(المتن)
توقَّفنا عند قول المؤلِّف رحمه الله: وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
فَالْكُفْرُ الْمُطْلَقُ، هُوَ: الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ؛ وَلِهَذَا لَا شَفِيعَ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 18، 19].
وَقَالَ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)} [الشعراء: 94 - 102].
وَقَوْلُهُ: { إِذْ نُسَوِّيكُمْ } [الشعراء: 98] لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مُسَاوِينَ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَا نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ، حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُحْمَدَ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُلْعَنَ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ الظُّلْمَةُ مُحْدَثَةٌ أَوْ قَدِيمَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَجْعَلُوهَا مِثْلَ النُّورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَابَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) } [العنكبوت: 61 - 63].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14 } [الزخرف: 9 – 14].
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَيْسَتْ مِنْ تَمَامِ جَوَابِهِمْ.
(الشرح)
╝
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسلَّم، وبارك على عبد الله ورسوله نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فإنَّ المؤلِّف رحمه الله يُبيِّن في هذا المقطع أنَّ الظلم المُطلق هو كفرٌ مُطلق، فالظلم المطلق، هو: الذي يُخرِج من الملَّة، كما أن الكُفر المطلق هو الذي يُخرِج من الملَّة، وكذلك الفسق المطلق هو: الفسق الأكبر الذي يُخرِج من الملة.
واَستشهد بقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
فالكافرون هم الظالمون، فالظالم عند الإطلاق.. الظلم المطلق هو الكفر المطلق، وهو الذي مُخرِج من الملَّة، وهو ظلم الشِّرك والكفر، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالْكُفْرُ الْمُطْلَقُ هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ"، الكفر المطلق هو مُخرِج من الملَّة، والظلم المطلق كذلك هو الظلم الأكبر المخُرِج من الملَّة؛ لأن الكفر قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، والظلم يكون أكبر ويكون أصغر، والفسق يكون أكبر ويكون أصغر.
يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَلِهَذَا لَا شَفِيعَ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ"؛ يعني أهل الكفر المطلق، وأهل الظلم المطلق لا شفيع لأهله يوم القيامة؛ لأنَّ الشفاعة إنما تكون للموحِّدين المؤمنين، والكافر ليس له نصيبًا من الشفاعة، كما قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
لمَّا نفى الشفاعة عن الظالمين؛ دلَّ على أنَّ المراد به الظُّلم المطلق؛ وهو ظلم الكُفر والشِّرك، {مَا لِلظَّالِمِينَ} [غافر: 18]؛ يعني ظلم الشرك والكفر، ليس لهم حميم ولا شفيعٍ يُطاع.
بخلاف المؤمن العاصي؛ فإن له الشفاعة قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتى»، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حديث أبي هريرة لما سأله: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يا رسول الله؟ قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ؟».
فالشفاعة تكون للمؤمنين، العُصاة الموحدين لهم شفاعة.
أمَّا الكافر والظالم ظلمٌ مطلَقًا ظلم الشرك والكفر، والفاسق فسق الكفر، والكافر كفرًا أكبر؛ هؤلاء ليس لهم نصيب من الشفاعة، نسأل الله السلامة والعافية.
وقال سبحانه وتعالى عن الكفرة: أنهم ليس لهم نصيب من الشفاعة، بل هم مخلَّدون في النار، "وقال: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)} [الشعراء: 94 - 102]".
بيَّن سبحانه وتعالى أنهم أخبروا أنهم ليس لهم شافع؛ لأنهم ماتوا على الشرك والكفر؛ ولهذا قال: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 98]، وهذه التسوية سواهم بالله في العبادة، فعبدوهم من دون الله، وصرفوا لهم العبادة.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مُسَاوِينَ لِلَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ"؛ يعني خالقان متماثلان في الصفات والأفعال، يعني ما وُجِدت طائفة قالت: سوَّت غير الله بالله في الصفات والأفعال.
المعنى: أن هؤلاء الذين قالوا: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 98] سوّوهم في المحبة والعبادة والطاعة، ولم يسوّوهم به في الخَلق، ولا في الفعل، ليس هناك أحدٌ من الطوائف يقول: إن هناك مَن يساوي الله في كلِّ شيء في الصفات والأفعال، هذا ما قاله أحد.
ولهذا يقول المؤلِّف رحمه الله: " فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ"؛ يعني لم يسوُّوا بين النور والظلمة، قالوا: النور هي الإله المحمود، وهو إله الخير، والظلمة قالوا: شريرة مذمومة، وتنازعوا في قِدَمها وحُدثها.
يقول المؤلِّف: "حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُحْمَدَ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُلْعَنَ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ الظُّلْمَةُ مُحْدَثَةٌ أَوْ قَدِيمَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَجْعَلُوهَا مِثْلَ النُّورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ".
فتبيّن بهذا أنه لا يوجد طائفة تقول: بوجود خالقين متماثلين في الصفات والأفعال حتى المجوس الذي قالوا بالأصلين، وحتى المُثَلِّثة من النصارى الذين قالوا: بسم الاب والابن والروح القدس إلهٌ واحد، فإنهم متفقون على أن الأب هو الإله الأكبر، وهو خالق السماوات والأرض، فلم يقولوا بالتساوي، بالتسوية بين هذه الثلاثة.
فلا يوجد طائفة تقول بأن للعالَم خالقين متماثلين في الصفات والأفعال.
وكذلك مشركو العرب الذين أشركوا مع الله، وعبدوا مع الله غيره لم يقولوا: إنَّ آلهتهم تَخلق وترزُق، بل هم أشركوا وصرفوا إليها شيئًا من العبادة؛ لتقرِّبَهم من الله زلفى بزعمهم، ولتشفع لهم.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَابَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَلْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) } [العنكبوت: 61 - 63]".
هذه الآيات كلها تدلُّ على أنهم معترفون بأن الخالق والرازق والمدبِّر هو الله، لكن عبدوا مع الله غيره لتقرِّبهم هذه المعبودات -بزعمهم- إلى الله، ولتشفع لهم عنده.
"وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 9 – 14]".
يعني أن هذه الآيات تدلُّ على أنَّ المشركين معترفون بأنَّ الخالق هو الله سبحانه وتعالى، وهو المُدبِّر، وأنه ليس لآلهتهم شيئًا من ذلك.
يقول المؤلف: "وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَيْسَتْ مِنْ تَمَامِ جَوَابِهِمْ"؛ يعني الصفات في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ (11) } [الزخرف: 10 - 10] كل هذه صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، هذه من كلام الله ليست من جواب المشركين.
جوابهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9], {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38].
أمَّا بقيَّة الصفات فهذه من كلام الله.
(المتن)
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 87] الْآيَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 40، 41].
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 59 - 61].
أَيْ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إلَهٌ آخَرُ مَعَ اللَّهِ.
(الشرح)
وهذه الآيات كالآيات السابقة؛ فيها بيان أنَّ المشركين معترفون ومقرُّون بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو المدبِّر، وهو خالق السماوات والأرض، وإنما عبدوا هذه الآلة، دعوها من دون الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لتشفع لهم ولتقرِّبهم إلى الله كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
هذه الآيات التي ذكرها المؤلِّف رحمه الله كلها في بيان ذلك: "قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 87]".
هذه الآيات من سورة المؤمنون، فيها أنهم اعترفوا بأنَّ الله هو مالك السماوات والأرض، وأنه رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم.
"وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 40، 41]".
وهذا بيان ما يقرُّون به، وأنهم يقرُّون بهذا، يعني أنتم تعلمون: أنَّه لو أتاكم عذاب الله، أو أتتكم الساعة؛ لا تدعون إلا الله؛ لأنكم تعلموا: أنه هو الذي يقدِر على كشف ما نزل بكم.
"وكذلك قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 59 - 61] إلى آخر الآيات".
هذه الآيات من سورة النمل، فيها أن الله سبحانه وتعالى استدلَّ على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية؛ لأنهم كانوا يقرُّون بتوحيد الربوبية، وينكرون توحيد الألوهية، فهو استدلَّ عليهم بما يقرُّون به على ما ينكرونه.
ولهذا قال الله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } [النمل: 60]، ألستم تقرُّون بهذا!
ولهذا قال تعالى: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [النمل: 60]، كيف تجعلون مع الله إلهًا آخر، وأنتم تقرُّون بأنه خالق السماوات والأرض، ومُنزِل السماء ومنبت الشجر!
ثُمَّ قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61]، كل هذا يقرُّون به، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61]، ثُمَّ قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [النمل: 61]؛ يعني كيف تجعلون إلهًا مع الله فعل ذلك!
يقول المؤلِّف: "وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ"؛ يعني ينكر عليهم كيف عبدوا مع الله غيره، وهم مقرُّون بذلك! وهم مقرُّون بأنه لا يفعل هذا إلهٌ مع الله.
(المتن)
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ الْمُرَادَ: هَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ؟ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} [الأنعام: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
وَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ شَيْءٍ؛ بَلْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس: 18].
وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 22، 23].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].
وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 22 ، 23].
فَنَفَى عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْ الْمُلْكِ أَوْ يَكُونَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ؛ فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
(الشرح)
يبيِّن المؤلف رحمه الله: أنَّ المشركين مقرُّون بتوحيد الربوبية، هم مقرُّون أن الرب سبحانه هو الخالق الرازق المدبِّر، وأن قوله سبحانه: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60] الآيات في سورة النمل، المعنى: أإله مع الله فعلَ هذا؟ وأن الاستفهام للإنكار، وهم مقرُّون بأنه لم يفعل هذا إله مع الله.
"وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ الْمُرَادَ: هَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ؟ فَقَدْ غَلِطَ"، ووجهُ غلطه: إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فهُم يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فكيف يكون المعنى: هل مع الله إلهٌ آخر؟!
فتبيَّن بهذا أن المعنى: أإله مع الله فعلَ هذا؟! وأن هذا استفهام إنكار؛ وذلك لأنهم يَدْعُون مع الله آلِهَةً أخرى، كما قال الله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } [الأنعام: 19]، وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، وقال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
فهذه الآيات كلُّها تدلُّ على أنَّ القوم يدعون مع الله آلهةً أخرى.
يقول المؤلف: "وَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ شَيْءٍ؛ بَلْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]".
فإذًا هم ما اتخذوهم لأنهم يزعمون أنهم يشاركون الله في خلق السموات والأرض، بل يعلمون أنَّ الله تعالى هو المنفرد بخلق السماوات والأرض، ولكن اتخذوهم شفعاءً ووسائط بزعمهم.
"وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس: { {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 22، 23]".
بيَّن سبحانه وتعالى على لسان صاحب يس: أن الله تعالى إذا أراد بعبده ضرًّا؛ فإنه لا تُغني شفاعة أحد ولا تنفع، ولا ينقذه من عذاب الله أحد.
"وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51]".
نفى أن يكون لأحدٍ من دون الله وليًّا وشفيعًا.
"وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]". الشاهد في نفي الولي والشفيع.
"وَقَالَ تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 22 ، 23]"
هذه الآية يقول العلماء: إنها قطعت عروق الشرك، وأبطلت كلَّ ما يتعلَّق به المشركون؛ وذلك لأنَّ العابد إنما يعبد معبوده لِما يحصل عليه من النفع، والنفع لا يخلو من واحدٍ من أمور ثلاثة:
إمَّا أن يكون المعبود مالكًا لِما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا له، فإن لم يكن شريكًا كان ظهيرًا ومعينًا، فإن لم يكن ظهيرًا ومعينًا كان شفيعًا له.
وقد نفى الله الأمور الأربعة نفيًا مترتبًا، منتقلًا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك، ونفى الشركة، ونفى المظاهرة والمعاونة، ونفى الشفاعة في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سبأ: 22] هذا نفى الملك، ففيها نفي الملك.
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] نفي الشركة، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] نفي الإعانة والشفاعة، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] فقُطِعت بذلك جميع الأسباب التي يتعلَّق بها المشركون.
ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ، أَوْ قِسْطٌ مِنْ الْمُلْكِ"؛ هذا الشركة، "أَوْ يَكُونَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ؛ فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255].
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وَقَالَ تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]".
فالشفاعة لا تكون إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يأذن الله للشافع أن يشفع.
والشرط الثاني: أن يرضً الله عن المشفوع له.
والله تعالى لا يأذن لأحدٍ أن يشفع لمشرك، ولا يرضى عمل المشرك، فتبيَّن بهذا أن المشرك لا نصيب له في الشفاعة.
ولهذا ذكر الله الشرطين في هذه الآية: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
{إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} هذا في الشرط الأول، { وَيَرْضَى} هذا الشرط الثاني، فقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
فبذلك تنقطع جميع الأسباب التي يتعلَّق بها المشركون.
القارئ: أحسن الله إليك، وجه الكسر هنا في مِلك، وليس مُلك؟
الشيخ: يعني قسط، يعني جزء، المراد به القسط والجزء.
القارئ: نعم، وليس المراد ذات المُلك؟
الشيخ: نعم، قسط وجزء.
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ؛ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَاهَا الْقُرْآنُ.
وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ، فَأَخْبَرَ: «أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا، فَإِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ؛ يُقَالُ لَهُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي، فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ».
وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ», فَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ هِيَ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللَّهِ، لَيْسَتْ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ، وَلَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَحَقِيقَتُهُ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ الشَّافِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ بِذَلِكَ، وَيَنَالَ بِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَسْقِي لَهُمْ، وَيَدْعُو لَهُمْ، وَتِلْكَ شَفَاعَةٌ مِنْهُ لَهُمْ، فَكَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ؛ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَاهَا الْقُرْآنُ".
الشفاعة التي يظنها المشركون لأصنامهم وآلهتهم، فالمشركون يعبدون الأصنام والأوثان، يذبحون لها، وينذرون لها، يظنون أنها تنفعهم، هذه الشفاعة التي يظنون أنها تنفعهم نفاها القرآن في قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254].
هذه الشفاعة التي يظنها المشركون أنها تنفعهم نُفيت في القرآن؛ لأنَّ ليس لهم نصيب في الشفاعة، الشفاعة لا تكون إلا للموحِّد، ولها شرطان كما سبق: 1- إذن الله للشافع أن يشفع. 2- رضاه عن المشفوع به.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ"؛ يعني أن تكون لهم الشفاعة، فأخبر عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا»؛ يعني حتى يأتيه الإذن، هذا الشرط الأوَّل.
وهو أشرف الخَلق، وهو أوجه الخلق عند الله، وإذا كان الله تعالى أخبر عن موسى عليه الصلاة والسلام فقال: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]، فنيُّنا محمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم واجهة، ومع ذلك وهو أعظم الخلق وجاهة، ومع ذلك لا يبدأ بالشفاعة، وإنما يبدأ فيسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه محامد، يُمجِّده سبحانه وتعالى، يُمجِّد اللهً بمحامد لا يُحسنها في دار الدينا، تُفتَح عليه في ذلك المقام، ثُمَّ يأتي إذنٌ من الرَّب، فيقول ربه سبحانه: «يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» هذا الإذن، جاء الإذن من الله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "«فَإِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ؛ يُقَالُ لَهُ: أَيْ مُحَمَّدُ»"، أي: حرف نداء؛ يعني يا محمد، «أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أُمَّتِي»؛ يعني يا رب، أمتي. «فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ»؛ يعني بالعلامة، يضع الله حدًّا بالعلامة، يعرفهم بالعلامة، يخرجهم من النار إلى الجنة، «وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ» يحدُّ الله له حدًّا، «وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ».
وثبت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع أربع شفاعات، كل مرة يحدُّ له حدًّا يُخرجهم من النار، بالعلامة.
َقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ».
فتبيَّن بهذا أنَّ الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، وأهل الشرك لا نصيب لهم في الشفاعة، فالمشركون الذين يعبدون الأصنام والأوثان يظنون أن أصنامهم تنفعهم وتشفع لهم عند الله؛ فنفاها الله تعالى.
يقول المؤلف رحمه الله: " فَتِلْكَ " الشَّفَاعَةُ هِيَ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللَّهِ لَيْسَتْ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ".
تلك الشفاعة: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة غيره من الأنبياء ومن الأفراد ومن الشهداء ومن الملائكة، كلها لا تكون إلا لأهل التوحيد، المشركون لا نصيب لهم في الشفاعة.
تكون لأهل الإخلاص: يعني لأهل التوحيد بإذن الله، ليست لمن أشرك بالله، ولا تكون إلا بإذن الله أيضًا، لا تكون إلا بالشرطين:
• بإذن الله للشافع أن يشفع.
• ورضاه عن المشفوع له.
"وَحَقِيقَتُهُ -حقيقة الشفاعة- أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ الشَّافِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ بِذَلِكَ وَيَنَالَ بِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ".
الحقيقة هذا فضل من الله وإليه، ولكن الله سبحانه أذِن للشافع أن يشفع حتى يكرمه، لأجل أن يكرمه ويغبطه وينال المقام المحمود، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، ينال المقام المحمود وهي الشفاعة العظمى في موقف القيامة الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
" كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَسْقِي لَهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ وَتِلْكَ شَفَاعَةٌ مِنْهُ لَهُمْ في الدنيا فَكَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ".
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لأمته في الدنيا بأن يدعو، وهم يؤمنون في الاستسقاء وفي غيره، وفي يوم القيامة يشفع للخلائق ويشفع أيضًا للعصاة من أُمَّته عليه الصلاة والسلام.
القارئ: هذه الشفاعة يا شيخ، غير شفاعة أهل الموقف؟ التي وردت في الحديث هذا، سجوده والمحامد التي يذكرها، يذكر في الموقف نفس المحامد ويذكر عند إخراج أهل النار نفس المحامد؟
الشيخ: أي نعم كلها، ولكن هذه الشفاعة العظمى، لكن أهل الحديث الآن تجدهم الآن يذكرون الشفاعة العظمى ثم ينتقلون إلى شفاعة العصاة، وهي الشفاعة العظمى، لكن ينتقلون إلى الشفاعة.. إذًا الشفاعة العظمى ما أنكرها أحد حتى المشركين.
القارئ: الشفاعة العظمى هي شفاعة الموقف؟
الشيخ: ما أنكرها أحد، ثم يذهبون إلى شفاعة التي هي للعُصاة التي أنكرها الخوارج والمعتزلة.
ولذلك ذكرها الطحاوي وغيره ينتقل، هو حديث واحد ينتقل من الشفاعة العظمى إلى الشفاعة، حتى لا تُفهم حديث له في كلام المؤلف حينما قال.
«يُقال: أي محمد، ارفع رأسك، وسل تُعطى، فيقول: أي ربي أُمَّتِى»، في الأول أنه ذكر ما يدل على أنها الشفاعة العظمى، ثم انتقل عنها إلى الشفاعة التي هي للعصاة.
كذلك في شُرَّاح كتبِ التوحيد لأنهم يريدون الرد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة.
القارئ: وفي كل موقف من الشفاعة يكون له محامد، في كل موقف؟
الشيخ: أي نعم، في كل موقف، جاء في الحديث أنه قال: «ثم أعود فأحمده بمحامد -- ((@ كلمة غير مفهومة- 28:35)) -- أربعة، ثم أعود فأسجد تحت العرش، فيفتح الله ثم ...».
القارئ: أمَّا الشفاعة العظمى فقبل الفَصلِ؟
الشيخ: هذه عامة للمؤمن والكافر، لأهل الموقف جميعًا، هي المقام المحمود الذي يغبطه الأولون والآخرون.
القارئ: شفاعته لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة؟
الشيخ: نعم، هذه مستقلة خاصةٌ به.
القارئ: قبل دخول الجنة؟
الشيخ: قبل دخول الجنة، بعد بعد، الشفاعة العظمى هي السابقة هي الأولى، الشفاعة الأولى في الموقف.
القارئ: ثم الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، ثم يشفع لأهل المعاصي؟
الشيخ: أي نعم، الشفاعة للعصاة هذه مشتركة.
القارئ: نعم، يشفع فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيره؟
الشيخ: شفاعة الأنبياء والشهداء والصالحين.
القارئ: توقفنا عند قول المؤلف:
(المتن)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فَالظُّلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ، وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ؛ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَكِنْ قَدْ يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ كَمَا قَدْ يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَّفَاعَةِ، فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ مَا لَهُ مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ، وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ فَبِهِ صَارَ مِنْ أَهْل الشَّفَاعَةِ.
وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةَ نَفْيِ الشِّرْكِ وَهُوَ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ لَا فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ بِأَسْبَابِ.
كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَرْحَمَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِأَسْبَابِ مِنْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا.
فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مُطْلَقًا؛ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ وَتِلْكَ مُنْتَفِيَةٌ مُطْلَقًا؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ وَتِلْكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَهِيَ مِنْ التَّوْحِيدِ، وَمُسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ: فَقَدْ يَخْتَصُّ بِظُلْمِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا كَقَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
ولَكِنَّ قَوْلَ آدَمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ لَا عُمُومَ فِيهِ، وَذَلِكَ قَدْ عُرِفَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: "وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ".
المعنى: إذا كان الظلم الأكبر هو الشرك الأكبر والكفر الأكبر لا نصيب لصاحبه في الشفاعة؛ فإن الظلم ثلاثة أنواع، "إذا كان كذلك"؛ يعني فاعلم أن الظلم ثلاثة أنواع:
1- النوع الأول: الظلم الأكبر: وهذا لا نصيب له في الشفاعة.
2- والثاني: ظلم العِباد بعضهم لبعض، وهذا لابد من أداء الحقوق لأصحابها.
3- والثالث: ظلم العبد لنفسه فيما دون الشرك، وهذا هو تحت مشيئة الله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فَالظُّلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ. وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا"، هذا هو النوع الثاني، "لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ؛ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا"؛ لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة.
يقول المؤلف: "وَلَكِنْ قَدْ يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ": يعني يُعطى حقه.
" كَمَا قَدْ يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَّفَاعَةِ. فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ": الظالم؛ المشرك، الظالم الذي فعل الظلم المطلق الذي هو الشرك، "مَا لَهُ مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ".
يعني الثاني الذي ظلمه ليس ظلمًا مطلقًا، إنما نفعه إخلاصه لله، يعني توحيده هو الذي نفعه، والظالم المطلق إنما ضرّه ومنعه من الشفاعة شركه وكفره.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ": يعني الظالم الذي دُون الشرك.
"فَبِهِ صَارَ مِنْ أَهْل الشَّفَاعَة.
وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ بِنَفْيِ الشَّفَاعَةَ نَفْيَ الشِّرْكِ وَهُوَ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ لَا فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ بِأَسْبَابِ".
فالذي نُفِيَت عنه الشفاعة هو المشرك، والموحد هو الذي لا يعبد إلا الله ولا يدعو غيره، ولا يتوكل على غيره.
"كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيَرْحَمَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ بِأَسْبَابِ مِنْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا".
لكن ليس له أن يتوكل على غير الله، بل يتوكَّل على الله سبحانه وتعالى، فالتوكُّل خاصٌّ بالله حتى في الأسباب الظاهرة، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
يقول المؤلف: "فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ مُطْلَقًا؛ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ وَتِلْكَ مُنْتَفِيَةٌ مُطْلَقًا".
هذه لا إشكال فيها، الشفاعة التي تكون للمشرك هذه منتفية.
"وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ"؛ أثبت سبحانه وتعالى الشفاعة بإذنه في موضع، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، فهذه الشفاعة تكون بإذنه في مواضع، فيأذن الله تعالى للملائكة وللأنبياء وللصالحين وللأفراد، يأذن الله لهم بالشفاعة لمن شاء سبحانه وتعالى من العصاة غير مشركين، من العصاة الموحِّدين، فالله يأذن لمن شاء منهم.
أمَّا أهل الشرك فلا نصيب لهم في الشفاعة، ولا يأذن الله لأحدٍ أن يشفع فيهم؛ لأنَّ أهل الشِّرك لا نصيب لهم في الشفاعة، وقد قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ولا يرضى الله عمل الكافر، بل لا يرضى إلا التوحيد سبحانه وتعالى.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَتِلْكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَهِيَ مِنْ التَّوْحِيدِ، وَمُسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ"؛ يعني الشفاعة.
قال: " َأَمَّا الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ فَقَدْ يَخْتَصُّ بِظُلْمِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا"، هذا الظلم المقيَّد نوعان:
1- إمَّا ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين الله دون الشرك.
2- وإمَّا ظُلم العبد للعباد، وظلم العبد للعباد إمَّا في دمائهم، أو في أموالهم، أو في أعراضهم، هو ثلاثة أنواع ظلم العباد:
(أ) ظلم العباد بدمائهم: يعني يعتدي على إنسان بغير حق بقتله، أو قطع يده، أو جرح جسده.
(ب) أو يعتدي على ماله: يأخذه بغير حق، ظلمٌ في المال؛ عن طريق السرقة أو الغصب أو الخيانة أو الربا أو الغش أو الرِّشوة أو غير ذلك مما في المال الباطل.
(جـ) أو يعتدي على عِرضه: بالغيبة أو النميمة أو السُخرية أو الازدراء أو الاحتقار.
كلُّ هذه حقوق العباد، حقوق العباد بعضهم لبعض، ظلم الناس بعضهم لبعض، وحقوق العباد مبنية على المشاحَّة.
فهذا الظلم المُقَيَّد مَثَّلَ له المؤلِّف رحمه الله بقوله: " كَقَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } [الأعراف: 23]".
ربنا ظلمنا أنفسنا بالمعصية؛ وهي أكلهما من الشجرة.
"وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]"؛ بقتله القبطي، وهذا قبل النبوَّة.
"وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]"؛ في وصف المتَّقين، فهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي التي دون الشرك.
يقول المؤلِّف رحمه الله: "لَكِنَّ قَوْلَ آدَمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ لَا عُمُومَ له"؛ واقع وهو الظلم الذي لا عموم له، ليس ظلمًا عامَّا مطلقًا ولكنَّه ظلمٌ دون الشرك.
ويقول المؤلف: "وَذَلِكَ قَدْ عُرِفَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا".
(المتن)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [آل عمران: 135] فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ ظُلْمُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ؛ وَهُوَ إذَا أَشْرَكَ ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]
فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13، 14]».
وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ؛ وَمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ؛ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] إلَى قَوْلِهِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33].
وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُمْ بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتُبْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وَقَالَ تَعَالَى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
(الشرح)
يقول المؤلِّف رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135]" فهو نكرة في سياق النفي..
فيما تقدم في وصف المتقين: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
فهو قوله تعالى: { أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [آل عمران: 135] فهو يَعمُّ كل ما فيه ظلم الإنسان نفسه، فهو إذا أشرك ثم تاب؛ تاب الله عليه.
"وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ"؛ إذا أُطلِق الظلم أو ظلم العبد لنفسه؛ يشمل ظلم العبد لنفسه بالشِّرك أو بالمعاصي التي دون الشرك، أو بظلم العِباد.
"وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ"؛ يعني أنَّ الذين أورثهم الله الكتاب واصطفاهم، بيَّن أنهم ثلاثة أصناف: منهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات.
وجاء بيان ذلك أنَّ السابق للخيرات؛ هو الذي أدى الفرائض وأدى النوافل، وترك المحرَّمات وترك المكروهات وفضول المباحات.
والمقتصد؛ هو الذي أدى الفرائض والواجبات ووقف عند هذا الحد، ولم يكن له نشاط في فعل المستحبات والنوافل، والذي ترك المحرمات ولكنه لم يترك المكروهات كراهة تنزيه، وتوسَّع في المباحات.
فهؤلاء الصنفان (السابق للخيرات والمقتصد) يدخلون الجنة من أول وهلة فضلًا من الله وإحسانًا.
والثالث: ظالمٌ لنفسه، ظالمُ لنفسه بالمعاصي، موحِّد، مات على التوحيد والإيمان، لكن ظَلم نفسه بالمعاصي بأن قصَّر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرَّمات.
وهذا يكون من المتقين؛ لأنه اتقى الشرك ، وهو من المصطفَين، وهو من الذين أورثهم الله الكتاب؛ لأنَّه موحِّد، مات على التوحيد لكن ظلم نفسه بالمعاصي، وهذه المعاصي تحت المشيئة، وقد يُعذَّب بها، ثُمَّ يُخرَج منها إلى الجنة.
فيقول المؤلِّف: " فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ"؛ لما قُرن بسابق الخيرات والمقتصد؛ دلَّ على أنه دون الشرك، "فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ"؛ لأنه قُرِن بغيره.
"وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13، 14]»".
هذه من الآيات التي فسَّرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82]؛ ظنَّ الصحابة أنَّ المراد بالظلم: جميع أنواع الظلم، مثل: المعاصي.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82]، وذلك كأن الله سبحانه حَكَم على المؤمن الذي لا يُلبِس إيمانه بظلم أنَّه من المهتدين في الدنيا، وله الأمن من عذابه في الآخرة، فظنَّ الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ المراد بالظلم: الظلم الشامل للأنواع الثلاثة.
قالوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ أيُّنا لم يقع في المعاصي؟ أيُّنا لم يسلم من المعاصي رضي الله عنهم؟ ظنَّوا أنَّ الظلم يشمل الظلم بأنواعه الثلاثة؛ فبيَّن لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ المراد بالظلم الشرك فقط دون المعاصي.
ولهذا جاء في اللفظ الآخر أنهم جاءوا إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جثُّوا على الرُّكَب، وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ لا نستطيع، مَن يسلم من المعاصي؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الذي تعنون، المراد بالظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13، 14]».
فهذه من الآيات التي فسَّرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو استدلَّ بالآية الأخرى، ويكون معنى الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا}: يعني وحَّدوا، {وَلَمْ يَلْبِسُوا }: ولم يخلطوا، {إِيمَانَهُمْ }: توحيدهم، {بِظُلْمٍ } : بشرك، { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]: لهم الأمن مِن العذاب ، وهم مهتدون في الآخرة.
وهذا بيَّن المؤلف رحمه الله أن قوله تعالى: { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أن لهم مطلق الأمن ومطلق الهداية، فإن كان اجتناب الظلم بأنواعه الثلاثة؛ فله الهداية التامة في الدنيا وله الأمن من العذاب في الآخرة، في الآخرة يدخل الجنة من أول وهلة.
وأما إن كان اجتناب الظلم الأكبر وهو وقع في الظلم الأصغر؛ فهذا له مطلق الهداية ومطلق الأمن، له مطلق الهداية ولكن ليس هدايةٌ تامة لأنه وقع في بعض المعاصي، وله مطلق الأمن بأن يُؤّمن مِن الخلود في الآخرة لكن قد يُعَذَب لكن يأمن مِن الخلود في العذاب.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ"، الذي في قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، " وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ" وهو الشرك يعني.
" وَمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ؛ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]" ومن أهل الاصطفاء ومِمَن أورثهم الله الكتاب إذا اجتنب الظلم الأكبر، "إلى قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33]
بيَّن الله أن الأصناف الثلاثة كلهم يدخلون جنات عدن، الظالمون والمقتصدون والسابقون.
يقول المؤلف: وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُمْ بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتُبْ"
يُؤّخَذ بظلم نفسه: قد يُعذَب في قبره أو في موقف القيامة أو قد يُعذَب في النار وقد يُعفى عنه وهو تحت المشيئة.
" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وَقَالَ تَعَالَى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]".
(المتن)
وَقَدْ «سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ»
فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا تَابَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ تُقَوِّمُهَا تَارَةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».
وَفِي حَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا».
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ، وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ نَفْسَهُ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا وَعَدَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ هَدَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِيهِ إلَى الْجَنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ.
(الشرح)
يعني الآية: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وهو الاهتداء.
يقول المؤلف رحمه الله في بيان قول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] ويبيِّن المؤلف رحمه الله أن أبا بكرٍ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فبيّن له أن ما يصيب الإنسان من المصائب هذا مما يُجزى به، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:
وَقَدْ سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، يعني عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] يعني معنى قوله يا رسول الله: كل سوء نجزى به يعني إن الإنسان محل الخطأ يكثر الخطايا فكيف يجزى به؟
بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن المصائب التي تحوي الهموم والأحزان التي تصيبه في الدنيا هذا مما يُجزى به.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَدْ «سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟»
يعني السيئات كثيرة إذا كنا نجزى بها، وأن الجزاء يكون في الآخرة، فبيّن له النبي أن الجزاء قد يكون في الدنيا من الهموم والغموم والمصائب وفقد الأحبة وما يحصل للإنسان ضررٌ في أهله أو ماله أو ولده أو نفسه، كل هذا مما تُكَفَّر به الخطايا.
"فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ"، يعني تتعب، " أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ؟"، يعني الجهد والمشاقّْ، " فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ"
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عبده، لو كان الإنسان يُؤَجَل له ما يحصل من السيئات التي يرتكبها يُؤَجَل في الآخرة؛ لكان شديدًا عليه، ولكن بفضل الله تعالى كان أنه سبحانه يُكَفِّر سيئات العبد بما يصيبه في الدنيا من الآلام والأثقام والأمراض.
يقول المؤلف رحمه الله: "فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا تَابَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ تُقَوِّمُهَا تَارَةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى»"
هكذا، يعني المصائب، هذه المصائب تصيبها المصيبة، تصيبك كذا، يصيبه هذا المرض مثل الخامة من الزرع تصيبها الريح تقلبها يمينًا وشمالًا تقوِّمها تارة وتقلبها أخرى.
"« وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً»".
وهي شجرة صلبة صامدة لا تتحرك إلا مرة واحد تسقط، هذا مِثل الكافر.
يقول المؤلف رحمه الله: "« وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»".
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، ما يصيبه من وصب: يعني مرض، ولا نَصَب: تعب، ولا هَمٍ ولا حَزَن ولا غمٍ، حتى الشوكة يشاكها يُكفِّر الله من خطاياه، بهذه الخطايا.
"وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ»".
حِطَّة يعني: مغفرة، يحط الله بها الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، يسقِط الله بها الأمراض، يسقِط الله بها الذنوب، "«كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا»، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ".
يقول المؤلف رحمه اله: "فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ"؛ يعني ظلم الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه في ما دون الشرك، "كانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ".
كانت هدايته في الدنيا تامة، مهتديًا هداية تامة، وكان له الآمن من العذاب في الآخرة، يأمن من دخول النار ومن الخلود؛ لأنه لقي ربه بتوحيدٍ خالص سالمًا من الشرك والمعاصي، لم يقدح في توحيده شيءٌ من المعاصي، فكان له الهداية التامة في الدنيا وله الأمن التام في الآخرة.
" وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ نَفْسَهُ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا وَعَدَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ هَدَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِيهِ إلَى الْجَنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ".
المعنى أن: مَن ظلم نفسه بما دون الشرك، بالمعاصي، أو ظلم العباد؛ فأمنه ليس تامَّا وهدايته ليست تامَّة، ليست هدايته تامَّة؛ لأنه نقصت الهداية بهذه المعاصي التي أضاف بها توحيده، والأمن في الآخرة ليست تامَّا، فهو آمنًا من الخلود في النار ولكن ليس آمِنًا من الدخول.
(المتن)
يقول رحمه الله: وَلَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «إنَّمَا هُوَ الشِّرْك» أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ يَكُونُ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ.
فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ؛ بَلْ مَعَهُمْ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ إلَى هَذَا الصِّرَاطِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ» إنْ أَرَادَ بِهِ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ؛ فَيُقَالُ: ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ -لِحُبِّ الْمَالِ- بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَحُبُّهُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَهَذَا صَاحِبُهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
(الشرح)
يقرُّ المؤلِّف رحمه الله ما سبق أن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما هو الشرك» أنَّ مَن لم يشرك شركًا أكبر؛ يكون له الأمن التام والاهتداء التام، ليس المراد هذا، وذلك لأن الأحاديث تفسِّر بعضها بعضًا.
يقول المؤلف: "فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيم".
فالمشرك: هذا فاته الأمن وفاته الهداية، ليس له أمن وليس له هداية، أما العاصي، المؤمن الموحد العاصي فعنده أصل الأمن وأصل الهداية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ؛ بَلْ مَعَهُمْ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ إلَى هَذَا الصِّرَاطِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ".
يعني في النهاية لا بد لهم من دخول الجنة وإن سبق دخول الجنة بعد ذلك عذابٌ يحصل لهم في النار لكنهم لا يخلَّدون فيه.
يقول المؤلف: "وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ»"، هذا يحتمل أمرين: "إنْ أَرَادَ بِهِ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ".
يعني المراد بالشرك الأكبر: فهو آمنٌ مما وُعِد به المشركون من الخلود في النار، وهو آمنٌ مما وعِد به المشركون من كونهم ليسوا مهتدين.
" وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ؛ فَيُقَالُ: ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ - لِحُبِّ الْمَالِ - بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَحُبُّهُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ".
هذا على معنى أن جميع المعاصي نوعٌ من الشرك لما فيه من الهوى لأنه اتباعٌ للهوى؛ فتسمى شركًا بهذا المعنى، فيكون هذا الذي حصل على جنس المعاصي؛ فإنه يكون اهتداؤه ناقص وأمنه ناقص.
أما الذي انسلب الشرك والمعاصي؛ فإن أمنه تام وهدايته تامة.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسب ذلك.
يعني الذي فعل بعض المعاصي، ولذلك تسمى طاعةً للهوى وللشيطان يسمى شرك، مِثل من بخل بالواجب لحب المال، من أحب ما يبغضه الله فقدَّم الهوى على محبة الله، كل هؤلاء قد فاتهم من الأمن والاهتداء بحسَب المعاصي التي فعلوها وارتكبوها.
ولهذا يقول المؤلف: " وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ". لأن الظلم له أنواعٌ ثلاثة.
(المتن)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ: فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ؛ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} [القصص: 19].
{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) } [البقرة: 11، 12].
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8(} [البقرة: 8].
وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا، وَكَذَا قَالَ السدي عَنْ أَشْيَاخِهِ: الْفَسَادُ: الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكُفْرُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النِّفَاقُ الَّذِي صَافُوا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي، وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ كَالْأَوَّلَيْنِ.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد:
فإن المؤلِّف رحمه الله في هذا الفصل لا يزال يذكر من الألفاظ التي تدل على العموم فإنه ذكر فيما سبق أن لفظ الإيمان من ألفاظ العموم إذا أُطلِق فإنه يشمل الدين كله، يشمل أداء الفرائض وترك النواهي ويشمل الأقوال والأعمال، وكذلك مسمى الدين، وكذلك مسمى الإسلام.
ثم ذكر ما يقابله: لفظ الكفر فإنه إذا أُطلِق يشمل الكفر الظاهر والكفر الباطن، يشمل المنافقين ويشمل المشركين، وكذلك لفظ النفاق وغير ذلك من الألفاظ.
ثم قال: "وَمِنْ هَذَا الْبَابِ"، يعني التي تعم فيها الألفاظ من هذه الباب وهي من الألفاظ العامة التي تُذكَر فتعم، قال: ""وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ : فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ"، يتناول جميع الخير من الأقوال والأفعال والأعمال والنِيِّات ويشمل الإيمان ويشمل الإسلام ويشمل الإحسان، عامّْ، إذا أُطلِق لفظ الصلاح؛ فإنه يتناول جميع الخير.
"وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ"، من الكفر والمعاصي ومن الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، جميع الشرور يشمل لفظ الفساد.
كما أن اسم الصلاح يتناول ويشمل جميع الخير وجميع أنواع الخير.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ : فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ".
يعني أن اسم الصالح عامٌّ يشمل النبي ويشمل المؤمن ويشمل الولي، مثل الولي، لفظ الصالح عامٌّ يشمل المؤمن ويشمل النبي ويشمل الصديق ويشمل الشهيد ويشمل الصالح، كل اسم الصالح يشمل كل من صلُحَت أعماله وأقواله في السماء وفي الأرض، حتى الملائكة يشمل اسم الصالح، فاسم الصالح عامٌّ، فالنبي يدخل في اسم الصالح، والصديق يدخل في اسم الصالح، والشهيد يدخل في اسم الصالح، والمَلَك يدخل في اسم الصالح.
"وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالمفسد هذه من الألفاظ العامه وكذلك المُصْلِح يشمل جميع المصلحين من الأنبياء والدعاة ومَن بعدهم من الدعاة.
وكذلك المفسد: من الألفاظ العامة، يشمل كل مفسدٍ في الأرض، فيشمل الكفرة، ويشمل العصاة وغيرهم.
كما قال المؤلف رحمه الله: قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} [القصص: 19]".
الشاهد: قال: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [القصص: 19]
المصلحين: عامٌ، اسم لكل مصلح في السماء وفي الأرض.
ثُمَّ قال: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]"
فالشاهد {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142] يشمل كل مفسد من الكفرة ومن دونهم.
"وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) }[البقرة: 11، 12]"
هذه الآية نزلت في المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والشاهد قول الله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
يعني داخلون في اسم المصلح، يعني يشملنا اسم المصلح فنحن مصلحون.
قال الله:{ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]
بيَّن الله أنهم داخلون في اسم مفسد.
يقول المؤلف رحمه الله :" وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8]"؛ لأن هذه الآيات في أول سورة البقرة، والله تعالى ذكر في مطلع سورة البقرة الأصناف الثلاثة، ذكر المؤمنين ظاهرًا وباطنًا في أربع آيات ثم ذكر الكفار ظاهرًا وباطنًا في آيتين، ثم ذكر المنافقين الذين يظهِرون الإسلام ويبطنون الكفر في ثلاث عشرة آية.
قال المؤلف رحمه الله : "وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ".
يعني في قوله سبحانه: { أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 12]: يشمل كل منافق، سواءٌ كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو مَن سيأتي إلى يوم القيامة، كلهم داخلون في اسم المفسد، كلهم مفسدون، فالمنافقون مفسدون وليسوا من المصلحين.
يقول المؤلف رحمه الله :" ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا".
وهم المنافقون، وهؤلاء المنافقون الموجودون يدخلون في الآية دخولًا أوليًا، ومراد سلمان رضي الله عنه: أن هذه الآية تشمل المنافين الذين سيُوجَدون في المستقبل، وإن كانت نزلت في هؤلاء المنافقين الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وَكَذَلك قَالَ السدي عَنْ أَشْيَاخِهِ: الْفَسَادُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي"، يعني عامٌ، الكفر والمعاصي، المعاصي عامٌ، الكفر والمعاصي: عَطْفُ المعاصي على الكفر مِن عطف العام على الخاص لأن الكفر من المعاصي.
" وَعَنْ مُجَاهِدٍ: تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ"؛ لأن تَرْك امتثال الأوامر واجتناب النواهي هو الكفر والمعاصي، فالعاصي ترك امتثال الأوامر وترك اجتناب النواهي، والكافر كذلك.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله :" وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكُفْرُ"، هو خص الفساد بالكفر.
" وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النِّفَاقُ الَّذِي صَافُوا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ"؛ يعني الذي وافقوا الكفار فيه وهو الكفر، "وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي، وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ كَالْأَوَّلَيْنِ".
(المتن)
وَقَوْلُهُمْ: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} [البقرة: 11] فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ أَيْ: إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ.
وَفُسِّرَ: بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا، وَهَذَا، يَقُولُونَ الْأَوَّلَ لِمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ.
لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهُمْ يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادُوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ لَا فَسَادٌ، وَعَنْ السدي: إنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فَسَادٌ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الدَّوْلَةَ إنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ أَمِنُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ؛ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِمْ.
وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 12] أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ.
وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196] وَقَالَ: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} [يونس: 81] وَقَوْلُ يُوسُفَ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]"
(الشرح)
المؤلف رحمه الله لا يزال يشرح معنى الصلاح والفساد ومعنى المصلِح والمفسد وأن كلًا منهما من الألفاظ العامة، وأن الصلاح والإصلاح يشمل جميع أنواع الخير، والفساد والإفساد يشمل جميع أنواع الشر.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَقَوْلُهُمْ: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} [البقرة: 11] فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ".
لأنهم أقروا بالإيمان هم ثم أنكروا ذلك، " أَيْ: إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ، وَفُسِّرَ: بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ".
يعني كلًّا منهما حق لأنهم أقروا بالإيمان بألسنتهم وقالوا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول ثم أنكروا ذلك.
"وَفُسِّرَ: بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ"، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) } [البقرة: 11، 12]
" كِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ" ، يعني كلا القول بأنهم أنكروا ما أقروا به أو القول بأنهم فسَّروا ما يفعلونه بأنه صلاح كلٌ منهما حق، " فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا"، تارً يقولون هذا وتارةً يقولون هذا.
" يَقُولُونَ الْأَوَّلَ لِمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ"، يقولون: إنما نفعل ما أمرنا به الرسول، هذا الأول، " وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ" الثاني يقولون: الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح هذا يقولون لأنفسهم ولِمَن اطلع على بواطنهم.
أما مَن لم يطلع على أمرهم وحالهم؛ فإنهم يقولون إنما نفعل ما أمرنا به الرسول
" لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ"، وهو القول بأننا نفعل ما أمرنا به الرسول، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ"، لأنهم يقولون: إنما نفعل ما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا في الظاهر، لكن هم في الباطن مكذِّبون ولا يفعلون ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهُمْ يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا".
يعني يسمونه صلاحًا وإن كانوا يعلمون أنهم مكذٍّبون لله ولرسوله، " قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادُوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ لَا فَسَادٌ، وَعَنْ السدي: إنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فَسَادٌ".
هذا يقولونه لأنفسهم ولِمَن يطَّلع على حالهم من الكفار، "وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيا، فَإِنَّ الدَّوْلَةَ إنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ أَمِنُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ؛ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِمْ".
وعلى هذا القول "أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيا"، يعني: يُصْلِحون أحوالهم في الدنيا؛ فهم لهم ظاهر ولهم باطن، فظاهرهم مع المؤمنين، فإن كانت الدولة والغَلَبَة للمؤمنين؛ قالوا: نحن أمِنا بمتابعته، أظهرنا لا يصيبنا شيء، وإن كانت الدولة للكفار؛ فقد أمِنوهم لأنهم يوافقونهم في الباطن.
فهم يريدون أن يتخذوا يدًا مع المؤمنين ويتخذوا يدًا مع الكفار، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى في سورة المائدة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، يسارعون في موافقة الكفار، يقولون: نخشى أن تكون الدائرة على المسلمين، تكون للكفار فتكون لنا يدٌ معهم، قال الله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52].
القارئ: لكن فيه مناقضة بين القولين، أحسن الله إليكم، سواء اعتبار هذا وهذا بالنسبة لهم، كلا الأمرين مردود.
الشيخ: نعم، ما في شك، لكن الكلام في حالهم الآن هم يعني منافقون الآن؛ فهم يُظهِرون للمؤمنين ما يناسبهم لدعمهم، ويُظهِروا للكفار ما يناسبهم.
القارئ: لكن المعنى بالنسبة للآية أيضًا صحيح سواء بهذا الاعتبار أو هذا.
الشيخ: نعم، كما قال المؤلف: وكلا القولين حق، " وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا، وَهَذَا".
يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 12] أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ.
وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ".
القول الأول: وهو أنهم لا يشعرون، أنَّ ما فعلوه فسادٌ لا صلاح، يشمل أنهم لا يشعرون أنَّ الله يُطلِع نبيه على فسادهم، فهو المراد كما يدل عليه لفظُ الآية.
" وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196]".
الشاهد من الآية: الصالحين {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، عامٌّ، يشمل كل صالح من نبيٍ أو صدِّيقٍ أو شهيدٍ أو وليٍّ.
"وَقَالَ: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81)} [يونس:81]".
الشاهد: عمل المفسدين، المفسد عام لكل مفسد، سواءٌ كان فساده في الكفر أو بالمعاصي، والسحرة فسادهم بالكفر، السحرة الذين يتصلون بالشياطين فسادهم بالكفر أعظم الفساد.
"وَقَوْلُ يُوسُفَ"؛ يعني قول الله عن يوسف:" {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} [يوسف: 101]".
الشاهد قوله: الحقني بالصالحين: عامٌّ، وهو نبي عليه الصلاة والسلام وهو داخلٌ في اسم الصالحين، دل على أن اسم الصالح عامٌ.
والمؤلف رحمه الله يبيِّن أن هذه الألفاظ عامَّة، وأن لفظ الإيمان عامٌ يشمل الأقوال والأعمال والاعتقاد، وقصده من هذا: الرد على المرجئة الذين يقولون إن الإيمان لا يشمل إلا الاعتقاد في القلب أو الاعتقاد والقول باللسان.
يقول المؤلف رحمه الله: هذا عامٌّ يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وله نظائر ليس خاصًا بهذا، ليس خاصًا باسم الإيمان واسم الكفر واسم النفاق واسم المصلح واسم المفسد واسم الصلاح واسم الفساد، الفاظ عامة، واسم النفاق، هذا معروف في اللغة العربية ومعروف في النصوص.
فكذلك اسم الإيمان عامٌّ يشمل الأقوال والأعمال؛ فتبيَّن بهذا بطلان قول المرجئة الذين يقولون: إن مسمى الإيمان: الاعتقاد بالقلب، أو التصديق بالقلب، أو قول اللسان كما هو قول المرجئة، كقول الكرَّامية، أو قول معرفة القلب كما هو قول الجهمية، أو القول بأنه النطق باللسان وتصديق بالقلب كما هو قول مرجئة الفقهاء.
كل هذه الأقوال أقوالٌ باطلة، والصواب الذي دلَّت عليه النصوص والذي عليه جماهير أهل السُنَّة والجماعة أن مسمى الإيمان: قولٌ باللسان وتصديقُ بالقلب وعملٌ بالجوارح.
فالمؤلف رحمه الله يبيَّن أن لهذا نظائر في الكتاب والسنة.
(المتن)
قال رحمه الله: وَقَدْ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205].
قِيلَ: بِالْكُفْرِ وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا (83)} [القصص: 83].
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة: 32].
وَقَتْلُ النَّفْسِ الْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْقَتْلِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَفِي الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالزِّنَا؛ الْحَقُّ فِيهَا لِعُمُومِ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ هَذَا كَمَا يُعْفَى عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَسَادَهُ عَامٌّ.
قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ.
قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَقِيلَ: سَبَبُهُ نَاسٌ مُعَاهِدُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا، وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ َنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ.
وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ"؛ يعني أحد اللفظين: الصلاح والفساد، أو الإصلاح والإفساد، أو المصلح والمفسد، "{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]".
فهذه الآية في المنافقين، وسياقها يقتضي أن المراد بالفساد هنا الكفر، ولهذا قال:" قِيلَ: بِالْكُفْرِ وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ"، لأن أول الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) } [البقرة: 204 - 206].
فالفساد هنا: قيل المراد به خصوص الكفر، وقيل بالظلم، وكلاهما صحيح لأن الآية إنما هي في المنافقين، وإن كان الفساد عامًا لكن خُصَّ بالكفر؛ لِمَا قُرِن به من السياق الذي يدل على أن المراد بالفساد: فساد الكفر وفساد الظلم؛ لأن الآية في المنافقين، وفسادهم هو بالكفر وبالظلم أعظم الفساد.
" وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا (83)} [القصص: 83]
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4]"
فالمراد بفساد فرعون: فساده بالكفر والمعاصي، وكذلك الآية السابقة: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]
لَمَا قرن بعلوًا في الأرض ولا فسادًا: يعني ولا كفرًا.
"وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة: 32]
وَقَتْلُ النَّفْسِ الْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْقَتْلِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَفِي الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالزِّنَا؛ الْحَقُّ فِيهَا لِعُمُومِ النَّاسِ".
المعنى أن القاتل الذي قتل نفسًا معصومة؛ مفسد، ولكن الحق في قتله لولي المقتول، وولي المقتول مخيَّر بين القٍصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو المجان؛ فالحق له، الحق لولي المقتول، بخلاف المرتد الذي بدَّل دينه والمحارب الذي قطع الطريق وأخاف السبل والزاني؛ فإن الحق هنا لعموم الناس، " وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ هَذَا كَمَا يُعْفَى عَنْ الْأَوَّلِ".
الأول: إذا عفى ولي المقتول؛ سقط الحق، الحق لولي المقتول سقط، أسقط حقه، بخلاف الثاني: المرتد: هذا حقه عام؛ فلابد أن يقيم حد الردة عليه ولي الأمر، يعني فساده عام ولم يكن مستحق الحق واحدًا بعينه ولكنه عموم المسلمين، حقٌ لعموم المسلمين؛ فلابد من إقامة حد الردة.
وكذلك قاطع الطريق كما أخبر الله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]
الإمام يختار واحدًا من هذه، ولهذا قال الله في شأن المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] الآية.
ولهذا قال بعض العلماء: أنهم إن قَتَلوا؛ قٌتِلوا، وإن قَتَلوا وأخَذوا المال؛ صُلِبوا، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئًا؛ نُفوا من الأرض.
المقصود: أن هذه الآية إنما هي في شأن المحاربين، والله تعالى جمعَ فيها بين الكفر والقتل وأخْذ المال وإخافة السبل.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله :" قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون".
وقد جاء الحديث في شأن العُرَنيين الذين جاءوا وأظهروا الإسلام واستوطنوا المدينة؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل بالصدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها؛ ففعلوا، فلما صَحُّوا، قتلوا راعيَ النبي صلى الله عليه وسلم وسرقوا الإبل؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم حين ارتفع النهار فأمر بهم فقُطِعَت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتُرِكوا في الحر يستسقون، فلا يُسقَوْن.
"قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَقِيلَ: سَبَبُهُ نَاسٌ مُعَاهِدُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا، وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ َنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
القارئ: عندنا نسخة أخرى يمكن نقرأها لنرى الفرق أيضًا:
في نسخة أخرى يقول: " فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ الْمُحَارِبِينَ وَنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ وَبِالْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ".
الشيخ: لعله قد قرن بالمرتدين المحاربين: ناقضي العهد المحاربين، المقصود أن الآية فيها هؤلاء: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] يعني يحاربون الله ورسوله بالكفر، ويسعون في الأرض فسادًا بالمعاصي؛ قطْع الطريق، وإخافة السبل.
قال المؤلِّف رحمه الله: "وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
نعم الآية تتناول قُطَّاع الطريق من المسلمين ومن غير المسلمين، فالكافر يُقتل لردته وتُقطع أيضًا يده ورِجلُه ويُترك حتى يموت، والمسلم تُقطَع يده ورِجلُه ويحسم
يقول المؤلف: " وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى"؛ يعني إذا تاب المرتد أو تاب قاطع الطريق؛ يسقط عنه حق الله تعالى لقول الله تعالى في الآية التي بعدها: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]
لأنه إذا تاب قبل أن يُؤخَذ وسَلَّم نفسه دل على صحة توبته، بخلاف ما إذا أُخِذ ثم أعلن التوبة؛ فإنه لا تُقبل منه في الظاهر، لابد أن يُقام عليه الحد، أما في الباطن بينه وبين الله فإن كان صادقًا في توبته؛ فالله يقبل توبة الصادقين.
وإن سرقوا المال؛ قُطِعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبل ولم يقتلوا ولم يسرقوا؛ نُفوا. هكذا قال بعض العلماء.
وقيل: الإمام مخيَّر بين واحدٍ من هذه الأمور.
الطالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:22:54)) -- المفسد في الأرض إذا سَلَّم نفسه؟
الشيخ: إذا سَلَّم نفسه، وقال: إنه تائب. نعم، حقُّ الله يسقط، أما حقوق الخَلق لابد من أدائها: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] جاء وسَلَّم نفسه، وقال: أنا تائب؛ هذا دل على صحة توبته.
مثلًا القتل، الردة مثلًا، ومثل قاطع اليد والرِّجل، والمال لابد أن يُرَد إلى أصحابه.
الطالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:23:25)) --
الشيخ: هذا يُرجع إلى أولياء القتيل، يصطلح معهم، إما على القصاص أو الدية أو العفو مجانًا.
الطالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:23:41)) --
الشيخ: حقوق الخَلق لابد منها.
الطالب: -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:23:51)) --
الشيخ: إنْ أخافوا السبل، ولم يسرقوا ولم يقتلوا؛ نُفوا من الأرض.
(المتن)
قال المؤلف رحمه الله: وَكَذَلِكَ قَرَنَ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]
{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} [الأنعام: 48]
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِصْلَاحِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ».
وَقَالَ تَعَالَى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وَقَالَ: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } [مريم: 60].
وَقَالَ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].
وَقَالَ فِي الْقَذْفِ: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور: 5].
وَقَالَ فِي السَّارِقِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39].
وَقَالَ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16].
وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ".
قال المؤلِّف رحمه الله : "وَكَذَلِكَ قَرَنَ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
(الشرح)
المعنى: أن الصلاح والإصلاح وإن كانا من ألفاظ العموم؛ قد يُقرَن بالإيمان، والإيمان داخلٌ في اسم الصلاح والإصلاح، بل هو أفضل الإصلاح؛ فيكون عطفُ الإيمان على الصلاح والإصلاح من عطفِ الخاص على العام.
وإذا عُطِف الصلاح والإصلاح على الإيمان أيضًا كان من ألفاظ العموم؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ قَرَنَ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]"
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]: عطف العمل على الإيمان اختلف العلماء في عطف العمل على الإيمان فقيل إنه إذا عُطِف العمل على الإيمان؛ إنما هو من عطف الخاص على العام لأن الإيمان يشمل العام
وقيل: أنه إذا عُطِف عليه؛ دل على أنه غير داخل فيه، فالإيمان إذا أُطلِق؛ دخل فيه العمل، وإذا عُطِف عليه العمل؛ دل على أنه لم يدخل فيه.
ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} [الأنعام: 48]
عطف الإصلاح على الإيمان، والإيمان شامل لجميع أنواع الصلاح، وكذلك الإصلاح،
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِصْلَاحِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ".
فيكون عطف الإصلاح على الإيمان من عطف العام على الخاص كما سبق.
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ ورسوله».
والمعنى أنه جعل الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال؛ فدل على أن الإيمان بالله ورسوله إذا عُطِف على العمل؛ يكون العطف الخاص على العام، وهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه.
" وَقَالَ تَعَالَى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]"؛ يعني من تاب من الشرك ومِن المعاصي وآمَن عمل صالحًا ثُمَّ اهتدى، فالإيمان هو: أفضل العمل وعطف العمل عليه من عطف العام على الخاص، وإن كان الإيمان إذا أُطلِق فإنه يشمل جميع الأعمال، جميع أنواع الإصلاح، لكنه لَمَّا عُطِف عليه الإصلاح والعمل الصالح؛ دل على أنه عامٌّ بعد الخصوص، دل على أنه عُطِف العام على الخاص، عّطْف العام على الخاص.
وهذا معلوم: عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام معلوم في اللغة العربية، في النصوص.
"وَقَالَ: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } [مريم: 60]".
والمؤلف رحمه يُمَثِّل الآن لكون الصلاح والإصلاح قد يٌقرَن بالإيمان، هنا قُرِن بالإيمان في هذه الآية: { إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 60 ]: تاب من الشرك.
{وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } [مريم: 60]
فعطف العمل الصالح على الإيمان، والإيمان أفضل العمل الصالح؛ فيكون من عطف العام على الخاص.
"وَقَالَ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]".
والشاهد: عَطْف العمل الصالح على الإيمان.
" وَقَالَ فِي الْقَذْفِ: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5]"
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } [النور: 5] أي تابوا من المعاصي.
{ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] في ضمن التوبة: التوبة من المعاصي ومن الشرك؛ هذا هو الإيمان، ثم عَطَف عليه الإصلاح.
". وَقَالَ فِي السَّارِقِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39]"
كذلك عَطَف الإصلاح على التوبة، والتوبة إيمان.
وَقَالَ في قوله سبحانه: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16].
عَطَف الإصلاح على التوبة، والتوبة إيمان.
قال المؤلِّف رحمه الله: "وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ".
القاذف الذي قذف مسلمًا عفيفًا قذفه بالزنى والعياذ بالله أو باللواط؛ هذا فِسْق، وإذا طالب المقذوف بحقه؛ فإن القاذف يُجلّد ثمانين جلدة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
فإذا تاب القاذف وأصلح؛ فإن الله يتوب عليه، ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39].
يقول المؤلِّف رحمه الله: "اشَترَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ"؛ يعني يمضي مُضِي سنة تستقيم حالة وينزِّه لسانَه عن قذفِ المحصنين والمحصنات، كما فعل عمر بقصة صَبِيغ هذا لما أجَّله سَنة.
وقصته: أنه قدِم المدينة في عهدِ عمر، كان يسأل عن متشابه القرآن، فضربه عمر رضي الله عنه بعراجين النخل، حتى أدمى رأسه، ثم نفاه إلى البصرة، وأمر واليها بعدم مجالسته، يُطرَد من المجالس ولا يُكلَّم.
ثم بعد ذلك صلحت حاله واستقام؛ فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى الخليفة بصلاح حالة؛ فعفى عنه، وأمر الناس بمكالمته.
ولهذا قال المؤلف: "وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً" أخذًا من قصة عمر.