(المتن)
توقَّفنا عند قوله رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّمْهِيدِ: فَإِنْ قَالُوا: فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ فَإِنْ قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُمْ؟
قِيلَ: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أَيْ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، أَيْ: لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَلَا قَلَبَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِفِعْلِهِ، وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى نَقْلِهِ، وَلَغَلَبَ إظْهَارُهُ عَلَى كِتْمَانِهِ.
وَفِي عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ إقْرَارُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّخَاطُبُ بِأَسْرِهِ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3].
فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَمَّى الْأَسْمَاءَ بِمُسَمَّيَاتِهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَاسِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَحُصُولِ التَّوْقِيفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ؛ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ: الْإِيمَانَ مَا وَصَفْنَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَهَذَا عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ" وَلِلْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى اللهم وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فقد سبق في الحلقة السابقة أن المؤلِّف رَحِمَهُ اللهُ -شيخ الإسلام ابن تيمية- بينَّ أنَّ أبا الحسن الأشعري نصر قول جهمٍ في الإيمان، وهو أن مُسمى الإيمان التصديق، ونصر قول أهل السنة، المشهور عن أهل السنة من الاستثناء في الإيمان.
وسببُ ذلك: أنه لم يعرف إلا حُججَ أهل البِدع، ما تلقاه من أهل البدع، من عبد الله بن سعيد الكُلاب، فلذلك نصر قول جهم، ويريد أن يكون مع أهل السُّنَّة؛ لأنه يقصد الحق، فلهذا نصر مذهب أهل السُّنَّة في الإيمان، وفي أنه لا يكفرُ أحدٌ من أهل القبلة، ولا يُخلدُ في النار، والقول بالشفاعة، وأنه يُشْفَع في أهل الكبائر.
وكذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، في كتابه التمهيد نصر أيضًا ما نصره أبو الحسن الأشعري في الإيمان، وهو أن الإيمان مجرد التصديق، نقل المؤلف رَحِمَهُ اللهُ كلام القاضي أبي بكر الباقلاني في التمهيد، وتقريره أن الإيمان هو مجرد التصديق، واعتماده على فهمه في اللغة، وإعراضه عن النصوص الشرعية، ثم بعد ذلك سيتعقبه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، ويُجيب عنه بأجوبة، فقال في حكايته لقول القاضي أبي بكر الباقلاني الذي هو قول شيخه أبي الحسن الأشعري الذي هو قال بتقرير أن الإيمان هو مجرد التصديق.
قال القاضي أبو بكر، قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، قال القاضي أبو بكر في التمهيد، يعني في كتابه التمهيد: فَإِنْ قَالُوا: "فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ؟ قِيلَ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ" فهذا يدلُ على أن أبو بكر الباقلاني، وأبو الحسن الأشعري كلاهما يُقرر مذهب جهم في مُسمى الإيمان، وهو أن الإيمان مجرد التصديق فقط.
ثُمَّ يذكرُ الدليل على ذلك، قال: "فَإِنْ قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُمْ؟ قِيلَ: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ" هذا يدلُ على ما ذكره المؤلف شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ: بأنهم يعتمدون على آرائهم، على فهمهم اللغوي، يعتمدون على آرائهم، وفهمهم اللغوي فقط.
ولهذا لم يذكر أدلة من النصوص ماعدا آية سورة يوسف {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، فقال: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، يعني أن الإيمان معناه في اللغة التصديق، يقول: "وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ أَيْ: لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ" فتوصل بهذا إلى أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان في اللغة.
ولهذا قال: "فَوَجَبَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، يقول: لِأَنَّ اللَّهَ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَلَا قَلَبَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِفِعْلِهِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى نَقْلِهِ وَلَغَلَبَ إظْهَارُهُ عَلَى كِتْمَانِهِ" ، على أن أبو بكر الباقلاني وأبو الحسن لم يعرفوا النصوص يفهموها، وإلا النصوص واضحة كيف يقول أن الله ما غير اللسان ولا قلبه، ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوافرت دواعي الأمة على نقله، ولغلب إظهاره على كتمانه؟
كيف يقول هذا والله تعالى يقول في كتابه العظيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَرْفَعُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطريق»، وقوله في حديث ابن عباس لوفد بن عبد القيس: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وحده؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تؤدوا خُمس ما غنمتم»
هذا يدل على أنه بعيد عن النصوص، ولم يطلبها في مظانها، ولهذا هو سيتعقبعه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بأجوبة، ولهذا قال ما قال، قال: يقول "وَفِي عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ إقْرَارُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّخَاطُبُ بِأَسْرِهِ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وَقَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَمَّى الْأَسْماء بِمُسَمَّيَاتِهِمْ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَحُصُولِ التَّوْقِيفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ".
قال: "فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مَا وَصَفْنَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ، هَذَا لَفْظُهُ"، يعني أنه أخرج الطاعات، والنوافل، أخرجها من مُسمى الإيمان، وهذا كما سبق سببه الإعراض عن النصوص، وإِلَّا النصوص واضحة، لو تأمل النصوص وجدها واضحة ماثلةً للعيان، وسيتعقبه المؤلف رَحِمَهُ اللهُ.
يقول المؤلف: "وَهَذَا عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ "، عمدته الاعتماد على اللغة، اعتمادهم هم يركزون على هذه الآية: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي: بمُصدِّقٍ لنا، فقال الإيمان وسماه التصديق، فأخذوا بالمعنى اللغوي، واعتمدوا على فهمهم، ثم أعرضوا عن النصوص، ولو ضموا نصوصًا أخرى إلى هذه الآية لتبين لهم أن الشارع أراد بالإيمان الأعمال، وأن الأعمال داخلة في مُسمى الإيمان كما سيتعقب المؤلف في الردود المتعددة، نعم.
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ للجمهور من أهل السنةِ وغيرهم عن هذا بأجوبة؛ أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ اتَّصَلَ اللَّفْظُ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ بَلْ بِإِيمَانِ خَاصٍّ وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ التَّامُّ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَإِنَّ هَذِهِ لَوَازِمُ الْإِيمَانِ التَّامِّ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَنَقُولُ: إنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً وَتَخْرُجُ عَنْهُ أُخْرَى.
الْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا.
السَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ؛ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ.
السَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْقُولٌ.
(الشرح)
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: جاء عن استدلال القاضي أبي بكر على أن الإيمان مجرد التصديق كما ورد في الآية بالمعنى اللغوي، أجاب سبعة أجوبة، وكل هذه الأجوبة تدور على شيءٍ واحد، وهو أن الإيمان الشرعي يدخل في مُسماه الأعمال، ولكنها متنوعة هذه الأجوبة:
الجوابُ الأول: يقول: "قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ".
يعني الردُ الأول أن يقال: نحن لا نُسَّلِم أن الإيمان في اللغة هو مرادف للتصديق؛ لأنه لو كان الإيمانُ مرادفًا للتصديق، فالتصديق يقابله التكذيب، والإيمان يقابله الكفر، فدلَّ على أن التكذيب لا يكون إلا بالكفر، والتكذيب لا يكون إلا بالقلب، فالإيمان لا يكون إلا في القلب، والكفر لا يكون إلا في القلب.
فالقول الأول، أو الرد الأول نقول نحن -- ((@ كلمة غير مفهومة- 10:27)) – في أن الإيمان يُرادُ به التصديق، بل الإيمانُ يكون بمعنى الإقرار وغيره، الإيمان هو الإقرار، إقرار تصديق القلب، وإقراره، واعترافه، وغيره أيضًا يدخلُ معه.
فالجواب الأول نقول: لا نُسَّلِم أن الإيمان في اللغة مرادفٌ للتصديق، بل إن الإيمان بمعنى الإقرار، إقرارُ، إقرارُ القلب، ولهذا يُسمى بما هو قول القلب، قول القلب هو إقراره، إقراره تصديقه. وإذا لم نُسَّلِم أن الإيمان هو التصديق بطلت الدعوى، بطل الدعوى.
الجوابُ الثاني: "قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ".
الجوابُ الثاني نقول: سلمنا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، سلمنا أن الإيمان هو التصديق، لكن التصديق يكونُ بالقلب، ويكونُ باللسان، ويكونُ بالجوارح، ليس خاصًا، ليس التصديق خاصًا بالقلب، بل يكون التصديق بالقلب، ويكونُ التصديق باللسان، فيقول: أنا أصدقك بلسانه، في القلب يُصدق؛ لأنه يعترف ويقدر، ويكون التصديق بالقلب هو اعترافُ القلب وتصديقه وإقراره، ويكونُ التصديق باللسان كأن ينطق بلسانه، فيقول: أصدقك، ويكون التصديق بالجوارح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ».
يشير هذا إلى.. هذا جزءٌ من حديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلة الله عليه وسلم قال: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، فمدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فالعينُ تزني، وزناها النظر، والأذنُ تزني وزناها الاستماع، واليدُ تزني، وزناها البطش، والرِجلُ تزني وزناها المشي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ»، فجعل التصديق للجوارح، فدلَّ هذا على أن التصديق ليس خاصًا بالقلب، ولكن التصديق يكونُ بالقلب، وباللسان، وبالجوارح.
وقال المؤلف: الثالث: " أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ اتَّصَلَ اللَّفْظُ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ بَلْ بِإِيمَانِ خَاصٍّ وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ".
الجواب الثالث أن نقول: سلمنا أن الإيمان هو التصديق، لكنه ليس تصديقًا مُطلقًا، بل هو تصديقٌ خاص، مقيدٌ بقيود اتصل اللفظ بها، تصديقٌ مقيدٌ بالعمل، تصديقٌ يصدقه العمل، يصدقه الجوارح، هو ليس تصديقًا مُطلقًا، ولكنه تصديقٌ خاصٌ مقيدٌ بقيود اتصل اللفظُ بها.
ولهذا بَيَّن النبي في الحديث الصحيح الإيمان، فقال: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَرْفَعُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطريق»، فبَيَّن أن هذه الأعمال داخلة في مُسمى، تدلُّ على أنه ليس تصديقًا خاصًا، بل هو تصديق، ليس تصديقًا مُطلقًا، بل هو تصديقٌ خاصٌ مقيدٌ بقيود.
يقول المؤلِّف: وليس هذا نقلًا للفظ، ولا تغييرًا له، فإن الله لم يأمرنا بإيمانٍ مُطلق، بل بإيمانٍ خاص وصفه وبينه، الله أمر بإيمانٍ خاص، وهو الإيمان الذي تصدقه الأعمال، وقد وصف هذا الإيمان بأنه إيمانٌ معه الأمل، ولا يكون هذا نقل اللفظ، ولا تغييرًا للفظ، بل هو إيمانٌ خاصٌ موصوفٌ مميز، لأنه يدخل في مُسماهُ الأعمال.
والرابع، يقول: الجواب الرابع، أو الرد الرابع: "أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ فَالتَّصْدِيقُ التَّامُّ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ".
يعني الجواب الرابع يقول: سلمنا أن الإيمان هوالتصديق، لكن التصديق التام القائم يستلزم في أعمال القلوب والجوارح، فالتصديق التام لابد فيه مِن أعمال القلوب مِن المحبة والإخلاص، والصدق، والرغبة، والرهبة، ولابد فيه من أعمال الجوارح؛ الصلاة والصيام والزكاة، والحَج، وأداء الواجبات، وترك المحرمات.
يقول المؤلف: "فَإِنَّ هَذِهِ لَوَازِمُ الْإِيمَانِ التَّامِّ" لوازمُ الإيمان التام، الإيمانُ التام له لوازم، لوازمه: أفعال الجوارح، أداءُ الواجبات، لوازم هذا الإيمان التام أن يعمل الإنسان بجوارحه، وقلبه، ولسانه.
"وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ"، وانتفاءُ اللازم وهو الأعمال دليل على انتفاء الملزوم وهو الإيمان، هذه اللوازم، انتفاء اللازم، إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، فاللازم أعمالُ القلوب، وأعمالُ الجوارح، والملزوم هو الإيمان، وإذا انتفى اللازم وهو أعمال القلوب وأعمال الجوارح، انتفى الملزوم الذي هو الإيمان، وهذا واضح.
فمثلًا يلزم، وهذا له أمثلة، وله نظائر، التوبة، التائب، فالتائب يلزم إلى التوبة وجود التائب، فإذًا انتفى التائب انتفت التوبة، كذلك الوالد يلزم منه الولد فإذا انتفى الولادة، انتفى الولد، فإنه لا يوجد الوالد، إذا انتفى الوالد انتفى الولد، وإذا انتفى الولد انتفى الوالد أيضًا، كل منهم يلزمُ للآخر.
فالملزوم لابد منه للازم، واللازم لابد منه للملزوم. فكذلك هنا أعمال التصديق التام يلتزم أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فإذا انتفت أعمال القلوب وأعمال الجوارح انتفى الإيمان؛ لأنها لازمةٌ له، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
يقول المؤلف: ونقول: إن هذه اللوازم تدخلُ في مسمى اللفظ تارة، وتخرجُ عنه، يعني هذه اللوازم تدخلُ في مُسمى اللفظ، داخلة في مُسمى الإيمان أحيانًا، وتخرج عنه تارة كما إذا عُطف العمل عليه، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، يرى أنها إذا عُطف العمل على الإيمان خرجت الأعمال من مُسماه، وإذا أطلق الإيمان دخلت الأعمال في مسماه، فهذه اللوازم تدخل في المسمى اللفظي، تارة وتخرجُ عن أخرى.
الجوابُ الخامس، ذكر المؤلف الجواب الخامس: " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا".
هذا الجواب الخامس، تقول: إن الإيمان في اللغة التصديق، لكن الشارع أدخل فيه أحكام، أدخل في هذا التصديق أعمال القلوب، وأعمال الجوارح.
الجوابُ السادس: "قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ؛ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ" هذا على تنزل مع الخاص، على قول من يقول: بوجود المجاز، يقولون: الشارع فيما معناه المجازي، الإيمان حقيقة، حقيقةً في التصديق، ومجازٌ في العمل، فنقول: إن الشارع استعمل استعماله مجازي، الشارع استعمله في معناه المجازي، فيقول: فهو حقيقةٌ شرعية، مجازٌ لغوي، فهو مجاز بالنسبة للغة مجاز، وبالنسبة للشرع حقيقةٌ شرعية.
وهذا على التَّنزُّل مع الخصم، وإِلَّا المؤلف سبق أن أبطل القول بالمجاز، لكن هذا من باب التنزل مع الخصم.
السابع: " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْقُولٌ"؛ يعني سلمنا إن الإيمان معناه في اللغة التصديق، لكن الشارع نقله بمعناه اللفظي إلى معناه الشرعي، فصار المرادُ بالإيمان شرعًا التصديق، تصديقُ القلب، وأعمالُ القلوب، وأعمال الجوارح، فهذه سبعة أقوال، وسيبين المؤلف رَحِمَهُ اللهُ أيضًا، سيذكر أدلة وردود متعددة أيضًا تُبين ما أقره من أن الإيمان تدخل الأعمال في مُسماه، نعم.
(المتن)
السَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْقُولٌ. فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: (الْأَوَّلُ) : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ: لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَلْ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ. " قَوْلُهُ ": إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟
(الشرح)
نعم، المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يقول: "فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ".
القول الأول، القول الأول، وهو الرد الأول: " قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ"، ويقول: الإيمان معناه في اللغة الإقرار وغيره، ليس الإيمان في اللغة هو مجرد التصديق، بل الإيمان في اللغة الإقرار وغيره، يقول هذا الرد الأوَّل.
ثم تعقّب المؤلف القاضي أبا بكر الباقلاني في قوله: إن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، فقال: " قوله ": إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ.ناقشه المؤلف فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ؟". ومن أين يُعلمُ هذا الإجماع، وفي أي كتابٍ ذُكر هذا الإجماع؟
هذا تحدي من للمؤلف، للقاضي أبو بكر الباقلاني أنت تدعي أن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، أين هذا الإجماع؟ من نقل هذا الإجماع؟
عليك أن تذكر، عليك أن تذكر من نقل هذا الإجماع، وعليك أن تُبين من أين يُعلمُ هذا الإجماع، وعليك أن تذكر الكتاب الذي ذكر فيه هذا الإجماع.
فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ وجه إليه يعني ثلاثة أسئلة، لابُدَّ له من الإجابة عليها، وإذا لم يُجب عليها كانت دعواه ليس عليها دليل، والدعوى التي لا تثبت بالدليل لا حقيقة لها، ولا وجود لها، ولا ثبات لها.
السؤال الأول: مَن نقل هذا الإجماع؟ المفروض أبو بكر الباقلاني أن يَذْكُرَ مَن نقلَ هذا الإجماع.
السؤال الثَّانِي: من أين يُعلم هذا الإجماع؟ هذه الكتب التي تنقل الإجماعات ليس فيها هذا.
السؤال الثَّالِث: في أي كتاب ذُكر هذا الإجماع؟ وإذا لم يُجب أبو بكر الباقلاني عن هذه الأسئلة الثلاثة، فإن هذه الدعوى تبقى دعوى لا دليل عليها.
(المتن)
(الثَّانِي): أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ؛ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ.
(الثَّالِثُ): أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ.
(الشرح)
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى يناقش أبا بكر الباقلاني في قوله: "إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ".
هذا الوجه الثاني من المناقشة يقول: ما تعني بأهل اللغة الذين نقلوا هذا الإجماع؟ أتعني بأهل اللغة كأبي عمرو والأصمعي، وأبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي المازني البصري أحد القُرَّاء السبعة، كان من أعلم الناس بالقرآن الكريم والعربية، وله تصانيف كثيرة في هذه العلوم، والأصمعي والخليل، كل هؤلاء من أهل اللغة..
يقول: هل أنت حينما قلتَ: أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق، أتعني بأهل اللغة ُنقَلَتُها كأبي عمرو، وأبي العلاء، والأصمعي، والخليل، وأحمد الفراهيدي ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ هل تعني بإجماع اللغة الذين نقلوا اللغة أو الذين تكلموا بها؟.
فإن عنيت الأول الذين نقلوا اللغة فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر، وكلام العرب، وغير ذلك بالإسناد.
يقول: "فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ" العرب كانوا هم أهل اللغة ويُحتجُ، وهم الحُجة فيما يقررون من في اللغة، يقول: "أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ؛ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ".
ليس هناك إسناد، هم ينقلون بإسناد، وإذا لم ينقلوا بإسناد، فلا، فليس هناك يعني سياسة بأن هذا أجمع عليه أهل اللغة؛ لأنه ما نقوله بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم فقط، وما سمعوه في دواوين الشعر، وفي كلام العرب، وغيره ذلك من الإسناد.
إذًا ينقلون بالإسناد ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر، وكلام العرب، وأما ما قبل الإسلام ينقلون عن أهل اللغة قبل الإسلام بغير إسناد، وعندما لا يكون هناك إسناد، فلا يكون حُجة، الشيء الذي يُنقل بغير إسناد ليس له حُجة.
ولهذا فإن، فإن الأحاديث التي تأتي بإسناد هي الحُجة، وأما المؤرخين الذين ينقلون الأخبار و الروايات، بغيرِ ترخيص، وبغير إسنادٍ ثابت، فلا يُعتمد عليها، وكذلك إن عنيت أن أهل اللغة الذين نقلوها قبل الإسلام، نقلوها قبل الإسلام بغير إسناد، فلا، فليس الحجة، وأما ما نقلوه في زمانهم، وما سمعوه بدون إسناد، فهذا بالإسناد، وهذا واضح.
يقول المؤلف: "وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ"، يعني هم..
المؤلف يقول: لا نعلم أنهم، هؤلاء النقلة كأبي عمرو والأصمعي والخليل، يقول: لا نعلم أنهم ينقلون ما سمعوه، لا نعلم أنهم نقلوا لفظ الإيمان، وأن معناه التصديق، فضلًا عن أن يكونوا أجمعوا عليه، يعني أنت تقول: أنهم أجمعوا عليه، ونحن الآن نقول لك: أنهم لم ينقلوه، لم ينقلوا اللفظ إطلاقًا، ما نقلوا عن العرب أن لفظ الإيمان هو التصديق، فكيف تقول إنهم أجمعوا؟
أما الأمر الثاني، وهو: "وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ"، فالمؤلف تحدى أبا بكر الباقلاني في قوله: "إن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان هو التصديق".
يقول: "فَإِنْ عَنَيْت بأهل اللغة نقلتها؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ"، وبهذا تبطل دعوى إجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق، نعم.
(المتن)
توقفنا عند قول الإمام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ الثالث: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ بَلْ وَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ؛ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا.
(الشرح)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلَّى اللهم وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فقد سبق في الحلقات الماضية أنَّ المؤلف رَحِمَهُ اللهُ نقل كلام القاضي أبو بكر الباقلاني في أن الإيمان معناه في اللغة التصديق، وأنه نقل إجماع أهل اللغة، قال: أن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان معناه التصديق، أهل اللغة أجمعوا على ذلك، والمؤلف رَحِمَهُ اللهُ رد عليهم بسبعة ردود سبق الكلامُ عليها في الحلقة الماضية، ثم ناقش الباقلاني في قوله إن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان معناه التصديق.
يقول: مَن الذي نقل ذلك؟ كيف، مَن الذي نقل عن أهل اللغة هذا؟ هل المراد النقلة، أو المراد المتكلمين؟ فأهل اللغة لم ينقلوا، إن كان المراد أهل اللغة كأبي عمروٍ، والأصمعي، والخليل فإنهم لم ينقلوا، لا نعلم أنهم نقلوا لفظ الإيمان، فضلًا عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن اردت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام فهذا لم نشهده، ولم نعلم عنه شيئًا.
ثم قال: في الوجه الثالث في الرد عليه في نقله إجماع أهل اللغة في أن الإيمان معناه التصديق: "أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ بَلْ وَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ؛ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا.".
-- ((@ كلمة غير مفهومة- 27:51)) – الإجماع، لكنه هذا لا يُعرف، لا يُعرف عنه أنه قال إن الإيمان معناه التصديق، لا يُعرف عن جميعهم، ولا يُعرف عن بعضهم، لابد أنه قال واحدٌ أو اثنان، فالواحد أو الاثنان ما يُسمى إجماعًا، فبطلت دعواه أن الإيمان، أن أهلُها أجمعوا على أن الإيمان في اللغة التصديق، نعم. أن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان في اللغة هو التصديق، نعم.
(المتن)
(الرَّابِعُ): أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا؛ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا، وَحِينَئِذٍ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا كَلَامًا عَنْ الْعَرَبِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ: الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلْقُرْآنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى وَلَمْ يُرِدْهُ؛ فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى.
(الشرح)
نعم، الرابع من المناقشات التي ناقش بها المؤلف رَحِمَهُ اللهُ الباقلاني في دعواه بإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق، فيقول: هؤلاء الذين، أهل اللغة الذين ينقلون عن العرب، إنما لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا معنى هذا اللفظ كذا وكذا، إنما ينقلون كلامًا مسموعًا، يقولون: سمعنا عن العرب كذا، ولا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: إن معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وأنه يُفهم منه كذا وكذا.
وعلى هذا فلو قُدّر أنهم نقلوا كلامًا عن العرب، يُفهم منه أن الإيمان هو التصديق، فإن هذا لا يزيد عن نقل المسلمين كافةً للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المسلمين نقلوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإن بعضهم قد يظنُ أنه أُريد ببعضِ، أريد به معنىً، ولم يُرده.
فالمسلمون الذين نقلوا القرآن قد يظن بعضهم في أنه يوجد لبعض كلمات القرآن معنىً معين، ويكون هذا المعنى غير مُراد، فكذلك هؤلاء الذين يقولون عن العرب كلامًا قد يظن بعضهم أنهم أرادوا بالتصديق، معنى بالإيمان التصديق، ويكون هذا ظنًا منهم، فظن هؤلاء فيما ينقلونه عن العرب أولى.
فإذا كان الصحابة الذين نقلوا القرآن، والمسلمون الذين نقلوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يظن بعضهم معنىً قد، قد يفهمُ بعضهم معنىً لبعض الآيات، ويكون غير مراد، فكذلك هؤلاء الذين ينقلون عن العرب قد يظنون معنى فيما ينقلونه عن العرب معنىً، ويكون غير مراد.
ولهذا قال المؤلف: فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى."، يعني إذا كان المسلمون الذين نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يظن بعضهم أنه أُريد ببعض الكلمات القرآنية، أو المعاني معنىً، ويكون غير مراد، فكذلك هؤلاء الذين ينقلون عن العرب، قد يظنون أنه معناه، أن معنى الإيمان هو التصديق، ويكون غير مراد.
فظن هؤلاء، يقول الذين قالوا عن العرب، " فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى." من ظَنِ بعض الصحابة الذين نقلوا معنى بعض الآيات، ظنوا أن معناها كذا، ويكون غير مراد، نعم.
القارئ: طبعًا لو كتبنا نحن الآن في التعليق أن هذه الأوجه هي رد شيخ الإسلام على مَن اعتقد أن الإيمان مجرد التصديق.
الشيخ: أي نعم. الآن أربعة وجوه، والخامس سيأتي، والسادس يعني، كلها ردٌ على الباقلاني في دعواه أن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان معناه التصديق.
(المتن)
قال رَحِمَهُ اللهُ: (الْخَامِسُ) : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا؛ فَهُمْ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِمْ التَّوَاتُرُ والتَّوَاتُرُ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟ إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ.
(الشرح)
نعم الخامس، والرد على الباقلاني في دعواه على إجماع أهل العلم في أن الإيمان معناه التصديق يقول: لو قُدر فرضًا أنهم قالوا هذا، وأنهم قالوا أن الإيمان معناه التصديق، "فَهُمْ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِمْ التَّوَاتُر"، فلا يُسمى إجماع، لا يُسمى إجماع إلا إذا يعني تواتر، تواتر نقل هذا عنهم.
والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، يعني التواتر له طرفان: الطرفُ الأول، والطرفُ الآخر، أن يكون الذي نقلوه كلهم، وهو أن ينقل هذا الخبر، أو هذا المعنى، ينقله جمعٌ كثير يستحيل تواترهم في العادةِ على الكذب، من أول السند إلى آخره، ويستوى الطرفان ويوافقه ولا يكون في أحد الطرفين ينقص في العدد، أو في الوسط ينقص في العدد، بل لابد أن يكون من أول السند إلى آخره، كله تواتر.
أجمعوا على أن معنى اللغة الإيمان التصديق، ومِن أين هذا؟ يقول المؤلف: ومن أين التواتر الموجود عن العرب فيما قبل نزول القرآن بأنهم كانوا لا يعرفون الإيمان معنى غير التصديق، أين لهم هذا؟ لا يستطيع الباقلاني ولا غيره أن ينقل نقلًا متواترًا من أول يستوى فيها الطرفان والواسطة على أنهم، على أن الإيمان هو التصديق.
قال المؤلف: "وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟ إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ"، وبهذا يبطل دعوى الإجماع، نعم.
(المتن)
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؛ قِيلَ: فَلْيَكُنْ.
وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا، وَقَدْ فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ.
ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا، فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ لَمَّا تَوَاتَرَ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ.
وَإِلَّا فَلَوْ كُلِّفْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِآحَادِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؛ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرِيدُ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوا لَفْظَهُ.
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قَوْمًا سَمِعُوا كَلَامًا أَعْجَمِيًّا وَتَرْجَمُوهُ لَنَا بِلُغَتِهِمْ؛ لَمْ نَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا.
(الشرح)
هذا اعتراض يعني من المؤلف، اعتراض يقول فيه: قال إن الباقلاني أو غيره ممن يدعي أن الإيمان معناه في اللغة التصديق، إن قال: إن قولكم إن ليس هناك إجماع عن أهل اللغة، وليس هناك تواتر، قال: "هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ" كيف تقدحون في لغة العرب؟
قال: "قِيلَ: فَلْيَكُنْ. وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ" الحاجة إنما هي لبيان القرآن، والسنة، ولما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وبَيَّن ما معناه حصل المقصود، فلا حاجة بنا مع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن.
يقول: "وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا وَقَدْ فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ"، ومن هذا يبطل دعوى، يبطل هذا الاعتراف.
يقول المؤلف: لكن لما تواتر القرآن لفظًا ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم هذه الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم، فلما تواتر القرآن لفظًا ومعنىً، لما تواتر القرآن لفظًا ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغة العرب، عرفنا أنه كان في لغة العرب لفظة السماء، ولفظ الأرض، ولفظ الليل، ولفظ النهار، ولفظ الشمس، ولفظ القمر ونحو ذلك على ما هو معناه في القرآن.
يقول المؤلف: "وَإِلَّا فَلَوْ كُلِّفْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِآحَادِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؛ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ" يعني لو طُلب من الإنسان أن يثبت ان في اللغة العربية الليل والنهار، والشمس، والقمر قبل نزول القرآن ما استطاع ذلك، ولا نستطيع أن ننقل هذا الأمر نقلًا متواترًا، بل هذا متعذر، لاسيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد بهذا اللفظ هذا المعنى.
يعني عُرف أن العرب تريد بالسماء هذه المرفوعة، والأرض هذه المبطوحة، تريدُ من هذا اللفظ هذا المعنى، ما يستطيع أحد، فإنها لا يتعذر العلمُ به، ولكن لما نزل القرآن بلغة العرب عرفنا أن هذا موجود في لغة العرب.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَالْعِلْمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ" العلم بالقرآن ليس موقوفًا على اللغة، وعلى نقل اللغة، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن كما بلغوا لفظه، الصحابة بلغوا لفظه، ومعناه لأنهم شهدوا التنزيل، ولأنهم يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر لهم معاني، بعض المعاني كما في قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، المراد بالظلم: هو الشِّرك، فالقرآنُ يُبيِّن -- ((@ كلمة غير مفهومة- 38:22)) – الَّذِي يُشكِل والذي يُسأل عنها.
ولذلك قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "بَلْ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوا لَفْظَهُ. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قَوْمًا سَمِعُوا كَلَامًا أَعْجَمِيًّا وَتَرْجَمُوهُ لَنَا بِلُغَتِهِمْ؛ لَمْ نَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا".
يعني يكفينا أن نفهم هذا الذي ترجموه كافي، يكفينا هذا، ولا نحتاج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولًا، وكذلك اللغة لا نحتاجُ إليها مع بيانُ القرآن، والله تعالى أنزله بلغة العرب، وبين فيه، وبين معناه، ألفاظ ومعاني، فتواتر لفظه ومعناه، فلا حاجة بنا إلى معرفة اللغة السابقة. نعم.
(المتن)
(السَّادِسُ) : أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ النَّاسِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ، وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا صَارَ مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْبِدَعِ يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ.
وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ دَاخِلًا فِي مُرَادِهِ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ، بَلْ مُرَادُهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِدُونِ اللِّسَانِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ.
(الشرح)
يعني السادس من الردود، على القاضي أبو بكر الباقلاني الذي ادَّعى أن أهل اللغة أجمعوا على أن الإيمان معناه في اللغة التصديق، يقول: "أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ".
يعني أبو بكر الباقلاني لم يكن شاهدًا على دعواه أن العرب أجمعوا على الإيمان معناه في اللغة التصديق، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس، ما نجد على دعواه دليلًا لا من القرآن، ولا من السُّنَّة، وإنما ذكر.. استدل بقول الناس؛ فلانٌ يؤمن بالشفاعة، وفلانٌ يؤمن بالجنةِ والنار، وفلانٌ يؤمن بعذاب القبر، وفلانٌ لا يؤمن بذلك.
يقول المؤلف: ومعلوم أنها ليست من ألفاظ القرآن قبل نزول القرآن، يقول: فلان يؤمن بالشفاعة، فلان يؤمن بالجنة والنار، بل هو ما تكلم به الناس، "بَلْ هُوَ مِمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا صَارَ مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْبِدَعِ يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْر ِوَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ.
وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ دَاخِلًا فِي مُرَادِهِ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ"؛ يعني الذي يقول فلان يؤمن بالجنة، وفلان يؤمن بالنار ليس مراده التصديق بالقلب فقط، بل المراد التصديق بالقلب وغيره، أي هو التصديق بالقلب واللسان.
ولهذا قال: "فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ، بَلْ مُرَادُهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِدُونِ اللِّسَانِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ". فبطل دعوى القاضي أبو بكر الباقلاني أن الإيمان معناه في اللغة التصديق.
يقول: حتى قولهم فلان يؤمن بكذا، وفلان يؤمن بكذا ليس مرادهم التصديق بالقلب، وإنما مرادهم التصديق بالقلب واللسان، ولا يؤمن بالجنة والنار يتكلم، يقول يؤمن بالجنة والنار، من القلب، مع تصديق القلب، فلان يؤمن بالشفاعة، يقول: أنا أعتقد أن الشفاعة حق، مع تصديقه للقلب، فليس المراد التصديق القلبي فقط مما يدعيه القاضي أبا بكر الباقلاني، نعم.
(المتن)
(السَّابِعُ): أَنْ يُقَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا. وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا بِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ مُؤْمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ، دُونَ الْمَعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ شَيْءٍ مِمَّا يُخَافُ وَيُرْجَى وَيَجِبُ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ يَجْحَدُ بِهِ وَيُكَذِّبُ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ، بَلْ وَلَوْ عَرَفَهُ بِقَلْبِهِ وَكَذَّبَ بِهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يَقُولُوا: هُوَ مُصَدِّقٌ بِهِ.
وَلَوْ صَدَّقَ بِهِ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهُ لَمْ يَقُولُوا هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ. فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْآخَرِ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
(الشرح)
السابع من الردود على الباقلاني، القاضي أبو بكر الباقلاني في دعواه أن الإيمان هو مجرد التصديق، وأن أهل اللغة أجمعوا على ذلك تبعًا "أَنْ يُقَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ".
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ -يعني-: أنَّ من قال إن الإيمان معناه التصديق، ليس مراده قرارُ القلب، والتصديق فقط بدون عمل القلب، فلابد أن يكون التصديق معه عمل القلب، معه خوف، ومعه رجاء، فإن صدَّق بالجنة يكون معه رجاء، وإذا صدَّق بالنار يكون معه خوف، ليس إيمانًا مُجردًا كما يدَّعيه القاضي أبو بكر الباقلاني.
ولهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "(السَّابِعُ): أَنْ يُقَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ" الخوف هذا عملٌ قلبي، مع التصديق، "وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا" فالرجاء هنا عمل قلبي فلابد من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح.
"وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا بِهِ" صحيح، سيصدق عذاب القبر، ولكنه لا يخاف، هذا ليس بالتصديق، "كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ مُؤْمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ" كذلك من آمن بالجنة، لابد أن يكون معه خوفٌ ورجاء
ومعلومٌ أن الخوف يحمل الإنسان على العمل، الخوف الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على أداء الواجبات، وترك المحرمات، وكذلك الرجاء، الرجاء الصادق هو الرجاء المحمود الصادق، والذي يحمل على العمل، أما دعوى خوف رجاء بدون عمل، فهذا، فهذه دعوى، فإذًا، فلا يُسمى من صدق بعذاب القبر، ولم يكن في قلبه خوف يحمله على، على أداء الواجبات وترك المحرمات، لا يُسمى مؤمنًا، ولهذا قال الله تعالى في كتابه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].
فلولا أن الخوف يحمل الإنسان على أداء الواجبات وترك المحرمات، لما كان هذا، لما رُكز عليه هذا الثواب، هذا الثواب، وهذا الجزاء العظيم، كما أنهم لا يُسمون مؤمنًا بالجنة والنار إلا من رجى الجنة، وخاف النار.
قيل: المُعرِض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حقٌّ، مَن أعرض يعني يدَّعي أنه مؤمن بلسانه، ولكنه -- ((@ كلمة غير مفهومة- 46:21)) – ولا خوف يحمله على أداء الواجبات وترك المحرمات، لا يُسمى هذا مؤمنًا.
كما أن، "كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ "، نعم، إبليس الآن عرف الله، عرفه مُصدقٌ لربوبيته، لكنه ليس بمؤمن؛ لأنه استكبر عن عبادة الله، ولم يعمل، "وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ" يعني يشير قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 14]، وفرعون وقومه يَعْلَمُون صِدْقَ موسى، واستيقنت بها نفوسهم ويُصدِّقون، لكنه لما نادى، قالوا بشرعِ الله، فإنهم ليسوا بمؤمنين، ولا يُسمون مؤمنين.
وكذلك اليهود يقول المؤلف" وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" فاليهود يعرفون صدق الرسول، وأنه حق، كما يعرفون أبناءهم، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]، ومع ذلك لا يسموا مؤمنين؛ لأنهم لم ينقادوا بشرع الله ودينه، ولم يؤمنوا برسوله، فلا يُسمى إيمانًا.
وقد وصى الله تعالى في سورة التوبة على نفسه الإيمان عنهم، مع أنه يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبنائهم، قال الله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]، فنفى عنهم الإيمان، وهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم؛ لأنهم لم ينقادوا لشرع الله ودينه، ولم يؤمنوا برسوله، فلا يسمون مؤمنين، وإن كانوا مصدقين تصديقًا يعلمونه بقلوبهم، لا يكفي هذا، بل لابد من المتابعة، لابد من المتابعة والعمل.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" ثم قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ شَيْءٍ مِمَّا يُخَافُ وَيُرْجَى وَيَجِبُ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ يَجْحَدُ بِهِ وَيُكَذِّبُ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: انه مُؤْمِنٌ".
يعني لا يوجد في كلام العرب كيفية الشخص مؤمن بشيءٍ يُخافُ ويُرجى ويُحب، وهو لا يخافه ولا يرجاه ولا يحبه، لا يوجد هذا، وهو من يجحد ويكذب بلسانه، فإنه لا يُكرمُ، بل لو عرفه بقلبه وكذب به بلسانه لا يكون هو مصدقًا به، حتى الذي يعرفه بقلبه، ولكنه يكذبه بلسانه، فإنه لا يُقال إنه مصدقٌ به، ولو صدًّق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يكون هو مؤمن بربه، كذلك لو صدَّق، لكنه عمل بمقتضاه، فهو يقول كما أنه مصدقٌ برسول، ومع ذلك يعملُ بخلاف الشرع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا لا يكون مؤمنًا، ولو ادَّعى أنه مُصدق.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ" يعني ما ادَّعوه أن الإيمان، أن الإيمان هو، أن مُسمى الإيمان هو التصديق فقط، يقول المؤلف: "وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤْمِنِ" يعني لا يدل على أن التصديق مرادفٌ للإيمان، بل هناك فرقٌ بين التصديق والإيمان. فإن المصدق قد يكون مؤمن، وقد يكون غير مؤمن.
"فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْآخَرِ" صحة المعنى في أحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف، يعني صحة الإيمان لا يدلُ على أنه مرادفٌ للتصديق، بل هنا فيه تفاوت بينهما، فإن المصدق قد يكون مؤمن، وقد يكون غير مؤمن، والمؤمن لابد أن يكون مصدق، نعم.
(المتن)
قَوْلُهُ: لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ. مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ.
(الشرح)
نعم، الوجه الثامن من الردود على القاضي أبي بكر الباقلاني في نقله عن أهل اللغة أن الإيمان هو التصديق، يقول:، وأن أهل اللغة لا يعرفون إلا ذلك، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يتحدى يقول: من أين له هذا النفي من أن أهل اللغة لا يعرفون غير ذلك؟ لا يعرفون أن الإيمان هو مجرد التصديق؟
يقول: " مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ". فالقول بأن أهل اللغة لا يعرفون من الإيمان إلا مجرد التصديق هذا نفيٌ لا تمكن الإحاطة به، وهو قولٌ بلا علم، وهذا يدل على بطلانه، نعم.
(المتن)
(التَّاسِعُ) : قَوْل مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا سَتَأْتِي أَقْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ فِي قَوْل.
(الشرح)
نعم، التاسع من الأقوال هذا كان هذا يُرد إلى الأقوال في التي سبقت سائل:وليس من ضمن الوجوه، نعم، يقول: " قَوْل مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَم. وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى" يقول أصلُ الإيمان مأخوذٌ من الأمن، نعم.
(المتن)
توقفنا عند بعض الأوجه التي ذكرها المؤلف رَحِمَهُ اللهُ بالذات عند الوجه العاشر حيثُ قال: (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَخَصَّ مِنْ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَنْضَمُّ إلَيْهِ قُيُودٌ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعَامِّ، كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامَّ.
فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ؛ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللِّسَانِ وَلَا قَلْبِهِ؛ بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ.
(الشرح)
فهذا هو الوجه العاشر من الأوجه التي ناقش بها المؤلف شيخ الإسلام بن تيمية رَحِمَهُ اللهُ القاضي أبا بكر الباقلاني سبق أن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ ذكر شبهةَ القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو في ذلك تابعٌ للشيخ أبي الحسن الأشعري في أن الإيمان هو التصديق في اللغة، أن الإيمان معناه هو التصديق في اللغة.
ثُمَّ ذَكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ سبعة أجوبة في الرد على، الرد على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، وعلى ما قرره من أن الإيمان هو التصديق، وأن هذا هو المعروف في اللغة، ردَّ عليه بسبعة أجوبة، سبعة ردود
ثُمَّ بعد ذلك فصَّل الجواب الأول، وبيَّن أن هذا.. وهو مناقشة القاضي أبا بكر الباقلاني، وهو قوله، أحدها قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادفٌ للتصديق، ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره.
هذا الوجه الأول، أو الرد الأول، فصله المؤلف، وبيَّنه، وأن هذه المنازعة في ستة عشر وجهًا، وأنا أريد من الإخوان الذين يتابعون معنا في الكتاب أن يرجعوا قليلًا، حتى يتبين ويتضح، فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ قال في قبل صفحتين أو ثلاث.
قال: فهذه سبعة أقوال، لما رد على القاضي أبي بكر الباقلاني، حينما قال أن الإيمان هو التصديق، وأن هذا إجماع أهل اللغة، وقال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَهَذَا عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ وَلِلْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ".
فالجواب الأول "أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ" ثم ذكر الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع.
ثم قال: "فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: ثم قال المؤلف (الْأَوَّلُ)"؛ يعني الجواب الأول، الجوابُ الأول: "قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هو التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ: لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَلْ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ".
هذه المنازعة من ستة عشر وجهًا، الوجه الأول قوله: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ" هذا هو الوجه الأول، الوجهُ الأول "قَوْلُهُ ": إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ ." هذا الوجه الأول. ثم بعدها الوجه الثاني: "أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ" ثم بعد ذلك تتسلسل الوجوه حتى نصل إلى الوجه العاشر.
القارئ: إذًا ما أشرنا إليه في حلقة الأمس
الشيخ: أي نعم.
القارئ: سنعيد للمستمعين لتأكيد ذلك.
الشيخ: أي نعم، لأني تأملت الآن، وجدتُ أن هذه الوجوه كلها تناقش فقرات الرد الأول، الوجه الأول، فهذه الفقرات الشبهة التي هي تفصيلٌ للوجه الأول، وهو قول مَن ينازعه من أهل اللغة في أن الإيمان هو التصديق، وسبق أيضًا بالأمس الوجه الثامن، وهو قوله: " قَوْلُهُ: لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ. مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ".
هذا، كل هذه الوجوه متسلسلة تفصيل للوجه الأول، وأن المؤلف ناقش في الوجه الثامن، ويقول: " هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ" قولكم بأنه لا يُعرفُ في اللغةِ إيمان غير ذلك، يقول: " مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ" ثم قال: "(التَّاسِعُ) : قَوْل مَنْ يَقُولُ: أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا سَتَأْتِي أَقْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى".
يعني يقول الوجه التاسع أنهم، أنه نُقل في اللغة الإيمان بغير هذا المعنى؛ لأن القاضي أبو بكر الباقلاني يقول: الإيمان في اللغة هو التصديق، المؤلف رَحِمَهُ اللهُ يقول في الوجه التاسع: " وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى". فهناك من يقول إن أصل الإيمان مأخوذٌ من الأمن، فهذا هو الوجه التاسع؛ لأن في الأمس في الحلقة السابقة، لم نفصِّل لهذا، فالوجه التاسع هو أن يُقال إن الإيمان نُقل بغير هذا المعنى في اللغة.
أنتم تقولون أن الإيمان في اللغة هو التصديق، يقول المؤلف: "وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى" فهناك من يقول أن أصل الإيمان مأخوذٌ من الأمن، كما قال ذلك الشيخ أبو البيان، أبو البيان هذا هو محمد بن محفوظ القرشي الحوراني الدمشقي، شيخ الطريقة البيانية، كان زاهدًا ورعًا إمامًا في اللغة، والفقه من مؤلفاته منظومة الصادِ والضاد، هذا، هكذا ذكر المحقق.
ثُمَّ بعد ذلك ننتقل إلى الوجه العاشر، الوجه العاشر يقول المؤلف: " أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ".
هذا الوجه العاشر فرضي، يعني لو فُرض تقديرًا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، كما يقول القاضي أبي بكر الباقلاني، يقول: "فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَخَصَّ مِنْ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ". الإيمان في اللغة عام، والإيمان في الشرع خاصٌ بما أخبر به الرسول عليه الصلاةُ والسلام.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَنْضَمُّ إلَيْهِ قُيُودٌ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعَامِّ" فهذا الخاص هو الإيمان بما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، وينضم إليه قيود، وما أخبره به الرسول صلى الله عليه وسلم من، مما يجبُ اعتقاده، ومما يجب العمل به، ومما يجب أن نتخلق به.
فهذه القيود ليست موجودة في العام، وذكر المؤلف لذلك تنظير، فقال نظير ذلك: "كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ"، فالحيوان بمعناه العام يشمل الإنسان، والدواب التي تدبُ على الأرض، فإذا أُخذ الإنسان، وهو نوعٌ من أنواع الحيوان، كان فيه المعنى العام، وهو أنه معنى الحيوانية، وفيه معنىً خاص، وهو أنه إنسان كرمه الله، وميزه بالعقل، وكلفه.
فهذه القيود تُضاف إلى، هذه القيود التي اختص بها هذا النوع الذي أُخذ من المعنى العام، ليس هو المعنى العام، بل هو هذه القيود التي كانت انضمت إلى الإنسان ليست موجودة في الحيوان بمعناه العام، وكذلك الإيمان التصديق، الذي هو الإيمان التصديق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم نوعٌ خاص، خاصٌ من المعنى العام اللغوي، هو التصديق بمعناه العام.
وإذا كان شيئًا خاصًا، فإنه ينضمُ إليه قيود ليست في المعنى العام، ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ ذكر التنظير قال: "كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامَّ.".
فيقول: المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ؛ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللِّسَانِ وَلَا قَلْبِهِ؛ بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ".
مؤلفًا من العام الذي هو أخص التصديق، والخاص الذي هو الإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من العقائد، والأعمال، والأحوال؛ كالإنسان لما وُصف بأنه حيوان، وأنه ناطق، نعم.
(المتن)
(الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) : أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ؛ بَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِيهِ إمَّا مُقَيَّدٌ وَإِمَّا مُطْلَقٌ مُفَسَّرٌ. " فَالْمُقَيَّدُ " كَقَوْلِهِ { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وَقَوْلِهِ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] و " الْمُطْلَقُ الْمُفَسَّرُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65] . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَكُلُّ إيمَانٍ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ مَعَ التَّصْدِيقِ كَمَا ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ.
(الشرح)
نعم هذا الوجه الحادي عشر: " أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ" يعني حتى يُقالُ أنه التصديق، "(الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ) : أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرِ" حتى يُقال أنه التصديق، بل فيه إيمانٌ مقيد كما ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللهُ من الأمثلة، فالقرآن ليس فيه ذكر إيمانٌ مطلق قال: ليؤمنوا فقط غير مفسر، حتى يقال أنه التصديق، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد، وإما مطلق أو مفسر.
مثال المقيد؛ كقوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، ومثال المطلق المفسر، ومثله أيضًا: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83]، والمطلق المفسر؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، فسره هذا الإيمان المطلق، إنما المؤمنون فسر بأنه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2] إلى آخر الآيات، وقوله، إلى آخر الآيات من سورة الأنفال.
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، من آية، من سورة الحجرات، ونحو ذلك، وقوله أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، من سورة النساء.
فهذه الآيات الثلاث فيها الإيمان مطلق لكنه مُفسر، فُسر في {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، في الآية الثاني: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا} [الحجرات: 15]، وفُسر في الآية الثالثة: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَكُلُّ إيمَانٍ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ" كلُ إيمان في القرآن مرادٌ به التصديق مع العمل، ليس المرادُ به التصديق فقط كما يدَّعيه القاضي أبي بكر الباقلاني، يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ مَعَ التَّصْدِيقِ كَمَا ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ".
أنه ليس المراد اسم الصلاة، الصلاة في اللغة الدعاء، المراد الصلاة العبادة المعهودة، وكذلك الزكاة أصلها في اللغة إنما الطهارة، والمرادُ بها في العبادة المخصوصة، وهي دفع جزء من المال من شخصٍ مخصوص، في وقتٍ مخصوص، في شروط مخصوصه، وكذلك الصيام معناه في اللغة الإمساك، والمرادُ به الإمساك عن الطعام بنية عن المفطرات من شخصٍ مخصوص من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكذلك الحج أصله في اللغة القصد، والمرادُ به قصدُ مكة لأداء المناسك من شخصٍ مخصوص في وقتٍ مخصوص، نعم.
(المتن)
فَإِنْ قِيلَ: تِلْكَ الْأَسْمَاءُ بَاقِيَةٌ، وَلَكِنْ ضَمَّ إلَى الْمُسَمَّى أَعْمَالًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الِاسْمِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، قِيلَ: إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْإِيمَانِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لِبَعْضِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابِ صَحِيحٍ، بَلْ زَعَمَ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ وَالْإِيمَانُ بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ.
(الشرح)
هذا اعتراف، يقول المؤلف: "فَإِنْ قِيلَ: تِلْكَ الْأَسْمَاءُ بَاقِيَةٌ وَلَكِنْ ضَمَّ إلَى الْمُسَمَّى أَعْمَالًا" يعني تلك الأسماء يعني التي وردت في القرآن؛ مثل الإيمان، والإسلام، والصلاة، والزكاة، والكفر، والنفاق، والشرك، يعني هذه الأسماء باقية، فإن تلك الأسماء باقية، ولكن ضُم إلى المُسمى أعمالًا في الحكم؛ لأن هذا الإيمان، والإسلام، والصلاة، والزكاة لها معانٍ لغوية، ولها معنى شرعي.
فالمعترض يقول هذه الأسماء باقية لكن ضُم إلى المسمى أعمالًا في الحكم لا في الاسم، فضُم مثلًا إلى الإيمان العمل، وضُم إلى الصلاة إلى الدعاء الهيئة المعروفة، وضُم إلى الزكاة دفع المال وهكذا كما يقول القاضي أبو يعلي ذكر هذا في المُعتمد في أصول الدين، أجيب بأنه :"إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْإِيمَانِ" يعني لو قيل إن هذه الأسماء يعني الصلاة، والزكاة، والصوم ماعدا الإيمان الأسماءُ باقية، لكن ضُم إلى المُسمى أعمالًا، يقول المؤلف: لو سلمنا هذا، وقلنا أن هذا صحيح، فإننا نقولُ مثله في الإيمان، نقولُ الإيمان أصله التصديق ثم ضُم إليه العمل، الأعمال، ضم إليه الشارع الأعمال.
يقول المؤلف: "وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لِبَعْضِهِمْ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابِ صَحِيحٍ بَلْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ".
نعم، يعني جواب هذا الاعتراض، يعني لو قلتم إن هذه الأسماء باقية على معانيها، الصلاة والزكاة باقية على معانيها اللغوي، ولكن الشارع ضم إليه أعمالًا، نقول المؤلف نحن أيضًا نقولُ لكم والإيمان ضم إليه الشارع أعمالًا، وهي الأعمال، وأدخلها في مُسماه.
ولهذا يقول المؤلف : بل الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ" يقول المؤلف: " وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ" ووجهُ ذلك أن "الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ " وَالْإِيمَانُ " بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ"، فدلَّ على أن الإيمان أولى بهذا؛ لأن الإيمان لما فُسر بُيِن معناه في الكتاب والسنة والإجماع، وهذه الألفاظ، أو المعاني الصلاة والزكاة إنما بينتها السنة، فدلَّ على أن الإيمان يدخل فيه العمل من الكتاب والسنة والإجماع، نعم.
(المتن)
(الثَّانِيَ عَشَرَ) : أَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ جَرَى عُرْفُهُمْ أَنَّ الِاسْمَ يَكُونُ مُطْلَقًا وَعَامًّا ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ قَيْدٌ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُونَ: ذَهَبَ إلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي وَالْأَمِيرِ يُرِيدُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا يَعْرِفُونَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ.
وَهَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ شَخْصٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَقَدْ عَرَّفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا.
فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ التَّصْدِيقُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ أَنِّي لَا أَكْتَفِي بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَا»، وَفِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81].
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، وَقَوْلِهِ: «َلا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلُّغَةِ وَلَا نَقْلٍ لَهَا.
(الشرح)
الرد الثاني عشر: يقول المؤلف: "أَنَّهُ إذَا قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ"، فأنزل القرآن بلغة العرب، إذا قيل أن الشارع خاطب الإنسان بلغة العرب، وأنزل القرآن بلغة العرب، فإنما خاطبهم، بلغتهم المعروفة، وقد جرى عُرفهم على أن الاسم يكون مُطلقًا، وعامًا، ثم يدخلُ فيه قيدٌ أخصٌ مِن معناه.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: إذا قلتم؛ يعني القاضي ومَن ينصر مذهبه مِن أن الإيمان في اللغة معناه التصديق، إن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فأنزل القرآن بلغة العرب، ولغة العرب دلت على أن الإيمان معناه في اللغة التصديق.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، جوابه: وهو"خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ" يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "نحن نُسلم لكم أن الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ ولكنه خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ جَرَى عُرْفُهُمْ أَنَّ الِاسْمَ يَكُونُ مُطْلَقًا وَعَامًّا ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ قَيْدٌ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ" فإذا سلمنا أن، أن القرآن نزل بلغة العرب، وأن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فنحن نقول لكم: نعم، هذا صحيح، خاطبهم بلغتهم المعروفة، لكن في لغة العرب جرى عُرفهم أن الاسم يكونُ مطلقًا، وعامًا، ثم يدخلُ فيه قيدٌ أخصُ من معناه، فنقول لكم: إن اللغة، إن الإيمان إذا سلمنا أن معناه في اللغة التصديق، تقول هذا عام مُطلق، ثم جاء الشارع، وأدخل فيه قيودًا، وهو أن التصديق لابد فيه مِن العمل، تصديقٌ يكون بالعمل، بالقول وبالعمل، باللسان، وبالجوارح.
كما يقول المؤلف: كما يقولون، مثال: "ذَهَبَ إلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي وَالْأَمِيرِ يُرِيدُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا يَعْرِفُونَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ." اللام في( ال) القاضي، والوالي، الأمير، هذه ال للتعريف، ذهب إلى القاضي، القاضي معروف المعهود بينك وبين المتكلم، أو الوالي، أو الأمير.
"وَهَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ شَخْصٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ الشارع بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ"، الإيمان والصلاة والزكاة، والحَج، فالمراد الزكاة المعهودة، والإيمان المعروف، والإسلامُ المعروف الذي عرفهم به الشارع، وهو أنه إيمانٌ يتكون من تصديقٍ وعمل.
كما أنك إذا قلت ذهب إلى القاضي، وإلى الوالي، وإلى الأمير صار لام التعريف هذه يُعرفُ بها القاضي المُعين، ويُعرف بها الوالي؛ لأنه قاضي معروف معهود بينك وبين المخاطب، فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة إذا عُرفت بال فالمراد الصلاة المعهودة، والزكاة المعهودة، والإيمان المعروف الذي جاء به الشرع، وهو إيمانٌ، وهو تصديقٌ معه عمل.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ عَرَّفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا. وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا" الدعاء في الصلاة يعني، في اللغة الدعاء، نقول: الدعاء صفته كذا وكذا، افتتح بالتكبير، واختتم بالتسليم.
"فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ التَّصْدِيقُ. فَإِنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ أَنِّي لَا أَكْتَفِي بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ"، يعني بتقدير يعني إذا قدرنا وفرضنا أن التصديق معناه في اللغة، أن الإيمان معناه في اللغة التصديق، فإننا نقول أن القرآن بيَّن أنه لا يكتفي بالتصديق، لا يُكتفى بتصديق القلب، ولا بتصديق اللسان، بل لابد فضلًا عن تصديق القلب، إذا كان لا يُكتفى بالصدق بالقلب واللسان، فمن باب أولى أنه لا يُكتفى بتصديق القلب وحده، بل لابد من العمل، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق.
ثم ذكر الأمثلة، فقال كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، بيَّن أنه ليس إيمانًا مُطلقًا، بل وصف الذين آمنوا بالله ورسوله بأنهم لم يرتابوا إلى آخر الآية، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15] في سورة الحجرات.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى آخر الآيات في سورة الأنفال، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَا»، لم يأتِ إلا بعض الحديث، والذي لا تؤمنوا حتى تحابوا، «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أدلكم على شيءٍ إلا فعلتموه تحاببتم، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»، فقوله لا تؤمنوا حتى كذا، فبيَّن أن الإيمان إنه لا يتم إلا بكذا وكذا، لا تؤمنوا حتى تحابوا، وأصلُ المحبة سببها السلام.
إذًا الإيمان لا يتم إلا بالمحبة، فدلَّ على أنه لا يُكتفى بالإيمان المطلق، لو سلمنا أن معناه التصديق، وفي قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، كذلك لا تجد {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ } [المجادلة: 22]، بيَّن أن موادة مَن حاد الله ورسوله تنافى الإيمان، فدلَّ على أنه صدق بقلبه، وهو مودة من حاد الله ورسوله، فلا يكون مؤمنًا.
وفيه قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، بيَّن أن اتخاذ الكفار أولياء ينافى الإيمان، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، فدلَّ على أنه ليس تصديق مطلق، بل هو مقيد.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ». وَقَوْلِهِ: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، يعني لا يزني وهو مؤمن؛ يعني الإيمان الواجب التي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة، والنجاة من النار، وكذلك قوله: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، وأمثال ذلك من الأدلة التي فيها نُفي الإيمان عمن ترك بعض الواجبات.
يقول المؤلف: " فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ" مصدق، ولكنه لا يتخذ الكفار أولياء، مُصدق، ولكن لا يود من حاد الله ورسوله، مُصدق، ولكنه يوجل قلبه عند ذكر الله، ويزداد عند تلاوة القرآن، ويتوكل على الله، ويقيمُ الصلاة، ويؤتى الزكاة، وهكذا، فقد بيَّن لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجلُ مؤمنًا إلا به، هو أن يكون تصديقًا على هذا الوجه.
يقول المؤلف: "وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلُّغَةِ وَلَا نَقْلٍ لَهَا" وهذا لا فيه تغيير للغة، وليس نقلٍ لها، ولكن الشارع بيَّن الإيمان المطلوب شرعًا، وأنه تصديقٌ ومعه كذا، وكذا، معه عمل، ومعه قولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، نعم.
(المتن)
توقفنا عند الوجه الثالث عشر مما ذكره المؤلف رَحِمَهُ اللهُ، قال: (الثَّالِثَ عَشَرَ) : أَنْ يُقَالَ: بَلْ نَقَلَ وَغَيَّرَ. قَوْلُهُ: لَوْ فَعَلَ لَتَوَاتَرَ. قِيلَ: نَعَمْ. وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَانِيَهَا الْمَعْرُوفَةَ.
وَأَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا بَيَّنَهُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَمُتَوَاتِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ لِأَحَدِ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ.
وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ وَأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعَذَابِ. فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَقَدْ تَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَإِظْهَارِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا يُنَاقِضُ هَذَا. لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ. وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَدْخُلُهَا، وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ.
لَكِنْ أَدْخَلَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ. وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِالْجَنَّةِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ.
(الشرح)
فهذا الوجه الثالث عشر من الوجوه التي هي تفصيلٌ للوجه الأول من الردود التي رد فيها شيخ الإسلام بن تيمية رَحِمَهُ اللهُ على القاضي أبو بكر الباقلاني وشيخه أبي الحسن الأشعري اللذين قررا أن الإيمان هو التصديق، معناه أن الإيمان هو، معناه هو التصديق، والمعنى اللغوي، وهو المعنى الشرعي.
ردَّ عليهم رَحِمَهُ اللهُ بسبعة ردود، ثم فصَّل الوجه الأول، وبيَّن أنه من ستة عشر وجهًا، وسبقت، وسبق قبل في الحلقة الماضية والتي قبلها سبق مِن الوجوه اثني عشر وجهًا، وهذا هو الوجه الثالث عشر.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "(الثَّالِثَ عَشَرَ) : أَنْ يُقَالَ: بَلْ نَقَلَ وَغَيَّرَ" وهو ردٌ على قول الباقلاني الإيمان في الشريعة هو الإيمانُ المعروف في اللغة؛ لأن الله ما غير اللسان ولا قلبه، ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله، وتواترت دواعي الأمة على نقله، هذا قول الباقلاني.
فالمؤلف رَحِمَهُ اللهُ يرد على قول الباقلاني الإيمانُ في الشريعة هو الإيمانُ المعروفُ في اللغة؛ لأن الله ما غير اللسان العربي، ولا قلبه، ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله، وتواترت دواعي الأمة على نقله.
يقول المؤلف في الرد عليه: "بَلْ نَقَلَ وَغَيَّر" نُقل مسمى الإيمان من المعنى اللغوي، وهو التصديق، وغُير، وضُم إليه الأعمال، فالإيمان في الشرع هو التصديقُ بالقلب، والإقرار باللسان، والأمرُ بالجوارح، "بَلْ نَقَلَ وَغَيَّر".
ثم ردَّ المؤلف رَحِمَهُ اللهُ على قول الباقلاني بقوله: " لَوْ فَعَلَ لَتَوَاتَرَ" يعني لو فُعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله، وتواترت دواعي الأمة على نقله كما سبق، يقول المؤلف: "قِيلَ: نَعَمْ. وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَانِيَهَا الْمَعْرُوفَةَ. وَأَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا بَيَّنَهُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ".
فقول القاضي أبو بكر الباقلاني: "لو نُقل اسمُ الإيمان عن معناه اللغوي، وهو التصديق، لتواتر، يقول المؤلف ردًا عليه، نقول: نعم، وقد نُقل وتواتر، تواتر عن الشارع أنه أراد بالصلاة هذه الهيئة المعروفة، المفتتحة بالتكبير، والمختتمة بالتسليم، والمعنى اللغوي الصحيح هو الدعاء، وتواتر عن الشارع أنه أراد بالزكاة دفعُ المال من شخصٍ مخصوص، في وقتٍ مخصوص، ومعناه اللغوي الطهارة، النماء والطهارة، وتواتر على الشارع أن الصيام هو الإمساك عن المفطرات من شخصٍ مخصوص، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكانت هي معناه في اللغة مجرد الإمساك، وتواتر على الشارع أن الحج هو قصدُ بيت الله الحرام؛ لأداء المناسك في وقتٍ مخصوص من شخصٍ مخصوص، وكان المعنى اللغوي للحَج هو القصد.
هذا متواتر لجميع المسلمين، فكيف يقول أبو بكر الباقلاني، لو نُقل لتواتر؟ تواتر هذا، متواتر معنى الصلاة، كلُ المسلمين يعلمون أن الصلاة، معنى الصلاة غير المعنى اللغوي، ومعنى الزكاة غير المعنى اللغوي، ومعنى الصيام غير المعنى اللغوي، ومعنى الحج غير المعنى اللغوي.
وهل يقول المُسْلِم: إنَّ المراد بالصلاة الدعاء فقط؟! يدعو وتبرأ ذمته، أو يقول المُسْلِم: إنَّ المراد بالزكاة الطهارة فقط ولا يدفع شيئًا من المال؟! أو يقول المُسْلِم: إن المراد بالصيام مُجرد الإمساك، أو يقول المُسْلِم: إن المراد بالحج القصد فقط، مجرد القصد؟! لا، يقول هذا مُسْلِمٌ.
فكذلك الإيمان بيَّنه، بيَّنه المراد بالإيمان ما بيَّنه في كتابه وسنة رسوله؛ لأن العبد لا يكون مؤمنًا إلا إذا صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وعمل بجوارحه، كقوله مثلًا، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى آخر الآيات، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] إلى آخر الآيات.
يقول المؤلف: "وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ فِي "الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ ": يعني هذا متواتر في القرآن والسنن أن الإيمان لا يُكتفى به بمجرد التصديق، بل لابد من الصدق والعمل والإقرار باللسان، ومتواترٌ أيضًا أنه لم يكن ليحكم بأحدٍ بحكم الإيمان إلا عندما يؤدي الفرائض، يقول أيضًا: "وَمُتَوَاتِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ لِأَحَدِ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ." ولا يحكمُ لأحدٍ بالإيمان بمجرد التصديق القلبي.
"وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ" يعني متواتر عن الشارع أنه أخبر من مات مؤمنًا دخل الجنة ولم يُعذب، يعني من مات مؤمنًا، الإيمان المطلق، والإيمان المطلق يسهل أداء الفرائض، وترك المحارم، تصديقٌ قلبي، تصديق مع إخلاص ونية، ورغبة ورهبة، وأداء الواجبات وترك المحرمات.
هذا تواتر عن الشارع أنه أخبر أن من مات دخل الجنة، ولم يُعذب، ومن ذلك ما أخبر أن مَن تاب مِن جميع الذنوب، فإن ذنبه مغفور، كقوله سبحانه وتعالى: {قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، وقوله عليه الصلاةُ والسلام: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وغيرُ ذلك من النصوص التي فيها أن المؤمن يدخلُ الجنة، والإيمان إذا أُطلق يشمل أداء الفرائض وترك المحارم.
وتواتر أن الفُساق لا يستحقون ذلك، الفاسق لا يستحق ذلك، لا يستحق دخول الجنة، بل هو معرضٌ للوعيد كما سبق من النصوص التي سبقها المؤلف رحمها الله، «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، «لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، «َلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، والُفساق هم متواعدون بالنار {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، وتوعد الله آكل الربا، وآكل مال اليتيم.
فالفُساق لا يستحقون ذلك، فدلَّ على أن المؤمن غيرُ الفاسق، المؤمن بإطلاق هو الذي أدى الواجب، وترك المحرمات، واستقام على طاعة الله، أما الفاسق الذي ارتكب بعض المحرمات، وارتكب بعض الكبائر، وترك بعض الواجبات، فهذا مُعرض للوعيد، فهذا حُكمه يختلف عن حُكم المؤمن بإطلاق.
ولهذا قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ وَأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعَذَابِ." يعني لا يستحقون دخول الجنة بإطلاق، بل هم على الخطر، منهم من يُعفى عنه، فيدخل الجنة من أولها، ومنهم من يُعذب ثم يُخرج من النار، من مات على التوحيد، ولكنه مات على كبائر من غير توبة، هذا تحت مشيئة الله.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا" كل هذا مناقشة لقول الباقلاني " لَوْ نقل لَتَوَاتَرَ"، وأيُ تواتر أبلغُ من هذا؟ تواترت الأخبار أن مَن، أن مَن أدى الواجبات وترك المحرمات دخل الجنة، ومِن ذلك ما أخبر الله تعالى عن المؤمنين السابقين المقربين، وعن أصحاب يمين، أصحاب اليمين هم الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وعدهم الله بالجنة، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} [الواقعة: 27 - 29].
فأصحابُ اليمين هم المؤمنون بإطلاق، الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، ومِن ذلك أيضًا في الأحاديث الصحيحة كان يأتي الرجل من البادية فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما وجب الله عليه، فيخبره،أوجب الله عليك أن تُصلي كذا في اليوم، والليلة، فيقول هل عليَ غيرها؟ يقول: لا إلا أن تتطوع، يسأله عن الزكاة، فيقول هل عليَ غيرها، فيقول: لا إلا أن تتطوع، فيسأله عن الصيام، فيقول هل عليَ غيره؟ فيقول: لا إلا أن تتطوع، ثم يولي فيقول النبي صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق، وفي رواية دخل الجنة إن صدق.
هذا فيه إطلاقًا للمؤمن يدخل الجنة، يقول المؤلف: "فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَقَدْ تَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَإِظْهَارِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا يُنَاقِضُ هَذَا"لا شك أنه لا يستطيع أحد أن ينقل نقلًا يناقض هذه النصوص المتواترة.
يقول: " لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ" يعني يخرجُ من النار، "وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَدْخُلُهَا" لم يقل إن المؤمن يدخل النار، المؤمن بإطلاق، ولكن أخبر أنه يخرج من النار من كان معه شيءٌ من الإيمان، ولو مثقال ذرة، لكن لم يقل إن المؤمن بإطلاق يدخلها، المؤمن إذا أُطلق هو الذي أدى الواجبات، وترك المحرمات، ما فيه نص أن يطلع يقول: المؤمن يدخل النار، ليس هناك نص، لكن فيه نصوص إن يخرجُ من النار من كان معه شيءٍ من الإيمان.
يقول المؤلف: "وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ" الفُساق مؤمنون بإطلاق؛ لأن الفُاسق لا يُطلق على اسمه الإيمان، بل لابد من القيد، فيقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ ضعيفُ الإيمان، مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، ولا يُقال إن الفاسق مؤمن بإطلاق، لا يُقال هذا، كما أنه لا يُنفى عنه الإيمان، فلا يقال الفاسق ليس بمؤمن، بل لابد من التفريق، يقال: ليس بمؤمن حقًا، ليس بصادق الإيمان، فالفاسق لا يُطلق عليه اسم الإيمان، ولا يُرفع عنه اسمُ الإيمان، بلابد من التقييد، فالنفي في الإثبات.
وقال المؤلف: "ولا قال" يعني الشارع " وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ. لَكِنْ أَدْخَلَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ" يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، ثم قال بعده: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178].
فسم القاتل أخذ المقتول وأدخله في اسم الإيمان في قوله: يا أيها الذين آمنوا، وفي قوله في المؤمنين المتقاتلين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فهو داخلٌ في اسم الإيمان، أدخلهم في مُسمى الإيمان، لكن أدخلهم في مُسمى الإيمان في مواضع.
" كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ" لأن المنافقين الذين أسلموا، وأظهروا الإسلام يدخلون في اسم الإيمان، وفي اسم الإسلام في الظاهر في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة، فإنهم في الدرك الأسفل من النار أعوذ بالله.
يقول المؤلف: "كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ. وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُطْلَقُ" الاسمُ المطلق يعني اسم الإيمان مطلق هذا، لقي مؤمن إيمان الذي وُعد أهله بالجنة، فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء. في المطلق لا يدخل لا هؤلاء المنافقين، ولا الفُساق، فالفُساق لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق، والمنافقون لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق، لكن يدخلون في مُسمى الإيمان، في مُسمى الإيمان من حيث ما يدخلون.
هؤلاء الفُساق دخلوا في اسم الإيمان؛ لأن معهم وصف الإيمان، وهو للمنافقين؛ لأنهم أظهروا الإسلام نفاقًا دخلوا في مُسمى الإيمان، يخاطبون، وتُتلى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، لكن لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق الذي وُعد أهله بالجنة، والنجاةِ من النار، لا يدخلون فيها، فلن يدخل فيها لا هؤلاء يعني الفُساق، ولا هؤلاء يعني المنافقين.
(المتن)
(الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ) : قَوْلُهُ: وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ -بِالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ- عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَيُقَالُ لَهُ: الْآيَاتُ الَّتِي فَسَّرَتْ الْمُؤْمِنَ وَسَلَبَتْ الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ؛ أَصْرَحُ وَأَبْيَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. ثُمَّ إذَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ؛ فَمَا ذَكَرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا.
وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقُولُوا: هَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. بَلْ خَاطَبَهُمْ بِاسْمِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَفَقَ إذَا خَرَجَ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ لُغَتِهِمْ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي لُغَتِهِمْ؛ لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا.
(الشرح)
الرابع عشر من الوجوه التي يُرد بها على -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:31:05)) – العربي: في قوله إن الإيمان في اللغة هو التصديق، وقوله: لا وجه للعدول بالآيات، يقول القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الإيمان معناه في اللغة التصديق، والقرآن نزل بلغة العرب، ولا وجه للعدول بالآيات التي تدلُ على أنه عربي عن ظاهرها؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، والإيمان معناه في اللغة العربية هو التصديق.
يقول القاضي: "وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ - بِالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ - عَنْ ظَاهِرِهَا" يقول المؤلف: "فَيُقَالُ لَهُ: الْآيَاتُ الَّتِي فَسَّرَتْ الْمُؤْمِنَ وَسَلَبَتْ الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ؛ أَصْرَحُ وَأَبْيَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ" يعني الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عن من لم يعمل أصرح وأبين وأكثر من الآيات التي فيها إطلاق اسم الإيمان على التصديق؛ كقوله تعالى في سورة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي بمصدقٍ لنا.
الآيات التي فسرت المؤمن كما سبق مثل آية الحجرات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، ومثل آية الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وآية النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، ومن الأحاديث حديث بن عبد القيس: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ»، ومن حديث: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَرْفَعُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطريق»، والآيات التي سلبت الإيمان عمن ترك بعض الواجبات: »لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، سلبت الإيمان عن الزاني، »َلا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». الآيات والنصوص أيضًا، وكذلك السنة التي فسرت المؤمن وسلبت الإيمان عمن لم يعمل أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات التي فيها إطلاقُ الإيمان على التصديق.
يقولُ المؤلف: "ثُمَّ إذَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ؛ فَمَا ذَكَرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا" يعني هذه الآيات التي فيها فسرت المؤمن وسلبت الإيمان، هي آياتٌ قرآنية، ونصوصٌ قرآنية، وكذلك الأحاديث لا تخرج عن كونها عربية؛ لأن المفروض القرآن نزل بلغة العرب، والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، تكلم بلسان العرب.
يقول المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقُولُوا: هَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ" ما خرج عن لغة العرب، الصلاة، والحَج معروف معناها في اللغة العربية، الصلاةُ الدعاء، والحج القصد، والصوم الإمساك، ثم الشارع بيَّن المراد بهذه، بهذه الفرائض، وأن المراد بالصلاة ليس مجرد الدعاء، بل الصلاة المعروفة، والحَج المعروف، وكذلك الإيمان بيَّن الشارع أن ليس المراد به المعنى اللغوي، وإنما المرادُ به التصديق مع العمل.
يقول المؤلف: "بَلْ خَاطَبَهُمْ بِاسْمِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ" النفاق لم يُعرف في الجاهلية، لأن المنافق هو الذي يُظهر، ويُبطن، وفي الجاهلية ليس هناك شيء لأنه يُظهر شيئًا ويُخفي شيئًا، عندما احتاج المنافق لما قوي الإسلام، وخاف على دمه وماله، فأظهر الإسلام، وأخفى الكفر، حتى تسلم دمه وماله.
فخاطبهم باسم المنافقين وقد ذكر يقول المؤلف: "وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ" هذا الاسم الذي هو النفاق ليس معروفٌ بالجاهلية ومع ذلك ما قالوا: إنه ليس بعربي، لماذا؟ لأن أصل الاشتقاق معروف، لأن أصله مشتق من اللغة، لأن المنافق مشتقٌ من نفق إذا خرج.
يقول: "فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ لُغَتِهِمْ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ به فِي لُغَتِهِمْ؛ لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا" يعني فكذلك الإيمان كونه إذا كان معناه في اللغة التصديق، ثم تصرف فيه الشارع، وأدخل فيه الأعمال، والأقوال، لا يفيد ذلك عن كونه عربيًا.
(المتن)
(الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَعْظَمَ مِنْ إخْرَاجِ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ.
فَإِنَّ النُّصُوصَ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَتَّقِيهِ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمِ؛ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ؛ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ رَدِّ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ.
(الشرح) الخامس عشر من الردود يقول المؤلف: "أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً" هذه الألفاظ من الصلاة والزكاة والصوم والحَج مثلًا، والكفر والنفاق، والشِرك، لو فُرض هذه فرض، لو فُرض وقُدر أن هذه الألفاظ ليست عربية، فإن عمومها مخصوصٌ بالشرع، لو فُرض أنها ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ أعظم مِن إخراج لفظ الإيمان عن ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وإجماع السلف. يعني من دخول الأعمال في مُسماه.
فلو قُدر أن هذه الألفاظ ليست عربية، يقول: فإن عمومها مخصوصٌ بالشرع، فإنها لو قُدر أن هذه الألفاظ ليست عربية، فنقول الشارع استعملها، استعملها، وبيَّن معناها، وخصص عمومها، وليس تخصيص عموم هذه الألفاظ أعظم من إخراج لفظ الإيمان عن ما دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من دخول الأعمال في مُسماه.
فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحبُ الله، ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعمل شيء من الواجبات، ولا يترك شيئًا من المحرمات كثيرة صريحة، فالنصوص التي فيها بيان أن الأعمال لابد منها في مُسمى الإيمان، وأن الإيمان مجرد التصديق لا يكفي.
النصوص كثيرة؛ مثل النصوص التي فيها نفي الإيمان عمن لا يحبُ الله ورسوله، من لم يحب الله ورسوله ليس بمؤمن،دلت على هذا نصوص كثيرة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24].
ومِن ذلك ما سبق من أن الله تعالى نفي الإيمان عمن اتخذ الكفار أولياء، ولو كانوا يؤمنون بالله وبالنبي، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة: 81]، وكقوله سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] إلى آخر الآية.
فهذه النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعمل شيئًا من الواجبات، ولا يتركُ شيئًا من المحرمات كثيرة صريحة، يقول المؤلف: "فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ" يعني لو قُدر أنه عارضها آية كآية {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، كان تخصيص اللفظ القليل العام.
وهو القول: بأنه تصديقٌ مخصوص يستلزمُ دخول الأعمال أولى مِن رد النصوص الكثيرة الصريحة، يعني هذه النصوص الكثيرة التي فيها أنه لابد مِن العمل، وأن الإيمان لا يكفي في التصديق المجرد، بل لابد فيه مِن العمل والذي دلت على نفي الإيمان على مَن لم يأت بالعمل.
لو قُدر أنه عارضه آية واحدة تخفف هذه الآية، ولا ترد النصوص الكثيرة، قال المؤلف: "فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ" كآية يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولى مِن رد النصوص الكثيرة الصريحة، وهذا مِن باب الفرض والتقييد.
يعني لو قدر أنه عارضها هذا من باب التنزل مع الخصم، هذا الجواب كل فرضٍ لو فُرض أن هذه الألفاظ، ثم قال: "فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ" كانت تُخصص ولا تُردُّ النصوص الكثيرة، تخصيص اللفظ القليل أولى من رد النصوص الكثيرة الصريحة، نعم. -- ((@ كلمة غير مفهومة- 01:39:28)) – من أول الوجه.
الوجوه التي ذكرها المؤلف رَحِمَهُ اللهُ من باب تنافر الأدلة، وتوافرها، وإلا فإن الإجابة عليها يكفي أن نجيب عنها بجوابٍ واحد، أو بجوابين، ولكن المؤلف رَحِمَهُ اللهُ نَوِعَ الأدلة، وأكثر منها، حتى يبين أن أدلة المُرجئة، أو أن اعتماد المُرجئة، اعتمادهم ضعيف، اعتمادهم على المعنى اللغوي، اعتماد ضعيف، وأن هذا مُخالف للنصوص الكثيرة مِن الكتاب والسُّنَّة.
ولهذا نَوَّعَ المؤلف الأدلة، وأكثرها، وذكر يعني منها أوجهً فرضية من باب التنزُّل مع الخصم.
كلُّ هذا ليبين أن مذهب المُرجئة مذهبٌ باطل، وأنه مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وأن مُسمى الإيمان لابد فيه مِن العمل، وأن المُرجئة مهما حاولوا الانتصار لمذهبهم، فإن، فإنه، فإن هذا الانتصار لا وجه له؛ لوضوح الأدلة مِن الكتاب والسنة على دخول الأعمال في مُسمى الإيمان.
فالواجب على المسلم أن يقبل الحق، وأن يعتمد على النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، وأن يُعرِض عن شبه المشبهين، وتأويلات المتأولين، نعم.