلا مع المعرفة. ظهرت الآن بعض الفئات تنادي بهذا وتقول لا يكفر مثلًا اليهود والنصارى مستدلين بقوله تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين} ]النمل:14]
فلو دُعيَّ نصراني أو يهوديًا إلى الإسلام ولم يسلم لأنه لم يقتنع بصحة الإسلام فلا يحكم بكفره ولأنه لم يستقين في قلبهِ بصحة الإسلام فليس بكافر. هل يُفهم هذا؟
الشيخ: لا، هذا كافر إذا بلغتهُ الحُجه وقامت عليه الحُجه فإنه كافر ولا يشترط أن يفهمها بل يُشترط بلوغ الحُجه وفهم الحجة إذا بلغته الحجة وبلغهُ الدليل وفهمه ولم يعمل به، حُكم بكفرهُ. ولا يشترط الفهم قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغهُ القرآن فقد قامت عليه الحُجة.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} ]الإسراء:15]
وقال عليه الصلاة والسلام: « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أحد من هذه الأمة لا يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كانَ مِنْ أَصْحَابِ النار» وقد بيَّن الله تعالى في القرآن العظيم أنَّ الكفار أنهم بلغتهم الحُجة وأنهم لا يفهمونه ومع ذلك حكم الله بكُفرهم وقال تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون} ]البقرة:171]. مثل الذين كفروا كالراعي الذي ينعق للغنم ما تسمع إلا النعيق. تسمع الصوت، فهؤلاء بلغتهم الحُجه ومع ذلك حكم الله بكفرهم، وإن كانوا لا يفهمونه ولذلك شبههم بالغنم التي ينعق له الراعي وتتبعه ولا تسمع إلا دعاءً ونداءً دلَّ ذلك على أنَّ المقولة خاطئة وأنَّ كل مَن قامت عليه الحجه وبلغه الدليل وبلغته الحجه ولم يعمل به فإنه يحكم بكفره بلغه الدليل وأنَّ الله تعالى أوجب على عباده أن يوحدوه وأن يخلصوا له العباده وأن يتبعوا رسوله ثم لم ينقد ولم يتبع فإنه يحُكم بكفره وأما قوله بأنه لم يفهم الدليل فهذا تعنت تعلقهم بقوله تعالى{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون} ]البقرة:171]. مثل الذي يسمع كالراعي الذي ينعق للغنم. ما تسمع إلا النعيق، إلا الصوت فهؤلاء بلغتهُم الحُجة، ومع ذلك حكم اللهُ بكُفرهم وإن كانوا لا يفهمونه. ولذلك شبههم بالغنم الذي ينعق لها الراعي فتتبعه ولا تسمعُ إلَّا دعاءً ونداءً. فدلَّ هذا على أنَّ هذه المقولة باطلة وقد دلَّ هذا على أنَّ كل مَن بلغته الحجة وبلغه الدليل ولم يعمل به فقد حُكم بكُفره. فقد بلغه الدليل وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- وجب على عبادهِ أنَّ يوحدوه، ثم لم ينقض ولم يتبع فقد حُكم بكفره وأمَّا قوله بأنه لا يفهم الدليل أو مثل هذا، فهذا تعلقٌ بكفره.
المذيع: تعلقهم بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} ]النمل:14] أم هذا مزيد ذم لهم الآية
الشيخ: يعني جحدوا بها واستيقنتها أنفُسهم، يعني أنهم يعرفون الحق ولكن لم يعملون به، هذه حُجةٌ عليهم، يعني جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ومع ذلك كفرهم الله يعني كفرهُم الله، ونفوسهم مُستيقنة لأنهم لم يعملوا ولم ينقادوا.
المذيع : هم الآن يستدلون بهذه الآية أنه يُشترط أن يعرفوا. أن الله ذمهم في هذا.
الشيخ: لا، ليس فيها إشتراط لهذا.
المذيع: فيها مزيد ذم .
الشيخ: نعم، فيها مزيد ذم لهم لأنهم عرفوا الحق ولم يتبعوه.
المذيع: يسألون يقولون كيف يكون الجمع من النصوص الداله على كف اليد على من قال لا إله إلا الله وبين النصوص الدالة على كُفر تارك جنس العمل.
الشيخ: النصوص التي فيها أنه يجب الكف عن من قال لا إله إلا الله ، هذه إنما هي في الكفار. في المشركين عند الجِهاد وعند القِتال وعند دعوتهِم إلى الله عز وجل إذا نطق الواحد منهم بالشهادتين (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله )
وجب الكف عنه، كما في حديث أسامه وغيره في قول النبي صل الله عليه وسلم: «أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله».
إذا قال الكافر: (لا إله إلا الله) وكان يقولها في كفره حُكم بإسلامه ووجب الكف عنه ثم بعد ذلك يُنظر، إذا التزم وأدَّى ما أوجب الله عليه حُكم بإسلامه. وإن فعل ما ينقضُ هذه الكلمة فإنه يُحكم بردتهِ و يُقتل بعد ذلك.من قبل ولاة الأمور أمَّا الشخص الذي لا ينقاد ولا يعمل فهذا يكون كُفره بالايباء والاستكبار الذي لا يعمل ويدعي أنه مؤمن بقلبه ويقول لا إله إلا الله ولا يعمل، هذا يُحكم بكُفره لأنه لم ينقد لله ولرسوله. لابد مِن الانقياد وطاعة الله ورسوله، وإلَّا صار كإيمان إبليس وفرعون، هذا الايمان الذي يدَّعيه هذا الشخص ويقول أنه مؤمن بقلبهِ وأنه ينطق بلسانه ولكنه رفض وأمتنع عن العمل والانقياد، نقول إيمان هذا ما تحقق، هذا الإيمان الذي يدعيه هذا الشخص لابد له من عملٍ يتحقق به وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون.
فما الفرق بين إيمان إبليس وفرعون بإيمان هذا الشخص الذي يدعي أنه مؤمن وهو لا يعمل؟ فإنه لم يتحقق إيمانه
كما أنَّ الذي يعمل ويصوم ويحُج ويُجاهد. هذا العمل لابد له مِن إيمانٍ وتصديق قلبي يصححه. وإلاصار كإيمان المنافقون،فإن المنافقون يعملون، ويصلون، ويجاهدون، لكن ليس عندهم إيمان يصحح هذا العمل، فصارو منافقين. وإبليس وفرعون يعرفون الله ويتلقوا أوامر الله وعرفوا أمر الله ورسوله، لكنهم لم يعملوا وتلقوا أمر الله بالإيباء والاستكبار ورفضوا العمل فصارو كفرهم بالإيباء والاستكبار لأن هذه المعرفة لم تتحقق بالعمل والمعرفة والطاعة والانقياد.
المذيع: أحسن الله إليكم.