(المتن)
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ.
وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ أَمْ لَا.
وَأَيْضًا فَأَيُّ ذِهْنٍ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الَّذِي يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ؛ يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِهِ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ النَّبَطِيِّ الَّذِي صَارَ يَسْتَعْمِلُ الْأَلْفَاظَ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا، وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَعَوَّدُوا مَا اعْتَادُوهُ إمَّا مِنْ خِطَابِ عَامَّتِهِمْ، وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ عُلَمَائِهِمْ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى فَإِذَا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ظَنُّوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَيَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى لُغَتِهِمْ النَّبَطِيَّةِ وَعَادَتِهِمْ الْحَادِثَةِ.
وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ بِهِ الْغَلَطُ عَلَى طَوَائِفَ، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْرِفَ اللُّغَةَ وَالْعَادَةَ وَالْعُرْفَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْهَمُونَ مِنْ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ؛ فَبِتِلْكَ اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ خَاطَبَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَّا بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يحوجهم إلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ، كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ.
وَلِهَذَا كَانَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْعِلْمِ إلَى: تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ، وَأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ: تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ الْخَالِي عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا يُوجَدُ، وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ: مِنْ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا تُوجَدُ، وَمَا يَدَّعُونَهُ: مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ؛ لَا يُوجَدُ.
(الشرح)
╝
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فإن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ لايزال يرد على أهل البدع الذين يرون أن الأعمال غير داخلة في مسمَّى الإيمان، وأنَّ القول: بأن الأعمال تدخل في مسمّى الإيمان إنما هو مجاز لا حقيقة.
وقد ردَّ عليهم المؤلف رَحِمَهُ اللهُ كما سبق في الحلقات السابقة ردًّا عامًّا ببيان تقسيم الفظ إلى حقيقة ومجاز، وأن هذا التقسيم تقسيمٌ غير صحيح؛ وذلك أن المجاز لم يعرفه أهل اللغة، ولم يتكلم به أحد مِن الصحابة والتابعون، ولم يتكلم به أهل القرون المفضَّلة، وأنَّ أوَّل مَن تكلم به أبو عبيد مَعمَر بن المثنى، ولم يرد به المجاز الذي هو قسيم الحقيقة وإنما المراد به ما يجوز في المعنى.
وكذلك ما ورد في كلام الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ، ثم بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بطلان ما يدعيه الذين يقسمون الكلام إلى حقيقة ومجاز، وأن مِن أقوالهم أن الحقيقة هي ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يناقشهم ويقول: "وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ" المعنى أن القول بأن "الْحَقِيقَةَ هي مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" غير صحيح.
لأنه ليس هناك لفظٌ مطلق، بل الألفاظ كلها مقيدة، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّهُ يُقَالُ: إذَا كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ" يعني بالقيد.
"وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ" فالكلام لا يُستعمل مطلقًا، بل لابد مِن قيد، ولهذا يقول المؤلف: "فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ الذِّهْنَ يَسْبِقُ إلَيْهِ أَمْ لَا" فالقول بأن الحقيقة هي ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق قول باطل لأن اللفظ لا يأتي مطلقًا عن القيود، بل اللفظ لابد أن يُقيد، وإذا كان اللفظ لابد أن يُقيَّد فالقول بأنه الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق باطل، لأنه ليس هناك حال إطلاق حتى يُقال إن الذهن يسبق إليه أم لا.
وثانيًا لو سلمنا جدلًا أن "الْحَقِيقَةَ هي مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" أي ذهنٍ هذا؟ الأذهان تختلف، فالعربي يسبق إلى ذهنه شيء، والعامي يسبق إلى ذهنه شيء، فأيُّ ذهنٍ هذا الذي يُعتبر؟
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَيْضًا فَأَيُّ ذِهْنٍ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الَّذِي يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ؛ يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِهِ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ النَّبَطِيِّ الَّذِي صَارَ يَسْتَعْمِلُ الْأَلْفَاظَ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا" النبطي هو العامي أو العجمي الذي يستعمل الألفاظ في غير معانيها هذا يسبق إلى ذهنه غير الذي يسبق إلى ذهن العربي، فأيُّ الذهنين يُراد؟
وبهذا يتبين أن القول بأن "الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" لو سلمنا أن هناك حقيقة يسبق إليها الذهن فالأذهان تختلف، ذهن العربي غير ذهن النبطي، غير ذهن العجمي.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَعَوَّدُوا مَا اعْتَادُوهُ إمَّا مِنْ خِطَابِ عَامَّتِهِمْ وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ عُلَمَائِهِمْ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى فَإِذَا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ظَنُّوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى لُغَتِهِمْ النَّبَطِيَّةِ" هذا غلط نبه عليه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، غلط وقع فيه كثير مِن الناس، وهو أنهم يحملون كلام الله وكلام رسوله على ما تعودوه في لغتهم الدارجة أو لغتهم العامية أو خطاب عامتهم.
فيحملون كلام الله وكلام رسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة فيحصل بذلك مِن البدع مِن عقولهم الفاسدة، لأنهم إذا حملوا بذلك كلام الله وكلام رسوله ﷺ على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة وفسَّروا كلام الله بغير مراد الله، وفسروا كلام رسول الله بغير مراد رسول الله.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ بِهِ الْغَلَطُ عَلَى طَوَائِفَ" ثم بين رَحِمَهُ اللهُ الواجب، فقال: "بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يُعْرِفَ اللُّغَةَ وَالْعَادَةَ وَالْعُرْفَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْهَمُونَ مِنْ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ" الواجب على المسلم أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على اللغة والعرف والعادة التي نزل بها القرآن والسنة وعلى اللغة والعرف والعادة التي يفهمه الصحابة.
لأن الله خاطب الناس بهذه العادة، ولهذا قال المؤلف: "فَبِتِلْكَ اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ خَاطَبَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. لَا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ" فلا يستطيع المسلم أن يعرف مراد الله ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام إلا إذا حمل كلام الله وكلام رسوله على اللغة والعرف والعادة الذي نزل في القرآن والسنة وعلى اللغة والعرف والعادة الذي يفهمه صحابة من الرسول الله ﷺ عند سماع تلك الألفاظ، وفي غير ذلك يحصل الغلط والانحراف.
ثم قال: "وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَّا بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يحوجهم إلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ" هذا يعني مما يُرد به على مَن يقول أن "الْحَقِيقَةَ هي مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" فيقول المؤلف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورسوله ﷺ، بين معنى ما أنزله الله في كتابه وما تكلم به الرسول عليه الصلاة والسلام مِن السنة بين الله تعالى ذلك وبين رسول الله ﷺ، فالرسول ﷺ أنزل الله عليه السنة وهي وحي ثانٍ، والسنة تفسر القرآن وتبينه وتوضح معانيه وتقيد المطلق وتبين المجمل وتخصص العام، فالله سبحانه لم يحوج إلى شيء آخر.
فلا حاجة إلا أن يقال إن "الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" حقيقة كلام الله وكلام رسله قد بينه رسوله ﷺ ولم يحوجه إلى شيء، إلى ذهن فلان وذهن فلان، أو ذهن طائفة معينة، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَل".
يعني أن هؤلاء الذين يقولون إن "الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ"، والمجاز هو ما قُيِّد مِن الكلام، هذا قول باطل، وذلك أن اللفظ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ" يعني مفروضًا في الذهن، أما الموجود في الأعيان فلا بد أن يُقيَّد، أما القول بأن هناك لفظ مطلق مِن جميع القيود فهذا لا يوجد في الخارج وإنما يوجد مفروضًا في الأذهان، والمفروض في الأذهان لا حقيقة له.
ولهذا قال: " فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ" ثم استطرد المؤلف رَحِمَهُ اللهُ وبين أن قول هؤلاء بأن "الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ" قال: له نظير، والنظير ما يدعيه المناطقة المنطقيون، أهل المنطق مِن المعنى المطلق مِن جميع القيود.
فالمنطقيون يدَّعون أن هناك معنى مطلق مِن جميع القيود، وهذا لا وجود له إلا في الذهن، لا يوجد إلا مقدرًا في الذهن، والذهن يرفض المستحيل، "لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ" فتبين بهذا أنه لا يوجد لفظ مطلق مِن جميع القيود، ولا يوجد معنى مطلق مِن جميع القيود إلا في الذهن، فلا يوجد في الخارج لفظ مطلق مِن جميع القيود ولا يوجد في الخارج معنى مطلق مِن جميع القيود.
ثم بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أن ما يدعيه المنطقيون "مِنْ تَقْسِيمِ الْعِلْمِ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ" ليس بصحيح، فهم يقولون أن العلم ينقسم إلى "تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ" أي الخالي عن كل قيد، فليس هناك معنى خالي عن كل قيد، "وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ" والبسائط هي " أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ" لا توجد أيضًا.
"لَا تُوجَدُ. وَمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ؛ لَا يُوجَدُ" الملاحدة وغلاة الجهمية يدعون أن واجب الوجود وهو وجود الله U هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتي ومعنى وجود مطلق أنه لا يُوصف بأي صفة، وهذا مِن بَلِيَّة الذهن، ولذلك يقولون: عن واجب الوجود أنه لا يوجد داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايد له ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا يفهم بأي صفة.
ومعلوم أن هذا مستحيل، هذا لا يوجد إلا في الذهن والذهن يرفض المستحيل ويقدِّره، فتبين أن هؤلاء الملاحدة لم يثبتوا ربًّا ولا إلــــهًا، لأنهم جردوه مِن كل صفة ثبوتية، نسأل الله السلامة والعافية. ومعلوم أن المعدوم خير مِن هذا الموجود الذي يُجرد عن كل صفة ثبوتية، نسأل الله السلامة والعافية.
فتبين بهذا أنه لا يوجد لفظ مطلق مِن جميع القيود ولا يوجد معنى مطلق مِن جميع القيود ولا يوجد علم تصور وهو أن يتصور المعنى الساذج مِن جميع الوجوه ولا يوجد بسائط تتركب منها الأنواع وهي أمور مطلقة مِن كل قيد وكذلك "وَمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ" لا وجود له إلا في الذهن والذهن يرفض المستحيل ويتخيل.
(المتن)
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ظَنِّ وُجُودِهَا ضَلَّ طَوَائِفُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ، بَلْ إذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ إنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَمُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، كَمَا يَقُولُونَ: الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْلِ. أَيْ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، فَقُيِّدَتْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّحْرِيرَ.
وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْمُطْلَقِ الْمَحْضِ، يَقُولُونَ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَمَا يَذْكُرُهُ الرَّازِي تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا، وَبَيَّنَّا مِنْ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِكَلَامِ مُؤَلَّفٍ مُقَيَّدٍ مُرْتَبِطٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَتَكُونُ تِلْكَ قُيُودًا مُمْتَنِعَةَ الْإِطْلَاقِ.
(الشرح)
بيَّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ أنَّ هذه "الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ"؛ يعني كقولهم: "الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ"، وقولهم "التَّصَوُّرَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ الْخَالِي عَنْ كُلِّ قَيْدٍ"، وقولهم: "الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ".
وقولهم "أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ"، يقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ظَنِّ وُجُودِهَا ضَلَّ طَوَائِفُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ"؛ يعني طوائف مِن أهل البدع ضلُّوا في الأمور العقلية، وضلُّوا في الأمور السمعية.
فالعقليات هي ما يتصوره الإنسان ويعقله ويركبه مِن الأدلة العقلية والسمعيات، الأدلة: النصوص المسموعة مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: أن طوائف ضلوا في العقليات وضلوا في السمعيات بسبب ظنهم أن هناك أمورًا مطلقة عن كل قيد فظنوا أنه يوجد في الخارج شيء مجرد عن جميع الصفات فلما ظنوا هذا الظن ضلوا.
فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن أن العلماء إذا قالوا مطلق ومقيد لا يعنون بالمطلق المطلق عن جميع الصفات، وإنما يعنون به: "مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَمُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، كَمَا يَقُولُونَ: الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْلِ. أَيْ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، فَقُيِّدَتْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّحْرِيرَ".
المعنى: أن العلماء إذا تكلَّموا عن المطلق والمقيد لا يريدون بالمطلق ما يقصده أهل المنطق، وهو المطلق عن قيود الصفات، وإنما المراد بالإطلاق والتقييد أي: مطلق عن ذلك القيد، ومقيد بذلك القيد المعين.
لا يريدون به الإطلاق عن جميع القيود، وذكَّر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بقولهم "الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْ"؛ لأنها لم تُقيَّد باليمين في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89].
فهي مطلقة عن قيد اليمين وليس المراد أنها مطلقة عن جميع الصفات لأنها موصوفة بأنها رقبة وأنها موصوفة بأنها موجودة وموصوفة بأنها تقبل التحرير، فتبين بهذا أن العلماء حينما يتكلمون في المطلق والمقيد لا يريدون بالمطلق ما يريد به المناطقة أهل المنطق وهو الإطلاق عن جميع القيود، لأن هذا لا وجود له، وإنما المراد الإطلاق عن قيد معين والتقييد بقيد معين.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْمُطْلَقِ الْمَحْضِ يَقُولُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ" أي الذين يقولون بالمطلق المحض مِن أهل المنطق وغيرهم مِن الملاحدة، يقولون المطلق المحض هو الذي "لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ" ومعلوم أن المراد بالمطلق هنا الطلق عن جميع الصفات، فالمطلق هنا هو الذي لا وجود له إلا في الذهن، فالشيء الذي يقال بأنه " لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ" هذا إنما هو موجود في الذهن.
ولذا قال: "بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ" أي الحقيقة الذهنية، لا يوجد شيء "لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ" إذا نُفي عنه الوجود ونُفي عنه العدم صار خيال، صار وجوده ذهنيًّا، فهذا هو الذي يريده أهل المنطق وغيرهم.
أما العلماء إذا تكلموا عن المطلق والمقيد يريدون المطلق عن قيدٍ معين، أو عن قيود معينة، لا يريدون به المطلق عن جميع القيود والصفات، فإن هذا لا وجود له إلا في الذهن.
يقول المؤلف: "كَمَا يَذْكُرُهُ الرَّازِي في كتابه تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ ابْنِ سِينَا" الفيلسوف، هو مِن الفلاسفة المتأخرين الذين انتشرت فلسفتهم وهم المشَّاؤون ورئيسهم الأول، زعيمهم الأول هو ارسطو ثم المعلم الثاني أبو نصر الفارابي ثم المعلم الثالث علي ابن سينا، تلقى عنهم الرَّازي هذا الاصطلاح، وقال إن المطلق المحض هو الذي "لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ" وهذا هو الوجود الذهني الذي يفرضه الذهن ويتخيله.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَبَيَّنَّا مِنْ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ" بين رَحِمَهُ اللهُ في كثير مِن الكتب والرسائل كدرء التعارض وغيرها.
يقول المؤلف: "وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا " الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ " وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ كما سبق وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِكَلَامِ مُؤَلَّفٍ مُقَيَّدٍ مُرْتَبِطٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَتَكُونُ تِلْكَ قُيُودًا مُمْتَنِعَةَ الْإِطْلَاقِ" يعني أنه لا يوجد لفظٌ مطلق عن جميع القيود هذا لا وجود له كما لا يوجد معنى مطلق عن جميع القيود، وما يدعيه أهل المنطق مِن وجود مطلق عن جميع القيود فإنما هو وجود ذهني لا يتجاوز الذهن ولا يخرج عنه.
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ: فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَرْقٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بَلْ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ.
(الشرح)
المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ استخلص مما سبق: أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم باطل؛ لأن مَن فرَّق بين الحقيقة والمجاز، لأن الفروق التي ذُكِرت كلها غير سليمة، بل هي تفريق غير معقول وغير صحيح.
ولهذا لا يمكن التمييز به بين نوعين؛ بين الحقيقة والمجاز، وإذا كانت هذه الفروق التي يذكرها أصحابها، غير صحيحة ولا يمكن بها التمييز بين الحقيقة والمجاز، فإنه يتبيَّن أن هذا التقسيم باطل، وحينئذٍ يُقال: إنَّ "كُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وسنة وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاه" أنه حقيقة، وليس في هذه الألفاظ "شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بَلْ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ".
فالجميع حقيقةً كل ما كان في الكتاب أوالسنة أو في اللغة العربية كلها حقيقة، وتقسيم اللفظ إلى حقيقة أو مجاز تقسيمٌ باطل، لا يمكن التمييز به بين النوعين، ولهذا فإن القول: بأن اللفظ ينقسم إلى حقيقة ومجاز قول باطل، وبهذا يبطل دعوى أهل البدع مِن أن دخول الأعمال في مسمى الإيمان مجاز.
وإنما يُقال: إن دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة، وبهذا يتبيَّن أن مذهب المرجئة في إخراج الأعمال مِن مسمى الإيمان مذهب باطل، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة: من أن دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة، وليس فيه مجاز كما دلت على ذلك النصوص مِن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
(المتن)
وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ لَهُمْ؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ. فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77].
قَالُوا: وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ، وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ، وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ، وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ، وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ، وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ، وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَاللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا؛ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ أَوْ حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا.
وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْمَجَازُ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ؛ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ. وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلِّهَا.
(الشرح)
فإن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يردُّ على مَن قسَّم اللفظ إلى حقيقة ومجاز مِن أهل البدع وغيرهم الذين يقولون إنَّ: الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان إلا مجازًا، وقد سبق مناقشتهم ورد شبههم.
يقول رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا"؛ لأن القول: بأن في القرآن مجازًا لم يقل به المتقدمين، ما عُرف إلا عند المتأخرين، القرون الثلاثة لم يعرفوا ذلك، وكذلك أيضًا العرب لم يعرفوا تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، ما عرفه إلا المتأخرين.
"وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ لَهُمْ؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ. فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ" وهذا مِن شبههم قول الله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77]، ووجه الاستدلال قالوا: "وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ" فالله تعالى جعل للجدار إرادة وهذه الإرادة إنما هي مجاز، فالإرادة إنما تكون للحيوان، فاستعمالها في ميل الجدار مجاز.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: استعمال "لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ" يعني الميل يكون للحي ولغير الحي، يكون للجماد ولغير الجماد، يقول المؤلف: "وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ" وهذه كلها ألفاظ لغوية معروفة عند العرب يتكلمون بها.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: فإذا كانت هذه الألفاظ مستعملة في اللغة وأن لفظ الإرادة يستعمل في إرادة الحيوان وفي إرادة الجماد، فيكون اللفظ مستعمل في معنيين فصاعدًا، "وَاللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا" فهناك احتمالات: " فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ" وهذا لا دليل عليه، أو "حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا" أو يكون "حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ" يعني الأسماء المتفقة في أصل المعنى، "وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا".
"وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْمَجَازُ. وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ" وكلٌ مِن المعنيين يقول المؤلف: "خِلَافُ الْأَصْلِ"، وإذا كان خلاف الأصل فالمعتبر هو المعنى الثاني، وهو أن يُقال أنه "حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ" أي المتفقة فيما بينها.
يقول المؤلف: "وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلِّهَا" نعم.
(المتن)
وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ؛ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ، وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ.
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ الْكُلِّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ.
وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ؛ لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ إِلَّا مُجَرَّدًا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَتْ الْأَذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْفَرَسِ بِخِلَافِ تَصَوُّرِ مُسَمَّى الْإِرَادَةِ وَمُسَمَّى الْعِلْمِ وَمُسَمَّى الْقُدْرَةِ، وَمُسَمَّى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ، وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ، وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ.
بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ.
(الشرح)
المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ بيَّن أن اللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدًا أنه مِن الأسماء المتواطئة، أنه يجعل مِن الأسماء العامة المتواطئة، يعني المتفقة في أصل المعنى، "وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ".
يعني لو قال قائل: نجعله حقيقة في ميل الحيوان (الإرادة) ومجاز في ميل الجماد، لم يكن بين الدعويين فرق، يعني هذه الدعوى واحدة، "لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ؛ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ" يعني اللفظ مقيد {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77]، فاللفظ مقيد بأنها إرادة الجماد، والقيد لا يدل على أنه مجاز لأنه كما سبق، جميع الألفاظ مقيِّدة، ليس عناك لفظ مطلق.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ" المراد بالقدر المشترك هنا الميل والإرادة، الميل والإرادة (هذا) مطلق كلي في الذهن، لا يوجد إلا في الخارج، ومتى يكون موجودًا في الخارج؟ إذا قُيد، فقيل إرادة الحيوان، إرادة الجماد، هنا صار في الخارج، إما إذا كان مجرد الإرادة، أو مجرد الميل، هذا أمر كلي في الذهن، لا يوجد في الخارج إلا بأفراده، أفراده ميل الحيوان، ميل الجماد.
يقول المؤلف: "وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ" الإرادة مثلًا هذا أمر كلي، تنقسم إلى إرادة حيوان وإرادة جماد، هذا مورد التقسيم، مورد التقسيم هو الأمر الكلي العام، مثل مسمّى الوجود، الوجود ينقسم إلى وجود واجب، ووجود ممكن، فالوجود الواجب هو وجود الله U، والوجود الممكن وجود المخلوق، فهذا أمرٌ مشترَك، مسمى وجود، مسمى إرادة.
يقول المؤلف: "لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ الْكُلِّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ" والذي يوجد في الخارج هم الأفراد؛ هكذا؛ ميل الحيوان: إرادة الحيوان: إرادة الجماد.
"وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ. وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ؛ لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ إِلَّا مُجَرَّدًا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ" يقول المؤلف يُستثنى مِن ذلك لفظ الإنسان والفرس، " فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَتْ الْأَذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْفَرَسِ" فمسمى الإنسان ومسمى الفرس الأصل أنه معنى كلي، لكن لما وُجِد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان تصور مسمى الإنسان ومسمى الفرس، بخلاف غيره، مثل مسمى الإرادة، ومسمى العلم، ومسمى القدرة، ومسمى الوجود المطلق والعام، فإن هذا لا يوجد له في اللغة لفظ مطلق يدل عليه، لأنه لا يوجد إلا في الذهن.
مسمى الإنسان، مسمى الإرادة، مسمى العلم، مسمى قدرة، مسمى سمع، مسمى بصر، كلها ألفاظ كلية في الذهن عام في الذهن لا يوجد في الخارج إلا مُقيَّد، ولهذا قال المؤلف: "بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ" لا يوجد يعني في الخارج، لكن في الذهن يوجد غير مقيد، "بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ" يعني في الخارج لايوجد في الخارج الا مقيد اما في الذهن يوجد لفظ الارادة لفظ العلم لفظ القدرة هذا في الذهن مجرد عن جميع القيود فإذا قيدته صار في الخارج وإذا عزلت القيود صار انتقل الى كونه في الذهن
قال المؤلف: "بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ" جميع الأعراض، جميع الأوصاف، لا توجد في مَحَالِّها إلا مقيدة، مثل البياض، لا يوجد في الخارج إلا مقيد، البياض في الجدار، فمسمى البياض عُرِف في الذهن، فلا يوجد في مَحَالِّها إلا مقيدة، فالبياض في الجدار، قيدته بالجدار، فإذا جردته صار في الذهن، ولهذا قال رَحِمَهُ اللهُ: "بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ".
(المتن)
فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112].
فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ: الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة:21]، وَقَالَ: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، وَقَالَ: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق:9]، وَقَالَ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106]، {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:39]، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56]، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ:24-25].
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا».
وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: «أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك». فَلَفْظُ «الذَّوْقِ» يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُونُ بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ، لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ: ذُقْت الطَّعَامَ وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ؛ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ وَإِذَا كَانَ الذَّوْقُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ؛ حَتَّى الْمَاءُ الْحَمِيمُ يُقَالُ: ذَاقَهُ فَالشَّرَابُ إذَا كَانَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا يُقَالُ: ذُقْت حَرَّهُ وَبَرْدَهُ".
(الشرح)
يبيِّن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ أنَّ الألفاظ المطلقة لا وجود لها في الخارج إلا مقيده أما إذا أطلِقَت فإنها تكون في الذهن ومِن ذلك: "لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ"، فإنه لا يوجد في الخارج "إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ"، فإذا تجرَّد عن القيود فإنه يكون في الذهن.
ولهذا قال: "فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ"؛ يعني لفظ السواد مقيد بالأسود، يعني مقيد بشيء يوصف به، وكذلك البياض مقيد بالأبيض والطول مقيد بالطويل والقصر مقيد بالقصير.
"لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ"؛ يعني لا يوجد في الخارج مقيدًا عن كل قيد، "وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ"؛ يعني المصنفون في اللغة وُجِد في كلامهم تدريج مثل هذه الألفاظ.
بيَّن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ لأنه فهمَ مِن كلام أهل اللغة ما يريدون به مِن القدر المشترك، في اللغة لا يوجد إلا مقيدًا لكن في كلام بعض المصنفين في اللغة فهموا مِن كلام أهل اللغة ما يريدون به مِن القيد المشترك مثل: لفظ الذوق مشترك بين أشياء، الذوق بالفم وبغير الفم، ذوق الوبال، ذوق الموت، ذوق البرد، ذوق الحر، فلما كان مُشتَركًا وُجِد في كلام بعض المصنفين؛ لأنهم فهموا مِن كلام أهل اللغة هذا القدر المشترك.
ثُمَّ سرد المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ النصوص، وشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ له قدرة عظيمة في استنباط النصوص رَحِمَهُ اللهُ من الكتاب والسنة، إذا ذكر أي لفظ من الألفاظ، تجده رَحِمَهُ اللهُ يسرد النصوص ويستخرجها على البديهة رَحِمَهُ اللهُ، انظر لفظ الذوق كيف يستنبط النصوص:
"وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112]، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا".
"استعير"؛ يعني حقيقة الذوق بالفم ويُستعار في غير ذلك، واللباس حقيقة على البدن ويُستعار فيما يُلبس على غيره، ورد المؤلف على هذا قال: "وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ: الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ" يعني المراد خليل بن أحمد الفراهيدي رَحِمَهُ اللهُ إمام في اللغة معروف، قال هذا في مادة الذوق تذوق في كتابه العين، قال: "الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة:21]. وَقَالَ: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]. وَقَالَ: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق:9]. وَقَالَ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106] - {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:39]
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56] - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ:24-25]"، فالذوق في هذه النصوص معناه: وجود طعم الشيء، يعني لتجدوا طعم العذاب (للكفار)، ولتجدوا طعم الموت، ولتجدوا رائحة الجنة، ولتجدوا البرد.
"وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا»" هذا الحديث راه الإمام مسلم في كتاب الإيمان ورواه الإمام أحمد في مسنده، والشاهد قوله: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ" يعني وجد طعم الإيمان ولذته وحلاوته، وما يجده مِن السرور والنعيم.
"مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا" الرضا في القلب ثم يتبع ذلك العمل فمَن كان كذلك فإنه يجد اللذة والبهجة والسرور، "وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: " أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك ". فَلَفْظُ " الذَّوْقِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ" فيستعمل في الإحساس، ووجود الإحساس بالشيء وهو وجود الألم أو اللذة.
"لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُونُ بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ" ليس خاص بالذوق بالفم، فالذوق يكون بالفم وبغيره، الإحساس والشعور يكون مثلًا بالجسّ مثلًا لما يجسُّ بيده هذا يُسمى إحساس، ليس خاصًّا بالفم والذوق.
يقول المؤلف: "لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ" يعني الذوق مقيد، فيقول: "ذُقْت الطَّعَامَ" قيد الذوق بالطعام، "وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ؛ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ وَإِذَا كَانَ الذَّوْقُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ؛ حَتَّى الْمَاءُ الْحَمِيمُ يُقَالُ: ذَاقَهُ" يعني أحسَّه بجلده وجسده، فالشراب إذا كان حارًّا أو باردًا يُقال: "ذُقْت حَرَّهُ وَبَرْدَهُ" ولهذا فإن الذوق لفظ عام وليس خاص بالفم، والقول بأنه خاص هذا تحكم.
(المتن)
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَأَمَّا لَفْظُ اللِّبَاسِ: فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيَلْتَبِسُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10]. وَقَالَ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. وَقَالَ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]. وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ. فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ. فَلَوْ قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. وَلَوْ قَالَ فَأَلْبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُمْ إلَّا بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ. بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ: دَلَّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا»".
(الشرح) قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: أن الألفاظ لابد لها مِن قيد، وأنها إذا أطلقت فلا ترد مطلقة إلا في الذهن، فلابد لها مِن قيد، والقول بأن الذوق حقيقة في الفم مجاز في غيره فإن هذا غير صحيح، كالقول بأن اللباس حقيقة فيما يُلبس على البدن ويُستعار في غيره، هذا القول ليس بصحيح، لأن هذا لفظ مقيَّد بحسب ما يُضاف إليه.
ولهذا قال: "وَأَمَّا لَفْظُ " اللِّبَاسِ ": فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيَلْتَبِسُ بِهِ" عام في كل ما يغشى الإنسان ويلتبس به، ومثل لذلك، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10]، يعني يغشى الإنسان ويلتبس به، وَقَالَ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] هذا لباس معنوي، والليل لباس حسي، وكل منهما يغشى الإنسان.
وَقَالَ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، هذا في النساء، المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة، مِن الملابسة والقرب وذلك لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحلَّ للصائم في رمضان مباشرة أهله، فقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فأباح الله ذلك مِن أجل تحقيق الاختلاط والاحتكاك والحركة واتصال الرجل بزوجته أباح الله له الجماع.
وقال مؤلف رَحِمَهُ اللهُ "وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ" مراد المؤلف أن اللباس مادة اللام والباء والسين تُستَعمل في كل ما يغشى الشي، الإنسان ويلتبس به، "فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ" يُسمى لباس، الجوع الذي "يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ" كالملبس لأنه غشيه، "وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ" فإنه غشيه، "فَلَوْ قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" يبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الفرق بين التعبيرين، "فَلَوْ قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ" يفوت معنى العموم والشمول لجميع أجزاء الجائع، "بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" فإنه يُفيد الشمول.
"وَلَوْ قَالَ فَأَلْبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُمْ إلَّا بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ. بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ" يعني يبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الفرق بين العبارتين.
فالذوق فيه معنى الإحساس، واللباس فيه معنى الغشيان والشمول، "وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ: دَلَّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِهِ" يعني الذوق، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا».
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَصِفْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِالذَّوْقِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ وَيُقَالُ: ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ؛ بَلْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ:24]، أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ذَوْقٌ. وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56].
(الشرح)
يعني هذا اعتراض مقدَّر يقول المؤلف: "فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَصِفْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِالذَّوْقِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ وَيُقَالُ: ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ".
يقول: لما يوصف نعيم الجنة بالذوق؟ والجواب: "لِأَنَّ الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ" لا يقتصر على الإحساس، فنعيمهم كاملٌ مِن جميع الجهات، فلهذا؛ في وصف نعيم أهل الجنة المعنى الكامل التام، ولم يصف نعيم أهل الجنة بالذوق فقط لأنه دل على جنس الإحساس.
"ولهذا يُقال: ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ؛ بَلْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ:24]"؛ يعني أهل النار لا يجدون ولا مجرد الإحساس، أي لا يحصل لهم مِن ذلك ولا ذوق.
"وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56]"؛ نفى الموت عن أهل الجنة، يعني لا يُحِسُّون به ولا يجدون أي جزء مِن أجزاء الموت، أو أي شيء يتصل به أو يرتبط به ارتباطًا، ولهذا نفى الذوق عنهم، فدل على أن الذوق إنما يراد به ما يدل على جنس الإحساس ولهذا نُفي عن أهل الجنة ذوق الموت ونفي عن أهل النار ذوق البرد والشراب.
(المتن)
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالسُّخْرِيَةِ الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُسَمَّيَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ ظُلْمًا لَهُ وَأَمَّا إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَتْ عَدْلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، فَكَادَ لَهُ كَمَا كَادَتْ إخْوَتُهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5].
وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق:15-16]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل:50-51]، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79].
وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ فِعْلًا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آخَرُ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ فَيَضْحَكُ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين:34-36].
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ خَمَدَتْ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَخْمُدُ الْإِهَالَةُ مِنْ الْقِدْرِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتِهْزَاؤُهُ: اسْتِدْرَاجُهُ لَهُمْ، وَقِيلَ: إيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَرَدُّ خِدَاعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَظْهِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أُبْطَنَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ هُوَ تَجْهِيلُهُمْ وَتَخْطِئَتُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ حَقِيقَةً.
(الشرح)
هذا المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يرد على أهل البدع الذين يرون أنَّ: دخول الأعمال في مسمى الإيمان مجاز، ويبيِّن رَحِمَهُ اللهُ أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم مُحدَث لا يُعرَف في اللغة، ولا عند الصحابة ولا التابعين ولا عند أهل القرون المفضَّلَة، وإنما هو مصطلح حادث، وهو اصطلاحًا باطل ليس بصحيح.
واستعرض المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ شيئًا مِن شُبههم، وردَّها سابقًا، ثُمَّ ذكر المؤلف قال: مِن شببهم "كَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ كَلَفْظِ الْمَكْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ".
يقول المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: هذه الدعوى باطلة، وليس ذلك مِن المجاز في شيء، وذلك أنَّ هذه الألفاظ لفظ المكر، الاستهزاء، السخرية، هي مسميات حقيقة، فإذا فعلت بمَن لا يستحق العقوبة؛ تكون ظلمًا، وإذا فُعِلت فيمَن يستحق العقوبة مقابلةً وعقوبة له على فعلها بالمجني عليه كانت عدلًا، وهي حقيقة وليس ذلك مِن باب المجاز.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَيْسَ كَذَلِكَ"؛ أي ليست مِن المجاز في شيء، "بَلْ مُسَمَّيَاتُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ ظُلْمًا لَهُ وَأَمَّا إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَتْ عَدْلًا".
ثم مثَّل المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ وذكر أمثلة: "كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، فَكَادَ لَهُ كَمَا كَادَتْ إخْوَتُهُ".
فهذا الكيد مِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في إخوة يوسف هو عدلٌ مِن الله؛ لأنه مقابل كيدهم له، فكاد الله ليوسف كما كادوا له فيكون عدلًا، وهو حقيقة وليس مِن باب المجاز في شيء.
"وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق:15-16]" هذا كيدٌ في مقابل كيد، وهو حقيقة وليس مجازًا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل:50-51]، فهذا مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في مقابل مكرهم، وهو عدلٌ منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو حقيقة وليس مِن المجاز في شيء.
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79]، هذه السخرية مِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في مقابلة سخريتهم بالمؤمنين، فهو عدلٌ منه سبحانه وهو حقيقة وليس مِن المجاز في شيء.
قال المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ فِعْلًا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ"، الاستهزاء بهم فعل مِن الله يستحق بمَن يسلكه هذا الاثم ، وهو حقيقة وليس مجازًا، وذكر المؤلف ما يؤيد ذلك، "كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ-يعني أهل الجنة- بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آخَرُ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ فَيَضْحَكُ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ" وهذا مِن كيد الله للمؤمنين في مقابلة كيد الكفار فإن الكفار كانوا يضحكون مِن المؤمنين في الدنيا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين:29-30]. فالله كاد للمؤمنين حيث أنه أدخل الكفار النار وكرم المؤمنين وأدخلهم الجنة وجعل المؤمنين يسخرون من الكفار عدلًا منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في مقابلة سخريتهم بهم في الدنيا، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين:34-36] هل ثوب أي هل جوزوا بفعلهم؟ نعم جوزوا بفعلهم، فكان هذا الكيد والسخرية للمؤمنين مِن الكفار عدلٌ منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهي حقيقة لا مجاز.
"وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ خَمَدَتْ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَخْمُدُ الْإِهَالَةُ مِنْ الْقِدْرِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ" وهذا مِن كيد الله لهم ومِن عقوبته لهم.
"وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا" هذا في حق المنافقين، فإن المنافقين يكونون مع المؤمنين يوم القيامة لأنهم كانوا معهم في الدنيا يصلون ويصومون ولكنهم في الباطن مكذِّبون، فلما كانوا يُظهرون الإسلام وكانت تُجرى عليهم أحكام الإسلام في الدنيا صاروا مع المؤمنين يوم القيامة مِن بين سائر الكفرة، فإن الكفار يساقون إلى النار ويتساقطون فيها وتبقى هذه الأمة فيهم منافقوها كما ورد في الحديث الصحيح.
فيتجلى الله لهم فإذا تجلى الله لهم سجدوا، فيسجد المؤمن والمنافق لا يستطيع السجود يجعل الله تعالى ظهره طبقًا فلا يستطيعون السجود، كما قال سبحانه: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم:42]، ثم يمشون ومعهم النور فيَطفأ نور المنافقين فيقفون ويقولون للمؤمنين انظرونا نقتبس مِن نوركم فيُقال ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورً، فيضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره مِن قبله العذاب، فهذا ن عقوبة الله لهم وسخريته بهم واستهزائه بهم، وهو عدل منه سبحانه وهو حقيقة وليس مِن المجاز في شيء.
"وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتِهْزَاؤُهُ: اسْتِدْرَاجُهُ لَهُمْ" يعني استهزاء الله بالكفار، وقيل: "إيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِمْ وَرَدُّ خِدَاعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إنَّهُ يَظْهِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أُبْطَنَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ هُوَ تَجْهِيلُهُمْ وَتَخْطِئَتُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ حَقِيقَةً" وهذا كله صحيح، يعني يظهر لهم في الدنيا ما يظنون أنه ينفعه خداعهم وسخريته لهم وهذا مِن استدراج الله لهم كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)} [القلم:44].
يُملي لهم الله عز وجل يعطيهم مِن الصحة والمال والولد والعافية وهذا استدراج مِن الله لهم فيظنون أنهم على الحق وأنهم على شيء، وهذه المعاني كلها على حق كما قال المؤلف، أي كلها مسميات حقيقة وليست مِن المجاز في شيء، فدل هذا على أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، تقسيم باطل لا دليل عليه.
(المتن)
وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَنْ يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ.
ثُمَّ قَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ، وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ: حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ، وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ، وَوَضَعْت الْمِيزَابَ وَهُوَ الْمَحَلُّ، وَجَرَى الْمِيزَابُ وَهُوَ الْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112].
وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} [الأعراف:4-5]، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97]، فَجَعَلَ الْقُرَى هُمْ السُّكَّانُ، وَقَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد:13] وَهُمْ السُّكَّانُ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259].
فَهَذَا الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا؛ فَلَا يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَدْ عُمِّرَ لِلسُّكْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَرِيّ وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ.
(الشرح)
المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يبيِّن ويذكر بعض الأمثله الأدلة لِمَن يدعي أن في القرآن مجازًا، وسبق أن هذه الدعوى مجاز، ولا في السنة مجاز، ولا في اللغة مجاز، وأنَّ جميع الشبه التي يتعلَّق بها هؤلاء الذين يقسمون اللفظ إلى حقيقة ومجاز كلها باطلة، كما سبق مِن كلام المؤلف رَحِمَهُ اللهُ.
يقول رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَنْ يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]" هذه مِن الأدلة، مِن أدلتهم التي أتوا بها يدعون فيها المجاز، قالوا توجيهًا لما زعموه: المراد به أهلها، فحُذف المضاف وأُتِيَ بالمضاف إليه مقامه، فصار التقدير يقول: "واسأل أهل القرية" فحُذف المضاف وهو (أهل) وجعل المضاف إليه مقامًا وهو (القرية)، فهذا مجاز، عبَّر عن الأهل بالمكان، سمَّى القرية باسم السكان، فالقرية إنما تُطلق على السكان فإطلاقها على المكان مجاز، هكذا قالوا.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظُ الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ" يعني يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: ليس هناك مجاز؛ بل هذه الأشياء تطلق على الحالّ وعلى المحلّ، القريه تطلق على الحالِّ وهم السكان، وتُطلق على المحل وهي البنيان.
وهي حقيقة في كلا الأمرين، لكن لابد مِن قرينة أو صلة، وكذلك مثل المدينة، تطلق (المدينة) على السكان وتطلق على البنيان أيضا، وكذلك (النهر) يطلق على الماء (النهر الذي يجري) وتُطلق على محله، يقول المؤلف "ثُمَّ قَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ: حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ. وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ" فيُطلَق على هذا وعلى هذا وهو حقيقة فيهما.
ويُقال: "وَضَعْت الْمِيزَابَ وَهُوَ الْمَحَلُّ وَجَرَى الْمِيزَابُ وَهُوَ الْمَاءُ" وضعت الميزاب المراد (المحل)، وهو الذي يكون على السطح فيأتي السيل فيصب منه، يُطلق على المحل ويُطلق على نفس الميزاب؛ كذلك القرية، تُطلَق على السكان وتطلق على البنيان وهي حقيقة في كلٍّ منهما، وليس هناك مجاز، لكن كما قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ " لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا؛ فَلَا يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَدْ عُمِّرَ لِلسُّكْنَى" أما إذا لم يُعمَّر بالسكان فلا تُسمَّى قرية.
ثم ذكر المؤلف أمثلة مِن القرآن تبين أن القرية تُطلق على السكان وتطلق على البنيان، كعادته رَحِمَهُ اللهُ في سرد الأدلة واستنباطها، قال: " قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112]" هنا المراد بالقرية أهلها، وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ....} [الأعراف:4]، كذلك المراد السكان، أهل القرية لأن هم الذين أهلكهم الله.
وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97]، أهل القرى هم السكان، وَقَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد:13]، والمراد هنا السكان، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، المراد هنا السكان.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] المراد هنا المكان، المكان لا السكان، فتبين مِن هذا أن القرية تُطلق على المكان وتطلق على السكان.
وكله أسلوب عربي، وكله حقيقة ليس مِن المجاز في شيء، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا" فإذا لم يكن مسكونًا سابقًا لا يسمى قرية، " مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَرِيّ وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ".
(المتن)
وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً لِتَلَازُمِهِمَا، فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا، فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا، فَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، مِثْلُ قَوْلِهِ: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112].
فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ، فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ وَتَقْسِيمُ اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيًّا؛ بَلْ يُقَالُ: نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا.
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْفُرُوقِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ، وَكُلَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا أَبْطَلَهُ الثَّانِي، كَمَا يَدَّعِي الْمَنْطِقِيُّونَ: أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِالْمَوْصُوفَاتِ تَنْقَسِمُ اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى: دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ، وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ خَارِجٍ لِلْوُجُودِ.
وَذَكَرُوا: ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ، لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ مَا يَجْعَلُونَهُ دَاخِلًا يُمْكِنُ جَعْلُهُ خَارِجًا، وَبِالْعَكْسِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
(الشرح)
يذكر المؤلف مثالًا آخر مما بينهما تلازُم، كما أن القرية والسكان بيتهما تلازُم ويُطلق أحدهما على الآخر فكذلك لفظ الإنسان، المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يذكر نظيرًا للقرية، كما أن القرية وأهل القرية بينهما تلازم ويطلق أحدهما على الآخر نظير ذلك لفظ الإنسان، فإنه يتناول الجسد والروح.
فإن مسمى الإنسان إذا أُطلق يطلق على الجسد والروح، ثم الأحكام تتناول هذا تارة وهذا تارة في تلازمهما، مثل الإنسان إذا مات فإنه يُنعم أو يُعذب في قبره، تنعم الروح مفردة، وتنعم الروح متصلة بجسده، فالمؤمن تنقل روحه إلى الجنة وله صلة بالجسد تُنعم مفردة ومتصلة، وروح الكافر تُنقل إلى النار وتعذَّب مفردة ومتصلة، لأن الأحكام تتناول هذا وهذا.
خلاف المعتزلة الذين يقولون أنه في القبر لا يُعذب إلا الروح، فأنكروا تعذيب الجسد، بخلاف أهل السنة فأثبتوا عذاب القبر للروح والجسد جميعًا، وأن الروح تعذب مفردة أحيانًا وتعذب متصلة، لكن الأحكام في البرزخ على الروح أغلب منها على الجسد، والأحكام في الدنيا على الجسد أغلب منها على الروح.
فالألم والنعيم الذي يصيب الإنسان في الدنيا يكون على الجسد أكثر منه على الروح، وإذا مات الإنسان وكان في البرزخ، فإن الألم والنعيم يكون على الروح أكثر منه على الجسد، وفي يوم القيامة إذا بعث الإنسان صارت الأحكام على الروح والجسد على حدٍّ سواء، كلٌّ مِن الروح والجسد ينال حظه.
فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يقول: " لَفْظُ " الْإِنْسَانِ "يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً" يعني تتناول الجسد تارة والروح تارة، "لِتَلَازُمِهِمَا؛ فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا" للتلازم، لو مثلًا هناك قرية وخرج منها أهلها ثم هدمت وخربت تضرر اهلها، وكذلك إذا حصل ضرر للساكنين تضررت القرية وخربت، فبينهما تلازم.
"فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا. فَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]. مِثْلُ قَوْلِهِ {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112].
فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ"؛ يعني كما في قوله "واسأل القرية" المراد به القرية فكذلك قوله "قرية كانت آمنة مطمئنة" يريد بها القرية ويريد بها السكان وليس هناك إضمار، كما يدعيه أهل المجاز، فقوله "واسأل القرية" تطلق على الساكنين وتطلق على المحل، وليس هناك إضمار ولا حذف.
"فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ. بَلْ وَتَقْسِيمُ اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ السَّلَفُ" كما سبق التحقيق في ذلك.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ" يعني تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز، منهم مَن قال بالتقسيم ومنهم مَن لم يقل، "وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيًّا؛ بَلْ يُقَالُ: نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ" ووجه كونه باطل أنه لا يتميز هذا عن هذا، يعني لا يتميز الحقيقة والمجاز، ولا يستطيع مَن قسَّم اللفظ إلى حقيقة ومجاز أن يأتي بمبين وفارق يفرق به بين الحقيقة والمجاز، وبهذا يكون التقسيم باطل.
"لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْفُرُوقِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ" كما ذكروا سابقًا أن الحقيقة هي ما تبادر إلى الذهن مجردًا مِن القيود، والمجاز ما كان بقيد، بين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أنه لا يوجد هناك لفظ مجرد عن القرائن وعن القيود إلا في الذهن، أما في الخارج فكل لفظ فإنه مقيد.
"وَكُلَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا أَبْطَلَهُ الثَّانِي" يعني تجد أنهم متناقضين، هؤلاء الذين يقولون بالمجاز كلما ذكر أحدهم فرقًا أبطله الآخر،فتجدهم متناقضين "كَمَا يَدَّعِي الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِالْمَوْصُوفَاتِ تَنْقَسِمُ اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ" هؤلاء المناطقة الذين تكلموا في الماهيات والحقائق وهل هناك ماهية وحقيقة ليس لها قيود؟ ادَّعَوا هذا، ادَّعوا أن هناك حقائق للأشياء ليس لها قيود، فقال بعضهم إن هناك وجود مطلق وإنسان مطلق، وحيوان مطلق.
الصواب: أنَّ هذه الألفاظ المطلقة لا توجد إلا في الذهن، لا توجد في الخارج إلا مقيدة، وهم ادعوا أن "الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِالْمَوْصُوفَاتِ تَنْقَسِمُ اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ".
المراد بالماهية: حقيقة الشيء، يقولون: حقيقة الشيء الثابتة في الخارج لها صفات داخلة، وهناك صفات لازمة لها خارجة عن الوجود "وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ كله بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ مَا يَجْعَلُونَهُ دَاخِلًا يُمْكِنُ جَعْلُهُ خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ".
وبهذا يتبيَّن أنهم متناقضون، وأن ما قرَّروه باطل لا حقيقة له.