الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، توقفنا عند قول المؤلِّف رحمه الله:
(المتن)
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْعَقْلِ -وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ- فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِلْمٌ يَعْمَلُ بِمُوجِبِهِ، فَلَا يُسَمَّى عَاقِلًا إلَّا مَنْ عَرَفَ الْخَيْرَ فَطَلَبَهُ، وَالشَّرَّ فَتَرَكَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ؛ فَمِثْلُ هَذَا مَا لَهُ عَقْلٌ، فَكَمَا أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِهِ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ خَشْيَتَهُ وَخَشْيَتُهُ تَسْتَلْزِمُ طَاعَتَهُ.
فَالْخَائِفُ مِنْ اللَّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِهِ مُجْتَنِبٌ لِنَوَاهِيهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا بَيَانَهُ أَوَّلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى:9-12].
فَأَخْبَرَ: أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ، وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]، وَقَالَ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8].
وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]، سَيَتَّعِظُ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَفِي قَوْلِهِ {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]، إنَّمَا يَتَّعِظُ مَنْ يَرْجِعُ إلَى الطَّاعَةِ.
وَهَذَا لِأَنَّ التَّذَكُّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ العَمَلَ بِمَا تَذَكَّرَهُ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ مَحْبُوبًا طَلَبَهُ وَإِنْ تَذَكَّرَ مَرْهُوبًا هَرَبَ مِنْهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
(الشرح)
╝
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْعَقْلِ -وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ- فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِلْمٌ يُعْمَلُ بِمُوجِبِهِ".
يعني يريد المؤلِّف رحمه الله أن يبيِّن أنَّ كما أنَّ العالِم هو الذي يعمل بما عَلِم، وأن العلم يستلزم العمل، وأنَّ مَن لَم يعمل بعلمه فهو جاهل؛ فكذلك العقل، إنما يسمى الإنسان عاقلًا إذا كان يعمل بموجب العقل؛ وذلك أن العقل الصريح يوجِب لصاحبه أن يعمل بموجب هذا العقل، فالعاقل هو الذي يعمل ما ينفعه ويبتعد عما يضره.
وكذلك العالِم هو الذي يعمل بطاعة الله عز وجل ويجتنب معصيته؛ فإذا اجترح المعصية وترك الواجب، فإنه يُوصَف بالجهل؛ وإن كان يعلم أن هذه معصية، فكذلك الإنسان إذا كان يفعل ما يضرُّه يُنفى عنه العقل؛ لأنه لم يعمل بموجب العقل.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ".
والنُّظَّار هم: الذين يَنظرون في الأدلة، ويعتمدون على الأدلة النظرية التي يتأملونها، وينظرون إليها ويعملون بها؛ كالأدلة العقلية، والأدلة الحسية، والأدلة النظرية، سُمُّوا نُظَّار؛ لأنهم يعملون بالأدلَّة التي تكون عن طريق النظر وعن طريق العقل؛ غير الأدلة الشرعية.
يعني العقلاء والنظار وأصحاب النظريات التي يعملون بموجبها؛ هؤلاء جعلوا العقل مِن جنس العلم؛ فالذي لا يعمل بموجب العقل ينفُون عنه العقل؛ وإن كان عاقلًا، وإن لم يكن مجنونًا، وإن لم يكن ضعيف العقل؛ لكنه لما لَم يعمل بموجب العقل نُفِي عنه العقل.
كما أن مَن عَصى الله يُنفى عنه العلم ويُوصف بالجهل؛ وإن كان عالمًا بهذا الذنب، فلذلك قال المؤلِّف رحمه الله: "فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِلْمٌ يُعْمَلُ بِمُوجِبِهِ فَلَا يُسَمَّى عَاقِلًا، إلَّا مَنْ عَرَفَ الْخَيْرَ فَطَلَبَهُ وَالشَّرَّ فَتَرَكَهُ"؛ أمَّا مَن عرف الخير فلم يطلبه وعرف الشر فلم يتركه؛ فإنه يُنفى عنه العقل.
كيف شخص يسمِّي نفسه عاقلًا ويعرف الخير ولا يطلبه ويعرف الشر ولا يتركه! أين العقل!
ولهذا قال الله تعالى عن أصحاب النار لما دخلوا النار والعياذ بالله اعترفوا بأنهم ليسوا أصحاب عقول، عقولهم لَم تهدهم إلى الخير ولهذا اعترفوا، قال: "وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]".
فالله يحمدُه الأولون والآخرون يوم القيامة؛ حتى الكفار يحمدون الله على حكمته، ويعترفون بأن حكمته تقتضي أن يُعَذَّبوا {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك:10]، فيوم القيامة جميع الخلائق يحمدون الله، حتى أهل النار -والعياذ بالله- يعترفون بأنهم عصوا الله على بصيرة، وأن عقولهم لم تهدهم إلى الرشاد، وأنهم مُستَحقون للعذاب، وأن حكمة الله تقتضي ذلك.
"وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]"؛ نفى عنهم العقل وإن لم يكونوا ضعفاء في عقولهم؛ لكنهم لما لَم يعملوا بموجب العقل السليم الصريح؛ نَفَى الله عنهم العقل، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
قال: لو كان عندهم عقول سليمة لأرشدتهم إلى اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأمر الله وأمر رسوله ﷺ والإيمان بالله وبرُسُله لكن عقولهم لم تهدهم إلى هذا؛ فكفروا بالله وبرسوله وحاربوا الله ورسوله والمؤمنين وصاروا كما أخبر الله عنهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
يقول المؤلف رحمه الله: "وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ؛ فَمِثْلُ هَذَا مَا لَهُ عَقْلٌ"، ما له عقلٌ سليم يهديه إلى الرشاد؛ وإن لَم يكن مجنونًا وإن لَم يكن ضعيف العقل؛ لكن عقله هذا الذي لا يَنتفع به كَلَا شيء، فالعقل الذي لا يهدي صاحبه إلى الرشاد ويهديه للخير والعمل بما ينفعه وترك ما يضره لا قيمة له.
ولهذا يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ؛ فَمِثْلُ هَذَا مَا لَهُ عَقْلٌ، فَكَمَا أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِهِ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ خَشْيَتَهُ وَخَشْيَتُهُ تَسْتَلْزِمُ طَاعَتَهُ، فَالْخَائِفُ مِنْ اللَّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِهِ مُجْتَنِبٌ لِنَوَاهِيهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا بَيَانَهُ أَوَّلًا".
المؤلف رحمه الله ذكر هذ الوسائل كلها، وما يتعلَّق بالعقل؛ ليبيِّن أن الخوف والخشية تستلزم طاعة الله وطاعة رسوله، فالخوف مِن الله يستلزم العلم به؛ والعلم بالله يستلزم خشية الله؛ وخشية الله تستلزم طاعته.
فإذًا مَن أطاع الله يصدُق عليه بأنه عالِم وبأنه خائف، وبأنه ممن يخشى الله، ومَن عصى الله يصدق عليه بأنه جاهل وبأنه غير خائف مِن الله، لا يصاب بالخشية ولا يصيبه الخوف مِن الله ولا يوصف بالعلم؛ بل يوصف بالجهل ويوصف بعدم الخوف مِن الله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَكَمَا أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِه"؛ يعني الخوف الصحيح الخوف المحمود الذي يَحمِل صاحبه على أداء الواجب وترك المحرم يستلزم العلم بالله، والعلم الصحيح بالله يستلزم خشية الله وخشية الله تستلزم الطاعة.
"فَالْخَائِفُ مِنْ اللَّهِ مُمْتَثِلٌ لِأَوَامِرِهِ مُجْتَنِبٌ لِنَوَاهِيهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا بَيَانَهُ أَوَّلًا"، ولهذا قال الله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن:46]، وقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة:8].
يقول المؤلف رحمه الله: "وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى:9-12]، فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ".
قال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ثم قال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10].
إذًا الذي يخشى الله هو الذي يتذكر ومَن لا يخشى الله لا يتذكر ولا ينتفع؛ يكون عاصيًا لله؛ لأنه لا يخشى الله فلا ينتفع بالذكرى، أما المؤمن المطيع الذي يخشى الله هو الذي ينتفع بالمواعظ، بالنصائح ولهذا قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى:9-10].
يقول المؤلف رحمه الله: "وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ"، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } [الأعلى:10]؛ يعني سيتذكر ويعبد الله، ويقيم أمر الله الذي يخشى الله، فالذي يخشى الله هو العابد لله، والعابد هو المطيع، والمطيع هو الممتثل لأمر الله المجتنب لنواهيه، والعاصي لا يخشى الله ولا يتذكر تنتفي عنه الذكرى وتنتفي عنه الخشية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ يَخْشَاهُ يَتَذَكَّرُ، وَالتَّذَكُّرُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِعِبَادَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]".
والآية فيها حصر، ما يتذكر إلا مَن ينيب، والمنيب هو الذي يرجع إلى الله بطاعته والتوبة إليه مِن التقصير؛ فالمنيب هو الذي يتذكر وغير المنيب لا يتذكر فالمنيب هو المطيع لله، هو المتذكر، وغير المطيع لله غير متذكر وهذا مفهوم مِن الحصر، الآية فيها حصر أو علة.
{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]، الآية فيها منطوق ومفهوم، منطوق الآية أن المنيب المطيع لله هو المتذكر، ومفهومها أن غير المنيب ليس من المتذكرين؛ لا يتذكر ولا ينتفع بالذكرى لعصيانه وفجوره، وأما المطيع فلتذكره؛ فإنه عابد لله مطيع لله، وقال سبحانه: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8ر)} [ق:8].
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق:6-7].
أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أن هذه الآيات تبصرة يتبصر بها، ويستفيد منها ويتذكر بها، ويعبد الله ويطيع الله المنيب الراجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تبصرة وذكرى، لكن ليس لكل أحد، بل لكل عبد موصوف بالإنابة، لكل عبد منيب راجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتائب إليه ومطيع لله، هذا هو الذي ينتفع بالآيات، أما غير المنيب فلا ينتفع، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس:101].
فالمؤمن المطيع المنيب: هو الذي ينتفع بالآيات والنذر والدلائل على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، ولهذا قال سبحانه: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق:8]، قال المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]، سَيَتَّعِظُ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ".
تفسير {سَيَذَّكَّرُ}؛ يعني سيتعظ بالقرآن مَن يخشى الله.
"وفي قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]، إنَّمَا يَتَّعِظُ مَنْ يَرْجِعُ إلَى الطَّاعَةِ"؛ {وَمَا يَتَذَكَّرُ}؛ يعني يتعظ؛ والاتعاظ يحمل على الطاعة والامتثال، {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13]، إنما يتذكر مَن يرجع إلى الطاعة، وهذا لأن التذكر التام يستلزم العمل بما تذكره، يعني إذا كان التذكر تامًّا فإنه يستلزم العقل، أما إذا لم يعمل دلَّ على أن التذكر ناقص، فإذا تم التذكر وكمُلَ في القلب لابد أن يثمر العمل، فإذا لم يعمل دل على أن تذكره ناقصًا.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا لِأَنَّ التَّذَكُّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ التَّأَثُّرَ بِمَا تَذَكَّرَهُ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ مَحْبُوبًا طَلَبَهُ وَإِنْ تَذَكَّرَ مَرْهُوبًا هَرَبَ مِنْهُ".
هذا العمل إذا تذكر محبوبًا فالمحبوب مثلًا كرامة الله ورضوانه وجنته والتمتع برؤيته U ، أعظم نعيم يعطاه المؤمنون هو النظر إلى وجهه الكريم، هذا محبوب للمؤمنين، ولهذا إذا نظر المؤمنون إلى وجه ربهم U نسوا ما هم فيه من النعيم، فهذا محبوب للمؤمن؛ فالمؤمن إذا تذكر هذا المحبوب طلبه، طلب هذه الكرامة أن يدخله الله الجنة وينعمه بما فيها من النعيم وينظر إلى وجهه الكريم؛ يطلبه بالعمل الصالح بتوحيد الله وإخلاص الدين له وأداء حقوقه بفعل الواجبات وترك المحرمات والوقوف عند حدود الله؛ بهذا يكون الإنسان متذكرًا.
وكذلك إذا تذكر مرهوبًا هرب منه؛ إذا تذكر سخط الله والنار التي أعدها لأعدائه هرب منها بالهرب من أسبابها التي توصل إليها؛ وهي الكفر والمعاصي والكبائر فيكون بعيدًا عنها وبعيدًا عن أسبابها حذرًا خائفًا، قال المؤلف رحمه الله: "وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]" في الكفار قال الله عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، فلا ينتفعون ولا يتذكرون، وكما قال الله تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)} [الشعراء:136]. يعني الموعظة وعدمها سيَّان، الإنذار وعدمه سيان؛ لا ينتفعون لعدم خشيتهم وخوفهم مِن الله U.
(المتن):
قال المؤلف رحمه الله: وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]. فَنَفَى الْإِنْذَارَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ قَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِنْذَارَ مِنْ وَجْهٍ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ. فَالْإِنْذَارُ مِثْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّخْوِيفِ فَمَنْ عَلَّمْتَهُ فَتَعَلَّمَ فَقَدْ تَمَّ تَعْلِيمُهُ وَآخَرُ يَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ خَوَّفْتَهُ فَخَافَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَمَّ تَخْوِيفُهُ. وَأَمَّا مَنْ خُوِّفَ فَمَا خَافَ؛ فَلَمْ يَتِمَّ تَخْوِيفُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ هَدَيْتَهُ فَاهْتَدَى؛ تَمَّ هُدَاهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. وَمَنْ هَدَيْتَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ - كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]- فَلَمْ يَتِمَّ هُدَاهُ كَمَا تَقُولُ: قَطَّعْتُهُ فَانْقَطَعَ وَقَطَّعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]. فَنَفَى الْإِنْذَارَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ" يعني فنفى الإنذار عن مَن لَم يتبع الذكر، وخشي الرحمن، "إنَّمَا تُنْذِرُ" أي أن مَن ينتفع بالإنذار ويعمل بموجب الإنذار مَن اتصف بهذا الوصف {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْب} [يس:11]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء؛ يعني أثبت الإنذار لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، ونفاه عن مَن لَم يتبع الذكر ولَم يخش الرحمن بالغيب مع قوله في الآية الأخرى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
"فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِنْذَارَ مِنْ وَجْهٍ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ"، أثبت لهم الإنذار لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنذرهم وخوفهم وأبلغهم وخوفهم بأس الله ونقمته؛ هذا إنذار ونفى عنهم الإنذار لأنهم لم ينتفعوا به؛ فهم مِن وجه أُثبت لهم الإنذار ومِن وجه نُفي عنهم.
ثبت لهم الإنذار مِن وجه أن الرسول بلغهم أمر الله U وبين لهم الدليل وبين لهم الحجة وعرفهم توحيد الله ، هذا إبلاغ، فالإبلاغ حصل لهم أما التذكر الذي ينفع ويعملون بموجبه من الامتثال والطاعة فهذا منفي عنهم فالكفار حصل لهم الإنذار من وجه ونفي عنهم من وجه، فالوجه الذي أُثبت لهم بلوغ الحجة إليهم ووصولها ومعرفتهم بها، والإنذار الذي نُفي عنهم عدم اتباعهم للذكرى وعدم الخشية والخوف وعدم العمل بموجب هذه الذكرى.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله " فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِنْذَارَ مِنْ وَجْهٍ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ" النبي ﷺ أعلمهم بالمَخُوف وحذرهم بأس الله ونقمته وغضبه وسخطه وناره، أعلمهم بذلك؛ لكنهم لم يستفيدوا مِن هذا الإنذار ولم يتذكروا فنُفي عنهم مِن هذا الوجه، مِن وجه الإبلاغ أُثبت لهم الإنذار ومِن وجه عدم العمل بموجب هذا الإنذار نُفي عنهم.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَالْإِنْذَارُ مِثْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّخْوِيفِ فَمَنْ عَلَّمْتَهُ فَتَعَلَّمَ فَقَدْ تَمَّ تَعْلِيمُهُ وَآخَرُ يَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ" هذا لم يتم تعليمه؛ إذا كان عندك شخصان أحدهما علمته فتعلم، والثاني علمته فلم يتعلم، كلٌّ منهما حصل له التعليم لكن الذي علمته فتعلم؛ تم تعليمه، والذي علمته ولم يتعلم؛ لم يتم تعليمه.
فمن وجه كل منهما حصل له التعليم لكن مِن جهة الانتفاع والنتيجة مَن تعلم هو الذي تم تعليمه والذي لم يتعلم لم يتم تعليمه. " وَكَذَلِكَ مَنْ خَوَّفْتَهُ فَخَافَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَمَّ تَخْوِيفُهُ. وَأَمَّا مَنْ خُوِّفَ فَمَا خَافَ؛ فَلَمْ يَتِمَّ تَخْوِيفُهُ"، عندك اثنان عاصيان مرتكبان لكبيرة؛ نهيتهما وخوفتهما وحذرتهما بأس الله ونقمته فأحدهما تاب وانتفع واستفاد وخاف مِن الله، والثاني بقي على ضلاله؛ فالذي رجع وتاب هذا تم تخويفه، والذي استمر على معصيته لم يتم تخويفه.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ مَنْ هَدَيْتَهُ فَاهْتَدَى؛ تَمَّ هُدَاهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]" يعني مَن هديته هداية الدلالة والإرشاد والتعليم؛ هذا هو الذي بيد الدعاة والمصلحين وبيد الأنبياء؛ أما هداية الإلهام والتوفيق والتسديد وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه هذا إلى الله؛ لا يملكه إلا الله.
الله تعالى يقول في كتابه الكريم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى:52]، لتدل وترشد؛ وأما هداية الإلهام والتوفيق والتسديد، وخلق الهداية في القلب، وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه؛ هذا لا يملكه إلا لله؛ نفاه الله عن النبي في قوله : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {القصص:56].
يقول المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ مَنْ هَدَيْتَهُ فَاهْتَدَى؛ تَمَّ هُدَاهُ" يعني مَن هديته هداية الدلالة والإرشاد مَن علمته " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. وَمَنْ هَدَيْتَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ" الذي لم يقبل الهداية هذا تُنفى عنه الهداية " كَمَا قَالَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]" هديناهم يعني دللناهم، وأرشدناهم، هداية الدلالة والإرشاد "{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]- فَلَمْ يَتِمَّ هُدَاهُ كَمَا تَقُولُ: قَطَّعْتُهُ فَانْقَطَعَ وَقَطَّعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ" يعني يفرق بين شيئين؛ "قَطَّعْتُهُ فَانْقَطَعَ" هذا تم القطع، و" وَقَطَّعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ" ما تم القطع.
أَجريتَ السكين على شيء وقطعته؛ هذا تم قطعه، وأجريت على شيء آخر فلم ينقطع؛ ما تم قطعه، كذلك مَن هديته فاهتدى تم هداه، ومَن ذكَّرته ولم يهتد؛ لم يتم هداه، كذلك مَن خوفته وأنذرته فخاف تم إنذاره وتخويفه، ومَن خوفته وأنذرته ولم يقبل الإنذار والتخويف فإنه لم يتم إنذاره.
(المتن):
فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ: فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ أَثَرُهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا وَالْفِعْلُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا تَمَّ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ. وَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يُورِثُ طَلَبَهُ وَالْعِلْمُ بِالْمَكْرُوهِ يُورِثُ تَرْكَهُ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى هَذَا الْعِلْمُ: الدَّاعِيَ وَيُقَالُ: الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَأَمَّا مَعَ فَسَادِهَا فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً بَلْ يُؤْلِمُهُ، وَكَذَلِكَ يَلْتَذُّ بِالْمُؤْلِمِ لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعًا كَالْمَمْرُورِ الَّذِي يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا: فَإِنَّهُ فَسَدَ نَفْسُ إحْسَاسِهِ حَتَّى كَانَ يُحِسُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِلْمُرَّةِ الَّتِي مَازَجَتْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَدَ بَاطِنُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام:109-110].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. وَقَالَ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]. وَ " الْغُلْفُ ": جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ ذُو الْغِلَافِ الَّذِي فِي غِلَافٍ مِثْلِ الْأَقْلَفِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَانِعَ خِلْقَةً أَيْ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ وَعَلَيْهَا أَغْطِيَةٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]، و {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله: " فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ: فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ أَثَرُهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا".
يقول: إن المؤثر إذا كان تامًّا فإنه "يَسْتَلْزِمُ أَثَرَهُ"؛ يعني لابد أن يحصل أثره؛ فالخشية إذا كانت تامة لابد أن تستلزم أثرها؛ وهي الطاعة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
كذلك العقل إذا كان تاماًّ فإنه يستلزم أثره وهو طلب الخير وترك الشر فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًّا؛ فإذا كانت الخشية لا تثمر الهداية والطاعة؛ لَم تكن خشية تامة.
ويقول المؤلف رحمه الله: "وَالْفِعْلُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا تَمَّ" إذا كان المحل قابل؛ فالمؤمن الذي وفقه الله وهداه وجعله قابلًا للإيمان؛ فإن شجرة الإيمان تثمر في قلبه الخوف والخشية والطاعة، ومَن لَم يرد الله هدايته ولم يجعله محلًّا قابلا للخير؛ فإن الخشية والإنذار والعلم لا يصادف محلًّا قابلًا فلا يثمر العمل ولا يثمر الهداية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَالْفِعْلُ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا تَمَّ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ، وَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يُورِثُ طَلَبَهُ".
العلم الصحيح بالمحبوب يورث أن يطلب هذا المحبوب، إذا علمت أن هذا محبوب وأنك تريده؛ إذا كان العلم تامًّا فإنه يورثك أن تطلب هذا الشيء وتسعى إليه.
فإذا كان المؤمن يحب الله ورسوله والدار الآخرة فإن هذا العلم يورث الطلب، توحيد الله وإخلاص الدين له وفعل الواجبات وترك المحرمات "وَالْعِلْمُ بِالْمَكْرُوهِ يُورِثُ تَرْكَهُ" إذا علِم علمًا تاًّما بالمكروه وأنه يكره غضب الله وسخطه وناره فإن هذا العلم إذا تمّ يورث ترك هذا المكروه بأن يبتعد ويجتنب ويفر مِن الأسباب التي توقعه في غضب الله وسخطه ولعنته.
يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا يُسَمَّى هَذَا الْعِلْمُ: الدَّاعِيَ وَيُقَالُ: الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ" فهذا العلم الذي في القلب يستلزم وجود الداعي، الداعي لأنه يدعو الإنسان ويبعثه على الطلب أو على الترك؛ على طلب المحبوب وعلى ترك المكروه، هذا العلم الذي في القلب يقال له الداعي، إذا فُقِد الداعي فإنه لا يحصل الطلب ولا الترك إذا اجتمع مع القدرة.
ويقول "الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُور" إذا وُجِد الداعي في القلب والقدرة، وهي الأسباب، فإنه لا يتخلف المقدور.
أما إذا فُقد الداعي أو فُقدت القدرة فإنه يتخلف؛ إذا فُقد الداعي، ليس عنده باعث يبعثه على الطلب أو على الترك، أو عنده باعث يبعثه على الطلب والترك لكن ليس عنده قدرة، وليس عنده أسباب تمكنه، فإذا وُجد الأمران فلا يتخلف المقدور، إذا وجد الأمران الداعي والباعث والشوق الذي يكون في القلب؛ الشوق إلى المحبوب أو الخوف والهرب مِن المكروه مع فعل الأسباب أي القدرة التي تمكنه مِن الأسباب فإنه لا يتخلف.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله " الدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِرَادَةِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادِ" الداعي يعني العلم الذي يستلزم إرادة المعلوم، عِلم يستلزم الإرادة، هذا الداعي، علم يستلزم الإرادة، فإذا كان معه قدرة فلا يتخلف المطلوب.
ولابد مِن أمر ثالث " إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا" وهذه الفطرة وأساليبها التي لا تفسد فطرته إذا وجد عنده الداعي والقدرة فلا يتخلف المطلوب وأما إذا فسدت الفطرة إن كان عنده الداعي والقدرة فإنه يتخلف.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَأَمَّا مَعَ فَسَادِهَا فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً" يعني انقلبت عنده الموازين، مَن فسدت فطرته انقلبت عنده الموازين " فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً بَلْ يُؤْلِمُهُ، وَكَذَلِكَ يَلْتَذُّ بِالْمُؤْلِمِ لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ" وهو واقع الآن؛ تجد الآن العصاة قد يتلذذ بالمعصية؛ شارب الخمر وشارب الدخان يتلذذ بها لفساد فطرته، فلا يحس بالآلام، لا يحس بالرائحة، ولا يحس بالآلام التي تحصل له، فطرته فسدت بخلاف صحيح الفطرة؛ فإنه ينفر مِن الدخان ورائحته الكريهة وينفر مِن الخمر وآلامه مثلًا لأنه صحيح الفطرة؛ أما فاسد الفطرة فتنقلب عنده الموازين فليلتذ بالمؤلم ولا يلتذ بما يضاده.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ مَعَ صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَأَمَّا مَعَ فَسَادِهَا فَقَدْ يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِاللَّذِيذِ فَلَا يَجِدُ لَهُ لَذَّةً".
قَد يُنكِرُ الفَمُ طَعمَ الَماءِ مِن سَقَمٍ
وَتُنكِرُ العَينُ ضَوءَ الشَّمسِ مِن رَمَدِ
" بَلْ يُؤْلِمُهُ، وَكَذَلِكَ يَلْتَذُّ بِالْمُؤْلِمِ لِفَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعًا" يعني أن لابد مِن شيئين؛ الشيء الأول: العلم، والشي الثاني: العمل، ولكن لابد للعلم مِن قوة؛ والقوة تستلزم الداعي، ولابد للعمل مِن قدرة عليه، فإذا كانت القوة العلمية تامة، والقوة العملية فلا يتخلف إلا إذا فسدت، إلا إذا تطرق فساد إليهما أو واحد منهما.
فالفساد يتطرق إلى القوة العلمية فيكون علمه فاسد، كاليهود وغيرهم ممن فسدت علومهم ومعارفهم وكذلك أهل البدع مِن المعتزلة والجهمية وغيرهم فسدت علومهم، عندهم علوم لكنها تطرق إليها الفساد؛ وقد يتطرق الفساد إلى القوة العملية قد يكون عنده شبهة تمنعه مِن العمل.
وممكن أن يتطرق الفساد إلى كليهما إلى القوة العلمية والقوة العملية " وَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ الْقُوَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعًا كَالْمَمْرُورِ الَّذِي يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا" مثَّل المؤلف رحمه الله كالممرور يجد العسل مرًّا؛ فيه مرارة، عنده مرارة في جوفه تغير عليه إحساسه ولذته؛ فهو يلعق العسل ولكن يجده مرًّا، العسل صحيح ليس فيه فساد، لكن الفساد إنما هو في هذا الشخص، في جوفه، في المر الذي حصل له؛ فإنه فسد نفس الإحساس.
كما أن الإنسان يفسد عنده إحساس الشم فلا يشم، إحساس البصر فلا يبصر، وكذلك الذوق قد يفسد ويتذوق العسل ولا يجد لذته والعسل صحيح وحلو إذا ذاقه السليم فإنه يجد اللذة والحلاوة؛ لكن قد تطرق الفساد إلى إحساس حاسة الذوق فإنه لا يجد له لذة ولا حلاوة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّهُ فَسَدَ نَفْسُ إحْسَاسِهِ حَتَّى كَانَ يُحِسُّ بِهِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِلْمُرَّةِ الَّتِي مَازَجَتْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَدَ بَاطِنُهُ" مَن فسد باطنه والعياذ بالله فإنه لا يؤمن ولا يقبل الحق لفساد الباطن؛ كالمنافقين والكفار والمشركين فسد باطنهم فلم يقبلوا الحق، الحق سليم وواضح وعليه نور؛ لكن هذا الشخص الذي لا يقبله عنده فساد في الباطن؛ فلا يقبل الحق ولا يراه حقًّا.
كما يحصل لأعداء الرسل فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كسر الأصنام وقومه لما فسدت بواطنهم صاروا يقولون {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) } [الأنبياء:59]، فعاقبوه وألقوه في النار لفساد بواطنهم ولهذا قال المؤلف مستشهدًا لفساد الباطن " قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام:109-110]" فلما فسدت بواطنهم؛ قلب الله أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على كونهم لم يقبلوا الحق حينما جاءهم{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110].
"وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]" فالزيغ الثاني عقوبة للزيغ الأول؛ فلما زاغوا أي لم يقبلوا الحق وردوه أزاغ الله قلوبهم عقوبة لهم، "وَقَالَ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]. وَ " الْغُلْفُ ": جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ ذُو الْغِلَافِ الَّذِي فِي غِلَافٍ مِثْلِ الْأَقْلَفِ كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَانِعَ خِلْقَةً أَيْ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ وَعَلَيْهَا أَغْطِيَةٌ" وفي الآية الأخرى يقول {في قلوبنا أكنة مما تدعونا إليه وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} [فصلت:5]، وفي الآية الأخرى قال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين:14].
فالغلف والأكنة والرَّان كلها أغطية معنوية عاقبهم الله بها ففسدت بذلك بواطنهم، فلا يقبلوا الحق نسأل الله السلامة والعافية.
"فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88] و {بل طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16]، هذه الآية في المنافقين، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ} [محمد:16]"؛ أي يستمع إلى النبي ﷺ.
"حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" وهم الصحابة، {مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، هؤلاء فسدت بواطنهم فلم يقبلوا الحق ولو صحت البواطن وصحت القوة العلمية والقوة العملية لحصل التأثير وحصلت الاستجابة، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله: " وَكَذَلِكَ قَالُوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، قَالَ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، فَقَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا. فَنَفَى عَنْهُمْ صِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَصِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. وَقَالَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. وَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]".
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يبين أن العلم يستلزم إذا كان فيه الداعي والقدرة فلابد أن يثمر العقل، العلم الصحيح وهو الداعي مع القدرة إذا وُجد في القلب لا يتخلف إلا إذا فسدت الفطرة وتطرق الفساد إلى القوة العلمية والقوة العملية أو كليهما فإنه لا يحصل التأثير.
ولا يزال المؤلف رحمه الله يستشهد بالآيات قال: " وَكَذَلِكَ قَالُوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، قَالَ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ" هم سمعوا وأسمعهم لكنهم لم يُسمِعوا سماع استجابة، لكنهم سمعوا وقامت عليهم الحجة، فقوم شعيب قالوا: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، لفساد بواطنهم وإلا فهم يفهمون.
قامت عليهم الحجة لكنهم لم يقبوا بشرع الله والإيمان به وبرسوله لفساد بواطنهم وكذلك الكفار قال الله فيهم "{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ مَا سَمِعُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]" بين الله I أن هؤلاء تطرق الفساد عنده إلى القوة العلمية والقوة العملية فالقوة العلمية.
قال الله فيهم {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، أي لأفهمهم والقوة العملية {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال:23]، يعني " وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]" لأن الفساد تطرق إلى القوة العلمية والقوة العملية؛ فالقوة العلمية عندهم تطرق إليها الفساد، والقوة العملية تطرق إليها الفساد ولهذا {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]، يعني لأفهمهم هذه القوة العلمية " وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ" لوُجد المانع الآخر مِن القبول وهو فساد القوة العملية.
قال المؤلف رحمه الله: " فَقَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا. فَنَفَى عَنْهُمْ صِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَصِحَّةَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]" لفساد القوة العملية وفساد القوة العلمية أيضًا؛ وإن كانت الحجة قامت عليهم، قامت الحجة عليهم سمعوا الدليل سمعوا الحجة وقامت عليهم الحجة ولكنهم لم يفهموها لفساد القوة العلمية ولو فهموها لما عملوا لفساد القوة العملية.
" وَقَالَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]" لأن هؤلاء فسدت القوة العلمية عندهم والقوة العملية؛ فلم ينتفعوا بقلوبهم ولم ينتفعوا بأعينهم ولم ينتفعوا بآذانهم، فلهم قلوب يفقهون بها أمور دنياهم لكنهم لا يفقهون بها ما ينفعهم في أخراهم، ولهم أعين يبصرون بها في دنياهم ولكن لا يبصرون ما ينفعهم في الآخرة، ولهم آذان يسمعون بها في دنياهم ولكنهم لا يسمعون بها سماعًا ينفعهم في الآخرة، ولهذا شبههم الله بالأنعام {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
" وَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]" هذه الآية فيها دليل على أنه لا يُشترط فهم الحجة وإنما يُشترط قيام الحجة؛ والكفار قامت عليهم الحجة وسمعوا الإنذار، قامت عليهم الحجة وبلغتهم الحجة؛ ولكنهم لما فسدت عندهم القوة العلمية والقوة العملية تخلف العمل، فلم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا بذلك رأسًا.
" وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]" صم عن سماع الحق وإن كانوا يسمعون في أمور دنياهم، بكم عن التكلم بالحق وإن كانوا يتكلمون في أمور دنياهم، عمي عن رؤية الحق وإن كانوا يرون ويبصرون أمور دنياهم، فهم لا يرجعون نسأل الله السلامة والعافية، نعم.
(المتن)
قال رحمه الله: " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. " وَالْقَلْبُ " هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْقَهُهُ وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ؛ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: «صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» . فَنُفِيَ الْإِيمَانَ حَيْثُ نُفِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ".
(الشرح)
المؤلف رحمه الله: يبين معنى الآية في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]. يبين معنًى قاله بعض الناس في الآية ولكنه بين المعنى الصحيح للآية قال: "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ" إذًا ذكر تفسرين؛ مِن الناس مَن فسر الآية {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر والنطق؛ جُعِلوا صمًّا وبكمًا وعميًا.
والتفسير الثاني أنهم لما أعرضوا عن السمع والبصر والنطق صاروا يشبهون أو مشبهين بالصم والبكم والعمي، والمؤلف رحمه الله لم يرتض هذين التفسيرين وأتي بتفسير ثالث قال: هو الصحيح، قال: معنى الآية أن " نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ" نفس القلوب، ليس المراد أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر جُعِلوا صمًّا أو لما أعرضوا عن السمع والبصر صاروا كالصم والبكم.
بل نفس القلوب عميت ونفس الآذان صمت ونفس الألسن بكمت يعني هي نفسها، أصابها الخلل فيها هي ليس الخلل في الانتفاع وليس الخلل في الإعراض؛ بل الخلل في نفس القلوب ونفس الآذان ونفس الألسن، بل " نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كما قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]".
استدل المؤلف رحمه الله لهذا المعنى بهذه الآية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ووجه الدلالة أن الله I أخبر أن القلوب هي التي عميت، إنما أُصيبت هيَ نفس القلوب، لا أن السبب في هذا كونهم أعرضوا أو كونهم لم ينتفعوا، بل الخلل أصاب القلوب نفسها؛ ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
يقول المؤلف رحمه الله: "( وَالْقَلْبُ ) هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ"، يعني القلب هو ملك الإنسان كأنه دولة الآن، تبارك الله أحسن الخالقين، الإنسان بأعضائه وحواسه يعني ملك ودولة، فالملك هو القلب والجوارح هي الجنود يدبرها الملك فإذا صلح الملك صلحت الرعية وإذا فسد الملك فسدت الرعية.
كما يُقال: الناس على دين الملوك، والمرأة على دين زوجها، فإذا فسدت الملوك فسدت الرعية ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} [النمل:34]، وكما ان الملك هو الراعي والرعية تبع له، فكذلك الراعي الملك هو القلب وبقية الأعضاء تبع له.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "(وَالْقَلْبُ) هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ" كما جاء في الحديث المعروف أن النبي ﷺ قال: «أَلَا ِإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه أَلَا وَهِيَ القَلْبُ».
يقول المؤلف رحمه الله: " فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ" لفساد قلبه، إذا فسد قلبه صارت الأعضاء ما ينتفع بها " فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ" كما قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171].
" فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْقَهُهُ" لا يفقه المعنى؛ يسمع الصوت فلا ينتفع " وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا" يعني إن تطرق إليه شيء مِن الفقه يكون فقهًا ضعيفًا ليس تامًّا؛ فلا يؤثر فلا يحصل الأثر المطلوب.
" فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ" إذا كان الفقه تامًّا فإنه يلزم منه أن يؤثر في القلب محبة المحبوب ويؤثر في القلب بغض المبغوض، فمثل هذا الذي لَم يحصل في قلبه محبة المحبوب ولم يحصل في القلب بغض المكروه " لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ".
فإذًا الذي لا يستفيد مِن النذر والمواعظ في قلبه ولا يتأثر ولا يعمل؛ هذا يُنفى عنه الفقه وإن كان يسمع الصوت ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى" كل شيء لم يتم يُنفى عنه الشيء.
ومثل المؤلف رحمه الله قول النبي ﷺ للذي أساء صلاته " كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: «صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»" هو صلى، هذا الرجل صلى ركعتين؛ لكنه لَم يُتِم الركوع ولا السجود، ونقرها كنقر الغراب نفى عنه النبي ﷺ الصلاة، هو صلى ركعتين ركع وسجد وقام وقرأ أتى بالصلاة الصورية؛ لكنها لما لَم تكن صلاة حقيقية أدى فيها الأركان والواجبات؛ نفاها النبي ﷺ فقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ».
". فَنُفِيَ الْإِيمَانَ حَيْثُ نُفِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ" يعني ينفون الإيمان عن الشخص الذي لم يؤد الواجبات ولم يترك المحرمات مِن هذا الباب؛ لأنه ترك شيئًا واجبًا، وكذلك المصلي إذا ترك ركنًا أو ترك واجبًا أو بعض الواجبات والأركان، فإنها تُنفى عنه الصلاة، فكذلك العاصي الذي ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات يُنفى عنه الإيمان.
(المتن):
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِوَجَلِ الْقَلْبِ إذَا ذُكِرَ وَبِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ إذَا سَمِعُوا آيَاتِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: زَادَتْهُمْ يَقِينًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خَشْيَةً. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَصْدِيقًا. وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] .
وَ " الْخُشُوعُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ.
وَالثَّانِي: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ؛ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا: التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]. قَالَ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءَ.
وَعَنْ الْحَسَنِ وقتادة: خَائِفُونَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: مُتَوَاضِعُونَ. وَعَنْ عَلِىّ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَك وَلَا تَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشْرِدَ بَصَرُهُ أَوْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؛ وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُبُّ حُسْنِ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْظُرُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون:1-2]، الْآيَةَ.
فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ حَيْثُ يَسْجُدُونَ وَمَا رُئِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إلَّا إلَى الْأَرْضِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءِ مِنْ جَسَدِك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَلَفْظُ الْخُشُوعِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - يُبْسَطُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِوَجَلِ الْقَلْبِ إذَا ذُكِرَ وَبِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ إذَا سَمِعُوا آيَاتِهِ" يعني أن الله تعالى جمع في وصف المؤمنين بين هذين الوصفين يشير إلى قول الله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال:2-3]، في هذه الآية ذكر الله تعالى خمسة أوصاف للمؤمنين، والمؤلف رحمه الله سبق أن ذكر هذه الآية في مطلع الكتاب استدل بها على صفات المؤمنين، ثم عاد إليها مرة أخرى.
سبق أن بين المؤلف رحمه الله أن هذه الأوصاف الخمسة ترجع إليها بقية الأوصاف و"فقال هنا: "وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِوَجَلِ الْقَلْبِ إذَا ذُكِر" يعني إذا ذُكِر الله، " وَبِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ إذَا سَمِعُوا آيَاتِهِ" جُمع لهم وصفين وجل القلب إذا ذكر الله وزيادة الإيمان إذا تليت آيات الله.
" قَالَ الضَّحَّاكُ: زَادَتْهُمْ يَقِينًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: خَشْيَةً. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَصْدِيقًا" وهذه المعاني كلها صحيحة إذا تليت آيات الله يزداد المؤمنون يقينًا وخشيةً وتصديقًا لا منافاة، " وَهَكَذَا قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ" والمراد بالأصلين وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن.
" قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. وَ " الْخُشُوعُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ. وَالثَّانِي: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ" الخشوع يتضمن معنيين أحدهما التواضع والذل لله U تعبدًا وخضوعًا والثاني السكون والطمأنينة.
" وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ" فمن توفر فيه التواضع والذل والسكون فإن ذلك يلزم للين القلب فالمتواضع الذليل الساكن لابد أن يكون لين القلب.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا" يعني يتضمن التواضع والذل والسكون والطمأنينة، الخشوع في الصلاة وغيرها يتضمن (هذا) الخضوع والذل (وهذا) السكون والطمأنينة، " التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ".
" وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]. قَالَ: مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءَ" والإخبات هو الطمأنينة وهو التواضع والذل، وفسَّر الله تعالى المخبتين في قوله تعالى في سورة الحج: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) } [الحج:34-35]، فهذا أحسن ما يفسر به، كلام الله بكلام الله، فكلام الله يُفَسَّر بكلام الله ثم يُفسَّر بكلام نبيه محمد ﷺ فالله تعالى فسر المخبتين قال:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(2)} [الأنفال:2].
" وَعَنْ الْحَسَنِ وقتادة: خَائِفُونَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: مُتَوَاضِعُونَ. وَعَنْ عَلِىّ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَك" يعني يكون عندك تواضع وذل لأخيك المسلم كقوله سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 88].
" وَلَا تَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ" وهذه المعني كلها معاني صحيحة فالإخبات يشمل الخوف؛ فهم مخبتون لله خائفون متواضعون، وقلوبهم خاشعة لله فيلين المرء لأخيه المسلم، ويَغُضُّ بصره ويخفض جناحه، كل هذا داخل في الإخبات، والمقصود أن وجل القلب الذي وصف الله به المؤمنين في آيات الأنفال يشمل هذه المعاني كلها يشمل الخوف والتواضع والذل وغض البصر وخفض الجناح.
"وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشْرِدَ بَصَرُهُ أَوْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا" وذلك لخضوعه وذله لله U.وعن عمر ابن دينار ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنه السكون وحسن الهيئة في الصلاة
"وَعَنْ ابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْظُرُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون:2]، الْآيَةَ. فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ حَيْثُ يَسْجُدُونَ" كل ذلك مِن الخضوع والذل والخفض وغض البصر.
قال: " «وَمَا رُئِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إلَّا إلَى الْأَرْضِ». وَعَنْ عَطَاءٍ: هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءِ مِنْ جَسَدِك وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ"؛ هذا داخل في السكون والطمأنينة، "«وَأَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»" وهذا الحديث رواه سعيد بن المسيب في كتاب ابن المبارك وضعَّفه الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة؛ ولكن معناه صحيح.
خشوع الجوارح دليل على خشوع القلب في الغالب إذا كان الإنسان مؤمنًا، أما المنافق فإنه قد تخشع جوارحه ولا يخشع قلبه. يُقصد مِن هذا أن يبين المؤلف رحمه الله وصفين لعباده المؤمنين حقًّا الذين حققوا الإيمان؛ أنهم جمعوا بين هذين الوصفين وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند قراءة القرآن.
وهذه الأقوال التي ذكرها المؤلف كلها في تفسير وجل القلب وزيادة الإيمان، وقصد المؤلف مِن هذا أن يبين أن هذه الصفات الخمسة التي وصف الله بها عباده المؤمنين في سورة الأنفال هي جامعة لجميع الصفات ترجع إليها جميع الصفات، جميع صفات المؤمنين ولهذا وصفهم الله بكمال الإيمان، بالإيمان الكامل، قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فمن كان يوجل عند ذكر الله ويزداد إيمانًا عند تلاوة القرآن ويتوكل على الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة كما أمره الله وأمره رسوله ﷺ فلابد أن تتحقق فيه جميع صفات المؤمنين لأنها ترجع إليها وإذا حصل نقص في هذه الصفات فإنها تتخلف بقية الصفات.
(المتن):
قال رحمه الله: " وَ " خُشُوعُ الْجَسَدِ " تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُرَائِيًا يُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ: {تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ} وَهُوَ أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ خَالِيًا لَاهِيًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فَدَعَاهُمْ إلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَاَلَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]. وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.".
(الشرح)
لازال المؤلف رحمه الله يبين تحقق هاتين الصفتين في المؤمنين يدل على تحقيقهم للإيمان وهي وجل القلب عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والخشوع، خشوع القلب، يدل على وجله عند ذكر الله، يقول المؤلف رحمه الله: " وَ " خُشُوعُ الْجَسَدِ " تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مُرَائِيًا يُظْهِرُ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ" فإن كان مرائيًا فإنه يخشع بجوارحه وقلبه ليس خاشعًا " كَمَا رُوِيَ: «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ»" ذكره ابن المبارك في كتاب الزهد، عن أبي هريرة وعن أبي الدرداء.
وخشوع النفاق "هُوَ أَنْ يُرَى الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ خَالِيًا لَاهِيًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فَدَعَاهُمْ إلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَاَلَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" دعاهم إلى خشوع القلب ونهاهم عن أن يتشبهوا بالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
" وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا" فالذين دعاهم الله إلى خشوع القلب ونهاهم عن أن يتشبهوا بالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم هم الذين حققوا هاتين الصفتين وجل القلب عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن.
"وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]. وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" نعم.
(المتن):
قال المؤلف رحمه الله: " وَاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ. قِيلَ: نَعَمْ لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: " مُقْتَصِدٌ " " وَسَابِقٌ " فَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بالمستحبات وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ: هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ؛ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»".
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: يورد سؤالًا؛ "فَإِنْ قِيلَ: فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ" يعني واجب على كل أحد؟ هذا لابد منه، فكيف تخلف بعض الناس عن خشوع القلب؟، فقال المؤلف: "قِيلَ: نَعَمْ لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ( مُقْتَصِدٌ ) ( وَسَابِقٌ )".
الناس أي المؤمنون، المؤمنون فيه على قسمين: الأول: المقتصد؛ والمقتصد هو الذي أدى الواجب ولم يكن له نشاط في فعل المستحب، أدى الواجب وترك المحرم ووقف عند هذا الحد ولم يكن عنده نشاط في فعل المستحبات ولم يكن لديه نشاط في ترك المكروهات كذلك، بل قد يفعل وقد يتوسع في المباحات هؤلاء هم المقتصدون أصحاب اليمين.
والقسم الثاني: السابقون، السابقون المقربون؛ هؤلاء أدوا الواجبات وزادوا على ذلك ففعلوا المستحبات والنوافل وتركوا المحرمات وزادوا على ذلك فتركوا المكروهات كراهة تنزيه وتركوا فضول المباحات، فالناس المؤمنون على هذين القسمين مقتصدون وسابقون.
وكلهم يدخلون الجنة مِن أول وهلة، لكن السابقين بالخيرات أعلى درجات مِن المقتصدين.
ومَن لم يكن مِن هؤلاء ولا مِن هؤلاء، مِن السابقين بالخيرات ولا مِن المقتصدين؛ صار مِن الصنف الثالث وهم الظالمون لأنفسهم، الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقعوا في عمل مِن الشرك لكن ظلموا أنفسهم بالمعاصي بالتقصير في بعض الواجبات أو ارتكاب بعض المحرمات.
هؤلاء على خطر وإن كانوا مِن أهل الجنة وإن كانوا ممن وَرِثوا الكتاب وإن كانوا مُصطَفَون في الجملة، لكنهم على خطر مِن الكبائر التي ماتوا عليها على غير توبة، خطر مِن أن يعذبوا في قبورهم كما في قصة الرجلين مِن حديث ابن عباس t أن النبي ﷺ مر برجلين فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ؛ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثم أخذ جريدة رطبه فشقَّها نصفين ثم غرز في كل قبر واحده وقال: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».
وقد يصيبه شدائد في يوم القيامة، وقد يُعذب في النار، وقد يُعفى عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وإذا عُذِّب فإنه يُعذَّب بقدر جرائمه ولا يُخلَّد في النار؛ بل يُخرج منها إما بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين.
هؤلاء هم الأصناف الذين بينهم الله I في كتابه مِن قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، وهناك القسم الرابع وهم الكفرة والعياذ بالله كما قال سبحانه بعد ذلك: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36]، فالخاشعون الذين يجب عليهم أن تلين قلوبهم لذكر الله وأن تخشع قلوبهم على صنفين، كما ذكر المؤلف: مقتصدون وسابقون ومَن لَم يكن مِن هؤلاء صار مِن الظالمين لأنفسهم، فإذا فُقِد الخشوع مِن القلب وفُقِد الإيمان يكون مِن القسم الرابع وهم الكفرة والعياذ بالله.
يقول المؤلف والحديث في الصحيح أن النبي ﷺ قال "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ" الشاهد أنه استعاذ مِن القلب الذي لا يخشع، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد والنسائي وغيرهم. نعم.
(المتن):
(الشرح)
المؤلف هنا رحمه الله يتكلم على هذين الوصفين مِن أوصاف المؤمنين وهو وجل القلب عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، يقول المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ " قَسْوَةَ الْقُلُوبِ " الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ" والخشوع، خشوع القلب هذا إنما يكون مِن المؤمن الذي يوجل قلبه عند ذكر الله، والذي لا يوجل قلبه عند ذكر الله قلبه قاسي.
" وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ " قَسْوَةَ الْقُلُوبِ " الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]" هذا في وصف بني إسرائيل، {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} [البقرة:74].
فذم الله قسوة القلوب، وقسوة قلوب بنبي إسرائيل الذين تعنتوا مع أنبيائهم وبين الله I أن بني إسرائيل لما تعنتوا في البقرة التي سألوا موسى أسئلة متعددة قال بعد ذلك: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، ثم نقل المؤلف رحمه الله أقوال العلماء في كلمة قست، أو القسوة، " قَالَ الزَّجَّاجُ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسَتْ. فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ ذَهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخُشُوعِ مِنْهُ وَالْقَاسِي والعاسي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ. أَيْ يَبِسَتْ. وَقُوَّةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ غَيْرُ قَسْوَتِهِ الْمَذْمُومَةِ".
يعني القلب فيه صفتان صفة مذمومة وصفة محمودة، الصفة المذمومة قسوته وعدم لينه عند ذكر الله؛ وأما القوة المحمودة فهو " أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ. وَفِي الْأَثَرِ: (الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ أَصْلَبُهَا وَأَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا)" يُنظر هذا الأثر فالمؤلف رحمه الله لم يعزُها إلى أحد.
"وَهَذَا كَالْيَدِ فَإِنَّهَا قَوِيَّةٌ لَيِّنَةٌ بِخِلَافِ مَا يَقْسُو مِنْ الْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَابِسٌ لَا لِينَ فِيهِ" فاليد قوية لينة لكن عقبها يعني مؤخر اليد تجده يابس أما هنا ففيه لين، فاليد فيه قوة ولين وعقبها يابس.
القارئ: العقب الأقرب إلى الساعد؟
الشيخ: نعم، هذا عقب اليد، فالعقب مؤخر الكف، أما أطراف اليد ففيه قوة ولين، ولهذا يقول المؤلف " بِخِلَافِ مَا يَقْسُو مِنْ الْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَابِسٌ لَا لِينَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ".
" وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ وَجَلَ الْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ كِتَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا" يشير إلى آية الأنفال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال:2]، ثم بعد ذلك ذكر الله التوكل ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولا يزال المؤلف رحمه الله يتكلم على هذه الأوصاف.
القارئ: مراده رحمه الله بعد أن ذكر الخوف سابقًا ثم الوجل والخشوع في القلب، مراده أن يبين هذه العبادات القلبية...
الشيخ: يفسر هذه الصفات الخمسة ليبين أن جميع الصفات ترجع إليها لأن الله تعالى وصفهم بهذه الصفات الخمس وحكم عليهم بأنهم هم {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4].
القارئ: يعني مدار الحديث الآن على آيات الأنفال؟
الشيخ: نعم على آيات الأنفال كلها {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال:2-3]، هذه خمس صفات ثم قال {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، يعني هؤلاء هم الموصوفون بالإيمان المطلق، كما سأل السائل الحلقة الماضية عن الإيمان المطلق.
القارئ: وأورَد هناك سؤالا آخر قال: هناك صفات لم تُذكر
الشيخ: لا، هناك غيرها، لكن هذه الصفات التي لم تُذكر ترجع إليها. وأن مَن حقق هذه الصفات الخمس، فلابد أن يحقق بقية الصفات، وإذا حصل نقص في هذه الصفات، تخلفت الصفات الأخرى فهي لنقص في هذه الصفات.
القارئ: ولذلك يذكر هذه الأمثلة ويُرجِعها إلى الصفات الخمسة.
الشيخ: إي نعم.
سائل: ذكر الله في سورة إبراهيم بعدما ضرب أمثلة للحق والباطل ذكر مِن صفات المؤمنين {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد:20-21]، وقال في مقابل ذلك في صفات الكفرة {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد:25]، ولم ينف الإيمان عنهم والخشية والخوف، في حين أن الله وصف المؤمنين بالخشية والخوف.
الشيخ: لاشك في هذا، الشوكاني ذكر في هذا قال: لم يذكره لأنه داخل في النقض والقطع فالسؤال الذي أوردته أجاب عنه الشوكاني قال: لأنه داخل في النقض والقطع، ولاشك أن مَن نقصت خشيته مِن الله U فإنه لنقصٍ في علمه، وأن مَن أطاع الله فهو عالِم ومَن عصاه فهو جاهِل، فالذي لا يخشى الله ولا يخاف الله لاشك أنه جاهل، وإن كان عنده علم فإن هذا العلم لا يعتبر علمًا تامًّا، لأنه لو كان عنده علم تام لما عصى الله.