(المتن)
قال المؤلف رحمه الله:
والكرَّامية يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، وَيُخَاطَبُ فِي الظَّاهِرِ بِالْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94].
فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الكرَّامية فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ، فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة أَبْطَلُ مِنْهُ، وَأُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِاللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة.
والكرَّامية تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِذَا كَانَ مُنَافِقًا فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ بَلْ يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ لَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ كَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُمْ مُسْلِمًا إذْ الْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ الظَّاهِرُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْعًا وَلُغَةً وَعَقْلًا.
وَإِذَا قِيلَ: قَوْلُ الكرَّامية قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ: وَقَوْلُ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ، بَلْ السَّلَفُ كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ.
(الشرح)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالمؤلف رحمه الله لا زال يرد على المرجئة والأشعرية الذين يقولون "أن الإيمان هو التصديق بالقلب مِن دون نطقٍ باللسان وعملٍ بالجوارح".
بيَّن رحمه الله فيما سبق أنه لو قُدِّر فرضًا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، والقرآن إنما أراد مجرد التصديق الذي هو قول، ولم يُسمِّ العمل تصديقًا، فإنه يكون الصواب قول مرجئة الفقهاء، الذين يقولون إن مسمّى الإيمان هو اللفظ والمعنى والإقرار، هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، أو قول الكرَّامية: إنه قول باللسان، لأن تسمية قول اللسان قولًا أكثر في اللغة مِن تسمية معنًى في القلب قولًا.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أن الكرَّامية يقولون مِن أقر بلسانه ونطق بلسانه فهو مؤمن لكن إذا كان مكذبًا بقلبه فهو مخلد في النار، فيلزمهم الجمع بين النقيضين، يلزمهم أن يكون المؤمن كامل الإيمان مخلدٌ في النار؛ لأنهم يقولون: إذا نطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، وإذا كان مكذبًا بقلبه فهو منافق مخلد في النار، فيجمعون بين الأمرين المتناقضين، فيلزمهم على هذا أن يكون المؤمن كامل الإيمان مخلدٌ في النار.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "والكرَّامية يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ" مؤمن لأنه نطق بلسانه، ومخلد في النار لأنه كذب بقلبه، ولهذا قال: "لِأَنَّهُ آمَنَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، وَيُخَاطَبُ فِي الظَّاهِرِ بِالْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ المؤمنون؛ فهو داخلٌ في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، يعني أن قول الكرَّامية مع فساده أقرب مِن قول المرجئة والجهمية، الذين يقولون إن الإيمان "مجرد ما في القلب".
فالكرَّامية الذين يقولون إن "الإيمان مجرد قول اللسان" مع فساد هذا القول هم أقرب إلى الصواب مِن قول الجهمية والمرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو مجرد ما في القلب مِن المعنى والتصديق.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: وذلك لأنه جاء في النصوص اعتبار القول، وأن الإنسان إذا تكلم بلسانه فإنه يُعتبر قوله؛ لقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11]، وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8].
وذلك أن المنافقين الذين يتكلمون فيظهرون الإسلام؛ تجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وإن كان لهم أحكام المنافقين في الباطن؛ فلذلك صار قول الكرَّامية أقرب مِن قول المرجئة والجهمية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ" وهذا هو قول المرجئة والجهمية يقولون مؤمن مَن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه مؤمن؛ لأن الجهمية يقولون إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب والكفر هو جهل الرب بالقلب، والماترودية والأشعرية والمرجئة يقولون: "الإيمان هو التصديق في القلب".
والمؤلف رحمه الله بيَّن في مواضع أنه يَعسُر التفريق بين التصديق والمعرفة في القلب إذا لم يكن هناك مع التصديق والمعرفة قول وعمل، لأنه يعسر التصديق بينهما، فيكون التصديق بالقلب هو معرفة القلب، إذا كان تصديق مجرد هي المعرفة التي في القلب؛ فالأحكام عُلِّقت على مَن يتكلم بلسانه، عُلِّقت الأحكام على من يعمل وينطق بلسانه، بخلاف مَن يدعي أنه مصدق بالقلب فهذا تتعلق عليه الأحكام؛ ولهذا صار قول الكرَّامية أقرب إلى الصواب مِن قول المرجئة والجهمية.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: إن الكرَّامية الذين يقولون أن الإيمان هو الإقرار باللسان عُلِّقَت بذلك أحكام، "وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ" وهذا قول المرجئة والجهمية، يقولون أنه مؤمن، "فَإِنَّهُ لَا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:94]، فتبين بهذا أَنَّ قَوْلَ الكرَّامية وَإِنْ كَانَ" فاسدًا إلا أنه أقرب مِن قول الجهمية والمرجئة، لأن الكرَّامية يقولون الإيمان هو قول اللسان والمرجئة والجهمية يقولون الإيمان هو ما في القلب.
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: " فَعُلِم أَنَّ قَوْلَ الكرَّامية فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة أَبْطَلُ مِنْهُ" قول الجهمية يعني أن الإيمان هو علم القلب ومعرفته، "وَأُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِاللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة"، وأولئك الإشارة يعود إلى الكرَّامية، وأولئك يعني الكرامية أقرب إلى الاستدلال باللغة والقرآن العقل من الجهمية، لماذا؟ لأن النصوص علَّقَت على قول اللسان أحكام وأعمال الجوارح أحكام، فأجرَت أحكام الإسلام على المنافقين، أما الذي لا ينطق بلسانه ولا يعمل بجوارحه وإنما يكون عنده في القلب معرفة وتصديق فهذا لا يُعَلَّق به شيء مِن الأحكام، ولهذا صار قول الكرَّامية مع فساده وابتداعه أقرب إلى الصواب مِن قول الجهمية والمرجئة.
يقول المؤلف رحمه الله: "والكرَّامية تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ" يعني الكرَّامية والمرجئة والجهمية وكذلك مرجئة الفقهاء جميع الطوائف لا يستثنون في الإيمان؛ لا يستثنون في الإيمان إلا أهل السنة والجماعة، الذين يقولون إن الإيمان متعدد، أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، يستثني الإنسان، فيقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأن استثناءه راجع إلى أن الأعمال.
وواجبات الإيمان متعددة، وأن الإنسان يجزم بأنه [00:09:07] لا يزكي نفسه فيقول أنا إيماني إن شاء الله راجع إلى الأعمال، وأما مَن يقول إن الإيمان شيء واحد فلا يستثني، فالمرجئة والجهمية الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب لا يستثنون، والكرَّامية الذين يقولون إن الإيمان مجرد ما في اللسان لا يستثنون، ومرجئة الفقهاء الذي يقولون إن الإيمان هو قول باللسان وتصديق بالقلب لا يستثنون؛ لأنه يقول أن الإيمان شيء واحد، يعرف الإنسان مِن نفسه فلا يستثني، ولهذا يسمون الذين يستثنون في إيمانهم مِن أهل السنة والجماعة يسمونهم الشكَّاكة، يقولون تشك في إيمانك؟
أنت تعلم أنك مؤمن وأنك مصدق، كونك أنك تعلم أنك تحب الرسول عليه الصلاة والسلام وتبغض اليهود، كما تعلم مِن نفسك أنك قرأت الفاتحة؛ ما تشك، فكيف تقول أنا مؤمن إن شاء الله؟ تشك في إيمانك؟ ولهذا يُسمون أهل السنة هم الشكَّاكة.
لأنهم قرروا أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، تصديق، أو الإقرار باللسان، أو معرفة القلب، وأما أهل السنة فقالوا إن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وعمل بالقلب ويزيد وينقص فالأعمال متعددة والإنسان لا يجزم بأنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه؛ ولهذا فيجوز له أن يستثني فيقول أنا مؤمن إن شاء الله.
فالمؤلف رحمه الله يقول: إن جميع الطوائف لا يستثنون إلا أهل السنة، أهل السنة انفصلوا عنهم، جمهور أهل السنة يستثنون، وأما الكرَّامية والمرجئة والجهمية فلا يستثنون.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "والكرَّامية تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ؛ بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِن كَانَ مُنَافِقًا" مثل الكرَّامية، مَن أظهر الإيمان وأقر باللسان قالوا هو مؤمن حقًّا ولو كان مكذبًا بقلبه لكن مع ذلك يخلد في النار.
ولذلك قال المؤلف: "بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِذَا كَانَ مُنَافِقًا فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ" يعني مَن حكى مِن الناس عن الكرَّامية أنهم يقولون المنافق يدخل الجنة فقد كذب عليهم، "بَلْ يَقُولُونَ" يعني الكرَّامية المنافق هو مؤمن، لأن الإيمان هو القول الظاهر؛ لأنه نطق بلسانه، والإيمان هو النطق باللسان عندهم، فيقولون: هو مؤمن.
"كَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُمْ مُسْلِمًا" يعني غير الكرامية يسميه مسلمًا وهم يسمونه مؤمنًا؛ لأن الْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ الظَّاهِرُ" إذا كان مستسلم ومنقاد في الظاهر يسمى مسلم، مثل المنافقين، المنافقون يسمون مسلمين في الظاهر؛ لأنهم مستسلمون في الظاهر يصلون ولهذا كان المنافقون في زمن النبي ﷺ ورئيسهم عبد الله بن أُبَيّ يصلون مع النبي ﷺ ويجاهدون معه وقد خذل عبد الله بن أُبي يوم أحد بثلُث الجيش.
فكان يجاهد مع النبي ﷺ وكان إذا صلى النبي الجمعة يخطب الناس ويأمرهم باتباع النبي ﷺ ولزومه وهو منافق، فهم تُجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، يعني مِن الزواج والتوارث ودفنهم أمواتًا مع المسلمين، لكن لا ينفعهم هذا، يوم القيامة يعاملون بما في قلوبهم بما كانوا يعتقدون في قلوبهم.
ولهذا لما تُوفي عبد الله بن أُبي جاءه النبي ﷺ كما ثبت في صحيح البخاري والحديث في صحيح البخاري واستخرجه مِن حفرته ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه قبل أن ينهال، وجاء عمر أخذ برداء النبي ﷺ وقال يا رسول الله أتُصلي عليه وقد قال الله كذا!! فقال النبي ﷺ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا ([1]) عليه الصلاة والسلام، وإنما فعل ذلك عليه الصلاة والسلام رجاء أن ينفعه الله بذلك ومراعاة لرهطه مِن الأوس؛ ولأن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي أصلح المؤمنين مراعاة له؛ ولأنه أعطى عمه العباس قميصًا لأنه كان طويلًا فلم يصلح له إلا قميص عبد الله بن أُبيّ، ثم بعد ذلك نزلت الآية: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فلم يصل النبي ﷺ بعد ذلك على منافق.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ يَقُولُونَ –يعني الكرامية-: المنافق مُؤْمِنٌ لأنْ الْإِيمَانَ هو قولٌ ظاهر، كما يسموا غيره مسلمًا إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِم" يعني قول الجهمية أفسد من قول الكرَّامية "مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْعًا وَلُغَةً وَعَقْلًا. وَإِذَا قِيلَ: قَوْلُ الكرَّامية قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ: وَقَوْلُ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ" يعني قول الكرَّامية إن الإيمان مجرد النطق باللسان قول خارج عن إجماع المسلمين، وقول الجهمية إن الإيمان مجرد علم القلب قول خارج عن إجماع المسلمين قبل قول الكرَّامية.
يقول المؤلف رحمه الله: "بَلْ السَّلَفُ كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ" نعم؛ لأنه يقول الإيمان مجرد معرفة الرب بالقلب معناه الكفرة يعرفون ربهم بقلوبهم؛ ولهذا أُلزِم الجهم بهذا التعريف أُلزم بأن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، وأُلزم بأن فرعون مؤمن، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
وأُلزم بأن اليهود مؤمنين؛ لأنهم يعلمون بقلوبهم، قال تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، يعرفونه بقلوبهم.
وأُلزم أن أبا طالب مؤمن، لأنه يعلم بقلبه
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيْنَ مُحَمَّدٍ | مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنًا |
ولهذا أفسد قول قيل في الإيمان هو قول الجهم: أن الإيمان معرفة الرب بالقلب والكفر جهل القلب بالرب. بل إن أهل السنة حكموا على الجهم بالكفر مِن تعريفه قالوا لا أجهل منه بربه، هو جاهل بربه، هو كافر بحكمه على نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
وَقَدْ احْتَجَّ النَّاسُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكرَّامية بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ.
وَالْحُجَجُ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، قَالُوا: فَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
فَنَقُولُ: هَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَقَدْ ضَلَّ مَنْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَهُوَ يَجْحَدُ الرَّسُولَ وَيُعَادِيهِ كَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ وَلَا دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا.
بَلْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] إلَى قَوْلِهِ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]. فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ سِوَى هَؤُلَاءِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].
والتَّوَلِّي هُوَ: التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16].
وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ: إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]. فَعُلِمَ أَنَّ التَّوَلِّيَ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَ.
وَضِدُّ التَّصْدِيقِ التَّكْذِيبُ وَضِدُّ الطَّاعَةِ التَّوَلِّي فَلِهَذَا قَالَ: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]، فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ.
وَقَالَ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62].
وَقَالَ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]. فَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ كَمَا نَفَى فِيهَا الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِ.
وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا؛ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّة إذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، إيمَانُهُ كَإِيمَانِ النَّبِيِّينَ، وَلَوْ قَالَ وَعَمِلَ مَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ وَيَعْمَلَ! وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ إلَّا إذَا زَالَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: أنَّ فساد قول الكرَّامية في مسمى الإيمان أنه مجرد القول باللسان أدلة كثيرة والحجج على فسادها كثيرة، وهي –هذه الحجج- أدل على فساد قول الجهمية أكثر، أدل منها على فساد قول الكرَّامية، يعني إذا كانت الحجج والأدلة على فساد قول الكرامية كثيرة وهي صحيحة فهي أيضًا دليل على فساد قول الجهمية مِن باب أولى، وهي أكثر، والأدلة أكثر في فساد قول الجهمية أكثر منها على فساد قول الكرَّامية، المعنى أن قول الجهمية في مسمى الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، هذا قول فاسد، والأدلة على فساده كثرة، وهي أكثر مِن الأدلة التي على فساد قول الكرَّامية الذين يقولون إن الإيمان مجرد قول اللسان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَقَدْ احْتَجَّ النَّاسُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكرَّامية بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ. وَالْحُجَجُ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ، ومن أمثلة ذلك مثّل المؤلف رحمه الله من الأدلة على فساد قول الكرامية، مِثْلُ قَوْله تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8].
قَالُوا: فَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ" فالله تعالى قد أثبت لهم الإيمان باللسان ونفى عنهم الإيمان بالقلب فدل على أنهم غير مؤمنين، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا إيمانهم باللسان ثم نفى عنهم الإيمان بقلوبهم فقال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
يقول المؤلف رحمه: "فَنَقُولُ: هَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَقَدْ ضَلَّ مَنْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا" وكذلك أيضًا إذا كان منافق وليس بمؤمن والذي يسميه مؤمنًا ضال فمثله مَن كان يعلم بقلبه ويصدق بقلبه ولكنه يعادي الرسول ﷺ ويجحد الحق فهؤلاء أولى بسم الكفر مِن أولئك. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَهُوَ يَجْحَدُ الرَّسُولَ وَيُعَادِيهِ كَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ" بسبب جحدهم الحق، وبسبب معاداتهم للنبي ﷺ.
فهؤلاء "سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ وَلَا دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ. بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا" يعني أن المنافق الذي يظهر الإسلام بجوارحه ولسانه ويبطن الكفر هذا تجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر، ويسمى مسلمًا في الظاهر، أما الذي يصدق بقلبه ولكنه يجحد بلسانه ويعادي النبي ﷺ فهذا كافر مطلقًا ولا يسمى مؤمنًا لا في الظاهر ولا في الباطن فيكون هذا أشد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ، مثّل لذلك قول الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]".
ثُمَّ بيَّن الله سبحانه المؤمنين حقًّا فقال سبحانه: "إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]".
والمعنى أن هؤلاء هم المؤمنون لا أنتم أيها الأعراب؛ ولهذا "فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ سِوَى هَؤُلَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]. و " التَّوَلِّي " هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ" فهؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بألسنتهم لكنهم يتولون عن الطاعة لا يعملون نفى الله عنهم الإيمان؛ لأن الإيمان لابد أن يحقق بالعمل؛ التصديق والإيمان لابد له مِن عمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان المنافقين، كما أن العمل والطاعة التي يعملها الإنسان في الظاهر لابد لها مِن إيمان يصححها وإلا صار كإسلام المنافقين.
ولهذا بيَّن المؤلف رحمه الله، قال: إن الله تعالى نفى الإيمان عن هؤلاء الذين يتولون عن الطاعة عن الطاعة، "وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].
يقول المؤلف رحمه الله: و " التَّوَلِّي " هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة الفتح: سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16]" يعني تتولوا عن العمل، تتولوا عن الطاعة، فتوعدهم على ترك الطاعة، فدل على أنه لابد مِن العمل ولا يكفي التصديق بالقلب.
"وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16]. وَكَذَلِكَ قَالَ الله تعالى عن مُوسَى وَهَارُونُ: إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]. يقول المؤلف رحمه الله: فَعُلِمَ أَنَّ " التَّوَلِّيَ " لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ" وذلك أن الإنسان عليه واجبات، ولا يصح الإيمان إلا بأمرين:
الأمر الأول: تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به وبما جاء به.
والأمر الثاني: العمل والاتباع، اتباع الأوامر واجتناب النواهي، لابد مِن الأمرين، من ادعى أنه يصدق الرسول ويؤمن به ولا يعمل فهو كاذبٌ في دعواه الإيمان؛ لأن الإيمان لا يتحقق إلا بالعمل، لا يتحقق إلا بالأمرين.
ولهذا " قَالَ الله تَعَالَى: لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16]" كذب: يعني كذب الخبر، وتولى: تولى عن الطاعة، "وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ: إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48].
يقول المؤلف رحمه الله: فَعُلِمَ أَنَّ "التَّوَلِّيَ " لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَ" يعني عليهم هذان الأمران التصديق والطاعة؛ عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر.
"وَضِدُّ التَّصْدِيقِ التَّكْذِيبُ وَضِدُّ الطَّاعَةِ التَّوَلِّي فَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32]، وَقَدْ قَالَ : وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]" فنفى الله عنهم الإيمان لأنهم لم يعملوا وإن كانوا يدَّعون التصديق، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: " فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ.
وَقَالَ تَعَالَى في بيان صفات المؤمنين: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ... [النور:62]. يعني لا بد من العمل، وَقَالَ: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... [الأنفال:2]" فلا بد مِن العمل مع التصديق، تصديقٌ وعمل لابد من الأمرين، فالأخبار تُصَدَّق، والأوامر تُمتَثل، والنواهي تُجتَنب.
يقول المؤلف رحمه الله: "فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ كَمَا نَفَى فِيهَا الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِ" يعني أن القرآن والسنة فيهما مِن الأدلة مِن نفي الإيمان عمَّن لم يأت بالعمل كما أن فيهما نفي الإيمان عن المنافق المكذب بالقلب، فكما أن المكذب يُنفى عنه الإيمان، فكذلك الذي يتولى عن الطاعة يُنفى عنه الإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله" وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا" يعني الذي يعرف بقلبه ولكنه يعادي في الظاهر، يعادي الرسول ﷺ ويشاقه ويرتكب مناهيه، ويترك الأوامر، فهذا لا يسمى مؤمن، إلا عند الجهمية؛ ولكن قول الجهمية قول فاسد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا؛ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّة إذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ النَّبِيِّينَ وَلَوْ قَالَ وَعَمِلَ مَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ وَيَعْمَلَ! وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ إلَّا إذَا زَالَ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ" هذا القول مِن أفسد ما قيل في مسمى الإيمان.
الجهمية يقولون: إذا صدق وعرف ربه بقلبه ولو فعل نواقض الإسلام، حتى ولو فعل ما فعل، ولو قتل النبيين ولو هدم المساجد ولو فعل ما فعل، ولو فعل جميع نواقض الإسلام فلا ينتفي عنه الإيمان إلا إذا انتفى العلم مِن قلبه. وهذا مِن أفسد ما قيل، وليس لهم حجة على قولهم بل جميع ما يحتجون به حجج فاسدة نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَيَقُولُونَ: الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ هُوَ: مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ، فَهَلَّا فَعَلُوا هَذَا فِي الْأَعْمَالِ.
وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إيمَانًا؛ إلَّا مَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ.
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ مِنْ السَّلَفِ كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَبِيرِينَ بِكَلَامِ السَّلَفِ بَلْ يَنْصُرُونَ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ هُمْ أَفْسَدُ النَّاسِ مَقَالَةً فِي الْإِيمَانِ.
وَسَنَذْكُرُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ.
(الشرح)
فإن المؤلف رحمه الله بيَّن فيما سبق فساد قول الجهمية في مسمى الإيمان وأن الذين يزعمون أن مسمى الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب وأنه أفسد مِن قول الكرَّامية الذين يقولون إن مسمى الإيمان هو قول اللسان، بيَّن المؤلف رحمه الله أن المتأخرين الذين نصروا قول جهم خالفوه في الاستثناء.
فإن الجهم لا يستثني، لا يقول أنا مؤمن إن شاء الله، مَن يقول بقول الجهم، وكذلك أيضًا الكرَّامية، وغيرهم، لا يستثني أحد في الإيمان إلا أهل السنة والجماعة، هؤلاء المتأخرين الذين نصروا قول جهم، كأبي الحسن الأشعري وهم لا يعلمون خالفوه في الاستثناء فأجازوا الاستثناء في الإيمان وإن كانوا نصروا قوله بأن الإيمان هو مجرد ما في القلب، لكنهم خالفوه في الاستثناء.
وقالوا إن الإيمان في الشرع هو الذي يوافي به العبد ربه، ولا يدري الإنسان ما يوافي به ربه؛ ما يدري ما الشيء الذي يموت عليه، فلهذا أجازوا الاستثناء يقول أحدهم أنا مؤمن إن شاء الله، لأن الإيمان عندهم هو ما يوافي به الإنسان ربه، وما يموت عليه، ولا يدري الإنسان ما يموت عليه فلهذا يستثني.
" فَجَعَلُوا الاستثناء فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ. يقول: فلماذا لا يقولون هذا في الأعمال؟ مادام أنهم يقولون إن الإيمان هو ما يوافي عليه الإنسان ربه ويستثنون فلماذا لا يقولون إن الإيمان هو علم القلب وتصديقه وقول اللسان والعمل؟ حتى يوافق النصوص.
فإنهم يزعمون أنهم وافقوا النصوص في مسألة الاستثناء ولكنهم خالفوا النصوص في مسمى الإيمان، مع أن الأدلة مِن الشرع تدل على أن الأعمال الواجبة لابد منها في الإيمان وهي كثيرة، خلاف دلالة النصوص على أنه لا يُسمى مؤمنًا إلا ما مات عليه، فهذا ليس في الأدلة ما يدل عليه.
يعني قول محدث والسبب أن هؤلاء الذين نصروا قول جهم واستثنوا في الإيمان مأخذهم هو هذا، مأخذهم أن الإيمان هو ما يموت عليه الإنسان، لأنهم لم يعرفوا أقوال السلف "بَلْ يَنْصُرُونَ مَا َظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغيرهِمْ" فظاهرهم أنهم ينصرون قول السلف وفي الباطن يوافقون الجهمية الذي هو أفسد قول في مسمى الإيمان.
ولهذا قال المؤلف: "ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ: " الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ " هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ يعني الذي يموت عليه وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ. فَهَلَّا فَعَلُوا هَذَا فِي الْأَعْمَالِ؟ لماذا لم يقولون هذا في الأعمال؟
يقول المؤلف: وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إيمَانًا؛ إلَّا مَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ".
ثُمَّ بيَّن المؤلف رحمه الله وجه غلطهم، وسبب غلطهم، قال: " لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ مِنْ السَّلَفِ كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَبِيرِينَ بِكَلَامِ السَّلَفِ بَلْ يَنْصُرُونَ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ، ينصرون ما يظهر من أقوال السلف بشيء تلقوه عن المتكلمين مِنْ الجهمية وغيرهم من أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة" هؤلاء الذين نصروا قول الجهم مِن المتأخرين ظاهر قولهم أنهم يوافقون السلف وباطن قولهم أنهم يوافقون قول الجهمية.
"فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي هُو أَفْسَدُ النَّاسِ مَقَالَةً فِي الْإِيمَانِ" يعني أفسد ما قيل في تعريف الإيمان هو قول الجهمية أن لإيمان هو مجرد ما في القلب، يقول المؤلف رحمه الله إنه سيذكر أقوال السلف في الاستثناء في الإيمان، يقول المؤلف رحمه الله: " وَلِهَذَا لَمَّا صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ".
لما ظهر لبعض أتباع أبي الحسن الأشعري لأنه قرر أن الإيمان هو مجرد التصديق وهذا يوافق الجهم، لما ظهر لهم فساد هذا القول خالفه كثير منهم فتبعوا السلف في ذلك وضموا إلى الإيمان العمل.
(القارئ): مَن قال إن السلف يستثنون مخافة الموافاة لا صحة لهذا هذا ينكره شيخ الإسلام، ليس لهذا مأخذًا.
(الشيخ): نعم؛ السلف إنما لفظ (يستثنون) أن الإنسان لا يزكي نفسه ولا يجزم بأنه أدى ما عليه وأن أعمال الإيمان متعددة.
(المتن)قال المؤلف رحمه الله:
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي "شَرْحِ الْإِرْشَادِ"[2] لِأَبِي الْمَعَالِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِهِ قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أُمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نُهَي عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا.
قَالَ: وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا؛ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القَلَّانَسِيّ. وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمُعْظَمِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا تَرَكَ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا بِالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالْعِلْمُ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الإِسْفَرَايِينِي.
قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: رَأَيْت فِي تَصَانِيفِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا حَقًّا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا [الأنفال:2] إلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الانفال:4].
وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ والائتمار، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ فِي كِتَابِ: "الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ": اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ، وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ؛ لِصِحَّةِ الِاسْمِ، فَمِنْهَا: تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ وَتَرْكُ إيذَائِهِ، وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ، فَهَذَا مِنْ التُّروك، وَمِنْ الْأَفْعَالِ: نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ.
وَقَالُوا: إنَّ جَمِيعَهُ يُضَافُ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا، وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ.
قُلْت: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَيْسَا قَوْلَ جَهْمٍ؛ لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا وَقَالَ: إنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ فِيهِ وَهَذَا يَهْدِمُ أَصْلَهُمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ كَجَهْمِ والصالحي وَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله سرد أقوالًا لأتباع أبي الحسن الأشعري، الذين خالفوه في قوله إن مسمى الإيمان هو التصديق لما تبيَّن لهم فساد هذا القول (قول جهم) لأن أبا الحسن الأشعري قرر –كما سبق النقل عن القاضي الباقلَّاني- أن الإيمان هو مجرد التصديق، ومجرد التصديق هذا هو قول الجهم، مجرد العلم، لأنه يعسر التفريق بين التصديق المجرد والعلم المجرد.
فلما تبيَّن لهم (الأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري) لما تبيَّن لهم فساد قول جهم رجعوا وقالوا إن الإيمان لابد مِن العمل لابد مِن التصديق مع العمل، نقل المؤلف رحمه الله نقول مِن أتباع أبي الحسن الأشعري يقول المؤلف رحمه الله: " قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصفهاني شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ " لِأَبِي الْمَعَالِي" الجويني "بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِهِ" وقول أصحابه أن الإيمان هو التصديق.
"قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا" أهل الأثر يعني الذين يعملون بالأثر، بالنصوص، الكتاب والسنة والآثار والأحاديث وأقوال الصحابة، "وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا" فهو أولًا ذكر قول أصحابه أن الإيمان هو مجرد التصديق، ثم ذكر قول أهل الأثر أنه لابد مِن الأعمال. قال: لابد من الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها.
"وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أُمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نُهَي عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا" إتيان ما أمر فرضًا ونفلًا يعني فعل الأوامر، سواء كانت أمر إيجاب وهذا هو الفرض، أو أمر استحباب وهذا هو النفل.
فأمر الإيجاب في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [النور:56]، هذا فرض إيجاب، وأمر الاستحباب كقول النبي ﷺ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ ([3]) هذا أمر استحباب.
"وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نُهَي عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا" يعني الانتهاء عن النواهي سواء كان نهي تحريم كقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء32]، أو نهي تنزيه كالنهي عن الشرب قائمًا، "قَالَ –أي أبو القاسم الأنصاري: وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيّ-وهو مِن الأشاعرة- مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا؛ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القَلَانِسِيّ" فبين أبو القاسم أن قول أصحابنا التصديق ولكن أهل الأثر يقولون أن الإيمان هو جميع الطاعات فرضها ونفلها.
"قَالَ: وذهب إلى هذا بعض أصحابنا كأَبُي عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ أبي الحسن الأشعري، وَأَبُو الْعَبَّاسِ القَلانِسِيّ"، فهؤلاء ذهبوا إلى أن وافقوا أهل السنة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف: "وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ أيضًا كذلك قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمُعْظَمِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ" فهؤلاء كلهم وإن كانوا مِن أتباع أبي الحسن الأشعري إلا أنهم لما تبيَّن لهم مذهب السلف في إدخال الأعمال في مسمى الإيمان ذهبوا إلى ذلك وخالفوا أبا الحسن الأشعري في هذا.
يقول: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: إنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ" يعني مرجئة الفقهاء، يعني شيئان، التصديق بالقلب والإقرار باللسان، "وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا تَرَكَ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا بِالشَّرْعِ" نعم وهذا لا شك فيه، "وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالْعِلْمُ" نعم لا ينفعه ما في قلبه مِن التصديق والعلم إذا كان يعاند الشارع ويترك الأوامر ويجترح النواهي، يقول المؤلف: "وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الإِسْفَرَايِينِي" كل هؤلاء مِن الأشاعرة ومع ذلك خالفوا أبو الحسن الأشعري.
"قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: رَأَيْت فِي تَصَانِيفِه" يعني أبو المعالي الجويني، "أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ" وهذا موافق لمذهب أهل السنة والجماعة، دل على أنهم رجعوا عن قول أبي الحسن الأشعري لما تبيَّن لهم الحق.
"رَأَيْت فِي تَصَانِيفِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هذا حق كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا حَقًّا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ثم قال: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الانفال: من 2 إلى 4]" أولئك هم المؤمنون بهذه الأعمال؛ فأدخل الأعمال – أعمال الجوارح والقلوب وقول اللسان- أدخلها في مسمى الإيمان.
"وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ والائتمار، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ" كل هذه النصوص تدل على أن هؤلاء المتأخرين مِن الأشاعرة خالفوا أبا الحسن في مسمى الإيمان لما تبيَّن لهم مذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه النصوص.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ": اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام –هذه من التروك- ومنها َتَرْكُ إيذَائِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ التُّروك، وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ وَقَالُوا: إنَّ جَمِيعَهُ يُضَافُ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا" وهذا صحيح فإنه لا يكفي مجرد التصديق بل لابد مِن أفعال ولابد مِن تروك، فالمحرمات والمنهيات تُترك، والواجبات تُفعل.
"وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ" هذه كلها –هذه النقول- كلها تدل على أنهم أن المتأخرين الأشاعرة خالفوا أبا الحسن الأشعري وقالوا بقول جمهور أهل السنه في دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف: "قُلْت: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَيْسَا قَوْلَ جَهْمٍ؛ لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ" يعني هذه النقول عن أبي القاسم الأنصاري وكذلك النقل عن أبي إسحاق في كتاب الأسماء والصفات هذان القولان ليسا قول جهم، لماذا؟ لأن قول جهم الإيمان هو مجرد ما في القلب، وهذان القولان فيهما إدخال الإيمان في مسمى الإيمان.
يقول المؤلف: "لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ ليس الإيمان مجرد تصديق القلب، فقال بأن هذه الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولا يقول بأن الإيمان مجرد تصديق القلب، وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا وَقَالَ: إنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ فِيهِ" يعني الشرع أدخل في مسمى الإيمان الأعمال وإن كان أصله التصديق.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَهَذَا يَهْدِمُ أَصْلَهُمْ" وأصلهم أن الإيمان تصديق القلب، فهذه الأقوال كلها تهدم قولهم لأنها أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان، يقول المؤلف رحمه الله: "وَلِهَذَا كَانَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ كَجَهْمِ والصالحي وَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ" يعني مُقدَّم هؤلاء كجهم بن صفوان والصالحي هو أبو الحسين الصالحي مِن القدرية وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلَّاني كل هؤلاء يقولون "لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ".
يعني لا يزالوا يتمسكوا بقول جهم في مسمى الإيمان هو العلم؛ والصواب أنه يزول عنه الإيمان ولا يزول العلم في قلبه، فإذا تولى عن الطاعة وأعرض عن العمل أو فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام يزول عنه الإيمان ولو كان العلم في قلبه.
(المتن)
قال المؤلف رحمه الله:
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: "بَابٌ فِي ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ": اعْلَمْ أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ.
قَالَ: وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والكرَّامية، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ؛ وَقَالَ مَرَّةً: الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً: التَّصْدِيقُ: قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ دُونَهَا وَهَذَا مُقْتَضَاهُ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ. فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَادَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَالْمَعْرِفَةِ جَمِيعًا فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَا تَصْدِيقًا وَاحِدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِتَرْكِ الْعِنَادِ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فَيَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْعِنَادِ بِالشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ الْكَافِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْعِنَادِ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْإِيمَانِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُقَالُ: إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا. قَالَ وَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ: كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ.
(الشرح)
هذا النقل مِن أبي المعالي الجويني يدل على أنه لم يبق على ما قرره شيخه أبو الحسن مِن أن الإيمان هو مجرد التصديق لأنه اطلع على أقوال أهل السنة والجماعة التي دلت عليها النصوص.
ولهذا قال المؤلف رحه الله: "قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (بَابٌ) فِي ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ: -وهو أبو المعالي الجويني -اعْلَمْ أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ".
يعني تباينت مذاهب مَن ينتسب إلى الإسلام، تباينت في مسمى الإيمان منهم مَن قال هو التصديق وهذا قول الأشعرية والمرجئة، ومنهم مَن قال هو قول اللسان وهذا قول الكرَّامية ومنهم مَن قال علم القلب وهذا قول الجهمية ومنهم مَن قال هو جميع الطاعات ولكنه إذا فعل كبيرة زال الإيمان وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
ولهذا قال: "ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والكرَّامية ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا" يعني الأشاعرة "فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ –أبو الحسن الأشعري- ذهب إلى أن الإيمان هو مجرد التصديق، ثم قال: وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ؛ فقَالَ مَرَّةً: الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ" يعني المعرفة بوجود الله وقدمه وإلهيته، "وَقَالَ مَرَّةً: التَّصْدِيقُ: قَوْلٌ فِي النَّفْسِ" يعني اعتراف في النفس، "غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ دُونَهَا" يعني لا يصح أن يوجد التصديق إلا بالمعرفة.
"وَهَذَا مُقْتَضَاهُ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ. فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَادَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ" يعني عبارة عن التصديق الذي في القلب، قال: "وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَالصدق جَمِيعًا فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَا تَصْدِيقًا وَاحِدًا" وهذا قول مرجئة الفقهاء، يقولون: الإيمان شيئان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان.
يقول: "وَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِتَرْكِ الْعِنَادِ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فَيَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْعِنَادِ بِالشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ الْكَافِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْعِنَادِ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْإِيمَانِ" نعم هذا صحيح لأن الكافر يعرف الله ولكنه يكفر به بالعناد وبامتناعه عن المتابعة للنبي ﷺ.
يقول المؤلف: "وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُقَالُ: إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا" وهذا صحيح وهذا يدل على أن أبا المعالي هنا يتحرر مِن عبودية قول أبي الحسن الأشعري والجمود على أنه تصديق لأنه اطلع على النصوص وعلى أقوال السلف.
وهذا كلام حق، وعلى هذا فالأصل يقال إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد ﷺ إلا أنهم كفروا عنادًا وبغيا وحسدًا، وهذا يدل عليه قول الله تعالى: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
وقال في الآية الأخرى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]. فهذا يدل على أن كفرهم بالعناد وعدم المتابعة للنبي ﷺ، ولو كانوا عالمين ولو كانوا عارفين، يعلمون أنه رسول الله حقًّا لكنهم كفروا به بعدم المتابعة –بعدم متابعته ﷺ- فعادوه ولم يتابعوه ولم يصدقوه وإن كانوا عالمين بقلوبهم بأنه حق لكنهم كفروا بعدم المتابعة والتكذيب والحسد.
يقول المؤلف رحمه الله في نقله عن أبي المعالي: "وَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ: كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ" يعني على قول الإمام أبي الحسن: الإيمان هو مجرد التصديق، فالكافر هو الذي لا يعرف الله ولا عرف رسوله، أما مَن عرف الله وعرف الرسول وعرف أن الدين هو الحق فهذا يكون مؤمنًا على قول الجهم.
(المتن)
قال المؤلف رحمه الله:
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا حُكْمَ لِإِيمَانِهِ وَلَا لِمَعْرِفَتِهِ شَرْعًا.
قُلْت: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا، وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْمُعَانِدُ كَافِرٌ شَرْعًا، فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْعِنَادِ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَالْحُذَّاقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ فَقَالُوا: لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا: هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ"، أي: تلميذ أبي المعالي الجويني، على قوله قال وعلى قول شيخنا أبي الحسن: "كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ"، يقول توجيهًا لقول أبي المعالي: " كَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا حُكْمَ لِإِيمَانِهِ وَلَا لِمَعْرِفَتِهِ شَرْعًا".
يقول المؤلف رحمه الله: "قُلْت: وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْمُعَانِدُ كَافِرٌ شَرْعًا فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْعِنَادِ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ".
يعني أن الكفر قد يكون بعدم المتابعة وقد يكون بالتكذيب، فإذا كذب فإنه يكون كافرًا، وإذا صدق ولكنه عاند ولم يتبع يكون كافرًا أيضًا، "فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ" هذا هو التكذيب، "وَتَارَةً بِالْعِنَادِ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ" يعني: ولو كان معه التصديق لا يكفيه التصديق؛ لأنَّ هذا التصديق لابد معه مِن العمل، فإذا لم يعمل ولم يتبع فلا يسمى إيمانًا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "وَالْحُذَّاقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ –يعني الأشعري- وَالْقَاضِي – يعني أبو بكر الباقلاني- وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ فَقَالُوا: لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ" وهذه مكابرة –كما قال المؤلف- منهم، كيف لا يكون الإنسان كافرًا إلا إذا ذهب ما معه مِن التصديق؟ كل الكفرة الآن مصدقون، يعلمون بقلوبهم أن محمدًا رسول الله حق ولكنهم عاندوا ولم يتبعوا.
لكن أبو الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلَّاني كلهم تمسكوا بالمذهب، قالوا الإيمان هو التصديق في القلب، فعلى هذا مَن هو الكافر؟ هو الذي ذهب التصديق مِن قلبه، وهذا ليس بصحيح، بل يوجد التصديق في القلب ويبقى معه الكفر إذا كان معاندًا وغير متبع.
ولهذا يقول المؤلف: لما "عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ فَقَالُوا: لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا: هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ" يعني تمويه. كيف تقولون إن مَن حكم الشرع بكفره ليس معه إيمان؟ هذا يخالف الواقع، هناك مَن حكم الشرع بكفره وهو مصدق، إبليس مصدق حكم الشرع بكفره، فرعون مصدق حكم الشرع بكفره، اليهود مصدقون حكم الشرع بكفرهم، أبو طالب مات على الكفر وهو مصدق، قال في قصيدته:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيْنَ مُحَمَّدٍ | مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا |
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً | لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبينا |
فكيف يكون هؤلاء انتفى التصديق مِن قلوبهم؟
ما انتفى، موجود الإيمان، ومع ذلك حكم الشرع بكفرهم، فقولكم إن كل من حكم الشارع بكفره ينتفي عنه التصديق والإيمان يقول المؤلف: هذا مكابرة وسفسطة، مكابرة للواقع وتمويه وتلبيس وستر للحقائق.
(المتن)
توقفنا عند قول المؤلف رحمه الله:
وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] إلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ الآية. [المجادلة:22].
قَالُوا: وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانُ.
قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إيمَانًا مُجْزِئًا مُعْتَدًّا بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُؤَدُّونَ حُقُوقَ الْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ. قُلْنَا: هَذَا عَامٌّ لَا يُخَصَّصُ إلَّا بِدَلِيلِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهَا أَنَّ مَنْ لَا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَمِنْ بُغْضِ مَنْ يُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
ثُمَّ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَرْتَفِعُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ،وَلِهَذَا قَالَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فَقَدْ وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قَدْ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ الْمُتَّقِينَ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْوَعْدِ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ؛ فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَمَلِ الْقَلْبِ -الَّذِي هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ- لَا يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ نَفَى الشَّرْعُ إيمَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ أَصْلًا وَهَذَا سَفْسَطَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله بيَّن أن الأشعرية، يعرِّفون الإيمان بأنه هو التصديق في القلب، وليس معه شيء مِن قول اللسان ولا مِن أعمال الجوارح، وبيَّن المؤلف رحمه الله أن مذهب الأشعرية في هذا، هوَ هوَ مذهب الجهم، لأن الجهم يقولون إن الإيمان هو العلم الذي في القلب، والأشعري يقول إن الإيمان هو التصديق الذي في القلب، ليس معه شيء آخر.
وذكر المؤلف رحمه الله أن المتأخرين مِن الأشاعرة خالفوا أبا الحسن الأشعري، فأدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان لما ظهر لهم فساد قول أبي الحسن وأنه هو قول الجهم في الإيمان، وتبيَّن لهم ما قرره السلف، خالفه كثير منهم وتبعوا السلف.
ونقل المؤلف رحمه الله نقولًا عن أبي القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني ونقل أيضًا عن أبي علي الثقفي، ونقل عن أبي عبد الله بن مجاهد، وكذلك أيضًا نقل عن أبي المعالي الجويني وهؤلاء كلهم مِن الأشاعرة المتأخرين، نقل عنهم نقولًا خالفوا فيها أبا الحسن وأدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله: فهؤلاء الذين نقلوا عن السلف بيَّنوا أن الإيمان يكون بالتصديق وبالعمل، والكفر يكون بالتكذيب ويكون أيضًا بالعناد، فالكفر يكون بتكذيب النبي ﷺ ويكون بالعناد وعدم المتابعة، فيكون على قولهم المعاند كافرًا شرعًا والمكذب كافر شرعًا، ولكن الحذَّاق في مذهب الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلَّاني ومَن قبلهم مِن أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل.
فقالوا: "لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا: هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ" تمويه للحقائق وإخفاء للنصوص، ثم بيَّن المؤلف رحمه الله أنهم احتجوا على قولهم بأدلة.
فقال: "وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ... [المجادلة:22] الْآيَةَ. قَالُوا: وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانُ" ومعلوم أنه إذا لم يعمل بمقتضاه لم يُكتب في قلبه التصديق وهذه الآية هي حجة عليهم، فيها دليل على أن مِن لَم يعمل بمقتضى الإيمان لَم يُكتب في قلبه الإيمان.
قال المؤلف: "قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إيمَانًا مُجْزِئًا مُعْتَدًّا بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يُؤَدُّونَ حُقُوقَ الْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ. قُلْنَا: هَذَا عَامٌّ لَا يُخَصَّصُ إلَّا بِدَلِيلِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهَا أَنَّ مَنْ لَم يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمِنْ بُغْضِ مَنْ يُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَرْتَفِعُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ".
فهذه الآية حجة عليهم، احتج بها جمهور العلماء، جماهير السلف، جمهور أهل السنة، وكذلك أيضًا مَن وافقهم مِن متأخري الأشاعرة، احتجوا بها على أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلَّاني ومَن قبلهم مِن أتباع جهم، احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان ليس هو مجرد العلم والتصديق الذي في القلب.
والآية دلت على أن مَن لم يعمل بمقتضى الإيمان لا يُكتب في قلبه الإيمان، هذا دليل لمذهب السلف وفيه ردٌّ على أبي الحسن الأشعري وعلى القاضي أبي بكر الباقلَّاني وغيرهم ممَّن يقول إنه إذا انتفى الإيمان انتفى العلم والتصديق الذي في القلب.
يقول المؤلف رحمه الله: "وَالْإِيمَانُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]".
فهذه الآية واضحة في أن الإيمان الذي يُكتَب في قلبه ليس هو مجرد العلم والتصديق بل إن مجرد العلم والتصديق يوجد في قلوب الكفرة، بل الذي يُكتب في القلب هو تصديق القلب وعمل القلب، ولهذا وعدهم بدخول الجنات وهذا الوعد لا يكون إلا مع الإتيان بحقوق الإيمان، الإتيان بالواجبات وترك المحرمات.
ولهذا قال المؤلف: "فَقَدْ وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قَدْ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ الْمُتَّقِينَ" وهذا فيه ردٌّ على المرجئة والأشعرية بأن الإيمان هو مجرد العلم والتصديق الذي في القلب.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الفسَّاق لا يكونون في هذا الوعد الكريم لأن هذا الوعد الكريم بالجنة إنما هو لمَن استقام على أمر الله أدَّى الواجبات وترك المحرمات، آمن بالله ورسوله وأدّى الواجبات وترك المحرمات، والفاسق ليس كذلك، لأن الفاسق هو الذي قصَّر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فهو ليس موعودًا بالجنة وإنما هو موعود بالنار، وإن كان الفاسق الذي لم يفعل مكفرًا مآله ومصيره إلى الجنة لكنه متوعَّد، مِن أهل الوعيد وليس مِن أهل الوعد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْوَعْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ" وهذه الآية صريحة في أن المؤمن لا يوادّ الكفار، والذي يوادّ الكفار ويحب الكفار ليس بمؤمنٍ، لأن موادّة الكفار فيها ناقض مِن نواقض الإيمان.
فمَن أحب الكفار لدينهم، أحب الكفار محبة دينية فإنه ينتقض إسلامه ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويتبع هذه المحبة النصرة، نصرتهم بالمال أو بالسلاح أو بالرأي والتخطيط، والأصل في هذا المحبة محبة الكفار وموادتهم، فلا يجتمع موادة الكفار والإيمان بالله ورسوله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ" وهذا معروف، الكفرة يجدون هذا، الكفرة مصدقون، ليسوا مكذبين كما سبق وكما دلت النصوص الكثيرة على أن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدًا رسول الله ويصدقون بقلوبهم، ولكن كفرهم إنما هو بالعناد وعدم الاتباع ولهذا قال الله في كتابه العظيم: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ؛ فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ" نعم مَن ترك الواجبات الظاهرة دل على انتفاء الإيمان الواجب، لكن قد يكون عندهم أصل الإيمان لكن ينتفي الإيمان الواجب الذي يستحق به دخول الجنة والنجاة مِن النار، فلا يكون موعودًا بالجنة ولكنه مِن أهل الوعيد.
فإن فعل ناقضًا من نواقض الإسلام أو ترك أمرًا لابد منه في توحيده لله فإنه بذلك يخرج مِن دائرة الإسلام نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا يقول المؤلف: "فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَمَلِ الْقَلْبِ - الَّذِي هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ" نعم القلب فيه شيء مِن التصديق، كل مَن عرف الواقع والأمر فإنه مصدق ولهذا إبليس في قلبه التصديق وفرعون في قلبه التصديق واليهود في قلوبهم التصديق لكن كفرهم بالإباء والاستكبار وعدم الاتباع نسأل الله السلامة والعافية.
يقول المؤلف: " وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ –يعني عند أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وقبلهم أتباع جهم [01:10:30] كُلُّ مَنْ نَفَى الشَّرْعُ إيمَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ أَصْلًا" ومعلوم أن هذا مخالِف للنصوص الكثيرة التي ساق المؤلف جملة منها ولهذا قال المؤلف: "وهذا سَفْسَطَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ" أي تمويه.
وسبق أنه قال إن هذا مكابرة وسفسطة، مكابرة، النصوص الكثيرة دلت على أنه يُنفى الإيمان عمَّن فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام ولو كان في قلبه التصديق، وهؤلاء يقولون: "أن كل مَن نفى الشرع إيمانه أنه ليس في قلبه شيء مِن التصديق" فخالفوا النصوص وكابروها وموَّهوا الحقائق وستروها بلسان الباطل.
(المتن)
وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ فَوْرَك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ اعْتِقَادًا هُوَ عِلْمٌ ،وَمِنْهُ اعْتِقَادٌ لَيْسَ بِعِلْمِ؛ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ -وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ- إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ ،وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ؛ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ.
وَقَالَ: وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَلَهُ قُدْرَةٌ وَعَالِمًا وَلَهُ عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةٌ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ.
قُلْت: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ هَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفِ أَمْ لَا؟
عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِالْمَوْصُوفِ.
وَجَعْلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ جَهْمًا فَإِنَّ جَهْمًا غَالٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: "وَكَذَلِكَ نقل ابْنُ فَوْرَك" ابن فورك هذا محمد بن الحسن الأنصاري، وهو شافعي الفقه ولكنه أشعري وكان معاصرًا للإمام الباقلَّاني، حكى عن أبي الحسن الأشعري يعني نقل عنه، "قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ اعْتِقَادًا هُوَ عِلْمٌ، وَمِنْهُ اعْتِقَادٌ لَيْسَ بِعِلْمِ" هكذا نقل عنه، يعني الاعتقاد قسمه إلى قسمين؛ اعتقاد علم، واعتقاد ليس بعلم.
فالاعتقاد الذي هو العلم هذا هو الإيمان، والاعتقاد الذي ليس بعلم ليس هو الإيمان. يقول: "وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ - إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ؛ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَه" يعني كونه يجعل الاعتقاد هو العلم وهناك اعتقاد ليس بعلم، " وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ - إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ".
جعل هذه الأشياء مرتبطة بعضها ببعض، "وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إنما يكون بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ" فإنه لا يمكن أن يكون الإنسان متكلِّم إلا إذا كان حيًّا، "وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ" كذلك يعني لا يمكن أن يكون متكلم إلا إذا كان حيًّا ولا يمكن أن يكون حيًّا إلا إذا كان فاعلًا "وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ" هذا لاشك أن هذه الأشياء معروفة أن المتكلم لا بد أن يكون حيًّا ولا بد أن يكون فاعلًا.
وقال: "وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَلَهُ قُدْرَةٌ" نعم له قدرة على الكلام، فالمتكلم لابد أن يكون قادر على الكلام، بخلاف الأخرس فإنه غير قادر على الكلام، "وَعَالِمًا وَلَهُ عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةٌ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " قُلْت: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ هَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ" يعني أن أبا الحسن الأشعري له قولان؛ القول الأول: أن الجهل ببعض الصفات جهل بالموصوف، والقول الثاني: أن الجهل ببعض الصفات ليس جهلًا بالموصوف.
وأصح القولين عن أبي الحسن الأشعري، وهو الصواب الذي عليه الجمهور أن الجهل ببعض الصفات لا يكون جهلًا بالموصوف، أنه لا يستلزم جهل الموصوف، "وَجَعْلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ جَهْمًا" يعني أن أبا الحسن الأشعري وإن كان وافق جهمًا –جهم بن صفوان- في القول إن مسمى الإيمان هو العلم والتصديق الذي في القلب إلا أنه خالفه بأنه جعل إثبات الصفات مِن الإيمان.
وأما الجهم فإنه نفى الصفات والأسماء كلها وغلا فهو مِن الغلاة؛ نفى الأسماء والصفات ولم يثبت إلا ذاتًا مجردة للرب جل وعلا والعياذ بالله، ومعلوم أن إثبات الذات المجردة لا يكون إلا في الذهن ولهذا فإن الجهم لا يعبد إلا عدمًا، يعبد عدمًا لأنه نفى جميع الأسماء والصفات ومعلوم أن نفي الأسماء والصفات إنما ينتج العدم، لا ينتج إلا ذاتًا في الذهن.
فليس هناك ذات في الخارج إلا ولها أسماء وصفات، لكن حتى الجماد؛ لو تقول هناك جماد، هناك كرسي مثلًا لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايد له ولا متصل به ولا منفصل عنه وليس له طول ولا عرض ولا عمق، ولا داخل السماوات ولا خارجها، ماذا يكون؟ هذا لا يوجد إلا في الذهن، فكذلك هؤلاء الملاحدة إنما يعبدون عدمًا، وصفوا ربهم بصفات العدم، فسلبوا جميع الأسماء والصفات نسأل الله العافية.
وأبو الحسن الأشعري انفصل عن الجهم وإن وافقه في أن مسمى الإيمان هو ما في القلب إلا أنه انفصل عنه فأثبت الصفات وجعلها مِن الإيمان، أما الجهم فإنه كان غاليًا فنفى جميع الأسماء والصفات.
(المتن)
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ أَوْ الْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ.
قَالَ: وَأَحَدُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يَقْرِنَ بِالْإِيمَانِ أَوْ أَوْجَبَ ضَمَّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ ،وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ.
فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْضِي بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ غَلَطٌ، وَلِهَذَا قَالُوا: أَعْمَالُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ؛ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ.
وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ كُفْرَ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ قَطْعًا وَلَا آمَنَ بِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا بَاطِنًا، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي حَالِ حُكْمِنَا لَهُمْ بِالْكُفْرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]، وَقَوْلُهُ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [النساء:65]، فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِشَرَائِطَ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ دُونَهَا.
(الشرح)
وهذا النقل عن أبي الحسن نقله المؤلف رحمه الله مِن كتابه الإبانة، فيه دليل على أن أبا الحسن الأشعري انفصل عن الجهم، وذلك أن الجهم قال إن الإيمان هو مجرد المعرفة التي في القلب، هذا قول الجهم، وأما أبو الحسن فقال: إن "السَّمْعُ-يعني الأدلة السمعية المسموعة من الكتاب والسنة وَرَدَت بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ مع الإيمان".
ولهذا نقل المؤلف رحمه الله قال: "قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ الشرع لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِه" يعني يقول أبو الحسن أن الأدلة مِن نصوص الكتاب والسنة وهي الأدلة السمعية جاءت بضم شرائط أخَر تُشترط في صحة الإيمان وهو ألا يقترن بهما ما يدل على كفره، على كُفر مَن يأتيه فعلًا وتركًا، يعني لابد أن يكون المؤمن لا يفعل ناقضَا مِن نواقض الإسلام، سواء كانت هذه النواقض فعلية أو تركية، مِن باب الأفعال ومِن باب التروك.
ولهذا قال: "وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ" هذا مِن التروك يعني يُشترط في المؤمن ألا يعبد الصنم ولا يسجد للصنم فإن عبد الصنم وسجد للصنم انتقض إيمانه، يقول: "فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ" هذا مِن نواقض الإسلام.
إذا كان مصدقًا ثم قتل نبيًّا أو استخف به فإنه يكفر لأنه فعل ناقضًا مِن نواقض الإيمان ونواقض الإسلام، "وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ أَوْ الْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ" إذا استهان بالمصحف بأن داسه بقدميه نعوذ بالله أو لطَّخه بالنجاسة أو استهان بالكعبة هذا ناقض مِن نواقض الإسلام، نعوذ بالله.
قال: "وَأَحَدُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يَقْرِنَه بِالْإِيمَانِ أَوْ أَوْجَبَ ضَمَّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ" هذا غلط مِن أبي الحسن الأشعري كما سيبيِّن عليه المؤلف رحمه الله.
يقول: إنه لو منع الشرع شيئًا أن يُقرَن بالإيمان أو أوجب الشرع شيئًا أن يضمَّ إلى الإيمان ثم وُجِد؛ دل هذا على أن التصديق مفقود مِن قلبه، وهذا ليس بصحيح، لأنه قال: "لا يُفقد التصديق مِن قلبه" قد يفعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام والتصديق موجود في قلبه.
يقول: " وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ" يعني يقول إن مَن فعل مكفرًا فإنه يكفر لأنه يدل على أن الإيمان الذي في قلبه فُقِد، وهو التصديق، وهذا ليس بصحيح، بل التصديق يوجد حتى مع مَن فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام.
ولهذا يقول: "لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ" هذا صحيح، السمع يعني الأدلة السمعية مِن الكتاب والسنة لا يمكن أن يحكم بكفر مَن معه الإيمان والتصديق في قلبه لكن ما هو الإيمان المُعتبَر؟ الإيمان المعتَبر هو التصديق والإقرار باللسان واجتناب نواقض الإسلام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله مجيبًا: "فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْضِي بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ" هذا صحيح، الشارع لا يقضي بكفر مَن معه الإيمان في قلبه، لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق المجرد عن جميع أعمال القلب غلط.
هذا هو الجواب؛ دعوى أبو الحسن الأشعري أن الإيمان هو التصديق ويتجرد عِن أعمال القلب يعني التصديق المجرد وهو العلم الذي في القلب وهو التجرد عن محبة الله ورسوله وعن خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه هذا غلط، لا شك أن هذا ليس بصحيح لا يكفي مجرد التصديق بالقلب لابد مِن أعمال القلوب ولابد مِن فعل ما لا يتم الإيمان إلا به " وَلِهَذَا قَالُوا: أَعْمَالُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِهِ".
يعني أهل الحق وأهل السنة قالوا تنتفي يعني أعمال التصديق والمعرفة مِن قلبه، " أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ؟ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ" يعني هم قالوا إن التصديق والمعرفة ينتفي مِن قلب مَن حَكَم الشارع بكفره "أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ؟ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ" صحيح الشريعة لا تحكم بكفر المؤمن لكن قد تحكم بكفر مَن معه العلم والتصديق إذا فعل ناقضًا مِن نواقض الإسلام.
ولهذا مثَّل المؤلف رحمه الله قال: "وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ كُفْرَ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ قَطْعًا وَلَا آمَنَ بِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا بَاطِنًا وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ" فإبليس كفره أعظم مِن كُفْر كل كافر، وهو لم يعرف الله بصفاته قطعًا، لم يعرف الله معرفة تثمر التوحيد والإيمان والمتابعة ولا آمن به إيمانًا حقيقيًا باطنًا وإن وُجِد منه القول والعبادة، قال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، فهذا القول لا يكفي.
وكذلك اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم مِن الكفرة لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا لهم بالكفر يعني يوجد في قلوب الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس التصديق ولكن لا يوجد فيهم الإيمان الصحيح الذي يعتد به الشرع، ثم استدل المؤلف رحمه الله بالآية "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81].
وَقَوْلُهُ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] الْآيَةَ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ" فجعل الله هذه الأمور شرطًا في ثبوت حكم الإيمان، وهو كون اتخاذهم أولياء هذا هو الذي انتفى بسببه الإيمان.
فاتخاذ الكفار أولياء ينتفي معه الإيمان، كذلك أيضًا عدم تحكيم الرسول في موضع النزاع ينتفي معه الإيمان ولهذا قال المؤلف: "فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِشَرَائِطَ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ دُونَهَا" يعني لا تكفي المعرفة بل لابد مِن شرائط لا يكون معتدًّا بالإيمان بدون هذه الشرائط.
[1] - أخرجه البخاري في"صحيحه" برقم(1366) من حديث عمر بن الخطاب .
[2] - أخرجه البخاري في "صحيحه" معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث رقم (1934). وأخرجه موصولاً أحمد ط الرسالة (9194)،والنسائي في "السنن الكبرى" برقم(3034) ،وابن خزيمة في "صحيحه" برقم(140)من حديث أبي هريرة. قال ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/394)"رواه أحمد باسناده صحيح"، وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه"(1/31)"رواته كلهم ثقات".